مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرام إلى يوم القيامة» (١) وهذا في نفسه واضح الفساد.

وقد تفصّي عن هذا الإشكال بوجوه ، أهمّها ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره تبعا للشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) حيث قال : «وإن كان بعد حضوره كان ناسخا ، لا مخصّصا لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الواقعيّ ، وإلّا لكان الخاصّ ـ أيضا ـ مخصّصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والرّوايات». (٣)

توضيحه : أنّ غالب العمومات الشّرعيّة الواردة في الكتاب والسّنة تكون صادرة على نهج ضرب القانون وسبيل جعل القاعدة كي ترجع إليها حين الشّكّ والحيرة ، وعليه ، فلا تتكفّل تلك العمومات إلّا لبيان الأحكام الظّاهريّة ، فيجب العمل بها ما لم يرد دليل خاصّ ، فإذا ورد بعد حضور وقت العمل كان مخصّصا بالنّسبة إلى الإرادة الاستعماليّة والأحكام الظّاهريّة ، لعدم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ إذ المفروض صدور العامّ لبيان الحكم الظّاهري لا الواقعيّ ، وهذا بخلاف ما لو فرض صدور العمومات لبيان الأحكام الواقعيّة ، فإنّ الخاصّ حينئذ يكون ناسخا بالنّسبة إلى الإرادة الجدّيّة والأحكام الواقعيّة ؛ إذ لولاه للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

والنّتيجة : أنّه لا يلزم من القول بالنّسخ في العمومات ، محذور كثرة النّسخ في

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ٥٨ ، حديث ١٩.

(٢) راجع ، مطارح الأنظار : ص ٢١٢.

(٣) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٨.

٣٠١

الشّريعة ؛ إذ عرفت : أنّ غالب العمومات الواردة فيها إنّما هي مرادة بإرادة استعماليّة ، بمعنى : صدورها ضربا للقاعدة وبيانا للأحكام الظّاهريّة ، والمفروض ، أنّ الخاصّ حينئذ يكون مخصّصا لها ، لا ناسخا ، ولا يخفى ، أنّه لا ملازمة بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي.

هذا ، ولكن أجاب بعض الأعاظم قدس‌سره عن هذا التّفصي بما حاصله (١) : أنّ هذه العمومات يدور أمرها في مقام الدّلالة والإثبات بين الأمرين : الأوّل : ظهورها في العموم حسب الإرادة الجدّيّة الواقعيّة والحكم الواقعي ؛ الثّاني : ظهورها فيه حسب الإرادة الاستعماليّة والحكم الظّاهري لمكان القرنية الدّالّة ، على أنّ ورودها كان ضربا للقانون وتأسيسا للقاعدة ، فعلى الأوّل يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كيف ، وأنّ العمومات ظاهرات في العموم جدّا ، والخصوصات المتأخّرة بيانات عن عدم إرادة العموم جدّا. وعلى الثّاني لا ظهور للعمومات في العموم واقعا وجدّا حتّى يتمسّك به في مقام الإثبات وفي ظرف الشّكّ في المراد.

وفيه : أنّه لا محذور في الالتزام بأحد هذين الأمرين ، أمّا الأوّل : فلما عرفت مفصّلا ، من أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لا محذور فيه إذا كان لمصلحة تقتضيه ؛ أمّا الثّاني : فلأنّ العمومات وإن لم تكن ظاهرة في العموم واقعا وجدّا ، إلّا أنّه لا يوجب عدم جواز التّمسّك به في ظرف الشّكّ في المراد ؛ إذ المفروض ، أنّ العمومات حكم ظاهريّ مجعول لمصلحة ، كسائر الأحكام الظّاهريّة المجعولة لمصالح ، فلا مانع من التّمسّك به.

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣١٩.

٣٠٢

نعم ، يرد الإشكال على المحقّق الخراساني قدس‌سره من جهة أنّه قدس‌سره التزم يكون الخاصّ ناسخا فيما إذا كان العامّ واردا لبيان الحكم الواقعي ، معلّلا بلزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة. (١)

مع أنّك عرفت آنفا ، أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان لأجل مصلحة مقتضية له ممّا لا مانع فيه ، وعليه ، فالالتزام بالنّسخ في العمومات الواردة في مقام بيان الحكم الواقعيّ لا ملزم له.

هذا كلّه في الصّورة الاولى من الصّورتين المختلف فيهما.

الصّورة الثّانية : أن يكون العامّ واردا بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، فقد وقع فيها الخلاف بأنّ الخاصّ المتقدّم ، هل يكون مخصّصا للعامّ المتأخّر أو يكون العامّ المتأخّر ناسخا للخاصّ المتقدّم؟ والحقّ هو التّخصيص ـ أيضا ـ في دائرة الأحكام الشّرعيّة ، لا النّسخ ، وهذا لا لما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) من كثرة التّخصيص وقلّة النّسخ وأقوائيّة ظهور الخاصّ في الدّوام ـ ولو كان بالإطلاق ـ من ظهور العامّ ـ ولو كان بالوضع ـ ولا لقولهم عليهم‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرام أبدا إلى يوم القيامة» (٣) ولا لدوران الأمر بين الأصلين ، وتعيّن رفع اليد عن أصالة العموم ، لا أصالة عدم النّسخ لقلّة النّسخ وكثرة التّخصيص ، بل لما أشرنا سابقا ، من ثبوت الأحكام بأسرها من الابتداء بلا تقدّم

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٦٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٧١.

(٣) اصول الكافي : ج ١ ، ص ٥٨ ، الحديث ١٩.

٣٠٣

وتأخّر بينهما ، فالعمومات المتأخّرة كانت أحكاما ثابته في زمن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غاية الأمر : أخّر بيانها لأجل مصلحة في التّأخير أو مفسدة في التّقديم ، وعليه ، فالخاصّ المتقدّم بيانا ، يخصّص العامّ المتأخّر بيانا.

فتحصّل : أنّ الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، يتعيّن للتّخصيص في جميع الصّور الخمسة المتقدّمة ، على أنّه لا يترتّب على النّزاع في الصّورة الاولى من الصّورتين المختلف فيهما ، ثمرة عمليّة بالنّسبة إلينا بعد تأخّر زماننا عن زمن العامّ والخاصّ ؛ إذ الواجب علينا هو الأخذ بالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، سواء كان مخصّصا ، أو ناسخا ، كما لا يخفى.

نعم ، تظهر الثّمرة في الصّورة الثّانية منهما ؛ إذ بناء على التّخصيص يجب العمل بالخصوص ، والحكم المجعول في الشّريعة ليس إلّا هو ، وأمّا بناء على نسخ الخاصّ المتقدّم بالعامّ المتأخّر ، فينتهي أمد حكم الخاصّ بعد ورود العامّ ، ويكون المجعول من هذا الحين هو حكم العامّ ، وقد عرفت : أنّ الحقّ هنا ـ أيضا ـ هو التّخصيص ، مضافا إلى أنّ النّسخ يكون أمرا مهمّا بحيث لو كان في عصر وزمان لاشتهر وبان ، ولا وجه لوقوعه في الإبهام حتّى يصل الدّور إلى الدّوران بينه وبين التّخصيص.

ولا فرق فيما ذكرنا بين صورتي العلم بالتّاريخ والجهل به ، بأن تردّد الأمر بين ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ وقبل حضوره ، فليس الوجه ، عند الجهل هو الرّجوع إلى الاصول العمليّة كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ؛ ولذا لم ير أحد من الفقهاء يجريها في أيّ عامّ وخاصّ صدر عنهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٧١.

٣٠٤

خاتمة :

والكلام فيها يقع في أمرين : الأوّل : في النّسخ ؛ الثّاني : في البداء.

(النّسخ)

أمّا الأوّل ، فمعناه في اللّغة (١) : هو الإزالة والرّفع ، فيقال : نسخت الشّمس الظّلة إذا أزالته ورفعته ؛ وفي اصطلاح الشّريعة : هو رفع الحكم برفع أمده وزمانه ، بمعنى : أنّ الحكم الثّابت بمقتضى إطلاق دليله من حيث الزّمان ، ينسخ ويرفع. هذا حسب مقام الإثبات.

وأمّا حسب مقام الثّبوت ، فمعناه : دفع الحكم بانتهاء أمده وانقضاء زمانه ، وعليه ، فلا يطلق النّسخ على ارتفاع الحكم عند ارتفاع موضوعه ، كارتفاع وجوب صوم رمضان بانقضاء شهره ، أو ارتفاع وجوب الحجّ بانتهاء موسمه.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لا إشكال ولا كلام في إمكان النّسخ في عالم التّكوين ، وأدلّ الدّليل عليه ، وقوعه في الخارج كثيرا ، كما لا يخفى.

إنّما الكلام في إمكانه بالنّسبة إلى عالم التّشريع والجعل ، فالمشهور (٢) بين المسلمين هو الإمكان ، بل الوقوع ، كمسألة القبلة ونحوها ، ولكن عن اليهود والنّصارى امتناع ذلك ؛ بدعوى ، أنّ النّسخ يستلزم المحال ، والمستلزم للمحال يكون محالا.

__________________

(١) كتاب المصباح المنير : ج ١ ـ ٢ ، ص ٨٢٧.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٥ ، ص ٣٢٩.

٣٠٥

والمقصود من المحال هو أحد أمرين : الأوّل : أنّ الرّفع من جهة البداء وكشف الخلاف النّاشي من عدم الاطّلاع ، مساوق للجهل في «الله تعالى» وهو محال.

الثّاني : أنّ الأحكام الشّرعيّة تدور مدار المصلحة ، فرفعها مع بقاء الملاكات والمصالح المستدعية لإبقائها يكون على خلاف الحكمة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، كما لا يخفى.

وبالجملة : نسخ الحكم مع اشتماله على المصلحة المستدعية لإبقاء ، غير جائز ، ويكون خلاف الحكمة ، ومع عدم اشتماله عليها ، كان أصل جعله وتشريعه غير جائز ، ومع خفاء الأمر وتخيّل الاشتمال عليها ، ثمّ البداء وانكشاف الحال بظهور عدم الاشتمال مستلزم لجهله سبحانه وتعالى وهو ـ أيضا ـ كالعمل على خلاف الحكمة ، محال.

هذا ، ولكن يمكن الجواب عن هذه المقالة ، بأنّ المصالح قد تكون دائميّة ، فتوجب أحكاما كذلك ؛ وقد تكون موقّتة ، فتوجب أحكاما كذلك ، وهذه الأحكام تنتهي بانتهاء وقتها بلا لزوم محذور الجهل أو عدم الحكمة أصلا ، فنسخ الحكم ، رفع صورة وبحسب الإثبات ، حيث ابرز الحكم غير الدّائم في قالب الدّوام وصورة البقاء عمود الزّمان ، لكنّه دفع وارتفاع حقيقة وبحسب الثّبوت.

وإن شئت ، فقل : إنّ النّسخ ليس رفع الحكم المجعول بعد ثبوته كي ينافي الحكمة ، أو يساوق الجهل والضّلالة ، بل هو ارتفاع الحكم المجعول الّذي يكون مقيّدا بزمان خاصّ ـ معلوم عند الله تبارك وتعالى ، ومجهول عند عباده ـ بعد ارتفاع ذلك الزّمان ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، بل ليس نسخا واقعا. هذا كلّه في الأوّل (النّسخ).

٣٠٦

(البداء)

أمّا الثّاني (البداء) فلا ريب في أنّ معناه : هو الظّهور من «بدا ، يبدو ، بدوا» إلّا أنّ هذا الظّهور يلاحظ على وجهين :

أحدهما : أنّه يلاحظ بالنّسبة إلى نفس من حصل له البداء ، فيقال : فلان بدا له في الرّأي ، فمعناه : أنّه ظهر له ما كان مخفيّا عنه وعليه ؛ ثانيهما : أنّه يلاحظ بالنّسبة إلى غيره ، فيقال : فلان برز ، فبدا منه الشّجاعة ، معناه : أنّه ظهر منه ما كان مخفيّا عن النّاس وعليهم ، لا عنه وعليه.

ولا يخفى : أنّ ما ينسب إلى الله تبارك وتعالى من البداء ، إنّما هو من قبيل الوجه الثّاني ، بمعنى : أنّه ظهر منه تعالى شيء يكون مخفيّا على النّاس بحيث يحسبون خلاف ذلك ، لا أنّه من قبيل الوجه الأوّل ، بمعنى : ظهور شيء له تعالى الّذي كان مخفيّا عنه وعليه تعالى ؛ وذلك لبطلانه وفساده بالضّرورة عقلا ونقلا.

أمّا العقل ، فللزوم الجهل فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ؛ وأمّا النّقل ، فتدلّ على بطلانه عدّة روايات :

منها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ما بدا الله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له». (١)

ومنها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله لم يبد له من جهل». (٢)

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ، ص ١٤٨ ، الحديث ٩.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ، ص ١٤٨ ، الحديث ١٠.

٣٠٧

ومنها : ما روى الصّدوق بإسناده ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه قال في قول الله عزوجل : «(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر ، فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جلّ جلاله تكذيبا لقولهم : غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ، ألم تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ»)(١).

وبالجملة : فالبداء في التّكوين ، وزان النّسخ في التّشريع ، بمعنى : أنّه ظهور للشّخص ما خفي عليه وعنه صورة ، لكنّه إبداء وإظهار للغير ما خفي عنه وعليه حقيقة.

والسّر فيه : أنّ الحوادث العينيّة متعيّنات في مرتبة الاقتضاء ، إلّا أنّه ربما يظهر ويحدث في الخارج خلاف ما كان يرى وينظر في تلك المرتبة ، وهذا إمّا لوجود الموانع ، أو لفقد الشّرائط ، وعليه ، فليس في الاعتقاد بالبداء محذور نسبة الجهل إلى الله تعالى ؛ إذ على هذا ، ليس معنى البداء : أنّ الله يعتقد شيئا ثمّ يظهر له خلاف ما اعتقده ، كيف وأنّه لا يقول : بمثل هذا المعنى في حقّه تعالى عوام الشّيعة ، فضلا عن العلماء.

فما عن الفخر الرّازي عند تفسير آية المحو والإثبات ، «قالت الرّافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده» (٢) لا سند له في كلمات الإماميّة والنّسبة غير صحيحة ، بل المعنى ما أشرنا آنفا ، وهو لا محذور فيه أصلا.

__________________

(١) التّوحيد : ص ١٦٧ و ١٦٨ ، الحديث ١.

(٢) التّفسير الكبير : ج ١٩ ـ ٢٠ ، ص ٦٦.

٣٠٨

وتشهد لما قلنا : روايات واردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في شأن البداء :

منها : ما روى الصّدوق ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «ما عبد الله عزوجل بشيء مثل البداء». (١)

ومنها : ما روى الصّدوق بإسناده ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما عظّم الله عزوجل بمثل البداء». (٢)

ومنها : ما روى الصّدوق بإسناده ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما بعث الله عزوجل نبيّا حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ؛ وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء». (٣)

والمناسب هنا هو الاكتفاء بهذا المقدار من البحث عن البداء ، والتّفصيل موكول إلى محلّ آخر.

__________________

(١) التّوحيد : ص ٣٣١ و ٣٣٢ ، الحديث ١.

(٢) التّوحيد : ص ٣٣٣ ، الحديث ٢.

(٣) التّوحيد : ص ٣٣٣ ، الحديث ٣.

٣٠٩
٣١٠

المسألة الخامسة : المطلق والمقيّد

* الموضع الأوّل : اسم الجنس والماهيّة وأقسامها علم الجنس

* الموضع الثّاني : مقدّمات الحكمة

* الموضع الثّالث : العمل بالمطلق قبل الفحص

* الموضع الرّابع : حمل المطلق على المقيّد

٣١١
٣١٢

(المسألة الخامسة : المطلق والمقيّد)

قبل الورود في المبحث لا بدّ من تقديم امور :

الأوّل : أنّ وصف اللّفظ بالإطلاق والتّقييد ، وصف بحال متعلّق الموصوف ؛ إذ هما وصفان للمعنى حقيقة ، كالعموم والخصوص.

الثّاني : أنّ دلالة المطلق على معنى شائع ، لا يراد به دلالته على المعنى والشّيوع ، بحيث كان الشّيوع جزء مدلوله ، بأن يدلّ اللّفظ المطلق ، كاسم الجنس على نفس الطّبيعة ومفهوم الشّيوع ، وهذا ممّا لم يقل به أحد ، كما أنّه لا يراد به دلالته على الشّياع والشّمول ، نظير ألفاظ العموم ، بل المراد دلالته على معنى قابل للانطباق على جنسه ، فالشّياع من شئون المعنى ولوازمه إذا لوحظ مطلقا عاريا عن جميع الحيثيّات حتّى حيثيّة التّجرّد والتّعرّي عن جميع الحيثيّات والقيود.

الثّالث : أنّ المطلق قد عرّف بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه ، والمقصود من كلمة : «جنسه» المأخوذ في هذا التّعريف هو المجانس والأفراد الذّاتيّة ، لا الجنس المصطلح المعنون في باب إيساغوجي (الكلّيّات الخمس) من المنطق ؛ إذ لا وجه له.

وعليه ، فالتّعريف لا يكون منعكسا ولا مطّردا ، أمّا عدم الانعكاس ، فلأنّ معنى المطلق على هذا يكون كلّيّا قابلا للانطباق على كثيرين ، فيخرج عن التّعريف ، الإطلاق في الأعلام الشّخصيّة ؛ إذ ليس الإطلاق هنا إلّا بحسب الأحوال فقط ، دون الأفراد.

٣١٣

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مصبّ الكلام هنا هو الإطلاق بحسب الأفراد فقط ، لا الأحوال ـ أيضا ـ وكذا يخرج عنه ، الإطلاق في المعاني الحرفيّة ، بناء على كون الموضوع له في الحروف خاصّا جزئيّا غير قابل للإطلاق والتّقييد بحسب الأفراد.

وأمّا عدم الاطّراد ، فلأنّ التّعريف المذكور يشمل بعض المقيّدات ، كالرّقبة المؤمنة لكونه شائعا في جنسه ، إلّا أن يقال : بأنّ مثل هذا المثال مقيّد من جهة ، ومطلق من جهات ، فيعدّ من أفراد المطلق لا المقيّد.

الرّابع : أنّ الإطلاق والتّقييد أمران إضافيّان ، فالشّيء الواحد يجوز أن يكون مطلقا ومقيّدا باعتبارين ، كما أشرنا آنفا إلى أنّ مثل «الرّقبة المؤمنة» يكون كذلك.

الخامس : أنّ الظّاهر هو أنّه ليس للمطلق والمقيّد اصطلاح خاصّ في الاصول ، بل اريد منهما المعنى العرفي واللّغوي ، فالمطلق يراد به «المرسل» بمعنى : غير المقيد بشيء ، والمقيّد يراد به خلاف ذلك ، ومن هنا تكون النّسبة بينهما شبيه (١) نسبة «العدم والملكة» حيث إنّ الإطلاق هو عدم التّقييد ورفض القيد عمّا من شأنه التّقييد ؛ ولذا لا إطلاق ولا تقييد فيما ليس كذلك.

السّادس : أنّ الإطلاق يغاير العموم ؛ إذ لا يفيد الشّياع والسّريان ولو جرت فيه مقدّمات الحكمة ، بل إنّما يفيد الإرسال وحذف القيود وجعل ما هو تحت اللّفظ من المعنى تمام الموضوع بلا دخل قيد فيه ، كما أشرنا إلى هذا في ابتداء مبحث العامّ ، فراجع.

__________________

(١) والوجه في هذا التّعبير هو أنّ النّسبة الحقيقية في «العدم والملكة» إنّما تتحقّق فيما إذا كان للشّيء قوّة واستعداد ، فيخرج منهما إلى المرتبة الفعليّة وهي حصول المستعدّ له ، والمقام ليس كذلك.

٣١٤

ومن هنا يظهر ، أنّ ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ، من : «أنّ قضيّة مقدّمات الحكمة في المطلقات تختلف بحسب اختلاف المقامات ، فإنّها تارة يكون حملها على العموم البدلي ، واخرى على العموم الاستيعابي ؛ وثالثة على نوع خاصّ ممّا ينطبق عليه حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحكام» (١) خال عن الدّقة.

السّابع : أنّ الإطلاق والتّقييد إنّما يلاحظان بالنّسبة إلى الحكم ، فما كان تمام الموضوع للحكم سمّي «مطلقا» ، وإلّا سمّي «مقيدا» وعليه ، فلا إطلاق ولا تقييد فيما ليس هنا حكم أصلا.

إذا عرفت تلك الامور السّبعة ، فاعلم ، أنّ الكلام في المقام يقع في مواضع :

(الموضع الأوّل : اسم الجنس)

الأوّل : في بيان عدّة من الكلمات والأسماء ، وأنّها هل هي مطلقة ، أو لا؟

منها : اسم الجنس ، والحقّ أنّه موضوع لنفس الجنس وصرف الطّبيعة والماهيّة المعرّاة المهملة عن كلّ قيد حتّى عن قيد التّعرية والتّجرد عن كلّ قيد.

توضيح ذلك : أنّ الماهيّة وإن كان لحاظها وتصوّرها لا يمكن إلّا إذا تلبّست بالوجود ، لكنّ الموضوع له في اسم الجنس ليس إلّا نفس الماهيّة ومحض الطّبيعة ، بحيث تكون عارية عن جميع القيود ، من الحقيقيّة والاعتباريّة ، ومن الوجوديّة والعدميّة حتّى عن قيد الخلو من القيود ، غاية الأمر : تكون الطّبيعة المجرّدة سارية بنفسها في المصاديق ، وهذا ـ أيضا ـ لا على وجه انطباق ما في الذّهن على الخارج ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٩٥.

٣١٥

بل بمعنى : وجودها في الخارج بعين وجود الأفراد ، فهي نشأة الذّهن وعالم الباطن تكون واحدة ، وفي نشأة العين وعالم الظّاهر تكون كثيرة.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «اسم الجنس موضوع للطّبيعة المعرّاة عن جميع الخصوصيّات حتّى عن هذه المعرّائيّة ، وهو الّذي نسمّيه مصداق المجرّد ، فالعلم ـ مثلا ـ موضوع على هذا المسلك للطّبيعة المعرّاة حتّى عن قيد التّعرية ، وهذا المعنى قابل للتّصوّر ؛ ولذا يفسّر العلم بأنّه انكشاف ، ويقسّم إلى الحصولى والحضوري». (١)

فتحصّل : أنّ الموضوع له في اسم الجنس ونحوه ، ممّا يعدّ من أفراد المطلق هو صرف الجنس ونفس الطّبيعة المهملة بلا اعتبار أمر آخر فيه ولو كان ذلك الأمر هو السّريان ، فالطّبيعة في موقف الوضع وصيرورتها موضوعا لها ، تكون مهملة فقط.

نعم ، هذه الطّبيعة في موقف الحكم قد تكون تمام الموضوع ، فجميع أفرادها مشمولة للحكم مترتّب عليها ، فتسمّى مطلقة ، وقد لا تكون تمام الموضوع ولا يكون الحكم ثابتا لجميع الأفراد ، بل لبعضها ، فتسمّى مقيّدة.

والدّليل على ما قلناه : هو التّبادر ، وعدم التّجوز في استعمالات المطلق حتّى في غير مورد السّريان والإطلاق. هذا كلّه في اسم الجنس.

(الماهيّة وأقسامها)

قد تعارف بين الاصوليين ، البحث عن أقسام الماهيّة وعن المقسم فيها ،

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٣١٦

والفرق بين «اللّابشرط القسمي» و «اللّابشرط المقسمي» ونحن نشير إلى هذا البحث هنا على وجه الاختصار.

ولكن قبل الشّروع فيه ، لا بأس بالإشارة إلى أمرين :

أحدهما : أنّ الماهيّة مركّبة من كلمتين وهما كلمة : «ما» وكلمة : «هي» أو : «هو» ، وهي ما يقال : ويحمل في جواب «ما هو» كالإنسان المحمول على «زيد» مثلا ، إذا قيل : «زيد ما هو؟» ، وكالحيوان النّاطق المحمول على الإنسان إذا قيل : «الإنسان ما هو؟».

ثانيهما : أنّ الماهيّة من حيث هي ، وبالنّظر إلى ذاتها غير آبية عن الاتّصاف بالوجود أو العدم ، وبالوحدة أو الكثرة ، وبالكلّيّة أو الجزئيّة ونحوها من الامور المتقابلة ، ومقتضى ذلك ، أنّ الماهيّة في حدّ ذاتها لو خلّيت ونفسها لا تكون موجودة ، ولا ، لا موجودة ، بمعنى : أنّ الوجود ونقيضه ليس شيء منهما مأخوذا في حدّ الماهيّة وصقع ذاتها ، لا على وجه العينيّة ولا الجزئيّة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الوجود أو العدم ونحوهما من الامور المتخالفة لا يكون عين الماهيّة ولا جزئها.

نعم ، لا تخلو الماهيّة في نفس الأمر وحاقّ الواقع عن الاتّصاف بأحد هذه الامور من باب الاتّصاف بأوصاف خارجة عن صقع الذّات ، بمعنى : أنّه لا يحمل على الماهيّة بالحمل الأوّلي إلّا نفسها وذاتها وذاتيّاتها ، وأمّا ما عدا الذّات والذّاتيّات ، فمحمول عليها بالحمل الشّائع.

ونتيجة ذلك : أنّ الامور المتقابلة ، كالوجود ونقيضه خارجة عن الماهيّة

٣١٧

من حيث هي حتّى لوازمها ، كالزّوجيّة للأربعة ، والفرديّة للثّلاثة ، فليست الأربعة من حيث هي ، زوجا ولا فردا ، كما أنّ الماهيّة ـ أيضا ـ ليست من حيث هي ، موجودة ولا ، لا موجودة ، ومن هنا قالوا : بعدم استحالة ارتفاعهما عن الماهيّة من حيث هي ، وبلحاظ المرتبة وحدّ الذّات ، وأنّ المستحيل هو ارتفاع النّقيضين عنها بلحاظ الواقع مطلقا وبجميع مراتبه ؛ إذ معنى ارتفاعهما عن المرتبة هو عدم العينيّة أو الجزئيّة للماهيّة ، وهذا أمر صحيح مطابق للواقع.

وبالجملة : فكما أنّ الوجود والعدم ـ مثلا ـ ليس أحدهما عين الآخر ولا جزئه ، بل الوجود وجود ، والعدم عدم ، كذلك كلّ واحد منهما بالنّسبة إلى الماهيّة ، كالإنسان وغيره ، وأضف إلى ذلك ، أنّ نقيض الوجود في المرتبة هو عدم الوجود فيها ، لا العدم مطلقا ، هذا بناء على أن يكون الظّرف (في المرتبة) قيدا للمنفي (الوجود) ، لا النّفي (العدم) ، وبناء على أن يكون الرّفع ، رفع المقيّد بالإضافة ، لا الرّفع المقيّد بالتّوصيف ؛ بداهة ، أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، ورفع الوجود في المرتبة هو عدم الوجود فيها لا العدم ، وعليه : فمع كذب أخذ الوجود في المرتبة ، يصدق عدم أخذه فيها.

والنّتيجة : أنّ ما هما مرتفعان (الوجود في المرتبة ، والعدم) ليسا بنقيضين ، وما هما نقيضان (الوجود في المرتبة ، وعدم الوجود فيها) ليسا بمرتفعين ، بل أحدهما كاذب ، والآخر صادق.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم ، أنّهم قالوا : إن للماهيّة بالنّسبة إلى ما يقارنها ، ويخالطها من الخصوصيّات ، اعتبارات ثلاث :

الأوّل : أن تؤخذ «بشرط شيء» ، بمعنى : أنّ الماهيّة قد تؤخذ بما هي مقارنة

٣١٨

للّواحق والخصوصيّات الزّائدة ، نظير أخذ الإنسان مع الخصوصيّة الزّيديّة أو العمرويّة أو البكريّة ، فتسمّى بشرط شيء والمخلوطة.

الثّاني : أن تؤخذ «بشرط لا» ، بمعنى : أنّ الماهيّة قد تؤخذ وحدها ، وينظر إلى ذاتها مع قطع النّظر عمّا عداها ، ومعناه : أنّه يشترط اللّامقارنة مع الخصوصيّة ، فتسمّى بشرط لا ومجرّدة.

الثّالث : أن تؤخذ «لا بشرط» ، بمعنى : أنّ الماهيّة تؤخذ بلا اشتراط المقارنة واللّامقارنة ، بل مطلقة غير مقيّدة بنفي أو إثبات ، فتسمّى لا بشرط ومطلقة.

ولا يخفى : أنّ المقسم لهذه الأقسام الثّلاث ، هي الماهيّة نفسها ، وهو الكلّي الطّبيعي ، وتسمّى باللّابشرط المقسمي ، والفرق بينه وبين القسم الثّالث وهو اللّابشرط القسمي ، هو أنّ القسمي تؤخذ مطلقة أو يكون مقيّدا باللّابشرطيّة ، وأمّا المقسمي فلا يكون مقيّدا بشيء ولو كان ذلك هو الإطلاق أو اللّابشرطيّة ، وعليه ، فلا يرد إشكال اتّحاد المقسم مع قسم من الأقسام ، وصيرورته قسما ، كما أوردوا.

ولا حاجة ـ أيضا ـ إلى التّفصّي عن هذا الإشكال بجعل المقسم ، عبارة عن اعتبار الماهيّة ولحاظها ، لا نفس الماهيّة ، كما عن المحقّق البروجردي قدس‌سره ، مضافا إلى أنّه لا يخلو من إشكال ؛ ولذا ننقل كلامه قدس‌سره مع كونه طويل الذّيل ، ثمّ نذكر الإشكال عليه أمّا كلامه قدس‌سره فقال : «ليس التّقسيم لنفس الماهيّة ولو في ظرف الخارج ، بل إنّما يكون للماهيّة في ظرف لحاظها ، فإنّه ظرف عروض وصف الكلّيّة ، فالتّقسيم أوّلا وبالذّات ، لنفس اللّحاظ والاعتبار ، أعني : الوجود الذّهني ، وينسب إلى الماهيّة الموجودة بهذا اللّحاظ ثانيا وبالعرض ، فالمقسم ليس نفس الماهيّة من حيث هي

٣١٩

هي ، بل المقسم هو لحاظ الماهيّة واعتبارها وينقسم هذا المقسم إلى أقسام الثّلاثة :

الأوّل : أن يتعلّق اللّحاظ بالماهيّة فقط ، بحيث لا يتعدّى اللّحاظ من نفس الماهيّة إلى شيء آخر من القيود الوجوديّة والعدميّة.

الثّاني : أن يتعلّق بالماهيّة المقيدة بشيء وراء ذاتها ، فقد تعدّي اللّحاظ في هذا القسم من نفس الماهيّة إلى أحد من قيودها ، فصار ملحوظا معها.

الثّالث : أن يتعلّق بالماهيّة المقيّدة بعدم كون شيء ممّا هو وراء ذاتها معها ، فقد تعدّي اللّحاظ في هذا القسم ـ أيضا ـ من نفس الماهيّة إلى أمر آخر وراء ذاتها وهو عدم كون الشّيء معها ، فالملحوظ في القسم الأوّل هو نفس الماهيّة ؛ وفي القسم الثّاني والثّالث ، هو الماهيّة مع شيء آخر وجوديّ أو عدميّ.

وبهذا البيان يختلف المقسم والأقسام ، فإنّ المقسم هو اعتبار الماهيّة ولحاظها ؛ والقسم الأوّل هو لحاظ الماهيّة حال كون اللّحاظ مقيّدا بعدم تعدّيه من نفس الماهيّة إلى أمر آخر ؛ والقسم الثّاني هو لحاظها حال كون اللّحاظ مقيّدا بتعدّيه من الماهيّة إلى أحد من قيودها وحالاتها ؛ والقسم الثّالث هو لحاظها حال كون اللّحاظ مقيّدا بتعدّيه من الماهيّة ، فنفس اللّحاظ هو المقسم ، وفي كلّ واحد من الأقسام الثّلاثة قد انضمّ إليه قيد ، به امتاز القسم من المقسم.

وأمّا الملحوظ ففي القسم الأوّل هو نفس الماهيّة ؛ وفي القسم الثّاني هو الماهيّة مع واحد من قيودها الوجوديّة ؛ وفي القسم الثّالث هو الماهيّة مع عدم كون شيء معها ، ففي كلا القسمين الأخيرين يتعدّى اللّحاظ من الماهيّة إلى شيء آخر.

وبالجملة : ليس التّقسيم لنفس الماهيّة ؛ إذ هي ليست إلّا قسما واحدا وهو

٣٢٠