حصان رزان لا تزنّ بزنية (١) وتصبح غرثى من لحوم الغوافل أي تمسك عن غيبة النساء الغافلات عن غيبتها ، فتكون بإمساكها عن الغيبة التي يسمى فاعلها آكل لحم صاحبه ، كأنها غرثى أي جائعة لم تطعم شيئا ، لأنّ الغيبة ، لمّا سمّيت أكلا وقرما (٢) حسن أن يسمّى تركها جوعا وغرثا. ومعنى (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي عافته أنفسكم ، فكرهتموه ، وهذا محذوف مقدّر في الكلام دلالة. وقال بعضهم تلخيص هذا المعنى أن من دعي إلى أكل لحم أخيه ميتا فعافته نفسه وكرهه من جهة طبعه ، فإنه ينبغي له ، إذا دعي إلى غيبة أخيه ، أن تعاف ذلك نفسه من جهة عقله ، لأنه يجب أن يكره هذا عقلا كما كره الأوّل طبعا ؛ لأنّ داعي العقل أحقّ بالاتّباع من داعي الطبع ، إذ كان داعي الطبع أعمى جاهلا وداعي العقل بصيرا عالما ، فكلاهما في صفة الناصح ، إلّا أنّ نصح العقل سليم مأمون ، ونصح الطبع ظنين مدخول.
__________________
(١). وردت في بعض الأصول لفظة «بريبة» محل بزينة.
(٢). القرم : شدّة الشّهوة إلى اللحم. ابن منظور : اللسان ، مادة قرم. [وفي الأصل : من قرم : أكل أكلا ضعيفا ، وذلك في أوّل ما يأكل]. وهذا الشرح للمحقّق ، وهو ليس دقيقا.
سورة ق
٥٠
المبحث الأول
أهداف سورة «ق» (١)
سورة «ق» سورة مكية آياتها ٤٥ آية ، نزلت بعد سورة «المرسلات».
سورة الخطبة
كان (ص) يخطب خطبة الجمعة بسورة «ق» حتى قالت النساء : ما حفظنا سورة «ق» إلّا من خطبة النبي (ص) بها ؛ وهي سورة تحمل أصول التوحيد وتلفت النظر الى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات ، وترشد الى سنن الله في إهلاك الظالمين ، واستحقاق الوعيد للمكذّبين ، وتجول بالإنسان داخل نفسه ، وتستعرض مشاهد القيامة وجزاء المتّقين في الجنّة ، وجزاء العصاة في النار.
وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخّاذا ، له سيطرته على النفس والحسّ ، وطريقته الفذّة في هزّ أوتار القلوب.
جاء في «ظلال القرآن»
«سورة ق سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ؛ وصورها وظلالها وجرس فواصلها ، تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقّبها في سرّها وجهرها ؛ وفي باطنها وظاهرها ؛ تتعقّبها برقابة الله التي
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب ؛ وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة ، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا ، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كلّ نفس معدود ، وكلّ هاجسة معلومة ، وكلّ لفظ مكتوب ، وكلّ حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطّلعة على السرّ والنّجوى اطّلاعها على العمل والحركة ، في كلّ وقت ، وفي كلّ حال.
وكلّ هذه حقائق معلومة ، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ، وتهزّ النفس هزا ، وترجّها رجّا ؛ وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب.
وذلك كلّه الى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث وصور الحشر ، وإلى إرهاص الساعة في النفس ، وتوقّعها في الحسّ ، وإلى الحقائق الكونية المتجلّية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبات وفي التمر والطلع» : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨).
فواتح السور
تبدأ سورة «ق» بهذا الحرف المنفرد : «ق».
وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطّعة ، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل هذه السورة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) [ص](ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (١) [القلم].
ومنها ما بدأ بحرفين مثل (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) [طه] ومثل يس ، حم.
ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل : الر ، الم ، طسم.
ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل : المص ، المر.
ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل : كهيعص ، حم عسق.
معاني هذه الفواتح :
هناك رأيان في معنى هذه الفواتح :
الرأي الأول : أنّها ممّا استأثر الله تعالى بعلمه ، ولذلك نجد في تفسير الجلالين ، وهو تفسير مختصر ، (ق) الله أعلم بمراده به.
الرأي الثاني : أنّ لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى :
١. فمنهم من قال : هي أسماء للسور التي بدأت بها.
٢. ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته.
روي عن الضحاك في معنى (الر) : أنا الله أرفع.
٣. ومنهم من قال : هي قسم.
٤. ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فينبّه التلاميذ لدخول المدرسة.
٥. ومنهم من قال : هي حروف للتحدّي وبيان إعجاز القرآن.
٦. وقيل إن هذه الأحرف قد اشتملت على المعاني جميعها ، التي ذكرها العلماء في تفسيرها. فهي أسماء للسور ، وهي إشارة الى أسماء الله تعالى وصفاته ، وهي للقسم ، وهي أدوات للتنبيه ، وهي حروف للتحدّي والإعجاز ، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه.
معاني سورة «ق»
هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله سبحانه ، على تأكيد البعث والجزاء.
وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين ، وعرض أفكارهم ، وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم ؛ كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت ، واستدلّوا بدليل ساذج ، هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا.
والقرآن يوضح قدرة الله تعالى وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم ، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا ؛ أما إعادة الحياة الى هذا التراب فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي [الآيات ١ ـ ٥].
ويلفت القرآن نظر الناس الى آثار قدرة الله سبحانه ، فالسماء سقف مرفوع ؛ والأرض بساط تحفظه
الجبال ، وتجري فيه الأنهار ، وينمو فيه صنوف النبات ؛ والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء ، وينبت الحب والنخيل والأعناب ، ويبعث الحياة في الزرع والأرض ؛ وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم ، بعد جمع ما تفرّق من أجزائهم الأصلية [الآيات ٦ ـ ١١]. ويلفت القرآن النظر الى عبرة التاريخ ، ويذكّر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق ، وما أصاب المكذّبين من الوعيد والهلاك ، ومنهم أصحاب الرّسّ (والرّسّ هي البئر) ؛ وأصحاب الرّسّ بقية من ثمود ، كانت لهم بئر فكذبوا نبيّهم ودسّوه في البئر ؛ وأصحاب الأيكة : وهم قوم شعيب (ع) ، والأيكة : الغيضة ، وهي الشجر الملتفّ الكثيف.
وقوم تبّع ، وتبّع لقب لملوك حمير باليمن.
إنّ هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية ، وكذّبوا رسل الله إليهم ، فاستحقّوا عذاب السماء ، وهذا العذاب يصيب كلّ مكذّب بالله وأنبيائه [الآيات ١٢ ـ ١٥].
رقابة الله جلّ وعلا
خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها ، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور ، مطّلع على هواجس النفوس ، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ؛ وهناك ملائكة تسجّل أعمال العباد وتفوض حقيقة المراد منها الى الله تعالى. ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل ، تسجل الحركة والنبرة ، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتلفزيون ، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان ، يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله ، بالحق والعدل : (كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) [الانفطار].
مشاهد القيامة
تحدّثت السورة عن البعث والحشر ، ولفت الأنظار إلى آثار الله سبحانه في الآفاق ، وإلى سننه جلّ وعلا في التاريخ ، والى عجيب صنعه في حنايا البشرية. ومن إعجاز القرآن : أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر ، ويلوّن في أسلوب العرض ، ويعرّض
النفس الانسانية لمختلف المؤثّرات ، رغبة الهداية والإصلاح. قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) [طه].
وقد عرضت سورة «ق» لمشاهد القيامة ، وفي مقدّمتها حضور سكرة الموت فجأة ، بلا مقدّمات ، والموت طالب لا يملّ الطّلب ، ولا يبطئ الخطى ، ولا يخلف الميعاد : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) أي تهرب وتفزع ، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفرّ. وتنتقل الآيات من سكرة الموت الى وهلة الحشر وهول الحساب ، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح ، وتحارب الغرور والطغيان ، وتدعو للتّقى والإيمان. فملك الموت ينفخ في الصور ، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع الى الحساب ، وتأتي كلّ نفس ومعها سائق يسوقها ، وشاهد يشهد عليها ، وقد يكونان هما الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا ، وقد يكونان غيرهما ؛ والأول أرجح. عندئذ يتيقّن المنكر ، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهد أمامه ؛ ينظر إليها ببصر حديد نافذ ، لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون. [الآيات ١٩ ـ ٢٢].
ويشتدّ غضب الجبّار على العصاة المعاندين ، فيأمر الله الملكين السائق والشهيد أن يلقيا في النار كلّ كفّار عنيد ، منّاع للخير متجاوز للحدود ، شاكّ في الدّين ، قد جعل مع الله إلها آخر ، فاستحقّ العذاب الشديد.
ويشتدّ الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة ، يحاول كلّ أن يتنصّل من تبعة جرائمه ، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنّم تتلمّظ غيظا على من عصا الله ، ويلقى فيها العصاة ، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين ، وتقول في كظّة (١) الأكول النّهم ، كما ورد في التنزيل : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠).
وعلى الضفّة الأخرى من هذا الهول ، مشهد آخر وديع أليف رضيّ جميل. إنه مشهد الجنّة تقرب من المتّقين ، حتّى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم [الآيات ٣١ ـ ٣٥].
__________________
(١). الكظّة : البطنة.
ختام السورة
في الآيات الأخيرة من السورة [٣٨ ـ ٤٥] ، نجد ختاما مؤكّدا للمعاني السابقة ، متدثّرا إيقاعا سريعا ، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين ، وفيه لمسة المكمون المفتوح ، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٣٩) وطلوع الشمس وغروبها ، ومشهد الليل الذي يعقب الغروب ، كلّها ظواهر مرتبطة بالسموات والأرض ؛ والقرآن يرجع إليها التسبيح والحمد والسجود ، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القويّ القادر ، فعليك يا محمّد أن تبلّغ القرآن للناس ، علّهم يتّعظون أو يخافون : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥) وفي ذلك تسلية للرسول (ص) ، وتثبيت لفؤاده ، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين.
أهداف السورة إجمالا
قال الفيروزآبادي : مقصود سورة «ق» :
إثبات النبوة للرسول (ص) وبيان حجّة التوحيد ؛ والإخبار عن إهلاك القرون الماضية ؛ وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم ؛ وذكر الملائكة الموكلين بالخلق المشرفين على أقوالهم ؛ وذكر بعث القيامة ، وذلّ العصاة يومئذ ؛ ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم ؛ وتغيّظ الجحيم على أهله ، وتشرّف الجنّة بأهلها ؛ والخبر عن تخليق السماء والأرض ، وذكر نداء إسرافيل (ع) بنفخه الصور ، وتكليف الرسول (ص) أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «ق» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «ق» بعد سورة المرسلات ، ونزلت سورة المرسلات بعد تسع آيات من سورة النجم ، ونزلت سورة النجم بعد الهجرة الأولى للحبشة ، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة ؛ فيكون نزول سورة «ق» في ذلك التاريخ أيضا ، وتكون من السور التي نزلت فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به ، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بعذاب الدنيا والآخرة ، وإثبات ذلك بالدليل مرّة وبالترهيب أخرى ؛ وهو يعود بهذا إلى سياق السور السابقة لسور «محمد» و «الفتح» و «الحجرات». وقد ذكرت هذه السور الثلاث في مواضعها للمناسبات السابقة ؛ فلما انتهى منها عاد السياق الى ما كان عليه قبلها ، وللفصل بينها ، بذلك ، فائدته في تنويع الأسلوب ، وتجديد نشاط السامع.
إثبات الإنذار بالعذاب
الآيات [١ ـ ٣٨]
قال الله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢) فأقسم على أن النبي (ص) بعث لينذرهم
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
بعذابه ، وذكر أنهم عجبوا أن يجيئهم منذر منهم ، وأن يبعثوا لذلك بعد أن يصيروا ترابا وتتفرّق أجزاؤهم ، وأجاب سبحانه عن هذا بأنه يعلم ما تفرّق من أجزائهم في الأرض فيقدر على جمعها ، وكذلك يعلم أعمالهم ، ويحفظها في كتاب عنده ليحاسبهم عليها ، ثم أخذ السياق بعد هذا في ذكر آيات الله جلّ جلاله في السماء والأرض ، ليعلموا أن من يقدر عليها يقدر على بعثهم وعذابهم ؛ وانتقل منه الى ترهيبهم بذكر ما حصل لمن كذّب قبلهم من قوم نوح وأصحاب الرّسّ وغيرهم. ثم عاد السياق الى أخذهم بالدليل ، فذكر أنه ، سبحانه ، لم يعي بالخلق الأول حتى يعيا عن إعادته ؛ وبيّن الخلق الأول بأن الله جلّت قدرته هو الذي خلق الإنسان ، ويعلم ما توسوس به نفسه ، فلم يتركه سدّى بل وكّل به ملكين يحفظان كل ما يلفظ به ؛ فإذا مات وبعث وجد أقواله وأفعاله محفوظة في كتابهما ، وألقي في جهنّم على ما كان منه من كفر ومنع للخير وغيرهما ؛ ثم ذكر السياق بعد هذا ما أعده سبحانه لمن خشيه وآمن به ، جمعا بين الترهيب والترغيب ؛ ثم ذكّرهم في إطار الترهيب ، بمن أهلكه الله قبلهم ممن كان أشدّ منهم بطشا ، ليعلموا أنه تعالى قادر على إهلاكهم وبعثهم بعد موتهم ؛ والى ذكر خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام من غير أن يمسّه لغوب ، ليستدلوا به على قدرته على ذلك أيضا ؛ ثم ختمت السورة بأمر النبي (ص) بالصبر على تكذيبهم له في ذلك ، وأن يستعين على هذا بالتسبيح بحمد ربّه قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، ومن الليل وأدبار السجود ؛ ثم أمره أن يستمع يوم ينادي المنادي بما يكذّبونه فيه من بعثهم ، إيذانا بأنه قريب منهم ، ومضى السياق في هذا الى قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥).
المبحث الثالث
مكنونات سورة «ق» (١)
١ ـ (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) [الآية ٤١].
هو إسرافيل (ع). أخرجه ابن عساكر عن يزيد بن جابر.
٢ ـ (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١).
قال قتادة : كنّا نحدّث : أنه ينادي من بيت المقدس من الصّخرة. أخرجه ابن أبي حاتم (٢).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). والطبري في «تفسيره» ٢٦ / ١١٤.
المبحث الرابع
لغة التنزيل في سورة «ق» (١)
١ ـ قال تعالى : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥).
قوله تعالى : (مَرِيجٍ) (٥) أي : مضطرب ، يقال : مرج الخاتم في إصبعه وجرج.
٢ ـ وقال تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠).
أقول : «النخل» : اسم جمع ، يكون جمعا مؤنّثا ، مراعاة لمعناه ، كما في هذه الآية بدلالة «باسقات».
وقد يكون مفردا مؤنثا ، كما في قوله تعالى :
(وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) [الرحمن].
وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧) [الحاقة].
كما يكون مفردا مذكّرا في قوله سبحانه :
(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) [القمر].
أقول : وليس لنا أن نقول شيئا في ترجّح هذه الكلمة بين الإفراد تأنيثا وتذكيرا ، وبين الجمع ، إلا اعتبار الناحية التاريخية ، [التي أباحت اللغة فيها ، مثل هذا الترجّح].
٣ ـ وقال تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣).
أي : هذا شيء لديّ ، وفي ملكي مهيّأ.
٤ ـ وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧).
وقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : أصغى.
أقول : وإلقاء السمع ، بمعنى الإصغاء ، لا نعرفه في العربية المعاصرة ، فقد نقول :
أرهف السمع مثلا.
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «ق» (١)
قال تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) قسم على (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [الآية ٤].
وقال سبحانه : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) لم يذكر «انه رجع» وذلك ، والله أعلم ، لأنه كان على جواب كأنه قيل لهم : إنّكم ترجعون. فقالوا : «أإذا كنا ترابا ذلك رجع بعيد».
وقال تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) [الآية ١٥] تقول : لبست عليه لبسا.
وقال سبحانه : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) بذكر أحدهما والاستغناء عن الآخر. فلم يقل : «عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد». ومثل ذلك في قوله جل شأنه (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء / ٤] ، وقوله سبحانه (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر / ٦٧] بالاستغناء بالواحد عن الجمع.
وقال سبحانه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) أي : أملك به ، وأقرب إليه في المقدرة عليه.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «ق» (١)
إن قيل : أين جواب القسم في قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١)؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها أنه مضمر تقديره : إنهم مبعوثون بعد الموت.
الثاني : أنّه قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [الآية ٤] واللام محذوفة لطول الكلام ؛ والتقدير : لقد علمنا كما في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) [الشمس].
الثالث : أنه قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) [الآية ١٨].
فإن قيل : لم قال تعالى : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٩) وقد أراد به الحبّ الحصيد ، فأضاف الشيء إلى نفسه ؛ والإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟ قلنا : معناه وحبّ الزرع الحصيد ، أو النبات الحصيد. الثاني : أن إضافة الشيء الى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين ، كما في قوله تعالى (حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) [الواقعة]. و (حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) ، و (وَعْدَ الصِّدْقِ) [الأحقاف / ١٦].
فإن قيل : لم قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) ولم يقل قعيدان ، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) [الآية ١٧]؟
قلنا : معناه عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، كما قال الشاعر :
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
نحن بما عندنا وأنت بما |
|
عندك راض والرأي مختلف |
وقال آخر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي |
|
بريئا ومن أجل الطويّ رماني |
الثاني : أنّ فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال الله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم]. وقيل إنّما لم يقل قعيدان ، رعاية لفواصل السورة.
فإن قيل : لم قال تعالى : (أَلْقِيا) [الآية ٢٤] والخطاب لواحد ، وهو مالك خازن النار؟
قلنا : فيه وجوه : أحدها : ما قاله المبرّد أن تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باتحادهما حكما ، كأنه قال ألق ألق ، ونظيره قول امرئ القيس :
قفا نبك : أي قف قف. الثاني : أن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنان ، فكثر على ألسنتهم خطاب الاثنين فقالوا : خليليّ وصاحبيّ ، وقفا ، واسمدا ، وعوجا ونحو ذلك ؛ قال الفراء : سمعت ذلك من العرب كثيرا ، قال وأنشدني بعضهم :
فقلت لصاحبي لا تحبسانا |
|
بنزع أصوله واجتزّ شيحا |
فقال لا تحبسانا والخطاب لواحد ، بدليل قوله لصاحبي قال : وأنشدني أبو ثور :
فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر |
|
وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا |
وقال امرؤ القيس :
خليلىّ مرّا بي على أمّ جندب |
|
نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب |
ثم قال :
ألم تر أني كلّما جئت طارقا |
|
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب |
الثالث : أنه أمر للملكين ، اللذين سبق ذكرهما ، بقوله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١).
فإن قيل : لم قال تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١) ولم يقل غير بعيدة ، وهو وصف للجنة؟
قلنا : لأنه على زنة المصادر كالزّبير والصّليل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكّر والمؤنث ، أو على حذف الموصوف : أي مكانا غير بعيد ،