دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

__________________

وعلى ايّ حال فان خالف المكلّف امارة شرعية منجّزة او اصالة منجّزة للتكليف كاصل الاحتياط فهو يستحق العقاب على مخالفة الحكم الواقعي ، لانه قد وصله بطريق معتبر ولو باصالة الاحتياط ، لاننا ذكرنا فيما سبق انه ليس للاحكام الظاهرية ملاكات في نفسها ، انما ملاكاتها هي نفس ملاكات الاحكام الواقعية الاهمّ ، وعليه فاستحقاق العقاب على مخالفة الاحكام الظاهرية هو من اجل الاحكام الواقعية ، ولذلك يصحّ ان تقول يستحق العقاب على مخالفة الحكم الظاهري (لطريقيّته ولهذا كلّف به) ، ويصحّ ان تقول ايضا بانّه يستحق العقاب على مخالفة الحكم الواقعي (لانّه وصله بطريق معتبر شرعا ولو عن طريق وجوب الاحتياط) ، فمتعلّق استحقاق العقاب واحد وهو مخالفة الحكم الواقعي ، الّا انّه يصحّ ان نقول ايضا هو الحكم الظاهري لانه طريق اليه بل هو عينه من وجه (وهو وحدة الملاك فيهما). وقد مرّ بعض هذا الكلام في بحث الحكم الواقعي والظاهري(*).

__________________

(*) ما ذكره المصنف (قدس‌سره) هنا مقولة قال بها البعض ، وعلى سبيل المثال نذكر ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله (في فقه الشيعة ج ١ ص ٨٣) ـ متبنيا له ـ قال : «ان العقاب في باب الامارات ليس على مخالفة الامارة بما هي بل العقاب على مخالفة الواقع ، لان شانها ليس الّا الطريقية ، فليس العمل على طبقها واجبا نفسيا ، فلا عقاب على مخالفة الامارة كي يدفع بالاصل عند الشك. ومن هنا لو خالف الامارة واتى بالواقع اتفاقا لا يعاقب على ترك الواقع لانه لم يخالف الواقع ، وعقابه على مخالفة الامارة المعتبرة يبتني على بحث التجرّي.» انتهى.

(والصحيح) ان العقل يحكم بان موضوع استحقاق العقاب انما هو العلم او الحكم الظاهري لا الواقع. نذكر اوّلا مثالا ليتّضح المطلب اكثر : لو اراد شخص ان يرشق شخصا قادما من بعيد برشقات نارية اعتمادا على إخبار بيّنة بانه زيد من الناس ، وكان يعلم بانّ زيدا المذكور مسلم فاسق جدّا وكان يريد ان يقتله لفسقه مع علمه بحرمة قتله لمجرد ذلك ، فاطلق عليه رشقات من سلاحه مثلا ، فانكشف انه عمرو العالم الصالح ، او قل قد

٨١

نتيجة لذلك في ترك الواجب الواقعي لا يكون مستحقّا لعقابين بلحاظ مخالفة الوجوب الواقعي ووجوب الاحتياط الظاهري ، بل لعقاب واحد ، والّا لكان حاله اشدّ ممّن ترك الواجب الواقعي وهو عالم بوجوبه. وامّا الاحكام الواقعية فهي احكام حقيقية لا طريقية ، بمعنى انّ لها مبادئ خاصّة بها ، ومن اجل ذلك تشكّل موضوعا مستقلّا للدخول في العهدة ولحكم العقل بوجوب امتثالها واستحقاق العقاب على مخالفتها.

التصويب بالنسبة الى بعض الاحكام الظاهرية :

تقدّم انّ الاحكام الواقعية محفوظة ومشتركة بين العالم والجاهل (١) ، واتّضح انّ الاحكام الظاهرية تجتمع مع الاحكام الواقعية على الجاهل دون منافاة بينهما (٢) ، وهذا يعني انّ الحكم الظاهري

__________________

(١) اي تجب الصلاة حتى على الجاهل بوجوبها

(٢) كغسل الجمعة لو فرضنا وجوبه واقعا واستحبابه ظاهرا بدليل خبر الثقة

__________________

قتل معه ايضا من بعض تلك الرشقات أكثر من شخص خطأ ، ففي هذه الحالة يحكم العقل باستحقاق العقاب على قصده وبمقدار ما تنجّز عليه من لزوم اتباع البينة ، ولا يستحق العقاب على ما لم يقصده ممّا قد حصل خطأ في التطبيق ، فانّ هذه الزيادات لم تدخل في عهدته لكونها خطأ محضا. (بل) ان نفس نصب الشارع المقدّس امارة حجة يعني انه جعلها موضوعا للتنجيز والتعذير واستحقاق العقاب ، حتّى وإن كان قد جعلها حجّة للحفاظ على الملاكات الواقعية المجهولة ، فانّ جعلها حجّة للحفاظ على هذه الملاكات امر وموضوع استحقاق العقاب أمر آخر ، وكذا الكلام بعينه في سائر الاحكام الظاهرية. (وهكذا) الامر ايضا في القطع ، بل في القطع الامر أوضح ولا يحتاج الى بيان.

٨٢

لا يتصرّف في الحكم الواقعي ، ولكن هناك من ذهب (١) الى انّ الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية كاصالة الطهارة تتصرّف في الاحكام الواقعية ، بمعنى انّ الحكم الواقعي بشرطية الثوب الطاهر في الصلاة مثلا يتّسع ببركة اصالة الطهارة ، فيشمل الثوب المشكوكة طهارته الذي جرت

__________________

(١) هو صاحب الكفاية ذكره في بحث الاجزاء (ج ١ ص ١٣٣ ـ ١٣٤) قال «في اجزاء الاتيان بالمامور به بالامر الظاهري وعدمه ، والتحقيق ان ما كان منه يجري في تنقيح موضوع التكليف او متعلّقه وكان بلسان تحقق شرطه او شطره كقاعدة الطهارة والحلّيّة بل واستصحابهما في وجه قوي بالنسبة الى كل ما اشترط بالطهارة او الحلية فانه يجزئ ، لانّ دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط اي مبيّنا لدائرة الشرط ، وانّ الشرط اعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية ، ولذلك فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، وهذا بخلاف لسان الامارات الذي يحدّث عن ثبوت الشرط واقعا ، فبارتفاع الجهل ينكشف انّ الشرط لم يكن ثابتا واقعا ، ولهذا فلا يجزئ هذا العمل عن المامور به الواقعي» تمّ كلامه بتصرّف يسير للتوضيح ، وليس نظر السيد الشهيد في المتن الى ما ذكره صاحب الكفاية في بحث الاستصحاب ج ٢ ص ٢٩٨ ـ ٣٠١ ، وقد اعتبر فيه انّ قوله عليه‌السلام «حتى يعلم ...» قيد ل «طاهر» ، وانّ «كل شيء» مطلق ، مما يعني انّ الحكم بالطهارة فيه ناظر الى «كل شيء» بلحاظ عنوانه الاوّلي (اي الواقعي) لا من حيث انه مشكوك حتّى يكون الحكم ظاهريا ... ثم قال بانّ ذيل موثقة عمّار «فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» يؤيّد ما استظهرناه ، فانّ قوله في بحث الاجزاء يغاير رأيه في الاستصحاب ، فقد ادّعى في بحث الاستصحاب أن الطهارة والحلية في دليلي الطهارة والحلية واقعيّتان بعد ما لم يكن قد ادّعى الطهارة والحلّية الواقعيّتين في بحث الاجزاء.

٨٣

فيه اصالة الطهارة حتى لو كان نجسا في الواقع ، وهذا نحو من التصويب (* ١) الذي ينتج انّ الصلاة في مثل هذا الثوب تكون صحيحة واقعا ، ولا تجب اعادتها على القاعدة ، لأنّ الشرطيّة قد اتّسع موضوعها (١). وتقريب ذلك انّ دليل اصالة الطهارة بقوله «كل شيء طاهر حتى تعلم انّه قذر» يعتبر حاكما على دليل شرطيّة الثوب الطاهر في الصلاة ، لانّ لسانه لسان توسعة موضوع ذلك الدليل وايجاد فرد له ، فالشرط موجود اذن ، وليس الامر كذلك لو ثبتت طهارة الثوب بالامارة فقط ، لانّ مفاد دليل حجّية الامارة ليس جعل الحكم المماثل (٢) ، بل جعل الطريقية و (* ٢) المنجّزية ، فهو بلسانه لا يوسّع موضوع دليل

__________________

(١) قول الشارع مثلا «تشترط طهارة الثوب في الصلاة» ، موضوع الشرط ومتعلّقه فيه هو طهارة الثوب ، هذه الطهارة قد وسّعها قوله الآخر «كل شيء نظيف حتى تعلم انّه قذر» ، ولذلك يعتبر هذا الدليل الثاني حاكما على موضوع الدليل الاوّل لانّه تصرّف به ووسّعه تعبّدا.

(٢) لخبر الثقة في الواقع اي اذا قال لنا ثقة هذا طاهر ـ بناء على حجيّة خبر الثقة في الموضوعات ـ فلم يصر الثوب واقعا طاهرا ، اي لا يجعل الله تعالى حكما واقعيا مماثلا لخبر الثقة ، والّا وقعنا في التصويب الباطل ، وانما جعل الشارع خبر الثقة حجة من باب انه طريق تعبّدي للمكلف

__________________

(* ٢) كان الاولى للسيد المصنف (قدس‌سره) ان يستبدل حرف الواو هذا بأو ، وذلك للاختلاف بين نظرية الطريقية ونظرية المنجزيّة والمعذّرية.

(* ١) لا مشكلة من هذا النحو من التصويب ، يقول السيد البجنوردي «ان التصويب المجمع على بطلانه هو في الاحكام لا في الموضوعات» ، والطهارة كما هو معلوم هي موضوع لجواز الاكل والشرب ومعذّرية الصلاة بالطاهر ...

٨٤

الشرطية ، لانّ موضوع دليلها الثوب الطاهر ، وهو لا يقول هذا طاهر ، بل يقول «هذا محرز الطهارة بالامارة» فلا يكون حاكما.

وعلى هذا الاساس فصّل صاحب الكفاية بين الامارات والاصول المنقّحة للموضوع ، فبنى على انّ الاصول الموضوعية توسّع دائرة الحكم الواقعي المترتّب على ذلك الموضوع دون الامارات ، وهذا غير صحيح (١) ،

__________________

قد يصيب الواقع وقد يخطئه.

راجع ان شئت الجزء الثالث بحث «الاصول التنزيلية والمحرزة» ص ٢١ ، وفي تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ، ص ١٥٧ (ذكره بشكل موسّع) وفي ج ٥ ، ص ١٧.

(١) اقول ذكر السيد الشهيد رحمه‌الله ردّه على صاحب الكفاية في تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ، ص ١٦٠ ـ فما بعد. ومما قاله انّه إن قايسنا قاعدة الطهارة مع شرطية الطهارة نجد تفسيرين يمكن ان نفسّر موثقة عمار على اساسهما :

التفسير الاوّل : ان نقول ان قوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف ...» ينزّل المشكوك النجاسة منزلة الطاهر واقعا بلحاظ الآثار الشرعية ، فتفيد الحكومة الواقعية والتوسعة الحقيقية التعبدية لمفهوم الشرط.

التّفسير الثاني : ان يكون تنزيل المشكوك منزلة الطاهر بلحاظ الجري العملي فقط ، وبناء عليه إذا انكشفت نجاسة الثوب بعد الصلاة يجب الاعادة ، لانّ هذا التنزيل لا يفيد أكثر من تحديد الوظيفة العملية في حالة الشك فلا تقتضي سقوط الواقع.

وفي موارد اخذ الشك في موضوع التنزيل يحتمل ارادة كلا التفسيرين ، ومع هذا الاجمال لا يمكن اثبات الاجزاء بملاك التوسعة الواقعية.

ويؤيّد ارادة الاحتمال الثاني ذيل موثقة عمار حيث تقول «فاذا علمت فقد قذر» الذي يعني ان مجرّد العلم بالقذارة يوجب نفوذ آثار القذارة ، والتي منها

٨٥

__________________

الثابتة قبل العلم ، وهو يعني بطلان العمل السابق ولزوم إعادته. (انتهى كلامه بتوضيح منّا) (*)

__________________

(*) (الانصاف) انّ الظاهر بل لا تبعد صحّة دعوى الصراحة في التفسير الاوّل ، فانّ قوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف ...» واضح في تنزيل مشكوك النجاسة منزلة الطاهر واقعا في كل آثاره ، ولو اراد التفسير الثاني ـ الذي ذكره السيد المصنف (قدس‌سره) ـ لتعيّن ان يقرن الكلام بقرينة ، لانّ ارادته خلاف الظاهر جدّا ، والظاهر وهو المتبادر من الرواية صدرا وذيلا هو التفسير الاوّل ، ولا ادري ما الذي ضيّق هذا التنزيل في دائرة استمرار الجهل ، فزيد مثلا عند ما صلّى الظهرين بثوب نجس واقعا طاهر ظاهرا (لانّ الشارع اعتبره انه طاهر) ثم اكتشف نجاسته بعد ذلك ، فالامام عليه‌السلام اعتبره انه صلّى بشيء نظيف ، ولو لم يرد الامام التنزيل لما صاغ التعبير بصيغة التنزيل ولكانت الصيغة بلسان التعذير أنسب ، كأن يقول مثلا ان لم تعلم بنجاسة شيء فانت معذور ، او فابن على الطهارة ، وذلك كما ورد في ادلة قاعدة البراءة كحديث الرفع مثلا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رفع عن امتي ما لا يعلمون» ، ثم فسّر الامام قوله هذا ووضّحه أكثر فقال «فاذا علمت فقد قذر» اي ان العلم سبب في الحكم بالقذارة عليه ، كما تقول اذا لامست النجاسة الفلانية فقد تنجّست ، وعليه فهذه الحكومة ظاهرية وهي لا تمسّ كرامة الواقع بشيء اي لا تجعل البول مثلا طاهرا واقعا ، وانّما توسّع في مفهوم الطهارة الماخوذة شرطا في الصلاة ونحوها. وهذا لعمري امر ينبغي ان يكون واضحا وما اظن السبب في هذا التردّد الا الوسوسة اعاذنا الله منها. وبعد كتابة هذه الاسطر وجدت ان الامام المقدّس السيد الخميني رحمه‌الله يقول بهذه المقالة ببيان جيّد ويختمها بقوله «انه بعد التصرّف في مدلول الشرط في ظرف الشك بجعله اعم من الطهارة الواقعية لا يتصوّر لانكشاف الخلاف معنى معقول ، لانه إن كان المراد من انكشافه هو انه بعد حصول العلم بالنجاسة يستكشف انّ ما حكما به ـ معتضدا بفهم العرف من كون الشرط في الصلاة اعم من الطهارة الواقعية ـ لم يكن صحيحا ، فهو ساقط جدّا لا يستأهل الجواب ، وإن كان المراد منه ان أدلّة النجاسة تقتضي نجاسة المحكوم فيما بعد وفيما قبل فهو حقّ لكن لا يضرّنا ،

٨٦

وسيأتي (١) بعض الحديث عنه ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) في الجزء الثالث تحت عنوان «الاصول التنزيلية والمحرزة» ويأتي ايضا في الجزء الرابع تحت عنوان الجهة الثالثة من جهات المقام الاوّل عند البحث في رواية زرارة الثانية من بحث الاستصحاب.

__________________

إذ قاعدة الطهارة ليست حاكمة على أدلة النجاسات بضرورة الفقه بل على أدلّة الشرائط والاجزاء ، فاغتنم فانّي به زعيم والله به عليم». انتهى كلامه رفع مقامه وحشرنا الله في الآخرة معه.

(أقول) وليس دليل الطهارة هو الدليل الوحيد الذي يفيدنا التنزيل منزلة الاحكام الواقعية ، بل هناك غيره مثله كدليل قاعدة «اليد أمارة على الملكية» ، فانّه من المعلوم انّه لا يجوز الحلف مع عدم العلم ، لكن مع ذلك نرى أنّ المشرّع الحكيم اجاز لنا الحلف على ملكية من في يده الشيء انّه له بناء على اماريّة اليد على الملكية ، مع انّ امارية اليد هي حكم ظاهري ، فقد ورد في الكتب الثلاثة عن حفص بن غياث عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال ... أرأيت اذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي ان اشهد انه له؟ قال عليه‌السلام : «نعم» ، فقال الرجل : أشهد انه في يده ولا اشهد انه له فلعلّه لغيره ، فقال ابو عبد الله عليه‌السلام : «أفيحلّ الشراء منه؟» قال نعم ، فقال ابو عبد الله عليه‌السلام «فلعلّه لغيره فمن اين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز ان تنسبه الى من صار ملكه من قبله اليك». ثم قال ابو عبد الله عليه‌السلام «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» ، فلو كان شخص قد اقسم بالله ان لا يحلف كاذبا ثم حلف في هذه الحالة على كون الشيء الفلاني لفلان ـ لانّه في يده ـ ثم تبيّن له انّه ليس له ، فلا يجب عليه الكفّارة ، وذلك لانّ المشرّع الحكيم قد تعبّدنا في حال الجهل باحكام خاصّة تغاير احكام العالم ، فحينما اجاز المشرّع الحلف في هذه الحالة فهو يعني اعتبار الحالف وتنزيله منزلة الصادق والعالم ، وهذا يعني عدم ترتب وجوب الكفّارة في ذمته ، وهكذا الامر تماما في دليل الطهارة على ما ذكرنا.

٨٧

(القضية الحقيقيّة والخارجية للاحكام)

مرّ بنا في الحلقة السابقة انّ الحكم تارة يجعل على نهج القضيّة الحقيقيّة ، وأخرى يجعل على نهج القضيّة الخارجية. والقضية الخارجيّة هي القضيّة التي يجعل فيها الحاكم حكمه على افراد موجودة فعلا في الخارج في زمان اصدار الحكم او في ايّ زمان آخر. فلو اتيح لحاكم ان يعرف بالضبط من وجد ومن هو موجود ومن سوف يوجد في المستقبل من العلماء فاشار اليهم جميعا وامر باكرامهم ، فهذه تكون قضيّة خارجية.

والقضيّة الحقيقية هي القضيّة التي يلتفت فيها الحاكم الى تقديره وذهنه بدلا عن الواقع الخارجي فيشكّل قضيّة شرطيّة شرطها هو الموضوع المقدّر الوجود وجزاؤها هو الحكم ، فيقول : اذا كان الانسان عالما فاكرمه ، واذا قال اكرم العالم قاصدا هذا المعنى فالقضيّة ـ روحا ـ شرطيّة وان كانت ـ صياغة ـ حملية (١).

__________________

(١) وعلى أيّ حال فجميع مواضيع الاحكام الشرعية او قل القانونية ـ سواء كانت الاحكام بنحو القضايا الحملية أو بنحو القضايا الشرطية ـ منظور اليها بنحو العنوان والحمل الشائع الصناعي ، مثال الاوّل «الخمر حرام شربه» ، فان الحرام شربه ليست هي تلك الصورة الذهنية الموجودة في

٨٨

وهناك فوارق بين القضيّتين : منها ما هو نظري ، ومنها ما يكون له مغزى (*) عملي.

فمن الفوارق اننا بموجب القضية الحقيقية نستطيع ان نشير الى اي جاهل ونقول : لو كان هذا عالما لوجب اكرامه ، لانّ الحكم بالوجوب ثبت على الطبيعة المقدّرة ، وهذا مصداقها ، وكلّما صدق الشرط صدق الجزاء ، خلافا للقضيّة الخارجيّة (١) التي تعتمد على الاحصاء الشخصي للحاكم ، فانّ هذا الفرد الجاهل ليس داخلا فيها لا بالفعل ولا على تقدير ان يكون عالما ، امّا الاوّل فواضح ، وامّا الثاني فلانّ القضيّة الخارجية ليس فيها تقدير وافتراض بل هي تنصبّ على موضوع ناجز.

ومن الفوارق انّ الموضوع في القضيّة الحقيقية وصف كلّي دائما ،

__________________

ذهن المولى ، وانما الحرام هو مصداق عنوان الخمر وهو الخمر الخارجي ، فكلمة «الخمر» في قول المولى «الخمر حرام» مرآة عن الخمر الخارجي ، وهذا الحمل هو ما يعبّر عنه بالشائع الصناعي ، ومثال الثاني «اذا بلغ الانسان وكان عاقلا مستطيعا فقد وجب عليه الحج» ، فانّ تحقّق الموضوع في الخارج كالخمرية والبلوغ والعقل والاستطاعة هو الذي يجعل الوجوب فعليا ، فالمنظور من الخمر في قولنا «الخمر حرام» هو عنوان الخمر ، أي اذا كان المائع خمرا فشربه حرام ، ممّا يعني ان القضايا الحملية القانونية كقضيّة «الخمر حرام» هي روحا قضايا شرطية. والمسألة واضحة يكفي لها الاشارة السانحة.

(١) نحو «اكرم هؤلاء العلماء»

__________________

(*) لا نعرف في اللغة العربية لفظة «مغزى» رغم اشتهار استعمالها في زماننا ، والظاهر انها فارسية الاصل ، وانّ اصلها «مغز» اي عقل ولبّ

٨٩

يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم سواء كان وصفا عرضيّا كالعالم او ذاتيا كالانسان (١). وامّا الموضوع في القضية الخارجية فهو الذّوات الخارجية ، اي ما يقبل ان يشار اليه في الخارج بلحاظ احد الازمنة [الثلاثة] ، ومن هنا استحال التقدير والافتراض فيها ، لانّ الذات الخارجية وما يقال عنه «هذا» خارجا لا معنى لتقدير وجوده ، بل هو محقّق الوجود ، فان كان وصف ما دخيلا في ملاك الحكم في القضيّة الخارجية تصدّى المولى نفسه لاحراز وجوده ، كما اذا اراد ان يحكم على ولده بوجوب اكرام ابناء عمّه وكان لتديّنهم دخل في الحكم فانّه يتصدّى بنفسه لاحراز تديّنهم ، ثم يقول : اكرم ابناء عمّك كلّهم او إلّا زيدا ، تبعا لما احرزه من تديّنهم كلّا او جلّا.

وامّا إذا قال اكرم ابناء عمّك ان كانوا متديّنين ، فالقضيّة شرطيّة وحقيقيّة من ناحية هذا الشرط لانّه قد افترض وقدّر [وخارجية من ناحية قول ابناء عمّك].

ومن الفوارق المترتّبة على ذلك انّ الوصف الدخيل في الشرط (٢)

__________________

(١) يمكن لنا ان نعطف «ذاتيا» على «عرضيا» فيكون المعنى : سواء أكان وصفا عرضيا كالعالم او وصفا ذاتيا كالانسان ، مثال ذلك قولنا «إذا كان الجائي انسانا فاكرمه» ، فان الانسان في هذه القضية الشرطية وصف للجائي ، وكون الجائي انسانا شرط ، ولنا ان نعطفها على «وصفا» فيكون المعنى «... سواء أكان الموضوع وصفا عرضيا كالعالم أو كان الموضوع ذاتيا كالانسان».

(٢) في النسخة الاصليّة «في الحكم» ، وما اثبتناه اولى.

٩٠

في باب القضايا الحقيقية اذا انتفى ينتفي الحكم لانّه (١) مأخوذ في موضوعه ، وان شئت قلت لانّه شرط ، والجزاء ينتفي بانتفاء الشرط ، خلافا لباب القضايا الخارجية ، فانّ الاوصاف ليست شروطا ، وانّما هي امور يتصدّى المولى لاحرازها فتدعوه الى جعل الحكم ، فاذا احرز المولى تديّن ابناء العمّ فحكم بوجوب اكرامهم على نهج القضيّة الخارجيّة ثبت الحكم ولو لم يكونوا متديّنين في الواقع (٢) ، وهذا معنى انّ الذي يتحمّل مسئوليّة تطبيق الوصف على افراده هو المكلّف في باب القضايا الحقيقية للاحكام ، وهو المولى في باب القضايا الخارجية لها.

وينبغي ان يعلم انّ الحاكم ـ سواء كان حكمه على نهج القضية الحقيقية او على نهج القضيّة الخارجيّة ، وسواء كان حكمه تشريعيا كالحكم بوجوب الحجّ على المستطيع ، او تكوينيّا واخباريا كالحكم بانّ النار محرقة او انّها في الموقد ـ انّما يصبّ حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنيّة لا على الموضوع الحقيقي للحكم (٣) ، لانّ الحكم لمّا كان امرا

__________________

(١) اي لانّ الوصف مأخوذ في موضوع الحكم ، او قل في شرط الحكم.

(٢) إلّا اذ كان المولى عرفيّا وقد اخطأ في النتيجة لحصول خطأ في المقدّمات ، وكانت النتيجة تغاير مصلحة المولى ، ويعلم العبد انه ان نبّه مولاه يغيّر رأيه ، فحينئذ ينبّه العبد مولاه ان استطاع ، وان لم يستطع فلا يبعد عدم وجوب الاطاعة لا سيّما اذا كان المورد مهمّا بل قد يكون محرّما ايضا ـ بنظر المولى ـ.

(٣) اذا قال مولى لعبده «بع هذه الطاولة الخضراء» فهنا في الواقع قد انصبّ الحكم (الذهني الوجود) على الصورة الذهنية لتلك الطاولة لا على الموضوع الحقيقي للحكم وهو في المثال هذه الطاولة الخارجية ،

٩١

ذهنيا فلا يمكن ان يتعلّق الّا بما هو حاضر في الذهن ، وليس ذلك الّا

__________________

وانك تشعر بذلك عند ما تدرك يوما انك كنت مشتبها بلونها ، او كنت مشتبها في كون الآتي زيدا إذا تبيّن بعد ذلك انّه كان عمروا ، فالذهن مرآة تعكس لك الخارج ، لكن قد تشتبه احيانا وانت ترى الاشياء الخارجية من خلال هذه المرآة ، فقد ترى السراب ماء كما اشار الله تعالى الى هذه الحقيقة بقوله : (والّذين كفروا أعملهم كسراب بقيعة يحسبه الظّمئان مآء) ، وقد ترى الكثير قليلا كما في قوله تعالى : (وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ويقلّلكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا) ...

نعم هذه الصورة الذهنية لها عادة نفس ماهيّة وخصوصيات المرئي الخارجي من طول وعرض ولون ونعومة وو ... ولذلك فهما واحد بالحمل الذاتي الاوّلي اي ماهيّة او قل جنسا ونوعا وفصلا وبأعراضها العامّة والخاصّة ، ولذلك تكون الصورة الذهنيّة والعلم والقطع حججا عقلية او على الاقل عقلائية لانّه قد يقع اشتباهات احيانا قليلة لاسباب عرضيّة كمن يعتقد انّ الآتي زيد مع انّه واقعا عمرو ، لبعد المرئيّ او غير ذلك ، ممّا لا تلغي حجية المعلومات الذهنية.

اذن فالمرئي الذهني يغاير المرئي الخارجي في حقيقة الوجود. ولذلك تختلف آثارهما أيضا ، فآثار الوجود الخارجي خارجية ، وآثار الوجود الذهني ذهنيّة ، فاذا رأى شخص نارا في الخارج فان ذهنه لا يحترق وذلك لان الذي يحرق في الخارج هي النار التي وجودها خارجي ، والاحتراق الذهني من آثار الوجود الذهني ، بمعنى انّ من يشاهد نارا واحتراقا فهو يدرك الاحتراق ، هذا الاحتراق المدرك في الذهن يعبّر عنه بالاحتراق الذهني وهو من آثار الوجود الذهني للنار. اذن فآثار الشيء ومعلولاته (كالاحتراق) تستتبع نوعيّة وجوده.

٩٢

الصورة الذهنيّة ، وهي وان كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ، ولكنها عينه بنظر آخر. فانت اذا تصوّرت النّار ترى بتصوّرك نارا ، ولكنّك اذا لاحظت بنظرة ثانية الى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنية للنّار لا النار نفسها. ولما كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوّري وبالحمل الذاتي الاوّلي صحّ ان يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيات كالاحراق بالنسبة الى النّار ، وهذا يعني انّه يكفي في اصدار الحكم على الخارج احضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصوّري عين الخارج وربط الحكم بها وان كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية ـ اي بالحمل الشائع ـ مغايرة للخارج.

٩٣

تنسيق البحوث المقبلة :

* وسوف نتحدّث فيما يلي ـ وفقا لما تقدّم في الحلقتين السابقتين ـ عن حجية القطع أوّلا باعتباره عنصرا مشتركا عامّا ، ثم عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في ادلة محرزة ، وبعد ذلك عن العناصر المشتركة التي تتمثّل في اصول عملية ،

وفي الخاتمة نعالج حالات التعارض ان شاء الله تعالى.

٩٤

العناصر المشتركة

في

عمليّة الاستنباط

١ ـ حجّية القطع

٢ ـ الادلّة المحرزة

٣ ـ الاصول العملية

٤ ـ حالات التعارض

٩٥
٩٦

(حجيّة القطع)

تقدّم في الحلقة السابقة انّ للمولى الحقيقي سبحانه وتعالى حقّ الطاعة بحكم مولويّته. والمتيقّن من ذلك هو حقّ الطاعة في التكاليف المقطوعة ، وهذا هو معنى منجّزية القطع ، كما انّ حقّ الطاعة هذا لا يمتدّ الى ما يقطع المكلّف بعدمه من التكاليف جزما ، وهذا معنى معذّرية القطع. والمجموع من المنجّزية والمعذّرية هو ما نقصده بالحجيّة. كما عرفنا سابقا انّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة ايضا ، فيكون الظن والاحتمال منجّزا ايضا (*) ، ومن ذلك

__________________

(*) (اقول) الاصل العقلي والعقلائي هو عدم وجود تكاليف الزامية وكون الانسان حرّا كما ولدته أمّه ، إلّا ان الشارع المقدس يعلم بعلمه الازلي انّ من المصلحة الالزامية جعل شريعة للمكلّفين لفوائد في ذلك لهم في الدنيا والآخرة. وكذلك المقنّنون الوضعيون ادركوا ضرورة جعل شريعة للناس ...

وبناء على الاصل الاوّلي يرى العقل ان الانسان غير مكلّف بما يحتمله او يظنّه من التكاليف ، وهذا الاصل العقلي والعقلائي مرتكز في اذهان المتدينين بالاديان السماوية ـ مع غضّ النظر عن معرفتهم بتشريع قاعدة البراءة الشرعية ـ الّا الوسواسيين منهم.

ولذلك ترى هؤلاء المؤمنين لا يهتمّون بما يحتملونه او يظنّونه ، وليست هذه السيرة الواضحة الّا لوجود ارتكاز عندهم بان الاصل في الانسان كونه حرّا طليقا من التكاليف تجاه الله وعبيده ، نعم خرج من ذلك ما يكون فيه ظلم سواء كان للنفس ام للغير ، وذلك لانّ الظلم قبيح عقلا. وقد يكون الظلم لله تعالى او للانسان ، مثال الاوّل الشرك بالله

٩٧

يستنتج انّ المنجّزية موضوعها مطلق انكشاف التكليف ولو كان انكشافا احتماليا ، لسعة دائرة حقّ الطاعة ، غير انّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمّن من قبل المولى نفسه في مخالفة ذلك التكليف ، وذلك بصدور ترخيص جادّ منه في مخالفة التكليف المنكشف (١). اذ من الواضح انّه ليس لشخص حقّ الطّاعة لتكليفه والادانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخّص بصورة جادّة في مخالفته.

امّا متى يتأتّى للمولى ان يرخّص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادّة؟

فالجواب على ذلك انّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة الى التكاليف

__________________

(١) بالظن او الاحتمال

__________________

والثاني واضح.

ولعلّ هذا الامر هو السبب في كون أكثر الناس عذابا يوم القيامة الظالمون ، وقد يعفو الله تعالى عن حقوقه الّا ان يشرك به ، ان الشرك لظلم عظيم.

ونزلت الشرائع السماوية المقدّسة ، وبقي الانسان على ذلك الاصل المرتكز ، ثمّ انّ الانسان قد علم من الشرع او من العقل انّ المولى تبارك وتعالى عنده ملاكات لا يرضى بتفويتها كما في موارد الدماء والفروج ، بل هناك اهمّ من ذلك وهي العقيدة الصحيحة ، فهنا يرى العقل انّ اهميّة هذه الموارد تدعو الى الاحتياط الالزامي خوفا من ان يغضب الانسان ربّه ، فانّ عدم الاحتياط فيها بعد العلم بكونها من اقسام الظلم يعتبر تجرّء على المولى تعالى وشريعته نعوذ بالله تعالى من ذلك بخلاف ما لو احتمل انسان وجوب لبس الابيض في الصلاة ونحو ذلك ، فانّ ذلك الاصل العقلي المذكور ينكر وجوب الاحتياط ، بل لا يلتفت اليه ، وللكلام تتمّة مهمّة تأتيك في بحث «مسلك حق الطاعة» من الجزء الثالث ان شاء الله تعالى.

٩٨

المنكشفة بالاحتمال او الظن ، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في موردها ، كاصالة الاباحة والبراءة ، ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري والتكليف المحتمل او المظنون ، لما سبق من التوفيق بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليا ، بل المولى جادّ فيه ضمانا لما هو الاهمّ من الاغراض والمبادئ الواقعية ، وامّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته (١) ، لانّ هذا الترخيص امّا حكم واقعي حقيقي وامّا حكم ظاهري طريقي ، وكلاهما مستحيل. والوجه في استحالة الاوّل انّه يلزم اجتماع حكمين واقعيين حقيقيين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتا في الواقع ، ويلزم اجتماعهما (٢) على اي حال (٣) في نظر القاطع ، لانّه يرى مقطوعه ثابتا دائما فكيف يصدّق بذلك (٤) ، والوجه في استحالة الثاني انّ الحكم الظاهري هو ما يؤخذ في موضوعه الشك ، ولا شك مع القطع ، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري.

وقد يناقش في هذه الاستحالة بانّ الحكم الظاهري ـ كمصطلح ـ متقوّم بالشكّ ولا يمكن ان يوجد [الشك] في حالة القطع بالتكليف ، ولكن لما ذا لا يمكن ان نفترض ترخيصا يحمل روح الحكم الظاهري ولو

__________________

(١) مع بقاء التكليف المنكشف بالقطع ثابتا وعدم زواله بالنسخ

(٢) اي ويلزم اجتماع حكمين واقعيين متعارضين في نظر القاطع

(٣) اي سواء طابق قطعه الواقع ام لم يطابقه

(٤) وهما واقعيان ـ بنظره ـ ومتنافيان وكلاهما ثابتان في عهدته في عرض واحد؟!

٩٩

لم يسمّ بهذا الاسم اصطلاحا ، لاننا عرفنا سابقا ان روح الحكم الظاهري هو انّه خطاب يجعل في موارد اختلاط المبادئ الواقعية وعدم تمييز المكلّف لها لضمان الحفاظ على ما هو اهمّ منها. فاذا افترضنا انّ المولى لاحظ كثرة وقوع القاطعين بالتكاليف في الخطأ وفي عدم التمييز بين موارد التكليف وموارد الترخيص وكانت ملاكات الاباحة الاقتضائية تستدعي الترخيص في مخالفة ما يقطع به من تكاليف ضمانا للحفاظ على تلك الملاكات ، فلما ذا لا يمكن صدور الترخيص [الظاهري] حينئذ؟

والجواب على هذه المناقشة انّ هذا الترخيص لمّا كان من أجل رعاية الاباحة الواقعية في موارد خطأ القاطعين فكل قاطع يعتبر نفسه غير مقصود جدّا بهذا الترخيص ، لانه يرى قطعه بالتكليف مصيبا ، فهو بالنسبة اليه ترخيص غير جادّ ، وقد قلنا فيما سبق انّ حقّ الطاعة والتنجيز متوقّف على عدم الترخيص الجادّ في المخالفة (١).

ويتلخّص من ذلك :

اوّلا : ان كل انكشاف للتكليف منجّز (٢) ، ولا تختص المنجّزية بالقطع لسعة دائرة حقّ الطاعة (*).

__________________

(١) وهنا لا ترخيص جادّ في المخالفة فيبقى حقّ الطاعة والتنجيز ثابتا بالنسبة الى ما يقطع به القاطع.

(٢) لأنّ مقتضى عبودية المكلف ان لا يتحرك مطلقا إلا بإذن مالكه الحقيقي.

__________________

(*) قد عرفت منا خلاف ذلك وان الصحيح والمتأصّل في مرتكزات المتدينين كون الانسان

١٠٠