مفتاح الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ومنها : أنّ هذه المسألة مندرجة في باب التّزاحم ، بدعوى تزاحم مصلحة الأمر مع مفسدة النّهي.

وأمّا المسألة الآتية ، فهي مندرجة في باب التّعارض.

الأمر الخامس : أنّ المسألة سواء كانت بعنوان «اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد» كما عن القوم ، أو كانت بعنوان «تعلّق الأمر والنّهي بعنوانين متصادقين على واحد» كما حقّقناه ، تكون اصوليّة تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام ، وهو واضح.

وأمّا احتمال كون المسألة من المسائل الفقهيّة ، فمندفع ، بأنّه لا يبحث فيها ابتداء عن صحّة الصّلاة وعدمها حتّى يكون مندرجة تحت المسألة الفقهيّة ، كما أنّ احتمال كونها من المسائل الكلاميّة الباحثة عن أحوال المبدا والمعاد ـ أيضا ـ مندفع ، بأنّ مجرّد كون المسألة عقليّة لا يوجب اندراجها في المسألة الكلاميّة وإن أمكن إرجاعها إليها ، كما لا يخفى.

وكذلك يندفع احتمال كونها من المبادي التّصديقيّة لعلم الاصول ، كما عن المحقّق النّائينيّ قدس‌سره معلّلا بأنّ الضّابط في كون المسألة اصوليّة هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة ضمّ كبرى اصولية ، والمفروض ، أنّ هذه المسألة ليست كذلك ، سواء قلنا : بالامتناع ، أو قلنا : بالجواز.

أمّا على الامتناع ، فلأنّه لا يترتّب فساد العبادة إلّا بضميمة قواعد كبرى مسألة التّعارض إليه ؛ إذ على هذا القول تكون المسألة من إحدى صغريات تلك الكبرى ، فلا مناص في الحكم بالفساد من إعمال قواعد التّعارض وتطبيقها في المسألة.

١٠١

وأمّا على القول بالجواز ، فلأنّه لا يترتّب صحّة العبادة ـ أيضا ـ إلّا بضمّ قواعد كبرى مسألة التّزاحم إليه ؛ إذ مقتضى هذا القول هو كون المسألة من صغريات تلك الكبرى ، فيحكم بالصّحّة بعد إعمال هذه القاعدة ، وأنت تعلم ، أنّ هذا شأن كون المسألة من مبادي مسألتي التّعارض والتّزاحم ، لا من المسائل الاصوليّة. (١)

وجه الاندفاع ؛ ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره حاصله : أنّ غاية ما يفيد هذا التّعليل هو أنّ البحث في هذه المسألة راجعة إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألتي التّعارض والتّزاحم ، وأنت تعلم ، أنّ مجرّد كون البحث محقّقا لموضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادي التّصديقيّة. (٢)

وكذلك يندفع احتمال كون المسألة من المبادي الأحكاميّة الباحثة عن أحوال الأحكام ، كالبحث عن استلزام وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، أو استلزام الأمر بالشّيء للنّهي عن ضدّه ، وكالبحث عن إمكان اجتماع حكمين من الأحكام في واحد أو إمكان تعلّقهما بعنوانين متصادقين على واحد ذي وجهين أو عدم إمكانه.

وجه الاندفاع ؛ هو أن المبادي ، إمّا تصوّريّة أو تصديقيّة ، وليس ورائهما مبادي اخرى تسمّى بالأحكاميّة ، والمفروض ، أنّ المسألة لا تندرج في شيء منهما.

أمّا المبادي التّصوّريّة ، فلأنّ المراد بها هو تصوّر نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وذاتيّاتهما.

وأمّا المبادي التّصديقيّة ، فلأنّ المراد بها هو كونها مبدءا للتّصديق بالنّتيجة ،

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٣٣ و ٣٣٤.

(٢) راجع ، مناهج الوصول : ج ٢ ، ص ١١٢.

١٠٢

كالصّغرى والكبرى في القياسات ، حيث إنّ القياس إذا ألّف منهما يفيد العلم بالنّتيجة ، كما لا يخفى.

ومن هنا ، أنّ المسألة الاصوليّة تكون من المبادي التّصديقيّة لعلم الفقه ؛ إذ المفروض ، أنّها تقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباط الأحكام ، على ما عرفت.

فتحصّل : أنّ المسألة في المقام تندرج في المسألة الاصوليّة ، لا في مباديها الأحكاميّة ، ولا التّصديقيّة ، ولا في المسألة الفقهيّة ، ولا الكلاميّة ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره ونعم ما أفاده ، حيث قال : «إنّه حيث كان نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط كانت المسألة من المسائل الاصوليّة ، لا من مباديها الأحكاميّة ولا التّصديقيّة ، ولا من المسائل الكلاميّة ، ولا من المسائل الفرعيّة». (١)

الأمر السّادس : أنّ عنوان المسألة لاشتماله على لفظي الأمر والنّهي وإن كان يوهم اختصاص النّزاع بما إذا كان البعث والزّجر مستفادين من اللّفظ ، حيث إنّهما ظاهران في القول ، إلّا أنّ هذا الإيهام منشؤه هي الغلبة ؛ إذ الغالب هو كون اللّفظ دالّا على البعث والزّجر ، وأنت ترى ، أنّه لا يعبأ بهذه الغلبة ، بل المسألة ـ كما أشرنا ـ تكون من المسائل الاصوليّة العقليّة ؛ إذ الحاكم بالجواز والامتناع هو العقل لا غير ، فإذا لا فرق بين ما إذا كان الحكمان مستفادين من أدلّة لفظيّة ، أو أدلّة لبيّة.

نعم ، هي من المسائل العقليّة غير المستقلّة ، كمسألة مقدّمة الواجب ، ومسألة الضّدّ ونحوهما.

ونتيجة ما ذكرنا في هذا الأمر ، هو أنّه لا مجال لما عن المحقّق الأردبيليّ قدس‌سره من

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٦.

١٠٣

القول بالجواز عقلا والامتناع عرفا. (١)

والوجه في منعه هو أنّ الأنظار العرفيّة ممّا لا يرجع إليها إلّا في أصل تشخيص المفاهيم اللّفظية وتعيينها من جهة الضّيق والسّعة ، وواضح ، أنّ النّزاع في المقام يكون في الجواز والامتناع ، وهذا ليس من مقولة تشخيص المفهوم وتعيين حدود المعنى ؛ وذلك ، لرجوعه إلى مسألة السّراية وعدمها ، وإلى اتّحاد المجمع وجودا وتعدّده ، أو إلى غير ذلك ممّا هو الأجنبيّ عن مقولة اللّفظ والمعنى.

هذا ، ولكن تصدّى المحقّق الخراساني قدس‌سره لتوجيه هذا القول بقوله : «الامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة اللّفظ ، بل بدعوى ، أنّ الواحد بالنّظر الدّقيق العقلي اثنان ، وأنّه بالنّظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين ، وإلّا فلا يكون معنى محصّلا للامتناع العرفي ، غاية الأمر : دعوى دلالة اللّفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع ، فتدبّر جيّدا». (٢)

وفيه : أنّ الجواز والامتناع إنّما يدوران مدار السّراية وعدمها وهما ـ أيضا ـ يدوران مدار وحدة المجمع وتعدّده حقيقة ، وعليه ، فلا شأن للنّظر المسامحي العرفي في ذلك أصلا.

وقد يوجّه هذا القول ـ أيضا ـ بأنّ المتفاهم العرفيّ من مثل «صلّ» بعد ملاحظة مثل «لا تغصب» هو وجوب حصّة خاصّة من الصّلاة وهي الصّلاة غير الواقعة في الغصب ، وأمّا الحصّة الواقعة فيه ، فلا تكون مصداقا للصّلاة المأمور بها ، بل

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان : ج ٢ ، ص ١١٢.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٧ و ٢٣٨.

١٠٤

تكون منهيّا عنها فقط ، فيصحّ أن يقال : بالامتناع عرفا ، ومرجعه إلى تخصيص دليل الصّلاة بدليل حرمة الغصب ، وهذا معنى استحالة الاجتماع. (١)

ولكنّه مندفع ، بأن هذا التّوجيه خارج عن مفروض البحث في المقام ؛ إذ محلّ البحث فيه هو إطلاق الأمر والنّهي وشمولهما للمجمع ، ووقوع التّعارض على تقدير وحدته وجودا وإن كان متعدّدا وجها وعنوانا ، ووقوع التّزاحم على تقدير تعدّده وجودا ـ أيضا ـ وأمّا بناء على التّقييد والتّخصيص من الابتداء ، فلا محذور فيه أصلا ؛ ضرورة ، أنّ تخصيص الأمر بغير موارد النّهي يوجب عدم شمول كلّ من الأمر والنّهي لمورد الاجتماع.

على أنّ تخصيص الأمر بغير موارد النّهي ـ بعد إطلاق كلّ من الأمر والنّهي واندراج المجمع تحتهما ـ ممّا لا وجه له ؛ ضرورة ، أنّه يجوز العكس وهو تخصيص النّهي بغير موارد الأمر ، فلم يخصّص الأمر بغير موارد النّهي ، ولا يخصّص النّهي بغير موارد الأمر؟

الأمر السّابع : أنّ مورد النّزاع في المسألة عامّ يشمل جميع أقسام الأمر والنّهي من العيني والكفائي ، والنّفسي والغيري ، والتّعييني والتّخييريّ ؛ وذلك ، لما تقدّم من كون النّزاع في الجواز والامتناع ، مبتنيا على السّراية وعدمها ، وعلى وحدة المجمع وتعدّده ، وهذا لا فرق فيه بين أنحاء الأمر والنّهي حتّى ما إذا كانا تخييريّين ، نظير ما إذا أمر بالصّلاة أو الصّوم تخييرا بينهما ، وكذلك نهى عن التّصرّف في الدّار والمجالسة مع الأغيار على نحو التّخيير ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره. (٢)

__________________

(١) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ١٨٣.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٣٨.

١٠٥

نعم ، بين الأمر التّخييريّ ، والنّهي كذلك ، فرق واضح ؛ حيث إنّ مرجع التّخيير في النّهي إلى النّهي عن الجمع بين الشّيئين ، فيحرم ارتكابهما معا ، بخلاف ارتكاب أحدهما وحده فلا مانع منه ، وأمّا التّخيير في الأمر ، فمرجعه إلى إيجاب الجامع المقتضي لكفاية إتيان واحد منهما في حصول الامتثال وبراءة ذمّته ، فلا يجب إتيانهما معا.

ولكن ، هذا الفرق لا يوجب خروجهما عن محلّ النّزاع ، كما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ونعم ما أفاد. (١)

ومن هنا ظهر ، أنّ ما أفاده بعض الأعاظم قدس‌سره من عدم شمول النّزاع لمثل هذا الأمر والنّهي ، بدعوى : أنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما ، حتّى بالنّظر إلى الامتثال ؛ إذ المفروض ، أنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التّكليفين ، لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر ـ كما إذا صلّى في الدّار بلا مجالسة الأغيار ـ فامتثل كليهما بحيث يصدق أنّه أتى بالجامع وترك الجمع (٢).

خال عن السّداد ؛ ضرورة ، أنّ الفرض المذكور خارج عمّا فرض في النّزاع من اجتماع الإيجاب والتّحريم في واحد ، أو تعلّقهما بعنوانين متصادقين على واحد ، حيث إنّه لو صلّى في الدّار بلا مجالسة الأغيار لم يخالف النّهي التّخييريّ حتّى يلزم الاجتماع ، فلا اجتماع هنا حينئذ أصلا ، كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ النّزاع يعمّ جميع الأنواع حتّى الإيجاب والتّحريم التّخييريين ،

__________________

(١) راجع ، نهاية الدّراية : ج ٢ ، ص ٨٦.

(٢) راجع ، محاضرات في اصول الفقه : ج ٤ ، ص ١٨٨.

١٠٦

فلا وجه لاستثناء ذلك ، كما عن بعض الأعاظم قدس‌سره.

الأمر الثّامن : أنّ النّزاع في المسألة مبتن على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع ؛ وذلك ، لما عرفت في مبحث التّرتّب ، وفي فصل تعلّق الأحكام بالطّبائع ، بما لا مزيد عليه ، من أنّ الأحكام بأسرها ، إنّما تتعلّق بنفس الطّبائع والعناوين الكلّيّة ، كالصّوم والصّلاة والحجّ ، دون الأفراد ، حيث إنّ الفرد الخارجيّ الصّادر من المكلّف يكون ظرف سقوط التّكليف ، لا ظرف تعلّقه وثبوته.

وعليه : فيندفع ما في المقام من توهمين ـ كما أشار إليهما المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ أحدهما : توهم أنّ ابتناء النّزاع على القول بالطّبائع ، إنّما هو لأجل أنّ القول بتعلّق الأحكام بالأفراد لا يقتضي إلّا الامتناع ، حيث إنّه يلزم على هذا تعلّق الحكمين بواحد شخصي ، وهذا مستحيل.

ثانيهما : توهم التّفصيل في المسألة بين القول بالجواز ، فهو مبتن على القول بالطّبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنّهي ذاتا وإن اتّحدا وجودا ، وبين القول بالامتناع ، فهو مبتن على القول بالأفراد ، لاتّحاد متعلّقهما شخصا خارجا وكونه فردا واحدا.

وجه الاندفاع ؛ هو ما عرفت من عدم معقوليّة تعلّق الأحكام بالأفراد رأسا حتّى بالنّسبة إلى حكم واحد ، وبعبارة اخرى : إنّ خروج القول بتعلّق الأحكام بالأفراد عن مورد النّزاع في المسألة ، إنّما هو لأجل ما ذكرنا من بطلان هذا القول رأسا ، لا ما ذكره المتوهّم من لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي حتّى يتخيّل إمكان تعلّق حكم واحد بالفرد ؛ إذ عرفت : أنّ المناط في بطلان هذا القول هو أنّ الخارج ليس ظرفا لثبوت التّكليف ، بل إنّما هو ظرف لسقوطه ، وأنت ترى ، أنّ هذا المناط

١٠٧

موجود في تعلّق حكم واحد على الفرد ، أيضا.

وبالجملة : أنّ الممتنع هو أصل تعلّق الحكم بالفرد ولو كان حكما واحدا ، لا خصوص اجتماع الحكمين بعد الفراغ عن إمكان تعلّقه به ، كما هو ظاهر عبارة المتوهّم المذكور في كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره.

وقد ظهر ـ أيضا ـ بما ذكرنا : أنّه لا حاجة إلى ما تجشّم به المحقّق الخراساني قدس‌سره من دفع التّوهمين ، حاصله : أنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي لكان يجدي ولو على القول بالأفراد ، فإنّ الموجود الخارجي على هذا ، يكون فردا لكلّ من الطّبيعتين ، فهو مجمع لفردين موجودين بوجود واحد ، وإلّا فلا يجدي أصلا حتّى على القول بالطّبائع ، فكما أنّ وحدة الصّلاتيّة والغصبيّة في مثل «الصّلاة في الدّار المغصوبة» وجودا ، لا يقدح بتعدّدهما ، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيّات الصّلاة فيها وجودا ، فإنّه ـ أيضا ـ لا يقدح بكونه فردا للصّلاة وفردا للغصب. (١)

وجه الظّهور ، هو ما عرفت : من عدم إمكان تعلّق التّكليف بالأفراد رأسا ، للزوم طلب تحصيل الحاصل ، فإذا لا يصل الدّور إلى ما أشار إليه من أنّ تعدّد الوجه إن كان يجدي يجوز الاجتماع حتّى على القول بالأفراد ، وإلّا فلا يجوز حتّى على القول بالطّبائع.

فتحصّل : أنّ النّزاع في الجواز والامتناع في المسألة مبتن على ما هو الحقّ من تعلّق الأحكام بالطّبائع ، وأنّ تعلّق الأحكام بالأفراد والمصاديق الخارجيّة غير معقول رأسا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٠ و ٢٤١.

١٠٨

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ النّزاع في هذه المسألة الاصوليّة مبتن على النّزاع المعروف في المسألة الفلسفيّة ، وهو أنّ الأصل ، هل هو الوجود أو الماهيّة؟ بدعوى ، أنّه لو قلنا : بأصالة الوجود ، فالاجتماع ممتنع ؛ إذ على هذا القول لا أثر للماهيّة في الخارج ، بل الأثر إنّما يترتّب على الوجود ، وحيث إنّه واحد في مورد الاجتماع يستحيل كونه مأمورا به ومنهيّا عنه معا.

وأمّا لو قلنا : بأصالة الماهيّة ، فالاجتماع جائز ؛ إذ على هذا القول يترتّب الأثر على الماهيّة في الخارج ، والمفروض ، أنّها متعدّدة في مورد الاجتماع ، فلا يلزم حينئذ ما تقدّم من الاستحالة.

وفيه : أوّلا : أنّ الوجود ـ أيضا ـ متعدّد باعتبار تعدّد مراتبه من الشّدّة والضّعف ، وعليه ، فلا يلزم المحال من القول بالجواز حتّى على القول بأصالة الوجود.

وثانيا : أنّه لو فرض وحدة الوجود لكانت الماهيّة ـ أيضا ـ واحدة ؛ وذلك ، لما ثبت في محلّه ، من أنّ الماهيّة حدّ للوجود ، ومقتضاه استحالة تعدّد الحدّ مع وحدة المحدود ، كما هو واضح.

وعليه : فيلزم المحال حتّى على القول بأصالة الماهيّة.

وبالجملة : لا وجه للتّفصيل بين القولين ، بل كلاهما على السّواء في الجواز ، أو الامتناع.

الأمر التّاسع : لا إشكال ولا كلام في عدم اعتبار قيد المندوحة ؛ بناء على كون النّزاع صغرويّا ، وهو أنّ تعدّد الوجه مجد ، أو لا ؛ وذلك ، لأنّه لو كان مجديا رافعا لقائلة اجتماع الضّدّين ، لجاز الأمر والنّهي معا ، بلا فرق بين أن يكون هناك مندوحة ،

١٠٩

أم لا ، وأمّا لو لم يكن مجديا في رفع الغائلة لم يجز الاجتماع بلا فرق ـ أيضا ـ بين وجود المندوحة وعدمها ، إنّما الإشكال فيه ؛ بناء على كون النّزاع كبرويّا وهو هل يجوز تعلّق الأمر والنّهي لعنوانين متصادقين على شيء واحد ، أو لا؟

فقد يقال : باعتبار المندوحة ، نظرا إلى أنّها لو لم تعتبر للزم التّكليف بالمحال لاستحالة انبعاث شخص واحد وانزجاره في زمان واحد بالنّسبة إلى فعل واحد وعدم قدرته على ذلك.

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ في ما إذا كانت الخطابات الشّرعيّة والأحكام الإلهيّة جزئيّة شخصيّة ، أو كلّيّة قانونيّة منحلّة بعدد الأشخاص المكلّفين ، فإنّ الشّخص المبتلى بالأمر والنّهي في واقعة واحدة شخصيّة يلزم أن يكون مكلّفا بالمحال ، بل يلزم أن يكون نفس التّكليف محالا.

ولكن قد مضى ، أنّ الأحكام والخطابات الشّرعيّة كلّيّة قانونيّة غير منحلّة إلى خطابات شخصيّة وأحكام جزئيّة ، وتلك الأحكام والخطابات ، إنّما تتعلّق بالعناوين ، كالغصب والصّلاة في مورد البحث ، وتكون فعليّة بالنّسبة إلى عامّة المكلّفين حتّى العجزة والجهلة.

غاية الأمر : ورد العفو ورفع العقوبة بالنّسبة إليهم ، وعليه ، فلا حاجة إلى اعتبار قيد المندوحة ؛ إذ لا خطاب لكلّ واحد واحد حتّى يكون بعثه نحو الصّلاة ، وزجره عن الغصب عند عدم المندوحة والقدرة على إتيان الصّلاة في غير الدّار المغصوبة تكليفا بالمحال ، أو تكليفا محالا.

وإن شئت ، فقل : إنّ ملاك صحّة الحكم القانونيّ وحسنه ، ليس قدرة جميع

١١٠

المكلّفين ، بل يكفي كون بعضهم قادرين ، فيصحّ حينئذ الأمر والنّهي القانوني ، ففي مثل مورد الكلام وهو الصّلاة والغصب ، حيث إنّ كثيرا من المصلّين يقدرون على فعل الصّلاة بلا غصب ، فلا مانع هنا من الأمر والنّهي القانوني.

فتحصّل : أنّه يصحّ ويحسن تعلّق الأمر والنّهي لعنوانين بنحو التّعلّق القانوني بلا اعتبار قيد المندوحة ، ولا يلزم من ذلك محذور أصلا ، لا التّكليف بالمحال ، ولا التّكليف المحال.

نعم ، إنّما يلزم ذلك لو كان بين العنوانين المتعلّقين للأمر والنّهي تلازم بحيث لا ينفكّان أصلا ؛ ضرورة ، أنّ في هذا المورد لا يمكن تعلّق الأمر والنّهي معا بهما ، بل لا مناص ، إمّا من الالتزام بترجيح أحدهما على الآخر لو كان مرجّحا ، أو من الالتزام بالتّخيير بينهما لو لم يكن مرجّحا.

الأمر العاشر : قد يظهر من المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ النّزاع في المسألة متوقّف على إحراز المناط في متعلّق الأمر والنّهي ، من المصلحة والمفسدة مطلقا حتّى في مورد التّصادق والاجتماع كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين ، وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين لو كان أحدهما أقوى ، أو محكوما بحكم آخر غير الحكمين لو لم يكن أقوى في البين ، ولو لا الإحراز المذكور ، فلا تكون المسألة من باب الاجتماع ؛ إذ ليس مورد الاجتماع حينئذ محكوما ، إلّا بحكم واحد منهما لو كان ذا مناط ، وإلّا فيحكم بحكم آخر ، قيل : بالجواز أو الامتناع. (١)

وفيه : أنّ التّوقف المذكور ممّا لا مجال له في النّزاع ، سواء كان صغرويّا ، أم كبرويّا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤١ و ٢٤٢.

١١١

أمّا الصّغرويّ ، فلوضوح عدم دخل اشتمال المتعلّق على المناط فيما هو المهمّ ، من لزوم المحال وغائلة اجتماع الضّدّين وعدم لزومه ؛ لدوران ذلك على إجداء تعدّد الوجه والعنوان ، وأنّه يوجب تعدّد المعنون وذي الوجه وعدم إجدائه وأنّه لا يوجب تعدّده ، فالبحث الصّغروي في المسألة إنّما يكون من هذه الحيثيّة ، وأنت ترى ، أنّه لا يتوقّف على إحراز المصلحة والمفسدة في المتعلّق.

وأمّا الكبرويّ ، فلأنّ النّزاع على هذا ، إنّما يكون في الإمكان والامتناع ، وأنّه هل يحكم بجواز تعلّق الأمر والنّهي لعنوانين متصادقين على واحد ذي وجهين ، أو يحكم بامتناعه ، فأيّ دخل لإحراز المناط من المصلحة والمفسدة في هذا الموقف.

ثمّ إنّ الإمام الرّاحل قدس‌سره قد تصدى لتوجيه كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره بأنّه لعلّ أراد من مجموع الأمر الثّامن والتّاسع إبداء الفرق بين مسألة الاجتماع ، ومسألة التّعارض ، دفعا لإشكال ربما يورد على المقام.

محصّل الإشكال : أنّ القوم مثّلوا لمسألة الاجتماع ، بالعامّين من وجه ، كالصّلاة والغصب ، فاختار جماعة منهم ، الجواز ثمّ هؤلاء القائلين بالجواز لمّا وصلوا إلى مسألة التّعارض أدرجوا العامّين من وجه في بابه ، فقالوا : بتعارضهما في المجمع ومادّة الاجتماع من دون أن يشير أحد منهم إلى جواز الجمع بينهما وأنّه يصحّ اجتماع الأمر والنّهي ، كما قالوا وصرّحوا بذلك في مسألة الاجتماع ، فتصدّى قدس‌سره لدفع هذا الإشكال بالفرق بين البابين ، بأنّ اندراج العامّين من وجه في باب الاجتماع مشروط بإحراز المناطين (مناط الأمر والنّهي) حتّى في المجمع ومادّة الاجتماع ، بخلاف اندراجهما في باب التّعارض ، فإنّه غير مشروط بإحراز المناطين ، وقد أشار قدس‌سره إلى هذا الدّفع في موضعين من كلامه.

١١٢

أمّا الأوّل : فهو قوله في الأمر الثّامن : «فالرّوايتان الدّالّتان على الحكمين متعارضتان إذا احرز المناط من قبيل الثّاني (وهو ما إذا لم يكن للمتعلّقين مناط مطلقا) فلا بدّ من عمل المعارضة حينئذ بينهما من التّرجيح والتّخيير ، وإلّا فلا تعارض في البين ، بل كان من باب التّزاحم بين المقتضيين ، فربما كان التّرجيح مع ما هو أضعف دليلا لكونه أقوى مناطا ، فلا مجال لملاحظة مرجّحات الرّوايات أصلا ، بل لا بدّ من مرجّحات المقتضيات المتزاحمات». (١)

أمّا الثّاني : فهو قوله في ذيل الأمر التّاسع : «فتلخّص ، أنّه كلّما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين ، كانت من مسألة الاجتماع ، وكلّما لم يكن هناك دلالة عليه ، فهو من باب التّعارض مطلقا». (٢)

هذا ، ولكن الإنصاف ـ على ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (٣) ـ أنّ الفرق بين البابين ليس من الجهة المذكورة ، بل إنّما هو من جهة كون أصل التّعارض بين الدّليلين أمرا عرفيّا تشخيصه موكول بنظره ؛ ولذا لا تتدرج موارد الجمع العرفي تحت باب التّعارض ، كالعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، وجميع موارد الظّاهر والأظهر ، أو الظّاهر والنّص ، وهذا بخلاف باب الاجتماع ، فلا يرى العرف هنا تعارضا أصلا ، لكون الأمر متعلّقا بعنوان ، والنّهي متعلّقا بعنوان آخر ، لا يرتبط أحدهما بالآخر ، وذلك نظير : «صلّ» و «لا تغصب» حيث إنّ العرف لا يرى التّعارض بينهما جدّا ، بل الحاكم

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٢.

(٢) كفاية الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٣) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣٠٣.

١١٣

هنا هو العقل لا غير ، والأساس هي السّراية وعدمها ، وأنّه هل يجدي تعدّد الوجه أو لا يجدى؟ وهذا كلّه لا يتوقّف على إحراز المناطين وعدمه.

وبالجملة : فالمسألة هنا اصوليّة عقليّة ، وأمّا مسألة التّعارض ، فحيث إنّ الموضوع فيها هو الخبران المتعارضان المختلفان تكون مسألة عرفيّة من جهة تشخيص الاختلاف وعدمه ومن ناحية طرق الجمع.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ التّعارض وعدمه لا يدور مدار إحراز المناطين وعدمه ، كما التزم به المحقّق الخراساني قدس‌سره ألا ترى ، أنّ مثل فمثل «صلّ» و «لا تغصب» غير متعارضين عرفا ولو لم يحرز المناطان ، بخلاف قولنا : «أكرم كلّ عالم» و «لا تكرم الفسّاق» فإنّهما متعارضان عرفا ولو احرز المناطان.

ولك أن تقول : إنّ التّعارض هو التّنافي والتّكاذب في مقام الإثبات وهو المطاردة والممانعة في موقف الجعل والتّشريع على وجه المناقضة ، أو المضادّة.

ومن المعلوم : انتفاء ذلك كلّه في باب اجتماع الأمر والنّهي.

الأمر الحادي عشر : أنّه لا خلاف ولا كلام في عدم جريان النّزاع في الأمر والنّهي المتعلّقين بعنوانين متباينين غير متصادقين على شيء واحد ، ولا في المتعلّقين بعنوانين متساويين ، ولا في الأعمّ والأخصّ المطلقين ، وإنّما يجري النّزاع في العامّين من وجه ، كالصّلاة والغصب مطلقا ، سواء كانت نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين ، أم كانت بين الموضوعين ، وسواء كانت النّسبة بين العناوين المتولّدة من الفعل الصّادر عن المكلّف ، أم لم تكن كذلك ، وسواء كان التّركيب بين الفعلين انضماميّا ، أم كان اتّحاديّا.

١١٤

هذا ، ولكن قد فصّل المحقّق النّائيني قدس‌سره في تلك الموارد الثّلاثة :

أمّا المورد الأوّل ، فقال ما حاصله : إنّ جريان النّزاع في العامّين من وجه متوقّف على أن تكون النّسبة واقعة بين الفعلين والمتعلّقين للأمر والنّهي ، كالصّلاة والغصب ؛ وذلك ، لكون التّركيب بينهما انضماميّا ، ومقتضى ذلك هو التّزاحم والدّخول في باب الاجتماع.

وأمّا إذا كانت واقعة بين الموضوعين ، كقولنا : «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» فهي خارجة عن حريم النّزاع وداخلة في باب التّعارض ، لكون التّركيب بينهما اتّحاديّا ، ومقتضى ذلك هو التّعارض لتعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النّهي. (١)

أمّا المورد الثّاني : فمحصّل كلامه ، أنّه لو كان للفعل عنوانان توليديّان وكانت النّسبة بينهما عموما من وجه ـ نظير ما إذا قال : «أكرم العالم ، ولا تكرم الفاسق» فقام لهما تكريما بالنّسبة إليهما ، فيتولّد من هذا القيام تكريمان ـ فهو خارج عن حريم النّزاع ؛ ضرورة ، أنّ التّركيب هنا وإن كان انضماميّا ، إلّا أنّ الأمر والنّهي قد تعلّقا بشيء واحد وهو القيام ، ولا ريب : أنّه من جهة كونه إكراما للعالم مأمور به ، ومن جهة كونه إكراما للفاسق منهيّ عنه ، ولا مناص من اندراج مثل هذا المورد تحت باب التّعارض. (٢)

أمّا المورد الثّالث : فملخّص ما أفاده فيه ، هو أنّ مجرّد كون النّسبة بين الفعلين عموما من وجه ، لا يكفي في الحكم بالجواز ما لم يكن التّركيب بينهما على وجه

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤١١.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤١١.

١١٥

الانضمام ، وإلّا فربما تكون النّسبة كذلك مع كون التّركيب اتّحاديّا ، نظير قوله : «اشرب الماء ، ولا تغصب» فإنّ التّركيب في مورد الاجتماع وهو شرب الماء المغصوب يكون على وجه الاتّحاد ؛ إذ الفرد من الماء الّذي يشربه ، مصداق لكلّ من الشّرب والغصب ، ويكون نفس شرب الماء غصبا فيتّحد متعلّق الأمر والنّهي ، وإذا لا مناص في مثل ذلك من إعمال قواعد التّعارض. (١)

هذا ، ولكن هذه التّفاصيل ممّا لا يرجع إلى محصّل ، والسّر فيه ـ على ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) ـ أنّ التّركيب إنّما يكون ويتحقّق في الخارج ، سواء كان انضماميّا ، أو اتّحاديّا ؛ وقد عرفت مرارا : أنّ الأحكام تتعلّق بالطّبائع والعناوين ، لا المصاديق والأفراد الخارجيّة.

وعليه : فلا تتوقّف مسألة الاجتماع على انضماميّة التّركيب وعدم كونه اتّحاديّا ، بل يمكن القول بالجواز حتّى في ما لو كان التّركيب الخارجي اتّحاديّا ، أو القول بالامتناع حتّى في ما لو كان التّركيب انضماميّا.

ومن هنا يظهر ، أنّ النّزاع يجري في ما إذا كانت نسبة العموم والخصوص من وجه بين الموضوعين ـ أيضا ـ كقوله : «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» وكذلك يجري في الأفعال التّوليديّة ، فلا فرق بين أن يقال : «أكرم زيدا ولا تكرم عمروا» وبين أن يقال : «قم لزيد» و «لا تقم لعمرو» حيث إنّ في كلا المثالين يختلف العنوانان قد تعلّق الأمر بأحدهما ، والنّهي بالآخر ، فالقول بالفرق بين كون المتعلّق سببا ، وبين كونه

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٤١٢.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ٣١٠.

١١٦

مسبّبا ممّا لا وجه له ، مضافا إلى أنّ رجوع الأمر بالمسبّب وهو التّعظيم والتّكريم ـ مثلا ـ إلى السّبب وهو القيام ـ مثلا ـ مبتن على تخيّل أنّ المسبب غير مقدور ، لا يصلح لأن يتعلّق به الأمر ، وهو كما ترى ؛ إذ المقدور بالواسطة مقدور ـ أيضا ـ فالمسبّب هنا مقدور بمقدوريّة سببه.

الأمر الثّاني عشر : هل القول بجواز الاجتماع يستلزم القول بصحّة الصّلاة ، أو لا؟

قد يقال : بعدم الاستلزام معلّلا بأنّ المعيار في صحّة العبادة وبطلانها هو اتّحاد المأمور به مع النّهي عنه في المصداق ، وعدم اتّحادهما فيه ، ففي مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة لو كانت الخصوصيّة الصّلاتية عين الخصوصيّة الغصبيّة ، بحيث يكون التّركيب بينهما اتّحاديّا لحكم ببطلان الصّلاة وإن قلنا : بجواز الاجتماع ؛ وذلك ، لاستحالة التّقرّب بعمل يكون مبعدا.

وأمّا لو كانت الخصوصيّة الصّلاتيّة غير الخصوصيّة الغصبيّة ، بحيث يكون التّركيب بينهما انضماميّا لحكم بصحّة الصّلاة وإن قلنا : بعدم جواز الاجتماع ؛ والوجه فيه ، حصول التّقرّب بتلك الجهة المحبوبيّة الّتي ليست فيها جهة قبح وبعد أصلا.

نعم ، تحصل المقارنة بين الجهتين حسب الفرض ، إلّا أنّ هذا المقدار لا يكون قادحا بعباديّة العمل وجهة مقرّبيّته.

هذا إذا كان المكلّف عالما بالغصبيّة أو بطلان الصّلاة ، وكذا جاهلا مقصّرا وأمّا إذا كان جاهلا قاصرا ، يحكم بصحّة العمل حتّى في فرض التّركيب الاتّحادي ، كما لا يخفى.

١١٧

هذا ، ولكنّ الصّواب هو الاستلزام ولو كانت الخصوصيّة المأمور بها عين الخصوصيّة المنهيّ عنها ، خارجا ومصداقا ؛ ضرورة ، أنّه لا مانع من كون العمل الواحد مقرّبا من جهة مقرّبة وإن كان مبعّدا من جهة اخرى مبعّدة ، فالحركة الصّلاتيّة وإن كانت عين الحركة الغصبيّة في الخارج ، لكن لا غرو في أن تكون مقرّبة بما هي صلاة ، ومبعّدة بما هي غصب ، وسيجيء تحقيق ذلك في تحرير المختار وتشييد أركانه ، إن شاء الله.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره اختار المغايرة بين الخصوصيّة الصّلاتيّة والخصوصيّة الغصبيّة ، فقال ما هذه عبارته : «كما أنّ الصّلاة مغايرة بالحقيقة والهويّة للغصب ، فكذا الحركة الصّلاتيّة مغايرة للحركة الغصبيّة بعين مغايرة الصّلاة والغصب ، فيكون في المجمع حركتان ؛ حركة صلاتيّة وحركة غصبيّة». (١)

وقد أثبت ذلك في ضمن امور نذكرها ملخّصا :

الأوّل : أنّ الصّلاة مندرجة في مقولة الوضع بالنّظر إلى كونها عبارة عن الهيئة أو الهيئات المتلاصقة ، وأمّا الغصب ، فهو مندرج تحت مقولة «الأين».

الثّاني : قد ثبت في محلّه ، أنّ المقولات متباينات تؤخذ بشرط لا ، بعضها مع بعض.

الثّالث : قد ثبت ـ أيضا ـ في محلّه ، أنّ المقولات بسائط بحيث يكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

الرّابع : أنّ الحركة في كلّ مقولة هو عين تلك المقولة ، لا هي بمنزلة الجنس

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ و ٢ ، ص ٤٢٦ و ٤٢٧.

١١٨

للمقولات حتّى يلزم التّركيب فيها ، وأنّ ما به الاشتراك فيها غير ما به الامتياز ولا هي ـ أيضا ـ من الأعراض المستقلّة حتّى يلزم قيام عرض بعرض. (١)

ولا يخفى : أنّ نتيجة هذه الامور الخمسة إثبات المغايرة بين الخصوصيّتين (الصّلاتيّة والغصبيّة) وأنّ التّركيب بينهما في المجمع يكون انضماميّا ، لا اتّحاديّا ، وأنّه لا إشكال حينئذ في اجتماع الأمر والنّهي.

وفيه : أوّلا : أنّ الصّلاة لا تندرج تحت مقولة من المقولات ، ولا تكون من الماهيّات المتأصّلة ، نظير الجواهر أو الأعراض ، لكونها ماهيّة اختراعيّة شرعيّة مؤلّفة من عدّة امور مختلفة وهي الأقوال والأفعال الباطنيّة والظّاهريّة.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، لما كانت الصّلاة مندرجة تحت مقولة الوضع مطلقا ؛ وذلك ، لأنّه قدس‌سره صرّح بأنّ ما هو المندرج تحت تلك المقولة إنّما هي أفعال الصّلاة لا نفسها (٢) ، مع ما فيه من الضّعف ؛ إذ الأفعال يشمل مثل الرّكوع وهو عنده قدس‌سره عبارة عن الفعل الصّادر عن المكلّف وهو الهوىّ والحركة من الاستقامة إلى الانحناء ، وهذه الحركة إنّما هي حركة أينيّة وانتقال في الأين ـ بناء على أن يكون الحركة في كلّ مقولة عين تلك المقولة ـ وعليه ، فما معنى اندراج الأفعال تحت مقولة الوضع.

وثالثا : أنّ الغصب ـ أيضا ـ كالصّلاة لا يعدّ من المقولات رأسا ؛ وذلك ، لأنّ الغصب ليس معناه الكون في المكان المغصوب ، بل هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا ، وأنت ترى ، أنّ هذا ـ نظير الملكيّة والزّوجيّة وغيرهما ـ من الامور

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ و ٢ ، ص ٤٢٦ و ٤٢٧ ؛ وأجود التّقريرات : ج ١ ، ص ٣٤٧.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ١ و ٢ ، ص ٤٢٥.

١١٩

الاعتباريّة العقلائيّة ذوات الآثار في دائرة العرف والشّرع.

ورابعا : لو سلّم ذلك ، فليس الكون في المكان من مقولة الأين ، كما لا يكون مجرّد الكون في الزّمان من مقولة «متى» بل المقولة هي الهيئة الحاصلة من كون الشّيء في المكان والزّمان.

وخامسا : لو سلّم أنّ الكون في المكان هو من مقولة الأين ، وأنّ كون الغصب هو ذلك الكون ، لكن الغصب ليس هو الكون في المكان فقط كى ينتج اندراجه تحت مقولة الأين ؛ ضرورة ، أنّه يعتبر فيه أن يكون المكان مال الغير ، والكون فيه جورا وعدوانا.

والنّتيجة : أنّ مقولة الأين ليست تمام ماهيّة الغصب ، بل تكون جزء ماهيّته ، فإذا لا مجال لاندراجه في تلك المقولة.

وسادسا : أنّ جواز الاجتماع لا يتوقّف على أن يكون التّركيب انضماميّا ، بل يجوز ويصحّ العبادة ولو كان التّركيب اتّحاديّا ، كما أشرنا إليه ، وسيجيء تحقيقه وتنقيحه ، إن شاء الله.

(ثمرة مسألة اجتماع الأمر والنّهي)

الأمر الثّالث عشر : في بيان ثمرة مسألة الاجتماع.

لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر ؛ بناء على القول بجواز الاجتماع مطلقا حتّى في العبادة وإن كان بالنّسبة إلى النّهي معصية

١٢٠