مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وهي أفراد العامّ عدا مورد التّخصيص ، ومن هنا يقال : إنّ مرجع حجّيّة الخاصّ وتقديمه على العامّ إلى إلغاء بناء العقلاء على موافقة ظهور العامّ مع الواقع ، ولبّ الإرادة بمقدار الأفراد الخاصّ الواقعيّة ؛ لخروج تلك الأفراد عنه بالتّخصيص واقعا ، والوجه في التّقييد بالواقعيّة واضح ، حيث إنّ الخارج عن عموم «أكرم كلّ عالم» مثلا ، هو الفاسق الواقعي ، سواء احرز فسقه ، أم لم يحرز ، لا خصوص معلوم الفسق حتّى يبقى مشكوك الفسق كالمقطوع عدم فسقه تحت العامّ.

وعليه : فالفرد المشكوك يدور أمره بين اندراجه تحت إحدى الحجّتين (العامّ والخاصّ) ومعه لا يجوز التّمسّك بالعامّ في مورد المشكوك ، كما لا يجوز التّمسّك بالخاصّ فيه بلا كلام ، لعدم بناء العقلاء على التّمسّك بالعامّ إلّا في الشّبهة من ناحية الحكم ، وأمّا رفع الشّبهة عن حال الفرد بتعيين حاله بالعامّ ، فلا». (١)

ثمّ إن للمحقّق النّهاوندي قدس‌سره تقريبا آخر لجواز التّمسّك بالعامّ في المقام ، حيث قال ما محصّله : إنّ قول القائل : «أكرم العلماء» يدلّ بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء ، وبإطلاقه على سراية الحكم إلى كلّ حالة من الحالات الّتي تفرض للموضوع ، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة ، كما أنّه من جملة حالاته كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق وبقوله : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» قد علم خروج معلوم الفسق منه ولا يعلم خروج الباقي ، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك. (٢)

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) راجع ، تشريح الاصول : ص ٦١.

٢٤١

وفيه : أوّلا : أنّك قد عرفت حقيقة الإطلاق من أنّها عبارة عن رفض القيود لا ضمّها ، فليس في الإطلاق عموم وكثرة ، لا من ناحية الأفراد ، ولا من ناحية الأوضاع والحالات ، وعليه ، فاصطلاح الإطلاق الأحوالي قبال العموم الأفرادي لا أساس له رأسا.

وثانيا : قد عرفت ـ أيضا ـ أنّ المخصّص يوجب اختصاص الحكم بأفراد مخصوصة وهي أفراد العامّ عدا مورد التّخصيص ، ومن المعلوم : أنّ المراد من مورد التّخصيص هو عنوان الفاسق الواقعي ـ سواء احرز فسقه ، أم لم يحرز ـ لا خصوص معلوم الفسق ، وعليه ، فيدور أمر المشكوك ، بين الحجّتين (العامّ والخاصّ) فلا يجوز التّمسّك بواحدة منهما ، كما أشرنا إليه آنفا.

وثالثا : أنّ الأمر لو كان كذلك ، لزم اجتماع الحكمين في موضوع واحد ، فإنّ مقتضى كون الفرد المشتبه مندرجا تحت العامّ هو وجوب إكرامه ولو كان فاسقا واقعا ، ومقتضى الإطلاق الأحوالى في مثل قولنا : «لا تكرم فسّاق العلماء» هو عدم وجوب الإكرام ، بل حرمته لو كان الفرد المشتبه فاسقا واقعا ، وهذا كما ترى.

والقول بأنّ حال الحكم الواقعي النّاشي من قبل الخاصّ مع الحكم النّاشي من قبل العامّ هو حال الأحكام الواقعيّة مع الأحكام المتعلّقة بالشّيء حال الشّكّ ، بأن يكون مشكوك الفسق بما هو مشكوك ، واجب الإكرام ظاهرا ، ومحرّم الإكرام واقعا لو ثبت فسقه الواقعي ، واضح البطلان ، فلم يؤخذ الشّكّ في حكم الخاصّ وهي الحرمة الواقعيّة موضوعا في الدّليل المتكفّل لبيان حكم العامّ بالنّسبة إلى الفرد المشتبه ، بل العامّ كالخاصّ إنّما جاء لبيان الحكم الواقعي.

٢٤٢

ورابعا : أنّ الأمر لو كان كذلك ، لزم أن يتكفّل العامّ لحكمين ، أحدهما : الواقعي بالنّسبة إلى الموضوع الواقعي ، ثانيهما : الظّاهري بالنّسبة إلى الفرد المردّد ، مع أنّ هذين الحكمين أمران طوليّان مترتّبان ، لا يجعلان بجعل واحد ، كيف ، وأنّ الحكم الظّاهري متأخّر برتبتين عن الواقعي ، بمعنى : أنّه لا بدّ أوّلا من جعل الحكم ، ثمّ يفرض الشّكّ فيه ، كي يجعل الحكم الظّاهري في مورده.

ومن الواضح : أنّه لو جعلا بجعل واحد ، للزم لحاظ الشّكّ وعدم لحاظه معا ، وهذا كما ترى.

واحتمال كون المجعول بحسب الذّات حكما واحدا وبحسب الإضافة حكما متعدّدا (واقعي بالنّسبة إلى الموضوع الواقعيّ ، ظاهري بالإضافة إلى المشتبه) كما ترى ـ أيضا ـ إذ الحكم بالنّسبة إلى الموضوع ، كالمعلول وكالعرض والوصف ، لا بدّ له من موضوع ثابت معلوم بجميع حدوده وشئونه أوّلا حتّى ينشأ ويجعل ، فالموضوع إمّا واقعيّ أو مشتبه مأخوذ فيه ، والانحلال إلى الواقعيّ والمشتبه كأصل الانحلال لا أساس له ، فمثل : «أكرم كلّ عالم» لا ينحلّ إلى أكرم هذا وذاك وذلك ، ولا إلى الواقعي والمشتبه ، بل الحكم واحد لا يتعدّد بتعدّد المكلفين ولا بتعدّد الموضوعات ، وعليه ، فما ذكر من الاحتمالات لو أمكن ثبوتا لما ساعده الإثبات ، بل ينفيه ، ويكذّبه.

وقد نسب إلى السّيّد اليزدي قدس‌سره أنّه قال : بجواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص منفصلا ، ولعلّ مستند هذه النّسبة هو رأيه الشّريف في بعض الفروع الفقهيّة المذكورة في «العروة الوثقى» فزعموا أنّه قائل بجواز التّمسّك

٢٤٣

بالعامّ في تلك الشّبهة ، ولا بأس بالإشارة إلى فرع واحد منها مشتمل على صورتين وهو قوله قدس‌سره : «إذا علم كون الدّم أقلّ من الدّرهم وشكّ في أنّه من المستثنيات ، أم لا؟ يبنى على العفو ، وأمّا إذا شكّ في أنّه بقدر الدّرهم أو الأقلّ ، فالأحوط عدم العفو». (١)

فقد حكم قدس‌سره في الصّورة الاولى بالعفو ، وفي الصّورة الثّانية بعدمه ، فتوهّم أنّ هذا التّفصيل ليس إلّا على أساس التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة ، بتقريب : أنّ في الصّورة الاولى قد دلّت جملة من العمومات على عدم إعادة الصّلاة إذا صلّيها في دم أقلّ من درهم ، كصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : «قلت له : الدّم يكون في الثّوب عليّ وأنا في الصّلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره ، فاطرحه وصلّ في غيره ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدّرهم ، وما كان أقلّ من ذلك ، فليس بشيء ، رأيته قبل ، أو لم تره» (٢) ونحوها من الرّوايات. (٣)

وقد خصّصت هذه الرّوايات بروايات دالّة على منع دم الحيض والاستحاضة والنّفاس عن الصّلاة ولو كان اقلّ من الدّرهم ، كرواية أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌السلام :

__________________

(١) العروة الوثقى : ج ١ ، الأمر الثّاني في فصل ما يعفى عنه في الصّلاة ، مسألة ، ص ١٠٣ و ١٠٤.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٠ من ابواب النّجاسات ، الحديث ٦ ، ص ١٠٢٧.

(٣) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٠ من ابواب النّجاسات ، الحديث ١ و ٢ و ٥ ، ص ١٠٢٦ و ١٠٢٧.

٢٤٤

«لا تعاد الصّلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض ، فإنّ قليله وكثيره في الثّوب إن رآه أو لم يره ، سواء». (١)

وبعد ورود هذا التّخصيص قد أفتى السّيّد قدس‌سره أنّه إذا شكّ في دم أنّه من أفراد المخصّص بعد إحراز كونه أقلّ أو من أفراد العامّ ، يبنى على عدم كونه من أفراد المخصّص وعلى العفو ، فلا بأس به في الصّلاة ، وليس مستند هذا إلّا التّمسّك بعمومات أدلّة العفو في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص.

وفي الصّورة الثّانية قد دلّت روايات (٢) على عدم جواز الصّلاة في الثّوب المتنجّس بالدّم ، أو بغيره ، إلّا أنّه خرج منه خصوص المتنجّس بالدّم الأقلّ من الدّرهم بمقتضى ما تقدّم من الرّوايات الدّالّة على عفو هذا المقدار ، كالصّحاح المتقدّمة ، ومن هنا أفتى السّيّد قدس‌سره أنّه إذا شكّ في دم ، هل هو أقلّ من الدّرهم حتّى يندرج تحت المخصّص الدّال على العفو ، أو لا حتّى يندرج تحت العامّ؟ يحكم بعدم العفو عنه في الصّلاة ، وليس لهذا الحكم ـ أيضا ـ مستند إلّا التّمسّك بالعمومات في الشّبهة المصداقيّة للخاصّ المنفصل.

وفيه : أنّ هذا المقدار لا يكون دليلا على ما ذكر من النّسبة لاحتمال استناده قدس‌سره في هذين الرّأيين إلى أمر آخر غير التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة ، فلعلّ وجه العفو في الصّورة الاولى هو أحد الأمرين ، أحدهما : استصحاب عدم كون الدّم

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢١ من ابواب النّجاسات ، الحديث ٦ ، ص ١٠٢٨.

(٢) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٠ من ابواب النّجاسات ، الحديث ٢ و ٦ ، ص ١٠٢٦ و ١٠٢٧.

٢٤٥

الأقلّ من الدّرهم ـ المحرز أقلّيّته بالوجدان ـ من حيض ونحوه ، فالأقلّيّة محرزة بالوجدان ، وعدم الحيضيّة ونحوها محرز بالأصل ، وهما معا موضوع لعمومات العفو ، وهذا مبتن على حجّيّة الاستصحاب الأزليّ.

ثانيهما : البراءة عن مانعيّة هذا الدّم عن الصّلاة.

كما أنّه ، لعلّ وجه عدم العفو والبناء على الاحتياط ، في الصّورة الثّانية هو استصحاب عدم كون الدّم أقلّ من الدّرهم ، حيث إنّ المخصّص عنوان وجوديّ ، فلا مانع من التّمسّك بأصالة عدمه ، عند الشّكّ فيه.

نعم ، يمكن أن يقال (١) : بمعارضة هذا الاستصحاب ، باستصحاب عدم كون الدّم أكثر من الدّرهم ، أو عدم كونه بقدر الدّرهم ؛ إذ كما أنّ الأقلّ ذو أثر وهو العفو وعدم المنع ، كذلك المساوي والأكثر ، وأثرهما هو المنع وعدم العفو.

ولا ريب : أنّ نتيجة هذه المعارضة هو تساقط الأصلين والرّجوع إلى أصل البراءة عن المانعيّة ، كما هو الشّأن في جميع موارد الاصول المسبّبيّة ، حيث تجري مع ابتلاء الاصول السّببيّة بالمعارض ، فالحكم حينئذ في الصّورة الثّانية ـ أيضا ـ هو العفو ، لا الاحتياط.

اللهمّ إلّا أن يقال : باستناد السّيّد قدس‌سره في حكمه بعدم العفو والاحتياط في الصّورة الثّانية إلى الاشتغال اليقيني الّذي يقتضي الفراغ اليقيني ، فلو صلّى مع هذه الدّم المشكوك لم يحصل اليقين بفراغ الذّمّة بعد ما اشتغلت يقينا.

وكيف كان ، لا يمكن إحراز أنّ حكمه قدس‌سره في الصّورتين كان على أساس جواز

__________________

(١) هذا إنّما يتم في فرض عدم كون الاستصحاب المعارض مثبتا ، فتأمّل.

٢٤٦

التّمسّك بالعامّ في الشّبهات المصداقيّة ، بل لعلّه مبتن على اصول اخرى ، كما عرفت آنفا ، بل ظاهر كلامه قدس‌سره في مسألة الخمسين من كتاب النّكاح ، عدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة. (١)

ثمّ إنّه يوهم (٢) جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة عند المشهور لأجل إفتائهم وحكمهم بالضّمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية ، بل قد يتخيّل أنّ ذلك يكون من باب الرّجوع إلى العامّ مع الشّكّ في مصداق العامّ ، الّذي لم يقل به أحد ، بتقريب : أنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «على اليد ما أخذت» هو خصوص اليد العادية ، فلا يعمّ اليد المأذون فيها من أوّل الأمر ، بل تكون خارجة بالتّخصّص ، لا بالتّخصيص ، وعليه ، فاليد المشكوكة تكون شبهة مصداقيّة لنفس العامّ.

وفيه : أنّ الفتوى المذكورة المحكيّة عن المشهور تكون مسلّمة ، لكن لا لما ذكر من الوجه ، ولا لما قد يذكر من قاعدة المقتضي والمانع بكون عنوان العامّ مقتضيا لثبوت الحكم على أفراده وعنوان الخاصّ مانعا ، فيجب الأخذ بالمقتضي إلى أن يحرز المانع ، بل الوجه كما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره (٣) هو وجود الأصل الموضوعي المنقّح للموضوع المشكوك وهو «أصالة عدم إذن المالك ورضاه بالتّصرف» فيكون المقام من صغريات الموضوعات المركّبة المحرز بعض أجزاءها بالأصل ، وبعضها الآخر

__________________

(١) العروة الوثقى : ج ٥ ، ص ٤٩٩ ؛ وإليك نصّ كلامه قدس‌سره : «إذا اشتبه من يجوز النّظر إليه بين من لا يجوز بالشّبهة المحصورة وجب الاجتناب ... فمع الشّكّ يعمل بمقتضى العموم ، لا من باب التّمسّك بالعموم في الشّبهة المصداقيّة ، بل لاستفادة شرطيّة الجواز بالمماثلة أو المحرميّة أو نحو ذلك ...».

(٢) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٥٢٩.

(٣) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٥٢٩.

٢٤٧

بالوجدان. هذا كلّه في المخصّص المجمل المصداقيّ إذا كان لفظيّا.

وأمّا إذا كان لبيّا ، ففيه أقوال :

أحدها : ما اختاره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من جواز التّمسّك بالعامّ فيه مطلقا. (١)

ثانيها : ما اختاره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) من التّفصيل ، بين ما إذا كان اللّبي كالمخصّص المتّصل ، فلا يجوز التّمسّك به ، وبين ما إذا كان كالمنفصل ، فيجوز التّمسّك به.

ثالثها : ما هو الحقّ من عدم جواز التّمسّك بالعامّ مطلقا.

أمّا القول الأوّل ، فمنشؤه دعويان ، إحداهما : دعوى التّفصيل في المخصّص المنفصل ، بين ما إذا كان ذا عنوان موجبا للتّنويع ـ كالفاسق حيث يجعل موضوع العامّ وهو العالم ، مثلا ، نوعين (الفاسق وغيره) ـ فلا يجوز التّمسّك بالعامّ فيه ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ـ كما إذا خرج بعض أفراد العامّ عنه بلا توسيط عنوان جامع بينها ـ فيجوز التّمسّك به.

ثانيتهما : دعوى كون المخصّص اللّبي ـ غالبا ـ من قبيل المخصّص الّذي لا عنوان له ، فيجري فيه حكمه من جواز التّمسّك بالعامّ.

ولنا في كلتا الدّعويين نظر ، أمّا الاولى ، فلضعفها أوّلا : بأنّ المخصّص إذا لم يكن ذا عنوان جامع لأفراده ، فلا يتصوّر له شبهة مصداقيّة ، ولا يكون الشّكّ فيه شكّا في الصّدق والتّطبيق ، بل يكون شكّا في زيادة التّخصيص ، وهذا خارج عن

__________________

(١) راجع ، مطارح الأنظار : ص ١٩٤ ، سطر ٢٦.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٣ و ٣٤٤.

٢٤٨

مورد الكلام. ولا ريب أنّ في مثله يجوز التّمسّك به لرجوع الشّبهة حينئذ إلى الشّبهة الحكميّة الّتي يكون دفعها من شئون العامّ ووظائفها الحتميّة.

وبالجملة : ففرض عدم كون الخاصّ ذا عنوان ، أجنبيّ عن البحث في المقام ؛ إذ الكلام إنّما هو فيما إذا كان الشّكّ شكّا في الصّدق والتّطبيق وكانت الشّبهة موضوعيّة مصداقيّة راجعة إلى تعيين الفرد ، ومن هنا لا يتمسّك فيها بالعامّ ؛ لأنّ دفع الشّبهة من ناحية الموضوع وتعيين حال الفرد ، ليس من وظائف كبريات العموم ، كما أنّه ليس هذا وظيفة أيّة كبرى كانت.

وثانيا : بأنّ المخصّص الشّرعيّ الّذي هو المبحوث عنه في المقام يكون عنوانيّا نوعيّا دائما ، سواء كان لفظيّا أو لبيّا ، والتّخصيص الأفرادي ليس في الشّريعة إلّا قليلا ، وعليه ، فالتّفصيل المبتني على ما ذكره الشّيخ قدس‌سره من التّقسيم ، لا مجال له.

وأمّا الدّعوى الثّانية : فلأنّها أوّلا : غير ثابتة ؛ وثانيا : لو سلّم ثبوتها لكان المخصّص اللّبي خارجا عن مورد النّزاع ؛ إذ المفروض ، أنّه من قبيل المخصّص الّذي لا عنوان له ، وقد عرفت : أنّه ناظر إلى الشّبهة الحكميّة وهي أجنبيّة عن مورد البحث وهو الشّبهة المصداقيّة. هذا كلّه في القول الأوّل.

وأمّا القول الثّاني ، فغاية ما يقال (١) في تقريبه : هو أنّ المخصّص اللّبي إذا كان من الأحكام البديهيّة للعقل ، بحيث يكون كالمتّصل بالعامّ ، كان حكمه حكم المخصّصات المتّصلة في عدم جواز التّمسّك ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فالحقّ فيه جواز التّمسّك.

والوجه فيه : أنّ في اللّفظيّات قد ألقى المولى بنفسه حجّتين (العامّ والخاصّ)

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٢٩٨.

٢٤٩

وبعد تحكيم الخاصّ وتقديمه في الحجيّة بالنّسبة إلى ما يشمله واقعا يصير العامّ ، كأنّه كان مقصور الحجّيّة من أوّل الأمر وكأنّه لم يكن بعامّ ، وهذا بخلاف اللّبيّة ، فإنّ الملقى فيها حجّة واحدة وهو العامّ ، فيجب العمل به ما لم يكن حجة أقوى ، ففي قولنا : «أكرم جيراني» لا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه ، فالقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ منهم ، لا يجب رفع اليد عن عمومه إلّا فيما قطع بخروجه ، وبعبارة اخرى ، القطع بعدم إرادة إكرامه لا يوجب انقطاع حجّيّته ، إلّا فيما قطع أنّه عدوّه ، لا فيما شكّ فيه.

وفيه : أنّه بعد الفراغ عن كون اللّبي ـ أيضا ـ حجّة ، لا يبقى المجال للفرق بين المخصّصات اللّفظيّة واللّبيّة ، فكما أنّ اللّفظي المنفصل يضيّق دائرة الحجيّة ، ويكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت حجيّة العامّ ، أو الخاصّ ، كذلك اللّبي بلا فرق ، فالعامّ حجّة والمخصّص اللّبي حجّة اخرى ، والمشتبه لا يعلم كونه مندرجا تحت إحدى هاتين الحجّتين ، وعليه ، فلا فرق بين أن يقول المولى ـ بعد قوله : «أكرم جيراني» ـ «لا تكرم أعدائي منهم» أو يحكم بذلك العقل.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : بعد الإشارة إلى عدم الوجه للفرق بين اللّفظي واللّبي ، ما هذا لفظه : «ودعوى بناء العقلاء على التّمسّك بالعامّ في اللّبيّات عهدتها عليه». (١)

وأمّا القول الثّالث (عدم جواز التّمسّك بالعامّ مطلقا) فالوجه فيه ـ على ما عرفت آنفا ـ هو أنّ التّخصيص كما يوجب التّنويع إذا كان لفظيّا ، كذلك يوجبه إذا كان لبيّا ، فالعامّ في مثل : «أكرم جيراني» بعد تخصيصه بالأعداء منهم بحكم العقل ، يصير

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠.

٢٥٠

نوعين : أحدهما : الجيران الأصدقاء ؛ ثانيهما : الجيران الأعداء ، وكذا الأمر في عموم مثل : «لعن الله بني اميّة قاطبة» فإنّ هذا العامّ بعد تخصيصه لبّا بالمؤمن منهم ، يتنوّع على نوعين ، وهما المؤمن منهم وغيره ، وعليه : ففي المخصّص اللّبي ـ أيضا ـ حجّتان (العامّ والخاصّ) كما كانتا في المخصّص اللّفظي ، والفرد المشتبه هنا يكون غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين ، فلا يجوز التّمسّك بالعامّ كما كان كذلك هناك.

ودعوى : أنّ الخاصّ في اللّبي هو ما علم خروجه عن العامّ ، كمعلوم العداوة والإيمان في المثالين المتقدّمين ، حيث إنّه هو الحجّة الأقوى على خلاف العامّ ، فيقدّم عليه تقديما للأظهر أو النّص على الظّاهر ، ونتيجته ، هو اندراج المشكوك عداوته ، أو إيمانه تحت العامّ ، كاندراج المعلوم عدم إيمانه ، أو عدم عداوته تحته ، وهذا بخلاف الخاصّ في اللّفظي ، فإنّه حجّة كالعامّ بلا فرق بينهما ، فلم يؤخذ العلم في الخاصّ ، كما لم يؤخذ في العامّ.

غير مسموعة ؛ إذ أوّلا : يكون العلم المأخوذ في الخاصّ طريقيّا ، حيث إنّ ملاك حرمة الإكرام أو حرمة اللّعن ليس إلّا العداوة أو الإيمان ، بلا دخل للعلم فيه ، إلّا على نحو الطّريقيّة المحضة والمنجزيّة الصّرفة ؛ ولذا يقوم مقامه العلميّ ، كالإقرار أو البيّنة و....

ومن المعلوم : أنّ الطّريقيّة لا تقتضي إلّا كون الخاصّ هو العدوّ الواقعي ، أو المؤمن الواقعي ، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين ، وفي مثله لا يتمسّك بالعامّ ، كما لا يتمسّك بالخاصّ ، على ما عرفت كرارا.

وثانيا : لو سلّم أنّ العلم مأخوذ فيه على نحو الموضوعيّة ، ولكن لازمه هو

٢٥١

خروج الكلام عن مورد البحث ؛ ضرورة ، أنّ الخاصّ يكون على الموضوعيّة هو خصوص معلوم العداوة أو الإيمان ، لا الواقعيّ منهما ، ومقتضاه ، هو كون الفرد المشتبه من أفراد العامّ بلا كلام ، مع أنّ البحث هنا إنّما هو في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص ، لا فيما هو مصداق للعامّ.

ومن هنا ظهر ، ضعف ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من التّرقي في التّمسّك بالعامّ بأنّه كما يتمسّك به لاندراج المشتبه في العامّ وإخراجه عن الخاصّ حكما ، كذلك يتمسّك به لإخراجه عنه موضوعا ، بأن يقال : في مثل : «لعن الله بني اميّة قاطبة» إنّ فلانا جاز لعنه ، وكلّ من جاز لعنه ، ليس بمؤمن ، ففلان ليس بمؤمن ؛ ويقال : في مثال الجيران ، فلانا يجب إكرامه ، وكلّ من كان كذلك ، ليس بعدوّ ، ففلان ليس بعدوّ.

وجه ظهور الضّعف ، هو ما عرفت آنفا ، من ثبوت الحجّتين (العامّ والخاصّ) في المخصّص اللّبيّ ، كثبوتهما في المخصّص اللّفظي ، وعليه ، فالفرد المشكوك من حيث العداوة والإيمان ، غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين ، لا أنّه معلوم الخروج عن الخاصّ ومقطوع الاندراج تحت العامّ حكما كي يستفاد من عموم العامّ له حكما ، خروجه عن الخاصّ موضوعا.

فتحصّل : أنّه لا وجه لما ذكر من التّفاصيل ، وأنّ الحقّ عدم الفرق بين المخصّص اللّفظي واللّبي ، وعدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل ، كما لا وجه ـ أيضا ـ لإخراج الفرد المشكوك عن الخاصّ موضوعا ، كما التزام به المحقّق الخراساني قدس‌سره في ذيل كلامه.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٥.

٢٥٢

بقي امور لا بدّ من التّكلّم فيها :

الأوّل : أنّ التّخصيص الأفرادي بالخاصّ المنفصل إذا اشتمل على التّعليل الأنواعي ونحوه ، كالشّرط والوصف والحال ، فهو ملحق بالتّخصيص الأنواعي في عدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص ؛ وذلك ، نظير قولنا : «أكرم العلماء ولا تكرم زيدا وعمروا وبكرا ، لأنّهم فسّاق» أو «إن كانوا فاسقين» ونحو ذلك.

وجه الإلحاق ، هو أنّ التّعليل وغيره يشعر بأنّ المخرج هو العنوان ، بل يكون ظاهرا فيه ، وهذا يوجب أن يكون التّخصيص أنواعيّا واقعا وإن كان أفراديّا ظاهرا ، فحينئذ يكون الشّكّ المصداقيّ ، شكّا في الصّدق والتّطبيق ، لا في الحكم والتّخصيص ، فلا يجوز التّمسّك بالعامّ.

والقول بجواز التّمسّك به معلّلا بكون الشّكّ شكّا في زيادة التّخصيص ، لا في الصّدق والتّطبيق ، غير تامّ ، كما أنّ ما ادّعاه السّيّد البروجردي قدس‌سره (١) من قيام السّيرة هنا على جواز التّمسّك به ، ممّا لا يمكن المساعدة عليه.

الأمر الثّاني : أنّ الخاصّ المنفصل إذا ورد بلسان الحكومة على العامّ ، فلا يجوز التّمسّك به في الشّبهة المصداقيّة للحاكم ـ أيضا ـ كما لا يجوز التّمسّك به للمخصّص ؛ وذلك ، نظير قولنا : «أكرم العلماء وفسّاقهم ليسوا منهم».

والوجه في عدم جواز التّمسّك به هنا ، هو الوجه في المخصّص ؛ إذ مفاد الخاصّ الحاكم هو الإخراج الموضوعي ، فيتبعه الإخراج الحكمي الّذي هو مفاد المخصّص ، وعليه ، فكما أنّ التّخصيص يوجب تنويع العامّ ، كذلك الحكومة ، وقد عرفت : أنّ

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٢٩٩.

٢٥٣

مقتضى التّنويع هو ثبوت الحجّتين (العامّ والخاصّ) والفرد المشكوك غير معلوم الاندراج في واحد منهما.

الأمر الثّالث : أنّ العامّ والخاصّ على قسمين : أحدهما : أن يكونا مطلقين ؛ ثانيهما : أن يكونا عامّين من وجه.

أمّا القسم الأوّل ، فقد علم حاله في المباحث الماضية ؛ إذ جميع ما ذكر إلى هنا مربوط بهذا القسم.

أمّا القسم الثّاني ، ففيما إذا كان أحدهما حاكما على الآخر يكون الشّبهة المصداقيّة للحاكم ـ أيضا ـ كالمصداقيّة للمخصّص في عدم جواز التّمسّك بالعامّ ، بعين الوجه الّذي عرفته في المخصّص ، كما اشير إليه في الأمر الثّاني ؛ وذلك ، نظير قولنا : «أكرم العلماء والمتّقون منهم» ففي مثله لا يجوز التّمسّك بالعامّ بالنّسبة إلى الفرد المشكوك كونه متّقيا ؛ إذ بالحكومة يصير الموضوع وهو العامّ ، أعمّ من الحقيقي والتّنزيلي ، وواضح ، أنّ الفرد المشكوك شبهة مصداقيّة للعالم بحسب مصداقه التّنزيلي.

وأمّا فيما إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر ، فهنا مسلكان : الأوّل : أنّ المقام يندرج في باب التّعارض لوقوع المعارضة في مادّة الاجتماع ؛ الثّاني : أنّه يندرج في باب التّزاحم لوقوع المزاحمة فيها.

فعلى الأوّل : (التّعارض) إمّا يفرض فيه عدم ترجيح أحدهما على الآخر ، فحينئذ يقتضي القاعدة تساقط كلا الطّرفين لو لا الدّليل على التّخيير بينهما ؛ وإمّا يفرض فيه التّرجيح ، فحينئذ يقدّم ذو التّرجيح ويكون الشّبهة المصداقيّة للرّاجح منهما ، كالشّبهة المصداقيّة للمخصّص في عدم جواز التّمسّك بالعامّ فيها.

٢٥٤

والوجه هنا ، هو الوجه الّذي عرفت هناك ، مثال ذلك ، هو قولنا : «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم» فإذا قلنا : بمعارضة حكمي العامّ والخاصّ في مادّة الاجتماع وهو «العالم الفاسق» وقلنا : أيضا ، بترجيح حكم الخاصّ ـ مثلا ـ على العامّ ، يكون «العالم المشكوك فسقه» شبهة مصداقيّة للخاصّ ، وفي مثل ذلك ، لا يجوز التّمسّك بالعامّ.

وعلى الثّاني : (التّزاحم) إمّا يفرض فيه تكافؤ المتزاحمين وعدم كون ملاك أحدهما أقوى وأتمّ من الآخر ، فحينئذ يحكم بالتّخيير بينهما ، وإمّا يفرض فيه تفاضلهما وأقوائيّة ملاك أحدهما على الآخر ، فحينئذ تارة يكون حكم ما هو المرجوح المفضول إنشائيّا ، وحكم الرّاجح الفاضل فعليّا ـ مثل أن يكون ملاك حرمة إكرام الفسّاق أقوى ، وكان حكم وجوب الإكرام في العالم الفاسق إنشائيّا ـ وعليه ، يكون حال الرّاجح حال المخصّص في عدم جواز التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للرّاجح ؛ واخرى يكون المرجوح ـ أيضا ـ فعليّا كالرّاجح ، نظرا ، أنّ التّزاحم في مرحلة الامتثال النّاشي من عجز المكلّف وعدم قدرته عليه ، لا يوجب صيرورة الحكم المرجوح شأنيّا إنشائيّا ، بل يكون فعليّا ، غاية الأمر : تتحقّق المعذوريّة بالنّسبة إليه.

وعليه : فلا مانع من التّمسّك بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة للأقوى ملاكا ؛ ضرورة ، أنّه لا يجوز عقلا رفع اليد عن الحكم الفعليّ الّذي قامت عليه الحجّة ، إلّا بمزاحم أقوى ، وفي الفرض لم يحرز المزاحم ، بل ليس إلّا مجرّد احتماله ، لكون المفروض شبهة مصداقيّة للرّاجح الأقوى ، فلا يرفع اليد عن الحكم الفعليّ بمجرّد احتمال المزاحم ، ومن هنا يقولون : بعدم جواز المخالفة للتّكليف الفعليّ بمجرّد احتمال العجز المزاحم

٢٥٥

المانع عن الامتثال.

الأمر الرّابع : قد يقال : إنّ عدم جواز التّمسّك بالعامّ في المباحث السّالفة ، إنّما يتمّ على تقدير عدم وجود أصل موضوعيّ منقّح ناف للموضوع ، أو مثبت له ، وإلّا كان المصداق المشتبه محكوما ، بحكم العامّ أو بحكم الخاصّ ، ففى مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم» إن كان لفسق زيد ـ مثلا ـ أو عدم فسقه حالة سابقة ، يستصحب ويحكم على «زيد» بحكم المخصّص أو العامّ.

وفيه : أنّ الاصول الموضوعيّة وإن كان مقتضاها عند ثبوتها في مورد ، جواز التّمسّك بالعامّ ، أو عدم جوازه بلا شبهة ، ولكن لا يخفى عليك ، خروج هذا الفرض عن محلّ البحث ؛ إذ عليه لا شبهة مصداقيّة في البين ، بل يصير حال المصداق معلوما ، إمّا بإدراجه تحت العامّ ، أو بإدراجه تحت الخاصّ.

الأمر الخامس : أنّ عنوان الخاصّ لو كان له حالة سابقة وجودا ، أو عدما ، يعلم حال الفرد المشتبه بالأصل الموضوعي بأنّ يتّصف ، إمّا بالفسق في المثال المتقدّم فيندرج حينئذ تحت الخاصّ ، أو بعدمه فيندرج تحت العامّ ، كما أشرنا إليه آنفا.

وأمّا لو لم يكن كذلك ، فهل يجري استصحاب عدم عنوان الخاصّ بنحو العدم الأزليّ ، أم لا؟ فيه قولان :

الأوّل : هو القول بجريانه مطلقا (١) ، سواء كان بنحو العدم المحمولي (٢)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٦.

(٢) ويقابله «الوجود المحمولي» الّذي هو مفاد «كان التّامّة» وقد يعبّر عنه «بمفاد الهليّة البسيطة».

٢٥٦

الّذي هو مفاد «ليس التّامّة» بأن يقال : في مثل «المرأة تحيض إلى خمسين بعد استثناء القرشيّة» (١) إنّ انتساب هذه المرأة إلى «قريش» لم يكن في الأزل ، (قبل وجودها وتكوّنها) فالآن كما كان ، أو بنحو العدم النّعتي (٢) الّذي هو مفاد «ليس النّاقصة» بأن يقال في المثال : إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية في الأزل ، فالآن كما كان.

الثّاني : هو القول بعدم جريانه مطلقا. (٣)

أمّا القول الأوّل : فقد اورد عليه ، بأنّ الاستصحاب ـ على ما بيّن في محلّه ـ لا بدّ فيه من اتّحاد القضيّتين (المتيقّنة والمشكوكة) موضوعا ومحمولا ، حيث إنّ مفاد أدلّته هو وجوب المضيّ على اليقين السّابق وعدم جواز نقضه بالشّكّ اللّاحق ، وهذا لا يصدق إلّا مع الاتّحاد المذكور ، والمفروض ، أنّه لا اتّحاد هنا ؛ إذ القضيّة المتيقّنة هي السّالبة بانتفاء الموضوع ، والقضيّة المشكوكة هي السالبة بانتفاء المحمول ، كما لا يخفى.

واجيب عنه : بأنّ الأمر كذلك ، لكنّ اللّازم هو الاتّحاد بين القضيّتين في المفاد عرفا ، وهو هنا حاصل قطعا ، فالقضيّتان سالبتان تفيدان سلب المحمول عن الموضوع وهو سلب القرشيّة عن المرأة في المثال المتقدّم ، غاية الأمر : أحدهما : سلب بانتفاء الموضوع ؛ ثانيهما : سلب بانتفاء المحمول ، وهذا المقدار غير قادح في صحّة الاستصحاب حسب الأنظار العرفيّة.

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣١ من أبواب الحيض ، ص ٥٨٠ و ٥٨١.

(٢) ويقابله «الوجود النّعتي» الّذي هو مفاد «كان النّاقصة» وقد يعبّر عنه «بمفاد الهليّة المركّبة».

(٣) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٥٣٣.

٢٥٧

وعليه : فالعمدة في الإشكال على استصحاب العدم الأزلي ، أحد أمرين : الأوّل : أنّ العدم ليس له حالة سابقة كي يجري فيه الاستصحاب ، وأنّ القول بأنّ هذه المرأة لم تكن قرشيّة قبل وجودها في المثال ، كذب محض ، فلا إشارة إلّا مختلقة خياليّة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الموضوع للحكم الشّرعيّ في المثال وهي المرأة غير القرشيّة ، راجع إلى السّالبة بانتفاء المحمول ، وأنت ترى ، أنّ هذه السّالبة ليس لها حالة سابقة ؛ إذ المفروض ، أنّ تلك الحالة إنّما هي للسّالبة بانتفاء الموضوع وهو ليس بموضوع ، وبالجملة ، فما هو الموضوع للحكم ليس له حالة سابقة ، وما له تلك الحالة ليس بموضوع له.

الثّاني : أنّ استصحاب العدم المطلق المحموليّ الّذي له حالة سابقة لإثبات العدم المقيّد النّعتى الّذي يكون موضوعا للحكم الشّرعيّ ، إنّما يتمّ بناء على القول بحجيّة الأصل المثبت ، وهذا كما ترى.

وإن شئت ، فقل : إنّ العدم المطلق ، نظير عدم الانتساب في المثال ، وإن كان له حالة سابقة ، لكن ليس موضوعا للأثر ، أمّا المقيّد النّعتى فهو وإن كان موضوعا له ، لكن ليس له حالة سابقه ، واستصحاب المطلق لإثبات المقيّد يكون مثبتا ، فليس بحجّة على ما قرّر في محلّه ، هذا كلّه في القول الأوّل.

أمّا القول الثّاني (عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ) فأحسن ما يقال في وجهه هو ما أفاده السّيّد البروجردي قدس‌سره (١) : من منع جريان استصحاب العدم الأزليّ

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٣٠٢.

٢٥٨

بأمرين : أحدهما : دعوى انصراف أدلّة الاستصحاب عن مثل هذا الاستصحاب ، بتقريب : أنّ ما يراد استصحابه في المثال المتقدّم ليس نفس عدم الانتساب ، بل عدم انتساب هذه المرأة ، وواضح ، أنّ «الهذيّة» إنّما تعتبر عند وجود المشار إليه ، ولا هذيّة للمرأة المعدومة ، وعليه ، فلا عرفيّة لهذا الاستصحاب ويكون الأدلّة منصرفة عنه ؛ ثانيهما : عدم الاتّحاد في الموضوع عرفا ، بتقريب : أنّ عدم المحمول حال وجود الموضوع ، غير عدمه حال عدم الموضوع ؛ إذ في الأوّل يمكن أن يشار إلى الموضوع ويقال : «هذا» ، أو «هذه» بخلافه في الثّاني ، فحقيقة الأمر ، أنّه ليس في المثال متيقّن مشكوك البقاء حتّى يستصحب ؛ ولهذا قال قدس‌سره : فتبيّن ممّا ذكرنا ، أنّ استصحاب العدم الأزليّ من الامور المخترعة في المدرسة ، ولا أساس له في العرف والعقلاء.

ثمّ إنّ عدم جريان هذا الاستصحاب في الأعدام النّعتيّة ، إنّما يتمّ في العناوين الملازمة لوجود المعنون ، كالقرشيّة واللّاقرشيّة في المرأة ـ مثلا ـ وكالقابليّة واللّاقابليّة للذّبح في الحيوان ، وكالمخالفة واللّامخالفة للكتاب في الشّروط ونحوها ، فإنّ أمثال هذه الموارد ، لا حالة سابقة متيقّنة فيها كي تستصحب ، ألا ترى ، أنّ المرأة المشكوك كونها قرشيّة وغيرها ، لم يكن قرشيّتها أو عدم قرشيّتها متيقّنة في زمان حتّى يحكم ببقائها واستمرارها بمقتضى الاستصحاب بعد ما شكّ في البقاء ، بل المرأة حين الولادة ، إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة ، وهكذا الأمر في مسألة القابليّة واللّاقابليّة للذّبح ، ومسألة المخالفة واللّامخالفة للكتاب.

وأمّا الأوصاف والأعراض المفارقة ، فلا مانع فيها من جريان استصحاب الأعدام النّعتيّة ، كالوجودات النّعتيّة ؛ وذلك ، لإمكان وجود الحالة

٢٥٩

السّابقة هنا ، فيقال : «إنّ هذا العالم لم يكن فاسقا قبل ، فالآن كما كان» كما يقال : «هذا العالم كان عادلا أو فاسقا قبل ، فالآن كما كان» إلّا أنّ هذا كلّه ليس استصحابا أزليّا ، كما لا يخفى.

الأمر السّادس : قد اختلفت كلمات الأعلام في جواز التّمسّك بالعامّ ، لا من جهة احتمال التّخصيص ، بل من جهة اخرى ، كاحتمال فقد شرط أو وجود مانع ، فعن بعضهم (١) يظهر جواز التّمسّك به ، لكنّ الحقّ ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره عدم جوازه ، مثال ذلك ، أنّه لو توضّأ ، أو اغتسل شخص بمائع مضاف ، وشكّ في صحّتهما (٢) مع فرض كون الوضوء ، أو الغسل متعلّقا للنّذر ، فهل يجوز هنا التّمسّك بعموم أدلّة وجوب الوفاء به فيستكشف صحّتهما ، أو لا؟

قد يقال : يجوز التّمسّك به هنا ، بتقريب : أنّ هذا الوضوء ـ مثلا ـ يجب الإتيان به ، وفاء للنّذر ، وكلّما يجب الوفاء به ، لا محالة يكون صحيحا ، فهذا الوضوء صحيح.

وربّما يؤيّد ذلك بروايات (٣) وردت في صحّة الإحرام قبل الميقات إذا تعلّق به النّذر ، وصحّة الصّيام في السّفر كذلك. (٤)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٣٤٦ الى ٣٤٨.

(٢) ولا يخفى ، أنّ الشّكّ في المثال ، إنّما يتأتّى في فرض الإجمال ، بأن يكون أدلّة تشريع الوضوء مجملة من ناحية اشتراط صحّته بإطلاق الماء ، وإلّا فلا يشكّ في الصّحّة كي يقال : بالتّمسّك بالعموم ، بل البطلان حينئذ واضح البتّة.

(٣) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٨ ، كتاب الحجّ ، الباب ١٣ من أبواب المواقيت ، الحديث ١ و ٢ و ٣ ، ص ٢٣٦ و ٢٣٧.

(٤) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٧ ، كتاب الصّوم ، الباب ١٠ من أبواب من يصحّ منه الصّوم ، الحديث ١ ، ص ١٣٩.

٢٦٠