مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

«تتميم وتكميل»

كلّ ما ذكرنا إلى الآن نقلا ونقدا ، كان راجعا إلى مقام الثّبوت ومرحلة إمكان التّرتّب وامتناعه ؛ وقد أشرنا في أوائل البحث إلى أنّه لو ثبت الإمكان في مقام الثّبوت لما احتجنا في مقام الإثبات إلى دليل خاصّ من نقل ونصّ ، بل يكفي إطلاق دليلي الخطابين المتزاحمين.

بيان ذلك : أنّ باب التّرتّب ليس من قبيل باب التّعارض ؛ إذ المفروض ، وجود الملاك في كلا الأمرين المتزاحمين ، كالصّلاة والإزالة ، فلا تنافي بينهما في مقام الملاك ، ولا في مقام الجعل والتّشريع ، بل التّنافي والتّعاند بينهما ، إنّما هو في مقام العمل وموقف الإطاعة ، نظرا إلى عدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما في زمان واحد.

وعليه : فالتّرتّب مندرج في باب التّزاحم ، وقضيّة الجمع العرفي هو الأمر بكلّ واحد من المتزاحمين عند ترك الآخر ـ فيما إذا كانا متساويين في الملاك ـ أو الأمر بالمهمّ بشرط عصيان أمر الأهمّ أو حين عصيانه وترك متعلّقه وإبقاء الأهمّ بحاله ـ فيما إذا كانا مختلفين في الملاك ـ ونتيجة ذلك : أنّ التّكليف التّرتّبي في مقام الإثبات ، مستفاد من نفس الخطابين ومتن الدّليلين بملاحظة الجمع العرفي.

هذا واضح ، بناء على مسلك من لا يقول بسقوط كلا الخطابين عن الحجيّة ؛ وأمّا بناء على مسلك المحقّق الخبير الميرزا حبيب الله الرّشتي قدس‌سره ـ من سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطابا ثالثا تخييريّا في المتساويين لئلّا يلزم تفويت المصلحة رأسا ـ فيمكن ـ أيضا ـ إثبات الأمر التّرتّبي.

٦١

بتقريب : أنّ بعد سقوط كلا الخطابين لمكان المزاحمة وعدم القدرة على الجمع بينهما ، كما يستكشف العقل ـ في المتساويين ـ خطابا ثالثا تخييريّا لأجل استيفاء إحدى المصلحتين الملزمتين ، حيث إنّه لا يمكن استيفاء كلتيهما ولا يجوز ـ أيضا ـ إهمالهما ، كذلك يستكشف ـ فيما إذا كان أحد الخطابين أهمّ من الآخر ـ فعليّة خطاب المهمّ بعد سقوط خطاب الأهمّ بالعصيان لاستيفاء إحدى المصلحتين الملزمتين الكامنتين في المتعلّقين ، كالصّلاة والإزالة ، حيث لا يمكن استيفائهما ولا يجوز ـ أيضا ـ إهمالهما.

وعليه : فلا بدّ لمن عصى أمر الأهمّ ، من الإتيان بأمر المهمّ كي لا تفوت كلتا المصلحتين ، ولا يراد بالأمر التّرتّب إلّا هذا.

فتحصّل : أنّ التّرتّب ، كما أنّه ممكن ثبوتا ، كذلك ممكن إثباتا ، يستفاد من الإطلاق ، إمّا بمقتضى الجمع العرفيّ ، أو بمقتضى الاستكشاف العقليّ.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره (١) قد التزم بتصحيح التّكليفين الفعليّين المتعلّقين بالضّدّين في زمان واحد عرضيّا بلا حاجة إلى التّرتّب والطّوليّة ، سواء كان الضّدّان متساويين في الملاك ، أم كان أحدهما أهمّ من الآخر ، وأفاد قدس‌سره في تقريب ذلك ؛ هو أنّ طلب الشّيء على نحوين :

الأوّل : أن يكون بنحو الطّلب التّام الّذي يستدعي سدّ قاطبة أبواب أعدامه من ناحية مقدّماته بإيجادها بأسرها ، ومن ناحية موانعه وأضداده بإعدامها ، دفعا أو رفعا.

الثّاني : أن يكون بنحو الطّلب النّاقص الّذي يستدعي سدّ قاطبة أبواب أعدامه ، إلّا باب العدم من ناحية ضدّه ومعانده ، فلا أمر ولا طلب من الآمر بالنّسبة

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٦٢

إلى إعدام ضدّه وإفنائه ، بل يكون الشّيء مطلوبا حال عدم ضدّه فقط ، وإلّا فلا يكون مطلوبا ، وهذا قد يكون من الجانبين وبالنّسبة إلى كلا المتضادّين ، كما في المتساويين في الملاك ، نظير إنقاذ الغريقين من الأخوين والولدين بلا تفاضل في البين ، حيث إنّه يطلب إنقاذ كلّ منهما حين عدم إنقاذ الآخر ، لا أنّه يطلبه مطلقا بطرد جميع أعدامه حتّى العدم من جانب ضدّه ، وقد يكون من جانب واحد ، كما في المتضادّين المتفاضلين الّذين يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّ طلب الأهمّ وإن كان تامّا مستدعيا لسدّ قاطبة أعدامه حتّى من ناحية ضدّه المهمّ ، إلّا أنّ طلب الأهمّ يكون ناقصا مستدعيا لطرد أعدامه ، إلّا من ناحية ضدّه الأهمّ ، بمعنى : أنّ المهمّ مطلوب حال عدم الأهمّ وحين تركه ، ومقتضاه أنّهما مطلوبان في زمان واحد عرضيّا.

فتحصّل : أنّه كما لا مانع من الجمع بين الطّلبين النّاقصين في الضّدّين المتكافئين ملاكا ، كذلك لا مانع منه بين الطّلب النّاقص والتّامّ في الضّدّين المتفاضلين.

هذا ما أفاده شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره وقد فرّع عليه بأنّه لا حاجة لإثبات أمر المهمّ ترتّبيا إلى المقدّمات الطّويلة العويصة الّتي أتعب شيخنا الاستاذ النّائيني نفسه الشّريفة لذكرها تبعا للميرزا الشّيرازي قدس‌سره ، إذ يمكن إثبات أمر المهمّ عرضيّا بما ذكرنا ، فينحلّ محذور طلب الجمع بين الضّدّين وغيره بجعل القضيّة حينيّة.

ولكن يرد عليه بأنّه لو قلنا : ببقاء فعليّة أمر الأهمّ حين انعدامه ـ كما هو المفروض حسب مقتضى إطلاقه ـ فيلزم اجتماع أمرين فعليّين في زمان واحد ، وهذا لأجل إطلاق أمر الأهمّ ولفرض فعليّة أمر المهمّ ومطلوبيّته في هذا الحين.

وأمّا لو قلنا : بسقوط فعليّة أمر الأهمّ في هذا الحال وبقاء أمر المهمّ وحده ، فيلزم خروج ذلك عن مورد النّزاع والبحث ، كما لا يخفى.

٦٣
٦٤

* الجهة السّادسة : أمر الآمر علمه بانتفاء شرطه

* الجهة السّابعة : تعلّق الأوامر بالطّبائع دون الأفراد

* الجهة الثّامنة : نسخ الوجوب

* الجهة التّاسعة : الواجب التّخييريّ والتّعييني التّخيير بين الأقل والأكثر

* الجهة العاشرة : الواجب الكفائي

* الجهة الحادية عشر : الواجب الموسّع والمضيّق تابعيّة القضاء للأداء

* الجهة الثّانية عشر : الأمر بالأمر بشيء

* الجهة الثّالثة عشر : الأمر بشيء بعد الأمر به

٦٥
٦٦

الجهة السّادسة :

(أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه)

قد اختلف الأعلام في أنّه ، هل يجوز أن يأمر الآمر مع كونه عالما بانتفاء شرطه ، أم لا؟

وقبل الورود في تحقيق المسألة ، لا بدّ من تحرير مورد النّزاع ، فنقول :

لا ينبغي الارتياب في أنّ المراد من الجواز المأخوذ في عنوان المسألة هو الإمكان الوقوعي ؛ إذ من المستبعد جدا إرادة الإمكان الذّاتي منه ؛ بداهة ، أنّه ليس نفس وجود الأمر مع انتفاء شرطه أو شرط المأمور به ممتنعا ذاتا ، نظير اجتماع النّقيضين أو ارتفاعهما.

وعليه : فلا مجال للنّزاع في إمكانه ذاتا ، كما يشهد له إناطة الجواز وعدمه بما إذا علم الآمر بانتفاء الشّرط ؛ إذ لا دخالة لعلم الآمر في إمكان الأمر ذاتا أو امتناعه كذلك.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ مقتضى التّحقيق عدم إمكان وقوع الأمر عند انتفاء الشّرط ؛ مطلقا سواء كان المراد منه هو شرط الأمر ـ بارجاع الضمير إليه كما هو مقتضى ظاهر العنوان ـ أو المراد منه. شرط المأمور به ؛ أمّا شرط الأمر ، فلأنّ الإمكان الوقوعي مع انتفاء الشّرط المفروض كونه من أجزاء العلّة ، مساوق لوقوع

٦٧

المعلول بلا علّة ، وهذا ممّا لا يتفوّه به أحد حتّى الأشعري القائل بالجواز في المسألة والمنكر للحسن والقبح العقليّين.

هذا ، ولكن قد التزم المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بأنّه لو اريد من الأمر مرتبة الإنشاء ، ومن الضّمير الرّاجع إليه مرتبة الفعليّة ، بأن يكون النّزاع في وقوع إنشاء الأمر مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعليّة لفقد شرطه ، فلا محذور في اختيار وقوع ذلك الأمر الإنشائي ؛ إذ الشّرط المفروض كونه من أجزاء العلّة إنّما هو للأمر بمرتبته الفعليّة ، لا الإنشاء حتّى يلزم المحذور العقلي من وقوع المعلول بلا علّة.

وفيه : أنّ محلّ الكلام إنّما هي الأوامر الحقيقيّة والإنشاءات الجدّية بداعي البعث والتّحريك ، وهذا لا يمكن مع العلم بانتفاء شرط الأمر.

وأمّا شرط المأمور به ، فلأنّ النّزاع حينئذ يرجع إلى أنّه ، هل يمكن وقوع التّكليف بما لا يكون مقدورا حين الامتثال ، أم لا؟ وما أظنّ أن يلتزم أحد بإمكان وقوع هذا التّكليف ، كيف ، وأنّ العقل يستقلّ في الحكم بقبح ذلك ؛ هذا في الخطابات الشّخصيّة.

وأمّا الخطابات القانونيّة ، فبناء على القول بالانحلال فيها ـ بحيث يتعدّد الخطاب بتعدّد المكلّفين ـ تلحق بالخطابات الشّخصيّة ، فيحكم فيها ـ أيضا ـ بعدم إمكان الوقوع لجريان الملاك المتقدّم هنا بعينه.

وأمّا بناء على القول بعدم الانحلال ، فيفصّل بين ما إذا كان الآمر عالما بانتفاء الشّرط لعامّة المكلّفين ، فيحكم هنا ـ أيضا ـ بعدم إمكان الوقوع ؛ لما مرّ من لزوم

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٢١.

٦٨

التّكليف بغير المقدور ، فنفس الطّلب يكون محالا ، وبين ما إذا كان عالما بانتفائه لعدّة من المكلّفين ، وبوجدانه لعدّة اخرى منهم ، فيحكم هنا بإمكان الوقوع لحسن التّكليف حينئذ ، نظرا إلى كونه متعلّقا بأمر مقدور للمكلّف ، وكيف كان ، لا ثمرة لهذه المسألة أصلا.

وما قيل في الثّمرة : (١) من وجوب الكفّارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع فرض عدم تماميّة شرائط الوجوب له إلى اللّيل ، كما إذا أفطر ثمّ سافر أو مرض أو حاض.

ففيه : أنّ وجوب الكفّارة لا يدور مدار وجوب الصّوم بقاء كي تنتفي بعد انتفاء وجوبه بتبدّل الموضوع ، بل يدور مدار الإفطار عالما عامدا ؛ ولذا علّق جواز الإفطار على الخروج عن حدّ التّرخّص ، فلا يجوز قبله وإن علم بأنّه سيسافر بعد ساعة.

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٠٩.

٦٩

الجهة السّابعة :

(تعلّق الأوامر بالطّبائع دون الأفراد)

قد وقع النّزاع بين الأعلام : في أنّ الأوامر ، هل يتعلّق بالطّبائع أو بالأفراد ، لا بدّ قبل بيان ما هو الحقّ في المقام وتنقيحه وتثبيته ، من نقل آراء العلماء في مورد تحرير محلّ النّزاع ونقدها.

منها : أنّ النّزاع إنّما هو في تعلّق الأوامر بالأفراد الخارجيّة النّاشئ للصّور الذّهنيّة بالتّجريد والتّعرية ، أو بالطّبائع بما هي هي مع قطع النّظر عن الوجود.

وفيه : ما لا يخفى من الفساد ؛ لكون الخارج ظرفا لسقوط التّكليف بحصول الغرض به ، لا ظرفا لثبوته ، وإن شئت ، فقل : إنّ الموجود الخارجي مسقط للأمر ، لا أنّه مصبّ له ، وهذا واضح بيّن ، ولعلّه لأجل ذا وجّهوا كلامهم بأن المراد من تعلّقهما بالأفراد هو كون الخصوصيّة الفرديّة داخلة تحت الطّلب والإرادة ، بمعنى : أنّ المولى يريد الطّبيعة ويطلبها مع تلك الخصوصيّة على وجه البدليّة.

ومنها : أنّ النّزاع لفظيّ لغويّ راجع إلى أنّ مادّة الأمر ، هل وضعت للطّبائع الكليّة أو لأفرادها ومصاديقها؟

وفيه : أنّ هنا خلط بين البحث عن وضع المادّة ، كما مرّ في محلّه ـ كالبحث عن وضع الهيئة ـ وبين البحث عن متعلّق الحكم ، بأنّه ، هل هو الطّبيعة وحدها ، أو مع

٧٠

ضمّ الخصوصيّات المتبادلة ، كما هو مورد الكلام في المقام ، وعليه ، فليس النّزاع هنا لفظيّا لغويّا.

ومنها : أنّ النّزاع مبنيّ على أصالة الوجود والماهيّة.

وفيه : منع واضح.

ومنها : أنّ النّزاع مبتن على وجود الطّبيعيّ في الخارج وعدمه ، والمسألة حينئذ ، إمّا تكون حكميّة فلسفيّة محضة ، أو اصوليّة مبتنية عليها.

وفيه : أنّ البحث في المقام إنّما يكون في الخطابات الملقاة إلى العرف ، وأنّ الأحكام المستفادة منها بما ذا تتعلّق ، وعليه ، فلا مساس لهذه المسألة العرفيّة بأمثال تلك المسائل الدقيّة الفلسفيّة الّتي لا تخطر ببال الأذهان السّاذجة العرفيّة.

ومنها : أنّ النّزاع إنّما هو في سراية الإرادة المتعلّقة بالطّبيعة إلى الخصوصيّات الفرديّة وعدم سرايتها.

وفيه : أنّ المراد من الطّبيعيّ والطّبيعة هنا ليس هو الكلّي الطّبيعي المصطلح في الميزان والحكمة ، بل المراد هو العنوان الجامع من الطّبائع والماهيّات المتأصّلة أو الماهيّات المخترعة ، وعليه ، فلا مجال للسّراية المذكورة.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «وفيه أنّ هناك ليس ميزانا يعيّن ذلك ؛ إذ لو كان الغرض قائما بنفس الطّبيعة ، فلا وجه لتعلّق الأمر بقيودها وإن كان قائما بإضافتها إلى الحدود الفرديّة ، فلا محالة تسري الإرادة إليها ويتعلّق الأمر بها». (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٧٢.

٧١

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم ، أنّ الحقّ تعلّق الأوامر بنفس الكلّي ، والعنوان بلا قيد الوجود ، فيطلب الآمر إيجاده أو يبعث إلى ذلك الكلّي والعنوان كي يوجد.

ويدلّ على ما ذكرنا امور :

أحدها : الوجدان ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «وفي مراجعة الوجدان للإنسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه ، أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطّبائع ، ولا نظر له إلّا إليها من دون نظر إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وأنّ نفس وجودها السّعي بما هو وجودها ، تمام المطلوب وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة». (١)

ثانيها : البرهان ، بتقريب : أنّ الأمر يدور مدار الغرض ، والغرض ـ أيضا ـ يدور مدار الطّبيعة ، كما هو واضح ، فلذا لا مناص من تعلّق الأوامر بالطّبيعة دون الأفراد.

ثالثها : الظّهور العرفيّ ، حيث إنّه لو أمر المولى عبده باشتراء اللّحم ـ مثلا ـ بلا ضمّ قرينة دالّة على اللّحم المعيّن والفرد الخاصّ منه ، فلا يفهم العرف منه إلّا أنّ مراد المولى هو اشتراء طبيعيّ اللّحم ، لا الفرد الخاصّ منه ؛ ولذا لا يعاقب العبد لو امتثل بانطباق الطّبيعيّ على أحد الأفراد.

«ثمرة النّزاع»

لا ريب : أنّ الثّمرة في المقام تظهر في مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، وكذا مسألة لزوم قصد القربة وعدمه بالنّسبة إلى الخصوصيّات ، كما هو واضح ، ولا حاجة إلى التّفصيل والشّرح.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٢.

٧٢

الجهة الثّامنة :

(نسخ الوجوب)

قد اختار المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدليل النّاسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز وهو الحقّ.

توضيحه : أنّ ما يظنّ دلالته على بقاء الجواز ، لا يخلو من إحدى الامور الثّلاثة :

أحدها : دليل النّاسخ.

ثانيها : دليل المنسوخ.

ثالثها : استصحاب الجواز.

وكلّ ذلك ممّا لا يسمن ولا يغني.

أمّا دليل النّاسخ ؛ فلأنّ غاية ما يستفاد منه هو رفع الوجوب فقط ، لا أزيد.

وأمّا دليل المنسوخ ؛ فلأنّ مفاده ـ أيضا ـ هو وضع الوجوب الّذي يكون مرفوعا بدليل النّاسخ.

نعم ، يستفاد الجواز ، بناء على كون الوجوب مركّبا من جزءين وهما الإذن في الفعل والمنع من التّرك ؛ إذ لا ريب : أنّ دليل النّاسخ إذا رفع الجزء الثّاني وهو المنع من التّرك ، يبقى الجزء الأوّل وهو الإذن في الفعل بحاله.

هذا ، ولكن المبنى غير تامّ ؛ إذ التّركيب في الوجوب تحليل عقليّ محض وتفسير

٧٣

للوجوب بلازمه ، حيث إنّ الإذن في الفعل مع المنع من التّرك يعدّ من لوازم وجوب الفعل.

أمّا الاستصحاب ، فلأنّه أوّلا : مبتن على القول بالتّركيب في الوجوب ، وقد عرفت المنع فيه.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فإنّما هو من قبيل القسم الثّالث من استصحاب الكلّيّ المختلّ فيه أركانه ، على ما قرّره المحقّق سلطان العلماء قدس‌سره ، ونعم ما أفاده في ذلك ، حيث قال : «الجنس لا يتحقّق إلّا بتحقّق الفصل ، فإذا رفع الفصل المعلوم تحقّق الجنس في ضمنه ، رفع ذلك التّحقّق المعلوم قطعا ، وما لم يتحقّق وجود فصل آخر لم يحصل العلم بوجود الجنس ، ولو حصل العلم بوجود فصل آخر لم يكن هذا استصحابا لذلك الوجود ، بل يكون علما جديدا بالوجود اللّاحق ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إذا رفع بالنّسخ ، المنع من التّرك الّذي هو بمنزلة الفصل فيما نحن فيه ، رفع تحقّق الجواز المعلوم تحقّقه ، فبطل استصحابه قطعا فما لم يعلم تجدّد فصل آخر لم يعلم تحقّق الجواز». (١)

وثالثا : لو أغمضا عن هذا الإشكال ، لكان هنا إشكال آخر يمنع عن جريان الاستصحاب وهو أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم شرعيّ ، ومن المعلوم : أنّ الجواز الجامع ليس كذلك ، بل هو منتزع من المجعول ، حيث إنّ العقل ينتزع الجواز من الوجوب والجعل الإلزامي.

وعليه : فلو نسخ الوجوب لم يكن هناك دليل على ثبوت حكم آخر ولو كان هو الجواز الجامع ، فإن أقيم من الخارج دليل اجتهاديّ من إطلاق أو عموم ، فهو المرجع ، وإلّا فالمرجع هو الأصل العمليّ وهو يختلف حسب اختلاف الموارد.

__________________

(١) معالم الاصول : ص ٨٤.

٧٤

الجهة التّاسعة :

(الواجب التّخييريّ والتّعيينيّ)

اعلم ، أنّه لا حاجة في المقام إلى إطالة الكلام والإكثار فيه ، ونقل المحتملات ونقد المزيّفات بعد وقوع كثير من الواجبات على وجه التّخيير في العرفيّات والشّرعيّات.

نعم ، لا بأس بالتّعرض للإشكال الثّبوتي على الواجب التّخييريّ ، فنقول : إنّ تقريبه ـ على ما يستفاد من الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) ـ متوقّف على بيان امور :

الأوّل : أنّ الوجود مطلقا أىّ وجود كان ، مساوق للتّشخص والتّعيّن الواقعي ، كما ثبت ذلك في العلم المعقول ، حيث قالوا : «الشّيء ما لم يتشخّص لم يوجد وما لم يوجد لم يتشخّص».

الثّاني : أنّ التّردّد الواقعي لا يجامع الوجود ، خارجيّا كان أو ذهنيّا ، فلا يمكن أن يكون الوجود متردّدا واقعا بين الشّيئين ، أو الأشياء ، لرجوعه إلى اجتماع النّقيضين ؛ إذ الوجود هو التّشخّص والتّعيّن ، والتّردّد هو اللّاتشخّص واللّاتعيّن ، وهما نقيضان لا يجتمعان.

الثّالث : أن الإرادة سواء كانت تكوينيّة ، أو تشريعيّة تكون من الأوصاف الحقيقيّة ذات الإضافة ـ قبال الحقيقيّة والإضافة المحضتين ـ فلا بدّ في تحقّقها من وجود المضاف إليه.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ص ٢٨٧ و ٢٨٨.

٧٥

الرّابع : أنّه لا يعقل تردّد الإرادة وهكذا تردّد متعلّقها ، وإلّا لزم أن يكون الموجود متردّدا ، وهذا ـ كما أشرنا آنفا ـ غير معقول لرجوعه إلى اجتماع النّقيضين.

الخامس : أنّ الأمر في البعث حيث يقع بلفظ ـ كهيئة الأمر أو غيرها ـ مضافا إلى المبعوث إليه ، فلا مناص من أن يكون لكلّ من البعث وآلته ومتعلّقه وجود وتشخّص ذهنيّ وخارجيّ وهو ممّا لا مجال لتطرّق التّردّد إليه.

إذا عرفت هذه الامور ، تعرف استحالة الواجب التّخييريّ لرجوعه إلى التّردّد وعدم التّعيّن حسب الواقع في الإرادة والمراد والبعث وآلته والمبعوث إليه ، وكلّ ذلك مستحيل.

والجواب أنّ هذا الإشكال ، إنّما يتمّ إذا كانت هناك إرادة واحدة متعلّقة بأمر مردّد ، وأنت ترى ، أنّ الواجب التّخييريّ ليس كذلك ؛ إذ الإرادة تتعدّد بتعدّد المراد لما في كلّ من الشّيئين أو الأشياء من المصلحة الملزمة الوافية ، والمفروض ـ أيضا ـ عدم الجامع حتّى تتعلّق الإرادة به ، فيأمر الآمر بكلّ واحد تخييرا بتخلّل كلمة : «أو» وما في معناها ، ويكون العامل إذا مخيّرا في مقام الامتثال ، وهذا ممّا يتّضح بالمراجعة إلى الوجدان.

وعليه : فلا تكون الإرادة في التّخيير سنخا آخر غير ما في التّعييني ، كما لا يكون الواجب في التّخيير نحوا آخر غير ما في التّعييني.

غاية الأمر : أنّ التّعييني محصّل للغرض بنفسه ، وليس ورائه شيء آخر يحصّله أو يحصّل ما يعادله ، وهذا بخلاف التّخييريّ ؛ إذ المحصّل فيه هو كلّ واحد من الشّيئين أو الأشياء ؛ ولذا يتخلّل كلمة : «أو» وما في معناها ، كما عرفت آنفا.

٧٦

(التّخيير بين الأقلّ والأكثر)

قد وقع النّزاع بين الاصوليين في أنّه ، هل يمكن التّخيير بين الأقلّ والأكثر ، أم لا؟

قبل بيان المختار في المسألة ، لا بدّ من تعيين مورد النّزاع ، فنقول : إنّ محطّ الدّعوى هو الأقلّ المأخوذ بنحو لا بشرط ، لا المأخوذ بنحو بشرط لا ، وإلّا لكان التّخيير بين المتباينين ، حيث إنّ الأقلّ حينئذ يكون ماهيّة بشرط لا ، فتباين الأكثر الّذي يكون ماهيّة بشرط شيء ، كما لا يخفى ، وهذا النّحو من التّخيير ممّا لا إشكال في إمكانه ، بل هو واقع في الخارج عرفا وشرعا ، فمثل ذلك خارج عن مورد النّزاع قطعا.

ومن هنا ظهر ، أنّ ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من اعتبار الأقلّ بنحو بشرط لا ، خارج عن مصبّ النّزاع ، وداخل في باب التّخيير بين المتباينين الّذي عرفت أنّه ممكن ، بل واقع في الخارج.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ مقتضى التّحقيق في المسألة عدم معقوليّة التّخيير ، بين الأقلّ المأخوذ لا بشرط ، وبين الأكثر ؛ إذ بمجرّد تحقّق الأقلّ ولو في ضمن الأكثر يحصل الغرض ، فلا مجال للإتيان بالأكثر كي يكون واجبا تخييريّا ، بل يكون الأمر بالزّائد على الأقلّ حينئذ لغوا ، وبالجملة : فما هو المعقول في التّخيير بين الأقلّ والأكثر ـ كما إذا اخذ الأقلّ بنحو بشرط لا ـ يئول إلى التّخيير بين المتباينين ويكون خارجا

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٧.

٧٧

عن مورد الكلام ، وما هو محلّ الكلام في التّخيير بينهما ـ كما إذا أخذ الأقلّ بنحو لا بشرط ـ يكون ممتنعا غير معقول.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في وجه الامتناع ، حيث قال «ربما يقال : بامتناعه مطلقا تدريجيّا كان أو دفعيّا.

أمّا الأوّل : فلأنّ بقاء الوجوب بعد إتيان الأقلّ يستلزم ، إمّا عدم كونه مصداقا مسقطا للطلب ، أو جواز تحصيل الحاصل.

وأمّا الثّاني : فلأنّ الزّائد يجوز تركه لا إلى بدل ، وهو ينافي الوجوب.

وإن شئت ، قلت : إنّ الزّائد يكون من قبيل إلزام ما لا يلزم والإيجاب بلا ملاك». (١)

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٨٨.

٧٨

الجهة العاشرة :

(الواجب الكفائي)

قد عرّف الواجب الكفائي في كلمات جملة من الأعلام ، كالمحقّق الخراساني قدس‌سره : حيث قال : «إنّه سنخ من الوجوب ، وله تعلّق بكلّ واحد ، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعا وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم» (١).

ولكن التّحقيق يقتضي أن يقال : إنّ الخطابات الشّرعيّة الإلهيّة ـ عينيّة كانت أو كفائيّة ـ تكون قانونيّة متعلّقة بعامّة المكلّفين.

غاية الأمر : سقوط التّكليف عن الباقين بفعل الآخرين في الواجبات الكفائيّة ، إنّما هو لحصول الغرض وما يترقّب منها من الفائدة ، ولو لا ذلك لكان واجبا على الباقين ، أيضا.

والشّاهد عليه : هو كون جميع المكلّفين معاقبين إذا أخلّوا بالامتثال وتركوا التّكليف رأسا.

وبالجملة : لا فرق بين الواجبات العينيّة ، نظير : «الصّلاة ونحوها» والواجبات الكفائيّة نظير : «دفن الميّت ونحوه» في كون كلّ منهما قانونا وخطابا متوجّها إلى المكلّفين ، إلّا أنّه لا يسقط التّكليف عن «زيد» مثلا ، بصلاة «عمرو» مثلا ، لكون صلاته معراجا له ، لا لزيد ، فيجب أن يصلّي «زيد» نفسه حتّى يعرج بنفسه ، وهذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٨ و ٢٢٩.

٧٩

بخلاف الدّفن ، فيسقط وجوبه عن «زيد» بعد ما دفن «عمرو» ميّتا ؛ وذلك ، لحصول الغرض من التّكليف ، وقد سمعت منّا مرارا : أنّ الأمر يدور مدار الغرض ، ثبوتا وسقوطا ، حدوثا وبقاء.

وإن شئت ، فقل : كما أنّا كلّنا مسئولون بالنّسبة إلى الصّوم والصّلاة والحجّ والزّكاة ونحوها من الواجبات العينيّة ، كذلك نكون مسئولين بالإضافة إلى الكفن والدّفن ونحوهما من الواجبات الكفائيّة.

ولا يخفى عليك : أنّ في هذا المقدار من البحث هنا كفاية ، والبقيّة إطالة وإضاعة.

٨٠