مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وفي مورد المعاملات ، مقتضى الأصل هو الفساد ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ؛ ضرورة ، أنّه إذا شكّ في صحّة المعاملة وفسادها مع عدم دليل ، يقتضي صحّتها من العمومات والإطلاقات ، فالأصل يقتضي عدم ترتّب الأثر عليها ، وهذا واضح.

إذا عرفت تلك الامور الأربعة ، فنقول : إنّ التّحقيق في المسألة يقتضي التّكلّم في مقامين :

الأوّل : في العبادات.

الثّاني : في المعاملات.

أمّا المقام الأوّل ، فالنّهي عنه على قسمين : أحدهما ، ما يتعلّق بنفس العبادة وتمام ذاتها.

ثانيهما ، ما يتعلّق بشطرها ، أو شرطها ، أو وصفها اللّازم ، أو المفارق.

أمّا القسم الأوّل ، فهو تارة يكون حاله محرزا معلوما من حيث التّحريميّة وغيرها ، واخرى ليس كذلك ، ولا يخفى ، أنّ في فرض ما لا يكون حال النّهي محرزا يحمل ـ حسب الظّاهر ـ على الإرشاد إلى الفساد وعدم الصّحّة.

ولقد أحسن وأجاد في تقريب ذلك ، المحقّق البروجردي قدس‌سره ، فقال ، ما حاصله : أنّ عنوان الصّلاة وغيرها من العبادات المركّبة لها أجزاء وشرائط وموانع ، لا تعرف إلّا من قبل الشّارع ، فهي كالمعاجين الصّحيّة الّتي لا يعرفها ولا يعرف أجزائها وشرائط تأثيرها إلّا الطّبيب الحاذق ، بل هذه المركّبات العباديّة نفس المعاجين ، غاية الأمر : للنّفوس والقلوب.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٠.

١٤١

وعليه : فالأوامر والنّواهي الصّادرة من العارفين بأمثال هذه العناوين الّتي لا يعرفها العامّة من الامّة ، تكون ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشّرطيّة أو المانعيّة ، كالأوامر والنّواهي المتعلّقين بالمعاجين. (١)

وبالجملة : فمثل ما ورد في الرّوايات من النّهي عن الصّلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه وكذا جلده وشعره (٢) والنّهي عن الصّلاة أيّام الحيض (٣) يكون ظاهرا عرفا في عدم تحقّق الصّلاة وعدم ترتّب الأثر المتوقّع منها وهو سقوط الإعادة والقضاء ، لا أنّه ظاهر في الحرمة التّكليفيّة المستتبعة للمبغوضيّة المستلزمة للفساد بمقتضى العقل والفطرة.

ولعلّه لأجل ذلك ـ كما أفاده المحقّق البروجردي قدس‌سره ـ استدلّ علماء الأمصار في جميع الأعصار بالنّواهي الواردة المتعلّقة بالعبادات والمعاملات من البيوع والأنكحة على الفساد (٤) ؛ إذ لم يكن استدلالهم بها على الفساد من طريق الملازمة بتوسيط الحرمة المولويّة ، بل كان من ناحية ظهور تلك النّواهي العرفيّة في الإرشاد إلى المانعيّة المستلزمة للفساد وعدم الصّحّة.

هذا كلّه في فرض ما لا يكون حال النّهي محرزا ، وأمّا فرض إحراز حال النّهي ، فهو على أنحاء :

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٢٥٥ و ٢٥٦.

(٢) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، أبواب لباس المصلّى ، ص ٢٥٠ إلى ٢٦٠.

(٣) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣ من ابواب الحيض ، الحديث ٤ ، ص ٥٣٨.

(٤) وقد أشار صاحب المعالم قدس‌سره ـ أيضا ـ إلى هذا الاستدلال ؛ راجع ، معالم الاصول : ص ٩٣.

١٤٢

أحدها : أن يكون النّهي تحريميّا نفسيّا مولويّا ، وهذا يقتضي الفساد بلا إشكال ، لأنّ الحرمة من جهة كونها كاشفة عن المبغوضيّة ، مستلزمة للفساد بمقتضى العقل والفطرة ، حيث إنّ المحرّم المبغوض لا يصلح للتّعبّد والتّقرّب ، وهذا هو سرّ ما أفادوا في الاستدلال لدلالة النّهي على الفساد بعبارة موجزة وهي : «إنّ النّهي يقتضي الحرمة والمبغوضيّة وهما تنافيان الصّحّة».

ثانيها : أن يكون النّهي تنزيهيّا نفسيّا ، وهذا ـ أيضا ـ لو خلّي وطبعه يقتضي الفساد ؛ إذ ظاهره هي مرجوحيّة متعلّقه وحزازته الذّاتيّة وهي تمنع عن التّقرّب والزّلفى ، كالنّهي التّحريميّ النّفسي.

نعم ، لو لم يكن ظاهرا في المرجوحيّة الذّاتيّة والحزازة النّفسيّة ، بل كان ظاهرا في الإرشاد إلى أقليّة الثّواب وأنقصيّة الأجر ، لما كان مانعا عن التّقرّب ، إلّا أنّه خارج عن دائرة بحث النّهي عن العبادة ؛ إذ محطّ البحث هو النّهي عن العبادة الدّالّة على المرجوحيّة الذّاتيّة ، لا ما يكون إرشادا إلى الأنقصيّة والأقليّة من حيث الثّواب والأجر.

ثالثها : أن يكون النّهي غيريّا ، كالنّهي عن الضّدّ الّذي يكون من ناحية الأمر بضدّه ؛ بناء على مسلك الاقتضاء ، كالنّهي عن الصّلاة من قبل الأمر بالإزالة ، والحقّ عدم اقتضائه للفساد عقلا ، حيث إنّ هذا النّهي لا يكون لأجل مبغوضيّة متعلّقه حتّى تمنع عن التّقرّب به ، بل يكون لأجل مقدّميّة ترك هذا الضّدّ بالنّسبة إلى فعل الضّدّ الآخر المأمور به ، وكما أنّ الأمر المقدّمي لا يدلّ على المحبوبيّة ، كذلك النّهي المقدّمي لا يدلّ على المبغوضيّة ، وعليه ، فيصحّ التّقرّب بالمنهيّ عنه بمثل هذا النّهي ، بناء على

١٤٣

مبنى التّحقيق من كفاية الملاك في صحّة العبادة وعدم الحاجة إلى الأمر والخطاب.

نعم ، لو فرض تحقّق العصيان هنا ، لكان بترك الأهمّ لا بفعل المهمّ ، فالصّلاة وقت الإزالة ليست بمعصية ، بل المعصية هو ترك الإزالة ، فلا وجه حينئذ للحكم بفساد الصّلاة وقت الإزالة.

رابعها : أن يكون النّهي إرشادا إلى الفساد ، وهذا لا كلام ولا إشكال في اقتضائه للفساد.

هذا كلّه في القسم الأوّل (النّهي المتعلّق بنفس العبادة).

أمّا القسم الثّاني (النّهي المتعلّق بجزء العبادة أو شرطها أو وصفها) ، فالكلام فيه يقع في ثلاث موارد :

الأوّل : في تعلّق النّهي بجزء العبادة ، كالنّهي المتعلّق بقراءة سورة العزائم.

ولا يخفى : أنّ الحكم فيه هو الحكم في تعلّق النّهي بنفس العبادة ؛ وذلك ، لأنّ جزء العبادة عبادة ـ أيضا ـ فالنّهي عنه ، كالنّهي عنها ، وهو واضح ، وعليه ، فلا كلام فيه زائدا على ما عرفته في القسم الأوّل.

نعم ، يبحث هنا عن أنّ بطلان الجزء المنهيّ وفساده ، هل يوجب بطلان الكلّ وفساده ، أم لا؟ وجهان :

والحقّ هو الثّاني : إذ المفروض ، تعلّق النّهي بنفس الجزء ، لا بالكلّ بنفسه ، أو باعتبار جزئه ، فحينئذ لا وجه لسراية فساد الجزء إلى الكلّ.

ويتفرّع عليه ، أنّ الجزء الفاسد إن كان ممّا يمكن التّدارك به اتي به ، وإلّا فيفسد الكلّ ، لا لأجل السّراية ، بل لجهة اخرى وهي فقده للجزء لو لم يأت به ، أو لزوم

١٤٤

الزّيادة لو اتي به ثانيا.

هذا إذا لم يكن النّهي عن الجزء إرشادا إلى المانعيّة ، وإلّا فلا إشكال في فساد الكلّ وبطلان نفس العبادة رأسا ، ـ كما أشار إليه شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ـ (١) وهذا ممّا لا نزاع فيه ، بل هو خارج عن حريمه ، كما لا يخفى.

المورد الثّاني : في تعلّق النّهي بشرط العبادة ، كالنّهي عن الطّهارة الحدثيّة والخبثيّة بماء مغصوب ، والحكم فيه يختلف باختلاف الشّرط فإن كان الشّرط توصّليّا ، فلا يقتضي النّهي الفساد أصلا ، ولذا لو طهّر المصلّي بدنه أو ثوبه بماء مغصوب فصلّى لم تبطل صلاته ، لا من ناحية السّراية ، لأنّ المفروض ، عدم بطلان الشّرط ، ولا من ناحية فقد الشّرط ، إذ المفروض حصول الطّهارة.

اللهمّ إلّا أن يستفاد من الأدلّة ، عدم حصول الطّهارة الخبثيّة بالمياه الغصبيّة فتفسد الصّلاة ، وليس هذا إلّا لفقد الشّرط ، لا للسّراية ؛ وذلك لما عرفت : من عدم السّراية في الشّطر ، فعدمها بالنّسبة إلى الشّرط الخارج عن الذّات والحقيقة يكون بالاولويّة.

وأمّا إن كان الشّرط تعبّديّا مفتقرا إلى قصد القربة ، فلا كلام في أنّ النّهي عنه يوجب فساده ، كالنّهي عن نفس العبادة المشروطة أو عن جزئها ، إنّما الكلام في أنّ فساده ، هل يسري إلى فساد العبادة المشروطة به ، أم لا؟

والتّحقيق هنا ـ أيضا ـ عدم السّراية ، كما عرفت ذلك في الجزء ، بل عدمها هنا بالاولويّة ، على ما اشير إليه في الشّرط غير العبادة.

__________________

(١) تقريرات بحوثه القيّمة بقلم الرّاقم قدس‌سره.

١٤٥

وعليه ، فلا يفسد المشروط به من جهة السّراية ، بل يفسد من جهة اخرى وهو فقده لفقد شرطه وانتفائه بانتفائه ، كانتفاء الكلّ بانتفاء الجزء.

وأنت ترى ، أنّ هذا خارج عن محطّ الدّعوى ؛ ضرورة ، أنّ النّزاع إنّما هو في فساد العبادة المشروطة من جهة نفس النّهي عن الشّرط ، لا من جهة اخرى ، ومن هنا يظهر ، أنّ ما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «فلا يكون حرمة الشّرط أو النّهي عنه موجبا لفساد العبادة ، إلّا في ما كان عبادة كي يكون حرمته موجبا لفساده المستلزم لفساد المشروط به» (١) يكون أجنبيّا عن مصبّ المنازعة.

هذا إذا لم يكن النّهي عن الشّرط إرشاديّا ، وإلّا فلا إشكال في فساد العبادة المشروطة به ، ولكن هذا الفرض خارج عن مورد النّزاع ، كما عرفت ذلك في الجزء.

المورد الثّالث : في تعلّق النّهي بالوصف اللّازم للعبادة ، كالنّهي عن الجهر أو الإخفات في القراءة (٢) ، والحكم فيه ـ حسب الأنظار العرفيّة ـ هو كون النّهي عنه موجبا للنّهي عن الموصوف ، حيث إنّ الظّهور العرفي يقتضي أن لا يكون للوصف مع قطع النّظر عن الموصوف هويّة وحقيقة بحيالها واستقلالها ، ومن هنا ، أنّ قولنا : «لا تجهر بقراءتك» مثلا ، يؤول عرفا إلى قولنا : «لا تقرأ جهرا ، أو لا تقرأ قراءة جهريّة» كما لا يخفى.

والنّتيجة : هو أنّ القراءة لو كانت بنفسها عبادة ، كان النّهي عن الجهر أو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٢.

(٢) والمراد بكون الجهر أو الإخفات وصفا لازما للقراءة ، هو أنّه لو انتفى كلّ واحد منهما ، انتفت القراءة الجهريّة ، أو الإخفاتيّة ، بحيث لو فرض ثبوت القراءة لكانت قراءة اخرى غير هذا الصّنف.

١٤٦

الإخفات نهيا عنها ، وأمّا لو كانت جزءا أو شرطا للعبادة ، كان النّهي عنه نهيا عن جزء العبادة.

ثمّ إنّه قد انقدح ممّا ذكرنا ، أنّ باب الوصف والموصوف يفارق عن باب اجتماع العنوانين واتّحادهما مصداقا ، كما في باب اجتماع الأمر والنّهي ، نظير الصّلاة والغصب ، فلا ينبغي أن يقاس أحدهما بالآخر ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث إنّه أدرج المقام تحت باب اجتماع الأمر والنّهي ، وهذه عبارته : «والعنوانان (عنوان القراءة والجهر) في محطّ تعلّق الأحكام مختلفان ، فلا يضرّ الاتّحاد مصداقا» إلى أن قال : «إنّ المقام من قبيل اجتماع الأمر والنّهي». (١)

وجه الانقداح هو ما عرفت آنفا : من أنّ النّهي عن الوصف حقيقتا هو النّهي عن الموصوف بذلك الوصف حسب النّظر العرفي وإن كانا عنوانين حسب النّظر الدّقي ، بل العرفي ـ أيضا ـ وعليه ، فليس في ما نحن فيه أمر بعنوان ونهي عن عنوان آخر كى يجتمع أحدهما مع الآخر تارة ، ويفترق اخرى ، كالصّلاة والغصب ، بل ليس هنا إلّا نهي فقط وهو النّهي عن الموصوف بالوصف الخاصّ الّذي يكون حصّة خاصّة.

وبعبارة اخرى : يكون النّهي عن الجهر بالقراءة هو النّهي عن القراءة الجهريّة الّتي تكون حصّة خاصّة من القراءة ، ومثل هذا ، يستحيل أن يكون نفسه مأمورا به ووصفه منهيّا عنه فعلا حتّى يندرج في باب الاجتماع ، فرجوع النّهي عن الوصف إلى النّهي عن الموصوف أمر عرفي ، وامتناع كونه حينئذ بنفسه مأمورا به مع

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٧.

١٤٧

كون وصفه منهيّا عنه أمر عقليّ ، وهذا ممّا أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

المورد الرّابع : في تعلّق النّهي بالوصف المفارق عن العبادة ، كالنّهي عن أكوان الصّلاة إذا كانت غصبيّة ، حيث إنّ الأكوان وصف مفارق عن الصّلاة ، كما هو واضح ، والحكم فيه هو الحكم في مسألة اجتماع الأمر والنّهي لاندراج المقام تحت تلك المسألة ؛ هذا تمام الكلام في المقام الأوّل (النّهي عن العبادات).

أمّا المقام الثّاني (النّهي عن المعاملات) فنقول : لا نزاع في أنّ النّهي عن المعاملات يدلّ على الفساد إذا كانت النّهي عنها إرشادا إلى المانعيّة والفساد ، كالنّهي عن بيع ما ليس عندك (٢) ، أو الوقف (٣) ، أو ما لا يملك (٤) ، أو المجهول (٥) ، أو النّهي عن النّكاح في العدّة (٦) ، أو عن الطّلاق في طهر المواقعة (٧) وما شاكل ذلك.

وكذا لا نزاع في ما إذا كان النّهي عنها دالّا على الحرمة التّكليفيّة ، والمبغوضيّة المولويّة مع تعلّقه بآثار المعاملة ، بحيث يدلّ على حرمة ما لا يحرم عند صحّتها ، كالنّهي

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٣.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ١٢ ، ص ٢٦٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب الوقوف والصّدقات ، الباب ٦ من ابواب احكام الوقوف والصّدقات ، الحديث ١ و ٢ ، ص ٣٠٣.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ١ ، ص ٢٥٢.

(٥) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث ٩ ، ص ٢٦٥.

(٦) وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ١٧ ، ص ٣٤٤ إلى ٣٥٠.

(٧) وسائل الشّيعة : ج ١٥ ، الباب ٨ و ٩ ، ص ٢٧٦ إلى ٢٨١.

١٤٨

عن أكل الثّمن والمثمن في بيع العذرة والكلب ، بمثل قوله عليه‌السلام : «ثمن العذرة من السّحت» (١) وقوله عليه‌السلام : «ثمن الكلب سحت». (٢)

والوجه في عدم كون مثل هذا النّهي موردا للنّزاع هو دلالته على الفساد والبطلان البتّة ، كما لا يخفى.

إنّما النّزاع في ما إذا كان النّهي دالّا على الحرمة التّكليفيّة مع تعلّقه بنفس المعاملة ، لا بآثارها.

والحقّ فيه عدم اقتضائه للفساد ؛ ضرورة ، أنّه لا ملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها لغة وعرفا ، بلا فرق بين كون الحرمة متعلّقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة ـ كالنّهي عن بيع المصحف ، والعبد المسلم من الكافر ـ وبين كونها متعلّقة بمضمونها بما هو فعل بالتّسبيب ـ كالنّهي عن البيع وقت النّداء صلاة الجمعة (٣) ؛ بناء على كون المزاحم للصّلاة هو نفس السّبب ، لا المسبّب وهو النّقل والانتقال ـ وبين كونها متعلّقة بمضمونها بما هو فعل بالتّسبب بها إليه ـ كالنّهي عن الظّهار ـ حيث إنّ التّفريق ليس مبغوضا في الجملة ، إلّا أنّ التّوصّل إليه بالظّهار يكون مبغوضا عند الشّارع. (٤)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ٤٠ من ابواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ص ١٢٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٢ ، كتاب التّجارة ، الباب ١٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٨ ، ص ٨٤.

(٣) هكذا مثّلوا ، ولكن لنا في هذا التمثيل نظر ، فتأمّل.

(٤) ونظير ذلك ، ما قيل في مورد النّهي عن المنابذة ، فلا مبغوضيّة للسّبب ولا للمسبّب ، بل المبغوض هو التّسبب بهذا السّبب والتّوصّل به إلى المسبّب ، ولكن فيه تأمّل.

١٤٩

فتحصّل : أنّ النّهي المولويّ التّحريميّ ـ فضلا عن التّنزيهي ـ لا يدلّ على الفساد في الامور المعامليّة ، لا لغة ولا عرفا.

نعم ، ربما يتوهّم استتباع النّهي والحرمة للفساد شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه ، نظير رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده ، فقال عليه‌السلام : إنّ ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه ، وإن شاء فرّق بينهما ، فقلت : أصلحك الله ، إنّ الحكم من عتيبة وإبراهيم النّخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النّكاح باطل ، فلا تحلّ إجازة السّيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه ، فهو له جائز». (١)

تقريب دلالة هذه الرّواية على الفساد ، هو كونها مشتملة على تعليل عدم فساد نكاح العبد وتزوّجه بغير إذن سيّده بقوله عليه‌السلام : «إنّه لم يعص الله» ومن المعلوم : أنّ مفاده حسب المفهوم هو أنّ النّكاح لو كان معصية لله تعالى ومحرّما ، لكان فاسدا ، فتكون الرّواية ظاهرة في استتباع الحرمة التّكليفيّة للبطلان وعدم الصّحّة ، كما هو واضح.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ إذا اريد بالمعصية هو المخالفة للحكم التّكليفي وهو الحرمة ، ولكنّ الظّاهر ، أنّ العصيان في الرّواية ، نفيا وإثباتا في جملتي «إنّه لم يعص الله» و «إنّما عصى سيّده» معناه هو المخالفة للحكم الوضعي وهو الإذن ، ويشهد لذلك أنّه لم يصدر من السّيّد نهي أو أمر حتّى يقال : إنّه عصى وخالف أمره أو نهيه ، غاية الأمر :

لم يستأذن منه ولم يراجع إليه في أمر النّكاح.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ج ٧ ، الباب ٣٠ من أبواب العقود على الإماء ، الحديث ٦٣ ، ص ٣٥١.

١٥٠

وبالجملة : فمعنى قوله عليه‌السلام : «إنّه لم يعص الله» هو أنّه لم يأت بعمل لم يمضه الله تعالى ولم يأذن به ومعنى قوله عليه‌السلام : «عصى سيّده» هو أنّه أتى بعمل من غير استيذان وإجازة من سيّده ، وأنت ترى ، أنّ هذا أجنبيّ عن دلالة النّهي والحرمة على الفساد.

ثمّ إنّ في الرّواية إشكال معروف ، قد عبّر عنه «بصعب الاندفاع» (١) محصّله : أنّه لو اريد من العصيان في جملتي «إنّه لم يعص الله» و «إنّما عصى سيّده» هو الحكم التّكليفي يقع التّعارض بينهما ؛ إذ مفاد الجملة الاولى ـ مفهوما ـ أنّه لو تحقّق عصيان الله ، لكان النّكاح فاسدا ، ومعناه : أنّ عصيانه مستتبع للفساد ، ومن المعلوم : أنّ عصيان السّيّد هو عصيانه تعالى لحرمة مخالفة المولى شرعا.

وأمّا مفاد الجملة الثّانية ـ منطوقا ـ أنّه لو تحقّق عصيان السّيّد ، لما كان النّكاح فاسدا ، ومعناه : عدم استتباع عصيانه للفساد ، وحيث إنّك عرفت : أنّ عصيانه هو عصيان الله ، فيلزم أن يكون مفاد هذه الجملة أنّ عصيان الله غير مستتبع للفساد ، وحينئذ يقع التّعارض بين الجملتين ، حيث إنّ أحدهما تفيد استلزام معصية الله للفساد ، والآخر تفيد عدم استلزامها له.

هذا ، ولكن يمكن الجواب عنه ، بالفرق بين المعصيتين ؛ وذلك ، لأنّ معصية الله إذا كانت ناشئة من معصية السّيّد ، فتزول وتنتفي بإذن السّيد ، ولذا لا توجب الفساد ، وإذا كانت بلا واسطة ، فهي لا تزول ولا تنتفي بإذن غيره ، تبارك وتعالى ، فتوجب الفساد ، وعليه فلا تعارض في البين.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٤.

١٥١

«تذنيب»

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره : «حكي عن أبي حنيفة والشّيباني دلالة النّهي على الصّحّة وعن الفخر أنّه وافقهما في ذلك». (١)

واختار قدس‌سره ذلك في المعاملات إذا كان النّهي فيها عن المسبّب أو التّسبيب دون السّبب ؛ معلّلا بقوله : «لاعتبار القدرة في متعلّق النّهي ، كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا في ما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة». (٢)

وقد ذكر ـ أيضا ـ لتقريب هذا المسلك وجوه :

منها : أنّ النّهي ، كالأمر لا يتعلّق إلّا بالمقدور ، فلو كان المنهي عنه فاسدا فاقدا للأثر بالنّهي ، لكان غير مقدور بلا فرق بين كون النّهي كاشفا عن فساده أو سببا له ، فيصير النّهي المولويّ التّحريميّ عنه لغوا ، أو يلزم من وجوده عدمه ، حيث إنّ المفروض ، هو استناد فساد المنهيّ عنه إلى النّهي وفساده يوجب انتفاء النّهي وانعدامه ، لكون المنهيّ عنه حينئذ غير مقدور.

منها : ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «إنّ النّهي لا يصحّ إلّا عمّا يتعلّق به القدرة ، والمنهيّ عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحيحة ، فلو كان الزّجر عنه مقتضيا للفساد ، يلزم أن يكون سالبا لقدرة المكلّف ، ومع عدم قدرته يكون لغوا ، فلو كان صوم يوم النّحر ، والنّكاح في العدّة ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتيانهما ، يكون النّهي عنهما لغوا لتعلّقه بأمر غير مقدور». (٣)

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٩.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٩٩ و ٣٠٠.

(٣) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٥.

١٥٢

ومنها : ما تعرّضه شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره حاصله : أنّ النّهي المولويّ لو استلزم بنفس وجوده فساد المنهيّ عنه وامتناع وجوده من المكلّف للزم من وجود النّهي عدمه ؛ وذلك ، لأنّ النّهي المولوي مشروط بالقدرة على فعل متعلّقه وتركه ، فإذا فرض أنّ وجود النّهي يستلزم امتناع وجود المنهيّ عنه ، فقد استلزم وجوده انتفاء شرط وجوده ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، وإذا امتنع أن يكون النّهي المولوي دالّا على فساد متعلّقه ، لما تقدّم ، فهو ـ أيضا ـ يقتضي أن يكون دالّا على صحّة متعلّقه ، لأنّ امتناع كون متعلّقه فاسدا ، يوجب كونه صحيحا ، ولا نعني بدلالته على الصّحّة ، إلّا ذلك. (١)

هذا ، ولكن التّحقيق يقتضي أن يقال : إنّ النّهي سواء كان في المعاملات أو العبادات لا يلازم الصّحّة بوجه.

أمّا المعاملات ، فلأنّ غاية ما يقال : في تقريب صحّتها بعد تعلّق النّهي بها ، هو ما تقدّم من الوجوه الثّلاثة ، وحاصل الجميع هو لزوم مقدوريّة متعلّق النّهي فعلا وتركا كي يتمكّن المنهي من موافقته ومخالفته ، فلو أوجب النّهي فساده لا يمكن له مخالفته ، لخروجه بنفس تعلّق النّهي به عن تحت قدرته ، فلا يمكن له إيجاده.

وفيه : أنّ المنهيّ عنه في المعاملات ليس هي المعاملة الشّرعيّة ، بل هي المبادلة العرفيّة الّتي يبنى العرف على صحّتها ويترتّب الآثار عليها : «كبيع الخمر ونحوها» حيث إنّهم مع كونهم عالمين بفساده شرعا يبيعونها بانين على الصّحّة وترتيب الآثار كلّها ، فإذا كان النّهي عنه هو الصّحيح العرفي لا الشّرعي ، فالتّمكن لإيجاده حاصل ،

__________________

(١) راجع ، منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ١٨١.

١٥٣

لأنّه مقدور للمكلّف.

ونتيجة ذلك : هو أنّه لا مانع من تعلّق النّهي المولوي بما هو صحيح عرفا ـ لكونه مقدورا عندهم ـ فيجعله محرّما مبغوضا بلا دلالة على اعتباره وصحّته شرعا.

وإن شئت ، فقل : إنّ النّهي يدلّ على صحّة المعاملة المنهيّ عنها ووقوعها وترتّب الأثر عليها عند العرف ، لا عند الشّارع النّاهي.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «مثلا ، الملكيّة المسبّبة عن البيع الرّبويّ المعتبر في العرف ، مبغوضة للشّارع ، فإذا نهى عنها مولويّا لم يكن نهيه هذا دالّا على صحّة هذه الملكيّة في نظر الشّارع ، لجواز أن تكون الملكيّة بهذه المعاملة غير معتبرة في الشّرع ، كما هو المفروض في المعاملة الرّبويّة ، نعم ، يدلّ النّهي المولوي على صحّة الملكيّة المسبّبة عن البيع الرّبويّ في نظر العرف ، لما ذكرنا من اشتراط كون المنهي عنه مولويّا ، ممكن الوقوع من المنهي» (١).

وأمّا العبادات ، فلعدم دلالة النّهي فيها على الصّحّة الفعليّة ، لاستحالة اجتماعها مع النّهي الفعلي ؛ وذلك ، لما سمعت مرارا ، من أنّ العبادة تحتاج إلى الأمر والخطاب مضافا إلى الملاك على بعض المسالك ، أو تحتاج إلى الملاك فقط بلا لزوم الخطاب على مسلك التّحقيق ، ومن الواضح : أنّه بعد تعلّق النّهي بها فعلا ، كما هو المفروض ، لا يبقى المجال للأمر ، كما هو واضح ، ولا للملاك ـ أيضا ـ فإنّه منتف مع وجود ملاك النّهي لامتناع أن يكون عنوان واحد ذا صلاح وفساد ، ويكون محبوبا ومبغوضا ، وعليه ، فلا معنى للصّحّة الفعليّة في العبادة.

__________________

(١) منتهى الأفكار : ج ٢ ، ص ١٨٢.

١٥٤

نعم ، المراد من الصّحّة هنا هي الشّأنية الّتي لا ننكرها ، بمعنى : أن المراد هي الصّحّة الحيثيّة ، ومن بعض الجهات لا الصّحّة من جميع الجهات ، كما أفاده ذلك الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «وحينئذ فلا منافاة بين الصّحيح من بعض الجهات وبين الفساد والمبغوضيّة بحيث لا يصلح للتّقرّب ، ولو قلنا بالصّحّة الفعليّة ، فلا يجتمع مع النّهي أصلا ، لأنّ العبادة تتقوّم بالأمر أو الملاك ...». (١)

إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الثّانية (النّواهي).

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٣٦.

١٥٥
١٥٦

المسألة الثّالثة : المفاهيم

* المقام الأوّل : عنوان المفهوم

* المقام الثّاني : حجّيّة المفهوم

* المقام الثّالث : أقسام المفهوم

* المقام الرّابع : بعض موارد الاختلاف في المفهوم

* مفهوم الشّرط :

ـ حقيقة المفهوم

ـ تعدّد الشّرط واتّحاد الجزاء

ـ تداخل الأسباب والمسبّبات

ـ مقتضى الأصل العملي

* مفهوم الوصف

* مفهوم الغاية

* مفهوم الاستثناء

* مفهوم اللّقب والعدد

١٥٧
١٥٨

(المسألة الثّالثة : المفاهيم)

يقع الكلام هنا في مقامات أربعة :

الأوّل : في عنوان المفهوم.

الثّاني : في حجّيّته.

الثّالث : في بيان أقسامه.

الرّابع : في بعض موارد الاختلاف في وجوده وعدمه ، كالشّرط والوصف ونحوهما.

أمّا المقام الأوّل ، فنقول : ليس المراد من عنوان المفهوم هو مدلول اللّفظ ، ومعناه : سواء كان اللّفظ مفردا ، أو مركّبا ، وسواء كان المعنى حقيقيّا ، أو مجازيّا ، كما ليس المراد منه هو مطلق ما يفهم ويستفاد من اللّفظ ، أو غيره ، كالكتابة ، والإشارة ونحوهما ، بل المراد منه ما يقابله المنطوق ، الّذي هو المعنى (١) المفهوم من اللّفظ ، إمّا بمعونة الوضع والمطابقة ، أو بمعونة قرينة خاصّة ، أو عامّة ، كمقدّمات الحكمة.

فالمفهوم هو المعنى المستفاد من اللّفظ ـ أيضا ـ لكن لا بالوضع والمطابقة ، ولا بالقرينة العامّة أو الخاصّة ، بل بسبب كونه تابعا للمنطوق ، لازما له لزوما بيّنا

__________________

(١) ولا يخفى أنّ تسمية المعنى المذكور بالمنطوق تكون من باب تسمية المدلول باسم الدّال وإلّا فالمنطوق هو نفس اللّفظ الّذي يكون دالّا على المعنى وقالبا له فهو الّذي ينطق ويلفظ لا المعنى الّذي يفهم ويقصد.

١٥٩

أخصّ أو أعمّ ، فحينئذ يكون دلالة اللّفظ على المفهوم التزاميّة ، كما هو واضح.

ولك أن تقول : إنّ الدّلالة إمّا تكون أوّلا وبالذّات وهي النّاشئة من الوضع والمطابقة ، أو من القرينة مطلقا ـ عامّة كانت أو خاصّة ـ فيسمّى المدلول بها منطوقا ؛ وإمّا تكون ثانيا وبالعرض وهي النّاشئة من الخصوصيّة في المعنى الّتي تستتبع له ، كخصوصيّة كون الشّرط في الجملة الشّرطية أو الوصف علّة منحصرة للحكم ، فيسمّى المدلول بها مفهوما.

ومن هنا يظهر ، أنّ مسألة المفاهيم تندرج في المسائل اللّفظيّة من الاصول ، بخلاف مسألة وجوب المقدّمة وحرمة الضّدّ واجتماع الأمر والنّهي ، فإنّ هذه كلّها تندرج في المسائل العقليّة من الاصول ، كما عرفت.

ولا يخفى عليك : أنّ محلّ النّزاع هنا هي المداليل المركّبة المستفادة من الكلام والجمل الفعليّة أو الاسميّة ، لا المداليل المفردة.

وعليه ، فيقال : هل المفهوم حكم لغير المذكور ، أو حكم غير مذكور فيه؟ وجهان : منشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف الّذي قد مرّ في مبحث الواجب المشروط من أنّ القيد هل يرجع إلى الموضوع فينتفي بانتفائه ، أو يرجع إلى الحكم فلا ينتفي الموضوع بانتفائه؟ وقد عرفت تحقيق ذلك ، وأنّ الحقّ هو الثّاني ، ونتيجته ، أنّ المفهوم هو حكم غير مذكور لموضوع مذكور.

أمّا المقام الثّاني (حجّيّة المفهوم) : فلا كلام في حجّيّة المفهوم بعد الفراغ عن حجّيّة الظّهورات ، ولذا يكون النّزاع هنا صغرويّا ، بمعنى : أنّ الجملة الكذائيّة ، هل

١٦٠