مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وإن كان المراد منه ، أنّ سقوط أحدهما عن الفعليّة يستلزم العلم بكذب أحدهما ، فيندرجان في باب المعارضة ، فهو غير مسلّم ؛ لسقوط أحد المتلازمين ـ أيضا ـ عن الفعليّة مع أنّه لا يستلزم كذبه.

والفرق بين التّزاحم والتّعارض وبسط الكلام فيه موكول إلى محلّه.

فتحصّل : أنّ الأمر بالشّيء لا يقتضي النّهي عن ضدّه ، وأنّه تظهر الثّمرة في هذا النّزاع لو قلنا : بكفاية قصد الملاك وعدم الحاجة إلى الأمر في صحّة العبادة ـ كما هو مقتضى التّحقيق ـ وأنّ الملاك يحرز ، إمّا بإطلاق المادّة ، أو بإطلاق الهيئة ، كما هو الحقّ المختار.

(التّرتّب)

قد اتّضح أنّ الأمر بالشّيء لا يقتضي النّهي عن ضدّه ، فيقع الكلام في أنّه ، هل يمنع من الأمر بضدّه ، أم لا؟

ثمّ على المنع ، فهل يمنع عنه مطلقا أو في بعض الأحوال دون بعض؟

ولك أن تقول : إن امتناع اجتماع الأمرين والخطابين الفعليين المتعلّقين بالضّدّين ، هل يوجب سقوط أمر المهمّ مطلقا ، أو يقتضي سقوط إطلاقه بتقييده بعصيان أمر الأهمّ ، وجهان ، بل قولان :

وقبل الورود في تحقيق الحال وتنقيح المقال ، لا بدّ من تحرير مورد النّزاع ، فنقول : إنّ الضّدّين يقسّمان على أقسام ستّة ؛ إذ هما ، إمّا متساويان ملاكا أو متفاضلان ، فيكون لأحدهما مزيّة على الآخر ، وعلى كلّ منهما ، إمّا يكونان مضيّقين

٤١

أو موسّعين أو مختلفين ، فالصّور ستّة.

الاولى : ما إذا كان الضّدّان متساويين في الملاك مع كونهما مضيّقين ، ولا ريب : أنّ في هذه الصّورة يختلف الحكم ، إذ الضّدّان ، إمّا لا ثالث لهما ، وإمّا لهما ثالث. فعلى الأوّل يكونان ، كالنّقيضين يحكم بالتّخيير بينهما بالطّبع ، بلا حاجة إلى حكم الشّرع والعقل ؛ ضرورة أنّه حينئذ لا يمكن تركهما معا ولا فعلهما كذلك. وأمّا على الثّاني : فحيث إنّ المكلّف يتمكّن من تركهما معا كان الحكم بهما على وجه التّخيير ممكنا شرعا وعقلا بلا لزوم أيّ محذور ، والمفروض ـ أيضا ـ هو تساويهما في الملاك.

ثمّ إنّ التّخيير هنا ، هل هو عقليّ أو شرعيّ ، فيه قولان : ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره إلى الأوّل (١) ، وذهب جماعة منهم ، المحقّق صاحب الحاشية والمحقّق الرّشتي قدس‌سرهما إلى الثّاني (٢) وهو الحقّ ؛ وذلك ، لأنّ التّخيير العقليّ لا يكون إلّا بين الامور المندرجة تحت جامع وطبيعيّ يكون هو متعلّق التّكليف ، ومن المعلوم : أنّ متعلّق التّكليف في المقام ليس هو الجامع والطّبيعيّ الّذي له أفراد متكافئة ، بل هي نفس الامور المتباينة المتضادّة الّتي يقتضي الجمع بين تكاليفهما في مقام المزاحمة ، الحكم بتخييريّتها.

غاية الأمر : هذا التّكليف التّخييريّ قد ينشأ بخطابين ، كما في المقام ، وقد ينشأ بخطاب واحد ، كما في غيره ، فحقيقة التّخيير هنا أن يتوجّه التّكليف إلى كلّ من الضّدّين تعيينا ، لكن لا مطلقا ، وفي جميع الأحوال ، بل في حال عدم الآخر ، بمعنى : أنّ الشّارع قد أنشأ من الأوّل كذلك حتّى لا يقع بينهما المزاحمة.

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٧٩.

(٢) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٧٩.

٤٢

ومن هنا ظهر : أنّه لا يصغى إلى ما افيد في وجه التّخيير الشّرعيّ من سقوط تكليفي الضّدّين والإرادتين المتعلّقتين بهما معا في موقع التّزاحم وحدوث تكليف آخر وإرادة اخرى تشريعيّة تخييرا.

بتقريب : أنّ بقاء أحد التّكليفين بخصوصه مع كون الآخر مثله في الملاك ترجيح بلا مرجّح ، وبقاء أحدهما لا بعينه غير معقول ، وإهمال كلتا المصلحتين وعدم استيفاء واحدة منهما قبيح لا ينبغي صدوره عن العاقل فضلا عن الحكيم الكامل.

فيستكشف من هذا كلّه إرادة اخرى ثالثة تشريعيّة تخييريّة.

وجه عدم الإصغاء إلى هذا المقال ، هو ما أسمعناك آنفا ، من بيان حقيقة التّخيير ، فراجع.

ثمّ إنّه قد استدلّ لإثبات كون التّخيير عقليّا بوجهين :

الأوّل : أنّ التّزاحم يوجب سقوط خطابي الضّدّين معا ، وحيث إنّ العقل يرى وجود الملاك الملزم في كلّ منهما حكم بإلزام المكلّف لتحصيل أحدهما تخييرا.

وفيه ما عرفت آنفا : من أنّ التّزاحم لا يوجب سقوط كلا الخطابين مطلقا ، بل يقتضي سقوط إطلاقهما ، بمعنى : أنّ مقتضاه ، هو أنّ كلّ واحد منهما يجب تعيينا ، لكن لا مطلقا ، بل في حال عدم الآخر المضادّ المزاحم له.

الوجه الثّاني : أنّ كلّا من الخطابين يكون تامّ الإطلاق لا يمنع عن الأخذ به إلّا العجز عن الجمع ، فيستكشف من ذلك عدم إرادة كلّ واحد منهما في صورة العجز ، والمفروض ، أنّ الإرادة المتعلّقة بكلّ منهما في صورة عدم الآخر ، لا مانع منها حيث لا عجز عن الامتثال حينئذ ، فالعقل يقيّد إطلاق كلّ حكم ، بأنّه يجب حال عدم إتيان

٤٣

الآخر ، فيصير هذا التّقييد العقليّ ، كاللّفظي ، نظير قولنا : أنقذ هذا الغريق إذا لم تنقذ ذاك أو ذلك الغريق.

وعليه : فيبقى كلّ من الخطابين بحاله ، ويستقلّ العقل بالتّخيير بينهما ، وبهذا السّبب يكون التّخيير عقليّا.

وفيه ـ أيضا ـ ما قد عرّفناك : من أنّ التّخيير العقلي إنّما هو بين الامور المتكافئة المندرجة تحت جامع واحد يكون هو متعلّق للتّكليف ، لا تلك الامور ، والمقام ليس كذلك ؛ إذ التّكليف تعلّق بالامور المتباينة المتضادّة ، فيكون التّخيير شرعيّا.

وبعبارة اخرى : أنّ متعلّق كلّ من الخطابين يكون مبائنا لمتعلّق الآخر مضادّا له ، وبعد تقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر ، يستفاد أنّ الشّارع قد أمر بكلّ من الضّدّين على وجه التّخيير ، وقد عرفت : أنّه لا فرق فيه ، بين أن يكون بدليل واحد ، أو دليلين ، وبين أن يكون الأطراف متّحدة الملاك ، كما في التّخيير العقليّ ، أو مختلفة الملاك ، كما في التّخيير الشّرعيّ.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) ذكر أنّه تظهر الثّمرة بين القولين في عدّة امور ؛ ولكن لا حاجة إلى ذكر الجميع ، حيث إنّه لا ينبغي صرف الوقت وإتعاب النّفس في نقل أمثال هذه الثّمرات ونقدها ، ولذا نكتفي بذكر واحد منها والنّقد عليه.

أمّا الثّمرة ، فهو أنّ القول بالتّخيير الشّرعيّ يقتضي عدم استحقاق تارك الخطابين إلّا عقابا واحدا ، بخلاف القول بالتّخيير العقليّ ، فإنّه يقتضي أنّ تاركهما يستحقّ العقابين ، كما يستحقّهما لو ترك الضّدّين على القول بالتّرتّب.

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٢٧٩.

٤٤

أمّا النّقد عليه ، فنقول : إنّ ملاك تعدّد العقاب هو تعدّد المعصية المتحقّقة ، إمّا بتفويت الملاك ، أو بمخالفة التّكليف الفعليّ ، ومجرّد كون التّخيير عقليّا لا يوجب تعدّد تفويت الملاك ، أو تعدّد مخالفة التّكليف حتّى يتعدّد العقاب.

الصّورة الثّانية : هي ما إذا كان الضّدّان متفاضلين في الملاك مع كونهما مضيّقين ، ولا ريب : أنّ هذه الصّورة هي القدر المتيقّن من مورد النّزاع في مبحث التّرتّب دون باقي الصّور ، كما هو واضح ، وعليه ، فلا ينبغي صرف الوقت في استقصاء جميع الصّور والتّعرض لها.

إذا تبيّن لك مورد النّزاع ، فلنشرع البحث عن التّرتّب ، ولكن قبل ذلك ، ينبغي الإشارة إلى امور ثلاثة :

الأوّل : أنّ البحث في مسألة التّرتّب إنّما هو بحث عقليّ ثبوتيّ يدور الأمر بين إمكان ذلك واستحالته.

الثّاني : أنّ هذه المسألة لم تكن معنونة في كلمات أصحابنا الكبار إلى زمن الشّيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره (١) وإن كان لبّه موجودا في كلمات المحقّق الثّاني ، فأشار قدس‌سره إليه أوّلا ، ثمّ تعرّض له كاشف الغطاء قدس‌سره ثمّ أفاد فيه ـ وأجاد في الإفادة ـ السّيّد العلّامة المجدّد الميرزا الشّيرازي قدس‌سره ونقّحه بعد ذلك تلميذه الجليل السّيّد المحقّق الفشاركي قدس‌سره وفصّله وأوضحه وشدّد أركانه المحقّق النّائيني قدس‌سره بترتيب امور وتمهيد مقدّمات. (٢)

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٣ ، ص ١٠٢.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

٤٥

وذهب إلى استحالته الشّيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره وكذا المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

الثّالث : أنّ الدّاعي لهم إلى طرح هذه المسألة ، هو الجواب عمّا تقدّم من مقالة الشّيخ البهائي قدس‌سره في إنكار الثّمرة ، حاصله : أنّ الأمر بالشّيء وإن لم يقتض النّهي عن ضدّه ، لكنّه يقتضي عدم الأمر به وهو كاف في بطلان العبادة ، وعليه ، فلا ثمرة تترتّب على تلك المسألة ، فأجابوا عن هذه المقالة بوجوه :

منها : كفاية الرّجحان الذّاتيّ في صحّة العبادة ، بتقريب : أنّ الصّلاة ـ مثلا ـ تكون ذا ملاك ومحبوبيّة ذاتيّة بلا فرق بين فردها المزاحم للإزالة ـ مثلا ـ وبين غيره ، وعليه ، فسقوط الأمر بالنّسبة إلى فردها المزاحم لها إنّما هو لوجود المانع والابتلاء بالأهمّ ، لا لعدم المقتضي والملاك.

ومنها : أن ذلك إنّما يتمّ في المضيّقين ، وأمّا إذا كان أحدهما موسّعا ، فالفرد المزاحم يؤتى به بقصد امتثال الأمر المتعلّق بطبيعيّه ، كما أشار إليه المحقّق الثّاني قدس‌سره على ما عرفت آنفا.

ومنها : التّرتّب وهو الأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأهمّ. (٢)

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه : ج ٣ ، ص ١٠٢ ؛ وعن الفقيه البروجردي : «وأوّل من نسب إليه تصحيحه المحقّق الثّاني قدس‌سره وشدّ بنيانه السّيّد السّند الميرزا الشّيرازي وبالغ في تشييده وتوضيحه تلامذته وتلامذة تلامذته سوى المحقّق الخراساني قدس‌سره فإنّه يظهر منه أنّه كان مخالفا لذلك من أوّل الأمر» نهاية الاصول : ص ٢٠١.

(٢) وهنا تقريب لجواز الأمر بالمتضادّين المتزاحمين في زمان واحد بلا ترتّب ، سيجيء الإشارة إليه ، إن شاء الله تعالى.

٤٦

إذا عرفت تلك الامور ، فنقول :

إنّ مسألة التّرتّب ، كما أشرنا آنفا ، ذات قولين :

أحدهما : إمكانه ، كما هو مختار جماعة من الأساطين ، منهم المحقّق الثّاني (١) وكاشف الغطاء (٢) والميرزا الشّيرازي (٣) والمحقّق النّائيني قدس‌سرهم (٤). وهذا هو الحقّ.

والثّاني : امتناعه ، كما هو مختار الشّيخ الأنصاري (٥) وتلميذه الكبير المحقّق الخراساني قدس‌سرهما (٦).

والمهمّ ذكر أدلّة القولين.

أمّا القول بالإمكان ، فقد استدلّ له بوجوه ، والعمدة منها وجهان :

الأوّل : وقوع التّرتّب في العرفيّات ، وكذا في الشّرعيّات ، ومن الواضح جدّا ، أنّ أدلّ الدّليل على إمكان شيء وقوعه في الخارج ، وعليه ، فلا مجال للإنكار.

أمّا العرفيّات ، فمثل ما أمر الأب ابنه بقوله : اذهب إلى المدرسة واقرأ درسك وإلّا فافعل كذا وكذا ـ مثلا ـ ونظير ذلك واقع في العرف كثيرا.

وأمّا الشّرعيّات ، فيوجد التّرتّب في ضمن فروع أشار إليها المحقّق النّائيني قدس‌سره (٧).

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٥٧.

(٢) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٥٧.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١٨.

(٤) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٦.

(٥) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٥٧ إلى ٥٩.

(٦) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١٣.

(٧) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٥٧.

٤٧

منها : ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أوّل الفجر إلى الزّوال فحينئذ وإن وجب عليه الإفطار وحرم عليه الصّوم بترك الإقامة ، إلّا أنّه لو عصى ونوى الإقامة ، لا إشكال في الحكم بوجوب الصّوم وحرمة الإفطار عليه ، وهذا هو التّرتّب.

ومنها : ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزّوال ، فحينئذ وإن وجب عليه التّمام ، إلّا أنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة ، لا إشكال في وجوب القصر عليه ، وكذا لو فرض حرمة الإقامة عليه في الفرض ، فإنّه وإن كان مخاطبا حينئذ بوجوب القصر ، إلّا أنّه لو عصى ونوى الإقامة يجب عليه التّمام ، ولا معنى لذلك إلّا التّرتّب؟

ومنها : ما لو فرض على شخص دين قبل عام الرّبح ، فإنّه وإن كان مخاطبا بأداء الدّين ، إلّا أنّه لو عصى ولم يؤدّ دينه حتّى انتهى العامّ ، فلا إشكال في وجوب الخمس عليه ، وليس هذا إلّا لأجل توجّه خطاب الخمس إليه بالتّرتّب.

وبالجملة : أنّ الالتزام بهذه الفروع وأمثالها ، التزام بالتّرتّب لا محالة ، كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر ، أنّ مثل الأمر بقضاء الصّلاة بعد سقوط الأمر بأدائها ، وكذا مثل الأمر بالطّهارة التّرابيّة بعد سقوط الأمر بالطّهارة المائيّة ، ليس من باب التّرتّب ، ولا كلام ولا خلاف في جوازه ووقوعه ؛ وذلك ، لما ظهر لك آنفا ، من أنّ مورد التّرتّب هو اجتماع حكمين فعليّين في زمان واحد ، ولكن أحدهما وهو الأهمّ مطلق ، والآخر وهو المهمّ مشروط بعصيان المطلق ، والمفروض ، أنّ في مورد القضاء لا يجتمع الخطاب الأدائي مع الخطاب القضائي في زمان واحد.

٤٨

وكذا في مورد التّيمّم لا يجتمع الأمر بالطّهارة المائيّة مع الأمر بالطّهارة التّرابية.

وإن شئت ، فقل : إنّ التّرتّب إنّما يتصوّر في خطابين عرضيّين ، وأمّا إذا كان أحدهما في طول الآخر ، فلا ترتّب ، كما في موردي القضاء والتّيمّم ، وعليه ، ففي مثلهما بعد سقوط الأمر بالأهمّ ، يحكم بجواز تعلّق الأمر بالمهمّ بلا توقّف على إمكان التّرتّب وجوازه ، بل يصحّ ويتمّ العمل بالمهمّ ولو قلنا : باستحالة التّرتّب.

إن قلت : إنّ الفروع المتقدّمة خارجة عن موضوع التّرتّب ؛ وذلك ، لأنّه يشترط في التّرتّب بأن لا يكون امتثال أحد الخطابين رافعا لموضوع الآخر ، كالإزالة والصّلاة ، حيث إنّ امتثال أحدهما لا يوجب ارتفاع موضوع الآخر ، وهذا بخلاف الفروع المتقدّمة ، فإنّ امتثال حرمة الإقامة بتركها في الفرع الأوّل يوجب رفع موضوع الصّوم وملاكه ؛ إذ لا خطاب ولا ملاك للصّوم في السّفر إلّا في بعض الموارد ، وبعبارة اخرى ، لو امتثل المكلّف حرمة الإقامة باختيار السّفر لصار مسافرا ، فيحرم عليه الصّوم ويجب عليه الإفطار. وكذا الأمر في الفروع الأخر.

قلت : أوّلا : أن الاشتراط المذكور ممنوع ؛ إذ لا يعتبر في التّرتّب إلّا اجتماع الخطابين الفعليّين في زمان واحد مع اختلافهما في الرّتبة ، وهذا هو موجود في الفروع المتقدّمة ؛ إذ كما أنّ المكلّف لو عصى أمر الإزالة ـ مثلا ـ وصلّى ، يلزم هناك اجتماع الخطابين الفعليّين وهما : «أزل وصلّ» بنحو التّرتّب ، كذلك لو عصى نهي الإقامة ، أو أمر تركها ، فأقام ، فإنّه يلزم هناك اجتماع الخطابين الفعليّين وهما : «لا تقم» «صم» على وجه التّرتّب ، ففي زمان خطاب : «صم» يكون خطاب : «لا تقم» ـ أيضا ـ موجودا لكونه مطلقا غير مشروط.

٤٩

وثانيا : لو سلّم ذلك ، لكان هو ـ أيضا ـ موجودا في مثل الصّلاة والإزالة ؛ إذ موضوع خطاب المهمّ هو عصيان خطاب الأهمّ. ومن المعلوم : أنّه لو امتثل أمر الإزالة لارتفع خطاب : «صلّ» بارتفاع موضوعه وهو العصيان.

وإن شئت ، فقل : إنّ امتثال حرمة الإقامة باختيار السّفر ، كما أنّه يوجب ارتفاع موضوع خطاب الصّوم وهي الإقامة ، كذلك امتثال وجوب الإزالة باختيار ترك الصّلاة ، يوجب ارتفاع موضوع خطاب الصّلاة وهو العصيان ، وكما أنّه لو عصى أمر الإزالة ـ بنحو الشّرط المتأخّر ـ أو بنى على عصيانه ـ بنحو الشّرط المتقدّم أو المقارن ـ وصلّى ، اجتمع هناك الخطابان الفعليّان وهما «أزل وصلّ» بنحو التّرتّب ، كذلك لو عصى نهي الإقامة ، أو أمر تركها ، فأقام ، اجتمع هنا الخطابان الفعليّان وهما : «لا تقم» و «صم» على وجه التّرتّب.

وثالثا : أنّه ليس محلّ البحث في التّرتّب ، إلّا إذا كان أحد الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الآخر.

توضيح ذلك : أنّ الخطاب الرّافع لموضوع خطاب آخر على قسمين :

الأوّل : أن يكون بنفس وجوده رافعا لموضوع الآخر ، نظير خطاب أداء الدّين بالنّسبة إلى خطاب وجوب الخمس ، حيث إنّ أداء الدّين يرفع موضوع الخمس الّذي يكون عبارة عن فاضل المئونة.

الثّاني : أن يكون بامتثاله رافعا لموضوع الآخر لا بنفس وجوده ، كخطاب الأهمّ ، حيث إنّه يرفع بامتثاله ، موضوع خطاب المهمّ (وهو عصيان الأهمّ أو البناء عليه).

٥٠

ولا ريب : أنّ القسم الأوّل خارج عن التّرتّب وأجنبيّ عنه ؛ لعدم اجتماع الخطابين الفعليّين في زمان واحد ، بل لا يمكن أن يكون كلّ منهما فعليّا ؛ إذ المفروض ، أنّ أحدهما رافع لموضوع الآخر ، فيكون مقدّما عليه ، ومعه كيف يتحقّق التّزاحم بينهما حتّى يعالج بالتّرتّب وغيره؟!

وأمّا القسم الثّاني : فهو محلّ البحث في مسألة التّرتّب ؛ ضرورة ، أنّ أحد الخطابين لو لم يتحقّق امتثاله المفروض كونه رافعا لموضوع الآخر ، يكون هناك الخطابان الفعليّان في زمان واحد ، لعدم ارتفاع موضوع الخطاب الآخر حينئذ.

هذا كلّه في الوجه الأوّل الّذي استدلّ به على إمكان التّرتّب ، وقد سمّي هذا ب «الدّليل الإنّي» نظرا إلى أنّ وقوع التّرتّب في الخارج كاشف عن إمكانه ، كما عرفت.

أمّا الوجه الثّاني : وهو الّذي قد سمّوه ب «الدّليل اللّمّي» فحاصله : أنّ الحكم يدور مدار الملاك وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، ولا ريب : أنّ الملاك موجود في كلّ من الضّدّين المتزاحمين ، فالحكم كذلك ؛ إذ المفروض ، عدم دخل القدرة في الملاك ، فالصّلاة ـ مثلا ـ لا تدور معراجيّتها مدار قدرة المكلّف ، بل تكون معراجا مطلقا. غاية الأمر : لا يقدر العاجز أن يعرج ، ألا ترى أنّ السّلّم يكون معراجا للصّعود على السّطح ، إلّا أن العاجز لا يقدر عليه.

وعليه : ففي المقام يكون لكلّ من الإزالة والصّلاة ملاك وحكم ، ولكن بما أنّ المكلّف لا يقدر على الجمع بينهما لأجل المزاحمة ، فلا إطلاق للخطابين معا ، بل يقيّد أحدهما وهو المهمّ عند الامتثال بعصيان الآخر وهو الأهمّ ـ بنحو الشّرط المتأخّر ـ أو بالبناء على عصيانه ـ بنحو الشّرط المقارن أو المقدّم ـ وهذا هو التّرتّب.

٥١

وإن شئت ، فقل : إنّ أصل الجعل ممّا لا يرفع اليد عنه في كلّ من الضّدّين المتزاحمين لاشتمالهما الملاك ، نظرا إلى عدم اعتبار القدرة فيه ، بل يرفع اليد عن إطلاق أحدهما وهو المهمّ عند الامتثال ويقيّد بعصيان الأمر لكي يرفع به التّزاحم ، كما هو واضح.

هذا كلّه بالنّسبة إلى القول بإمكان التّرتّب ، وأمّا القول بالامتناع ، والاستحالة ، فقد استدلّ له بامور :

الأوّل : ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره ، محصّله : أنّ ملاك استحالة طلب الضّدّين في عرض واحد ليس إلّا طلب المحال ، وهو القبيح على الحكيم ، وهذا آت بعينه في طلبهما ترتّبيّا ؛ لأنّه وإن لم يلزم في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع الضّدّين لتأخّر طلب المهمّ عنه برتبتين ، لكنّهما يجتمعان في مرتبة المهمّ ؛ إذ المفروض ، أنّ طلب الأهمّ مطلق غير مشروط ، ومقتضاه كونه باقيا في مرتبة المهمّ ، فيلزم طلب الجمع بين الضّدّين الفعليّين في زمن واحد ، وهذا هو عين طلب المحال القبيح على الحكيم. (١)

وفيه : أنّا نسلّم اجتماع الأمرين في زمان واحد.

أمّا الأمر الأهمّ ، فلكونه مطلقا بالنّسبة إلى حالتي الوجود والعدم.

وأمّا أمر المهمّ ، فلتحقّق الشّرط الّذي هو عصيان الأهمّ وتركه ، ولكن لا نسلّم أن مقتضى ذلك ، هو طلب الجمع بين الضّدّين كي يلزم المحال المذكور ؛ وذلك ، لأنّ مطلوبيّة أحدهما يكون في طول الآخر ، فلا يمكن أن يقعا معا مطلوبين حتّى في ما إذا فرض تمكّن المكلّف من إيجاده.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢١٣.

٥٢

ولك أن تقول : أنّ اجتماع الأمرين الفعليّين في زمان واحد ، إنّما يلزم منه طلب الجمع المحال ؛ إذا طلب المولى الجمع بينهما بعنوانه بأمر واحد ، كأن يقول : «اجمع بين الصّلاة والإزالة» أو طلبهما بأمرين فعليّين على نحو بشرط شيء ، كأن يأمر بالصّلاة بشرط امتثال أمر الإزالة وفي حالها ، ويأمر بالإزالة المقارنة للصّلاة وفي حالها ، أو طلب أحدهما ، كذلك كأن يأمر بالصّلاة بشرط الإزالة وفي حالها ، أو طلبهما على وجه الإطلاق ، وعلى نحو لا بشرط ؛ بأن يكون كلّ منهما مطلقا بالنّسبة إلى حال امتثال الآخر ، حيث إنّ الإطلاق ـ أيضا ـ ينتج نتيجة التّقييد ، فيقتضي إيجاب الجمع ، كأن يأمر بالصّلاة مطلقا ، سواء حال الإزالة ، أو لا.

ومن المعلوم : أنّ التّرتّب ليس من قبيل تلك الصّور ، بل المفروض فيه هو أنّ طلب المهمّ يكون على نحو بشرط لا ، وهو بشرط عدم إتيان الأهمّ وفي حال تركه ، وهذا لا يوجب الجمع بين الضّدّين ، بل يوجب نقيضه وهو التّفريق بينهما ، إذ لا فعليّة لأمر المهمّ إلّا في ظرف عصيان الأهمّ وتركه.

وبالجملة : لزوم طلب الجمع بين الضّدّين منوط بتعلّق الأمرين بهما في عرض واحد وعلى نحو الإطلاق ، وأمّا التّرتّب بإطلاق الأهمّ واشتراط المهمّ بعصيانه ، فلا يلزم منه ذلك ، بل يلزم نقيضه ، فالمكلّف إمّا يفعل الإزالة فقط ، أو يتركها ، فيفعل الصّلاة فقط وليس مأمورا بفعلهما معا.

ثمّ إنّه ينبغي الإشارة هنا إلى موردين تمهيدا لإيضاح إمكان التّرتّب وعدم لزوم محذور طلب الجمع بين الضّدّين.

الأوّل : أنّ الأمر ، بل كلّ خطاب وحكم شرعيّ لا يكون ناظرا إلى موضوعه

٥٣

متعرّضا لحاله وضعا ورفعا ، وجودا وعدما.

نعم ، يكون متعرّضا لحال متعلّقه فقط ، فالأمر الوارد في الحجّ ـ مثلا ـ كقوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ليس ناظرا إلى إيجاد الاستطاعة وتحصيلها وإلى أنّها موجودة أم لا ، بل إنّما يقتضي إيجاد متعلّقه وهو الحجّ على تقدير حصول الاستطاعة ، وكذلك الأمر الوارد في الصّوم ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(٢) حيث إنّه لا يقتضي الأمر إلّا إيجاد الصّوم عند حلول شهر رمضان ورؤية هلاله من غير كونه ناظرا إلى أنّ الشّهر حلّ ، أم لا ، وأنّ الهلال طلع ، أم لا.

ولا يخفى : أنّ أمر المهمّ في المقام ـ أيضا ـ كذلك ، فإنّه لا يكون ناظرا إلى حال موضوعه وهو عصيان أمر الأهمّ ، لا وضعا ولا رفعا ، بل إنّما يقتضي إيجاد متعلّقه وهو الصّلاة على تقدير حصول عصيان أمر الأهمّ وهو الإزالة.

وعليه : فلا يستدعي أمر المهمّ ترك أمر الأهمّ وعصيانه ، بل شأنه بالنّسبة إلى موضوعه كشأن سائر الأحكام بالنّسبة إلى موضوعاتها وهي اللّااقتضائيّة.

المورد الثّاني : أنّ مقتضى إطلاق أمر الأهمّ هو كونه منحفظا حال عصيانه وترك متعلّقه ، ومعنى ذلك ، أنّه يقتضي إيجاد متعلّقه وهدم موضوع المهمّ وهو العصيان.

وعليه : فأمر المهمّ يكون لا اقتضائيّا بالنّسبة إلى موضوعه ، فلا يقتضي رفعه و

__________________

(١) سورة آل عمران (٣) : الآية ٩٧.

(٢) سورة البقرة (٢) : الآية ١٨٥.

٥٤

هدمه ، ولا وضعه وإثباته ، كما عرفت آنفا.

وأمّا أمر الأهمّ ، فهو وإن كان لا اقتضائيّا بالنّسبة إلى موضوعه ، كسائر الموارد ، إلّا أنّه بالنّسبة إلى موضوع المهمّ وهو العصيان يكون اقتضائيّا ، حيث إنّه يقتضي هدمه ورفعه.

إذا عرفت هذين الموردين ، فنقول : إنّه لا تنافي بين الأمر المتعلّق بالأهمّ ، والأمر المتعلّق بالمهمّ ؛ بداهة ، عدم التّنافي بين المقتضي وغيره ، حيث إنّ أمر المهمّ ليس فعليّا حال العمل بالأهمّ وفي ظرف إطاعته والإتيان به ، فلا يكون مزاحما له ـ من باب السّلب بانتفاء الموضوع ـ وأمّا في ظرف ترك الأهمّ وعصيانه ، فهو وإن كان فعليّا ، إلّا أنّه لا يكون ناظرا إلى موضوعه وهو عصيان الأهمّ لا رفعا حتّى يؤكّد أمر الأهمّ الّذي هو ناظر إلى رفع موضوع المهمّ وهو العصيان ولا وضعا حتّى يزاحم أمر الأهمّ ، نظرا إلى مزاحمة اقتضاء الوضع لاقتضاء الرّفع.

فتحصّل : أنّه لا يلزم على هذا البيان طلب الجمع بين الضّدّين حتّى يلزم طلب المحال أو الطّلب المحال.

نعم ، لو كان اقتضاء كلّ منهما لإيجاد متعلّقه على وجه الإطلاق عرضيّا بلا ترتّب ، لزم التّنافي وطلب الجمع بين الضّدّين ، وإلّا فلا معاندة في البين ، بل يكون كمال الملاءمة ، وقد أومأنا إلى أنّ الجمع بين الطّلبين والأمرين زمانا ، غير طلب الجمع بين الضّدّين زمانا ؛ وذلك لأنّ الطّلبين فعلان للآمر الطّالب ، ولا محذور في أن يجمعهما في زمان واحد ، وأمّا المطلوبان الضّدّان ، فهما فعلان للمكلّف المأمور ، والمفروض ، أنّ الآمر لم يطلب منه جمعهما في زمان واحد ، بل إنّما هو طلب نقيض الجمع وهو التّفريق

٥٥

بينهما ، فلم يقل : «أزل حال الصّلاة أو صلّ حال الإزالة» بل قال : «أزل وصلّ حال ترك الإزالة وعصيان أمرها» والغفلة عن هذه النّكتة قد جرّت بعض الأساطين وأرباب الدّراية إلى القول بامتناع التّرتّب واستحالته ، فزعم أنّ اجتماع الطّلبين الفعليّين المتعلّقين بالضّدّين يستلزم طلب الجمع بين الضّدّين ، وقد عرفت : عدم استلزامه لذلك ، بل عرفت : أنّ مقتضاهما هي المفارقة بينهما في مقام الامتثال.

الأمر الثّاني (من الامور الّتي استدلّ بها على استحالة التّرتّب) : ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ـ أيضا ـ محصّله : أنّه لو كان الأهمّ والمهمّ كلاهما واجبين طوليّين على وجه التّرتّب ، لزم أن يعاقب تارك كليهما بعقابين ويستحقّ عقوبتين :

إحداهما بإزاء ترك الأهمّ ، والاخرى بإزاء ترك المهمّ.

ومن المعلوم : أنّ الاستحقاق لا بدّ وأن يكون بإزاء ما هو مقدور للمكلّف لاستقلال العقل بقبح العقاب على ما لا يقدر عليه ، والمفروض ، استحالة الجمع بين المتعلّقين وهما الأهمّ والمهمّ ؛ لمكان المضادّة بينهما ولو تشريعا ، كالصّلاة والإزالة ، ومع عدم مقدوريّة الجمع ، كيف يعاقب على تركهما.

ونتيجة ذلك كلّه هو وحدة العقوبة وهو العقاب على ترك خصوص الأهمّ ، ولازم هذا نفي التّرتّب والاعتراف بعدم تعلّق أمر فعليّ مولويّ بالمهمّ.

ولك أن تقول اختصارا : أنّ لازم التّرتّب هو تعدّد العقاب ، وحيث لا تعدّد فلا ترتّب ، وهذا ممّا يسمّونه برهانا إنيّا.

وفيه : أنّه لا مانع من الالتزام بتعدّد العقاب في مثل المقام.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول ، ج ١ ، ص ٢١٨.

٥٦

وتوهّم لزوم محذور طلب الجمع بين الضّدّين والعقاب على غير مقدور ، مندفع ؛ بأنّ منشأ هذا التّوهّم هو اعتقاد أنّ التّرتّب عبارة عن طلب الجمع بين الضّدّين ، فيقال : الجمع غير مقدور ، فالعقاب على تركه عقاب على غير مقدور ، ولكن قد عرفت : أنّ الأمر ليس كذلك ؛ إذ الطّلب إنّما تعلّق بكلّ منهما في موقف الجعل ومقام التّشريع ، غاية الأمر : أنّهما تزاحما وتنافيا في مقام الإطاعة والامتثال ، وحيث إنّه لا قدرة على الجمع بينهما في هذا المقام يقيّد المهمّ بعصيان الأهمّ.

ونتيجة ذلك : هو أنّ الجمع بين الضّدّين ليس مطلوبا ، بل كلّ واحد منهما مطلوب على وجه التّرتّب ، ولازمه أنّ الأهمّ مقدور فعله ، ولا أمر للمهمّ لو فعله ، فالعقاب على تركه عقاب على المقدور ؛ وكذلك المهمّ فإنّه ـ أيضا ـ مقدور حال ترك الأهمّ وعصيانه ، فالعقاب على تركه في هذا الحال عقاب على المقدور ـ أيضا ـ فالمكلّف قادر على الجمع بينهما في التّرك وعلى عدمه بأن يتركهما معا ، أو يترك أحدهما دون الآخر ، فلو تركهما معا عوقب بعقابين ، ولو ترك الأهمّ فقط عوقب بعقاب واحد.

وإن شئت ، فقل : ليس تعدّد العقاب لأجل ترك الجمع بين الواجبين كي يقال : بأنّ هذا غير مقدور ، بل يكون لأجل الجمع بين التّركين (ترك المهمّ وعصيانه عند ترك الأهمّ وعصيانه) والمفروض ، أنّ كلّ واحد منهما يكون مقدورا ، فالعقاب على تركهما عقابا على ترك أمر مقدور ، والتّوهّم المذكور إنّما نشأ من الخلط بينهما ، فافهم واغتنم.

الأمر الثّالث : أنّ المفروض كون العصيان شرطا لفعليّة الأمر بالمهمّ على

٥٧

وجه التّرتّب ، فإن كان شرطا مقارنا بوجوده الخارجي ، بمعنى : أنّ أمر المهمّ يصير فعليّا حين فعليّة عصيان أمر الأهمّ ووجوده خارجا ، فهذا إبطال للتّرتّب ، لابتنائه ـ كما عرفت سابقا ـ على فعليّة الأمرين ووجودهما في زمان واحد معا ، ومن المعلوم : سقوط أمر الأهمّ حين فعليّة أمر المهمّ ، لأنّ الأمر كما يسقط بالامتثال والإتيان ، كذلك يسقط بالمخالفة والعصيان.

وعليه : فلا يجتمع الأمران في زمان واحد ، حيث إنّه لا أمر بالمهمّ حين فعليّة الأمر بالأهمّ وإتيانه ، ولا أمر بالأهمّ حين فعليّة الأمر بالمهمّ ـ وهو ما لو عصى الأمر بالأهمّ ـ لسقوطه بالعصيان.

وأمّا إن كان العصيان شرطا لفعليّة الأمر بالمهمّ بنحو الشّرط المتأخّر ، لزم طلب الجمع بين الضّدّين ؛ وذلك ، لأنّ مقتضى هذا الشّرط فعليّة الأمر بالمهمّ حين عدم سقوط الأمر بالأهمّ وفعليّته وهو زمان عدم تحقّق العصيان بعد.

ونتيجة ذلك : اجتماع أمرين فعليّين في زمان واحد يستدعي كلّ واحد منهما إيجاد متعلّقه ويدعو المكلّف إليه ، مع أنّ متعلّقهما ضدّان حسب الفرض ، فيلزم طلب الجمع بين الضّدّين ، ومثل هذا قبيح على الحكيم.

فتحصّل : أنّه على تقدير شرطيّة العصيان بوجوده الخارجي بنحو الشّرط المقارن لا ترتّب رأسا ، نظرا إلى عدم اجتماع الأمرين الفعليّين ؛ إذ حينئذ لا أمر إلّا أمر المهمّ ، لأن الأمر بالأهمّ يسقط بالعصيان ، كما يسقط بالامتثال والإتيان.

وعلى تقدير شرطيّة العصيان بنحو الشّرط المتأخّر ، فالأمران الفعليّان وهما الأهمّ والمهمّ وإن كانا مجتمعين معا زمانا ، إلّا أنّه يوجب طلب الجمع بين الضّدّين.

٥٨

وفيه : أنّ الحقّ هو شرطيّة العصيان في فعليّة أمر المهمّ بنحو الشّرط المتأخّر لا المقارن ، وقد عرفت مفصّلا : أنّه لا يلزم حينئذ طلب الجمع بين الضّدّين ، بل يلزم طلب نقيضه وهو طلب التّفريق بينهما.

والوجه في عدم شرطيّة العصيان فيها بنحو الشّرط المقارن ، هو أنّه لو اريد من عصيان الأهمّ عصيانه بإتيان المهمّ وامتثال أمره ، فهذا يوجب طلب تحصيل الحاصل ؛ ضرورة ، أنّ العصيان بامتثال أمر المهمّ يستلزم سقوط أمره قطعا ، وإذا سقط ، فلا معنى لجعل العصيان شرطا لفعليّته ؛ إذ مقتضاه طلب ما هو الحاصل؟

وبالجملة : أنّ اعتبار العصيان بالمعنى المذكور في فعليّة أمر المهمّ بنحو الشّرط المقارن ، مرجعه إلى اعتبار إتيان أمر المهمّ وامتثاله في فعليّته ، وهذا غير معقول للزوم تحصيل الحاصل.

وأمّا لو اريد من عصيان الأهمّ ، عصيانه في الآن الأوّل بعدم الإتيان به فيه ، فهو وإن كان معقولا ، إلّا أنّ قولكم : «هذا يوجب سقوط أمر الأهمّ» غير سديد ؛ إذ الأمر لا يسقط بمجرّد المخالفة والعصيان ، بل إنّما هو إمّا يسقط بالامتثال والإتيان بمتعلّقه الموجب لحصول غرضه ؛ وذلك ، لأنّ الأمر يدور مدار الغرض وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء ، أو يسقط بامتناع الامتثال ، كما في فرض عدم قدرة المكلّف عليه ، حيث إنّ العقل يحكم حينئذ بقبح توجيه الأمر والبعث إلى العاجز.

وبعبارة اخرى : لا يسقط أمر الأهمّ في ظرف عصيانه ، بل مقتضى إطلاقه بقائه على حاله ، كما أنّ أمر المهمّ ـ أيضا ـ يكون متحقّقا في ظرف عصيان أمر الأهمّ لتحقّق شرطه ، فيجتمع حينئذ الأمران الفعليّان في زمان واحد (زمان عصيان أمر الأهمّ).

٥٩

نعم ، قد يسقط الأمر بالأهمّ بمجرّد العصيان في الآن الأوّل ؛ وذلك ، لعجز المكلّف عن الامتثال وعدم القدرة عليه في الآن الثّاني ، فسقوطه على هذا مستند إلى الأمر الثّاني من الأمرين المذكورين آنفا ، لا إلى العصيان بما هو عصيان ، وهذا في ما إذا كان الأهمّ آنيّا أو مضيّقا بحيث لو أخّره عن جزء من زمانه لم يتمكّن من امتثاله بعد ، ففي مثلهما يسقط أمر الأهمّ بالعصيان في الآن الأوّل ، لكن لا من ناحية العصيان ، بل من ناحية العجز وعدم القدرة على الامتثال بعد ذلك.

ولا يخفى : أنّه حينئذ لا مانع من فعليّة أمر المهمّ بعد سقوط أمر الأهمّ ، إلّا أنّه ليس من باب التّرتّب ، بل يكون نظير فعليّة أمر القضاء بعد سقوط أمر الأداء.

فتحصّل : أوّلا : أنّ العصيان شرط لفعليّة أمر المهمّ بنحو الشّرط المتأخّر أو المقارن ـ بناء على أنّ المراد من عصيان أمر الأهمّ هو عصيانه في الآن الأوّل بعدم إتيانه فيه ـ وأنّ الأمرين الفعليّين وإن كانا يجتمعان في زمان واحد ، لكنّه ليس إلّا مجرد اجتماع الطّلبين فيه ، لا طلب الجمع بين المتعلّقين والمطلوبين الضّدّين حتّى يلزم محذور طلب المحال أو الطّلب المحال.

وثانيا : أنّ أمر الأهمّ لو ترك في الآن الأوّل ـ عند فرض كونه آنيّا أو مضيّقا ـ يكون أمر المهمّ فعليّا ، إلّا أنّه ليس من باب التّرتّب ؛ إذ المفروض ، أنّ سقوط أمر الأهمّ في ظرف عصيانه لا يستند إلى العصيان ، بل يستند إلى عجز المكلّف وعدم قدرته على الامتثال في الآن الثّاني ، حيث إنّه مأمور بإتيان الأمر بالمهمّ في هذا الآن.

وإن شئت ، فقل : إنّ سقوط أمر الأهمّ في الفرض المذكور مستند إلى فعليّة الأمر بالمهمّ في الآن الثّاني ، لا إلى مجرّد عصيانه كي يندرج في مسألة التّرتّب.

٦٠