دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

هذا الافتراض ، او ان تكون على الاقلّ بنحو يعرّضها لهذا الافتراض والجري ، وهذا معنى قد يثبت في السيرة العقلائية على العمل بالامارات الظنية في المقام الاوّل أيضا ، اي في مجال الاغراض الشخصية التكوينيّة ، فانها كثيرا ما تولّد عادة وذوقا في السلوك يعرّض المتشرّعة بعقلائيّتهم الى الجري على طبق ذلك في الشرعيات ايضا ، فلا يتوقّف إثبات الحجيّة بالسيرة على ان تكون السيرة جارية في المقام الثاني ومنعقدة على الحجية بالمعنى الاصولي.

ومهما يكن الحال ، فلا شك في ان معاصرة السيرة العقلائية لعصر المعصومين شرط في امكان الاستدلال بها على الحكم الشرعي ، لانّ حجّيتها ليست بلحاظ ذاتها (١) ، بل بلحاظ استكشاف الامضاء الشرعي من تقريرها وعدم الردع عنها. فلكي يتمّ هذا الاستكشاف يجب ان تكون السيرة معاصرة لظهور المعصومين (عليهم‌السلام) لكي يدلّ سكوتهم على الامضاء ، وأمّا السيرة المتاخّرة فلا يدلّ عدم الردع عنها على الامضاء كما تقدّم في الحلقة السابقة. وامّا كيف يمكن اثبات ان السيرة كانت قائمة فعلا في عصر المعصومين فقد مرّ بنا البحث عن ذلك في الحلقة السابقة (٢).

إلّا ان اشتراط المعاصرة انما هو في السيرة التي يراد بها إثبات حكم شرعي كلي والكشف بها عن دليل شرعي على ذلك الحكم ، وهي التي

__________________

(١) اي ليست السيرة العقلائية بنفسها حجّة ، وانما هي كاشفة عن الحكم الشرعي بسكوت المعصوم وامضائه لها.

(٢) في مسألة «الاحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي».

٣٢١

كنا نقصدها بهذا البحث بوصفها من وسائل اثبات الدليل الشرعي (*).

__________________

(*) أقول : الصحيح أن يقال انه ينبغي ان يفصّل بين السيرة العقلائية والسيرة العرفية العاديّة ، فان (منشأ الاولى) هو اطمئنان العقلاء ، ولذلك لا يحتاج الى امضاء وإن امكن الردع عنها عقلا ، لكن الشارع المقدّس لا يردع عنها ، وذلك لان العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ لا يعتبرون امرا حجّة ودليلا الّا اذا أورث عندهم اطمئنانا ، والشارع المقدّس وان امكن له ان يردع عن العمل بالاطمئنان ، وان يأمر باتباع خصوص القطع ، ولكن الامكان شيء والواقع شيء آخر ، فالمولى جلّ وعلا يمكن ان يظلم عباده ـ بمعنى القدرة ـ لكنه تعالى حاشاه ذلك ، وهنا الامر كذلك ، ولذلك لن تجد موردا قط هو مورد لسيرة العقلاء قد ضيّقه الشارع المقدّس ، بل تراه احيانا يوسّعه ، كما في الخبر الموثوق بصدوره فانه مورد سيرة العقلاء ، ولكن الشارع المقدّس وسّع دائرة الحجية الى مطلق اخبار الثقات. وعلى أيّ حال فهناك تلازم بين السيرة العقلائية والاطمئنان وما ذلك إلّا لانّ منشأ سيرة العقلاء هو العقل ، هذا العقل هو الذي يعتبره علماؤنا احد مصادر التشريع الاربعة ، واحكام العقل هذه تكون كاشفة عن احكام الشرع بنظر القاطع ، لعدم امكان ان يحكم الشارع المقدّس احكاما يستنكرها العقل.

(ومنشأ الثانية) هي العادات والاعراف ، وهذه هي التي تحتاج الى امضاء من الشارع المقدّس.

(فان) شك في سيرة انها عقلائية ـ أي منشؤها طبيعة العقلاء ـ او عرفية ـ اي منشؤها العادات والاعراف ـ فانّها تحتاج الى امضاء ، وذلك لان العقلاء لا يعملون الّا بما يكون واضحا فان لم يكن الحكم واضحا فلا يحكم العقلاء فنحتاج لا محالة الى امضاء من الشارع لهذه السيرة المشكوكة.

فمثال السيرة العقلائية هو مورد الاطمئنان والعلم الوجداني ، ولا حجية لغيرهما عندهم كعقلاء.

ومثال السيرة العرفية دخول اراضي الآخرين الواسعة الغير مسيّجة والاصطياد فيها و

٣٢٢

ولكن هناك نحو آخر من السيرة لا يكشف عن الدليل الشرعي على حكم كلّي ، وانما يحقّق صغرى لحكم شرعي كلي قد قام عليه الدليل في المرتبة السابقة. وإلى هذا النحو من السيرة ترجع على الاغلب البناءات العقلائية التي يراد بها تحليل مرتكزات المتعاملين ومقاصدهما النوعية في مقام التعامل بنحو يحقّق صغرى لادلّة الصّحة والنفوذ في باب المعاملات ، ومثال ذلك ما يقال من انعقاد السيرة العقلائية على اشتراط عدم الغبن في المعاملة ، بنحو يكون هذا الاشتراط مفهوما ضمنا ، وإن لم

__________________

تملّك الصيد والاكل من ثمارها الواقعة من جهة الطريق وتملّك الاراضي المهجورة التي لا يد لاحد عليها والكثير جدّا من العادات والاعراف التي اقرّ الشارع بعضها ولم يقرّ البعض الآخر بل حرّم بعضها كالمعاملات الربويّة. وهناك امثلة قد يقع فيها شك كالاخذ باقوال الثقة واللغوي ـ فيما لم يورث أكثر من الظن بصحّته ـ في مجال الشرعيات والكثير من المسائل التي لا يحكم فيها العقل بوضوح باعتبارها حجّة عقلا وعقلائيا ، ففي هذه الموارد ايضا نحتاج الى امضاء كما علمت.

(وبالنسبة) الى ما ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله من امكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على حجية قول اللغوي نقول باننا سنقول في مباحث الظهور بان موضوع حجية الظهور هو بحسب الاصل المراد الجدّي للمتكلم وهذا امر عقلائي ، فلعلّ الشارع المقدّس ـ بل هو المظنون قويا ـ قد اعتمد على هذا الارتكاز الواضح فلم يعتبر قول اللغوي حجّة ان لم يفد إلّا الظنّ ، وانما المناط هو حصول الاطمئنان بالمراد الجدّي للمتكلم على تفصيل وبيان مرّ بعضه في مبحث الاطلاق ـ مسألة القدر المتيقن في مقامي الخارج والتخاطب ـ ويأتي بعضه الآخر في ابحاث الظهور ، فان لم يحصل اطمئنان فالظن ـ ولو من قول اللغوي ـ منهي عن اتّباعه ، وهذا ردع شرعي مضاف الى عدم وجود ارتكاز واضح عند العقلاء على العمل بقول اللغوي اذا افاد الظن فقط ، ولذلك ترى المتشرّعة بارتكازهم لا يأخذون بقول اللغوي الّا اذا اورث عندهم اطمئنانا.

٣٢٣

يصرّح به. وعلى هذا الاساس يثبت خيار الغبن بالشرط الضمني في العقد ، فان السيرة العقلائية المذكورة لم تكشف عن دليل شرعي على حكم كلّي ، وانما حقّقت صغرى لدليل «المؤمنون عند شروطهم» ، وكل سيرة من هذا القبيل لا يشترط في تأثيرها على هذا النحو ان تكون معاصرة للمعصومين عليهم‌السلام ، لانها متى ما وجدت أوجدت صغرى لدليل شرعي ثابت ، فيتمسك باطلاق ذلك الدليل لتطبيق الحكم على صغراه.

وهناك فوارق أخرى بين السيرتين ، فان السيرة التي يستكشف بها دليل شرعي على حكم كلّي تكون نتيجتها ملزمة حتى لمن شذّ عن السيرة ، فلو فرض ان شخصا لم يكن يرى ـ بما هو عاقل ـ ان طيب نفس المالك كاف في جواز التصرّف في ماله وشذّ في ذلك عن عموم الناس ، كانت النتيجة الشرعية المستكشفة بسيرة عموم الناس ملزمة له لانها حكم شرعي كلّي.

وأمّا السيرة التي تحقق صغرى لمفاد دليل شرعي فلا تكون نتيجتها ملزمة لمن شذّ عنها ، لان شذوذه عنها معناه ان الصغرى لم تتحقّق بالنسبة إليه فلا يجري عليه الحكم الشرعي. ففي المثال المتقدّم لخيار الغبن اذا شذّ متعاملان عن عرف الناس وبنيا على القبول بالمعاملة والالتزام بها ولو كانت غبنيّة ، لم يثبت لأيّ واحد منهما خيار الغبن ، لان هذا يعني عدم الاشتراط الضمني ، ومع عدم الاشتراط لا يشملهما دليل «المؤمنون عند شروطهم» مثلا.

٣٢٤

البحث الثاني : اثبات صدور الدليل الشرعي

بعد ان تكلّمنا عن الدلالات العامّة للدليل الشرعي نريد ان نتكلّم الآن عن وسائل اثبات صدور الدليل من الشارع ، وهي على نحوين :

احدهما : وسائل الاثبات الوجداني.

والآخر : وسائل الاثبات التعبدي.

فالكلام يقع في قسمين.

القسم الاوّل : (وسائل الاثبات الوجداني)

تمهيد :

المقصود بالاثبات الوجداني اليقين. ولما كانت وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي بالنسبة إلينا كلّها وسائل تقوم على أساس حساب الاحتمال كالتواتر والاجماع ونحوهما على ما تقدّم في الحلقة السابقة ، فمن المناسب ان نتحدّث بايجاز عن كيفية تكون اليقين على أساس حساب الاحتمال ، فنقول :

إنّ اليقين كما عرفنا في مباحث القطع موضوعي وذاتي ، ونحن حينما نتكلّم عن حجية القطع بعد افتراض تحقّقه لا نفرّق بين القسمين ،

٣٢٥

إذ نقول بحجيتهما معا كما تقدّم. ولكن حينما نتكلّم عن الوسائل الموجبة للاثبات والاحراز فمن المعقول ان نهتم بالتمييز بين ادوات اليقين الموضوعي وغيرها ابتعادا بقدر الامكان عن التورّط في غير اليقين الموضوعي.

واليقين الموضوعي قد يكون أوليا (١) ، وقد يكون مستنتجا.

واليقين الموضوعي المستنتج بقضيّة (٢) ما له سببان :

احدهما : اليقين الموضوعي بقضيّة أخرى تتضمّن (٣) او

__________________

(١) قد يقصد باليقين الاوّلي ما يسمّونه في علم المنطق بالعلم البديهي الذي يدركه العقل بمجرّد تصوّر متعلقه ، وذلك كاليقين بان «الكل اعظم من الجزء» و «انّ النقيضين لا يجتمعان» ونحو ذلك ، فانك بمجرّد تصوّر حدود هاتين القضيتين ـ أي «الكل» و «الجزء» ـ والنسبة بينهما وهي حيثيّة الأعظميّة وعدمها فانك تؤمن بصدق هذه القضيّة.

هذا اذا اردنا المعنى الاصطلاحي ، ولكنه مستبعد ، (والظاهر) بقرينة قوله «وقد يكون مستنتجا» انه يريد معنى البديهي مطلقا فيشمل ح ـ اضافة الى الاوّلي ـ العلم الناتج عن المشاهدات والناتج عن التجربيات ونحو ذلك.

وأمّا اليقين المستنتج فيقصد به ـ بقرينة المقابلة ـ السابقة ـ الكسبي النظري والذي يستنتج من القياس او الاستقراء.

(٢) «بقضيّة» متعلقة باليقين ، وكان الاولى حذف «بقضيّة ما».

(٣) اي واليقين الموضوعي المستنتج بقضيّة ما ـ كقضية العالم حادث ـ له سببان : احدهما اليقين الموضوعي بقضيّة أو قضايا أخرى ـ كقضيتي العالم متحرك وكل متحرّك حادث ـ تتضمّن قضيّة العالم حادث ، فان النتيجة كما ترى متضمّنة في كبرى القياس.

٣٢٦

تستلزم (١) تلك القضية ويكون الاستنتاج حينئذ قائما على أساس قياس من الأقيسة المنطقية.

والآخر : اليقين الموضوعي بمجموعة من القضايا لا تتضمّن ولا تستلزم عقلا القضية المستنتجة ، ولكن كل واحدة منها تشكّل قيمة احتمالية بدرجة ما لاثبات تلك القضية ، وبتراكم تلك القيم الاحتمالية تزداد درجة احتمال تلك القضية حتى يصبح احتمال نقيضها قريبا من الصفر ، وبسبب ذلك يزول لضآلته لكون الذهن البشري مخلوقا على نحو لا يحتفظ باحتمالات ضئيلة قريبة من الصفر.

مثال ذلك : ان نشاهد اقتران حادثة معيّنة بأخرى مرّات كثيرة جدّا ، فان هذه الاقترانات المتكرّرة لا تتضمن ولا تستلزم ان تكون إحدى الحادثتين علّة للاخرى ، إذ قد يكون اقترانهما صدفة ويكون للحادثة الاخرى علّة غير منظورة ، ولكن حيث ان من المحتمل في كل اقتران ان لا يكون صدفة وان لا تكون هناك علّة غير منظورة ، فيعتبر كل اقتران قرينة احتمالية على علّيّة إحدى الحادثتين للاخرى ، وبتعدّد هذه القرائن الاحتمالية يقوى احتمال العلّيّة حتى يتحوّل الى اليقين (٢).

ونسمّي كل يقين (*) بقضيّة مستنتجة على أساس قياس منطقي

__________________

(١) كما اذا علمنا بدخول انسان الى النار فلازمه اليقين باحتراقه.

(٢) عرفا وهو ما يسمّونه بالوثوق والاطمئنان ، وهو مثلا نسبة ٩٩ ، ٩٩% ..

__________________

(*) في النسخة الاصلية أضاف كلمة «موضوعي» بعد كلمة «اليقين» المتكرّرة في هذه الجمل الاخيرة خمس مرّات ، ولا داعي لذلك بعد ايضاح لزوم ان يكون اليقين موضوعيا اي مبنيّا على اسس عقلائية لا ذاتيا اي مبنيا على اسس لا تنتج عند العقلاء اليقين ،

٣٢٧

باليقين الاستنباطي ، وكل يقين بقضيّة مستنتجة على أساس تراكم القرائن الاحتمالية باليقين الاستقرائي. والنتيجة في القياس مستبطنة دائما في المقدّمات ، لانّها إمّا اصغر منها (١) او مساوية لها ، والنتيجة في الاستقراء غير مستبطنة في المقدّمات التي تكوّن منها الاستقراء لانّها اكبر وأوسع من مقدّماتها (٢).

والطرق التي تذكر عادة لاثبات الدليل الشرعي واحرازه وجدانا من التواتر والاجماع والسيرة كلّها من وسائل اليقين الاستقرائي كما سنرى إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أي لان النتيجة إمّا أصغر من المقدّمات كما مرّ في المثال الاوّل السابق «العالم متغيّر ...» وإمّا مساوية كما في المثال الثاني «إن يدخل شخص في النار فانه يحترق».

(٢) فان القاعدة اشمل دائرة من بعض مصاديقها ، فقولنا «النار حارّة» اوسع دائرة من قولنا «هذه النار حارّة».

__________________

(إضافة) الى ان القاطع يرى قطعه موضوعيا دائما وإلّا لما حصل عنده قطع.

٣٢٨

١ ـ (التواتر)

الخبر المتواتر من وسائل الاثبات الوجداني للدليل الشرعي ، وقد عرّف في المنطق بانه «اخبار جماعة كثيرين يمتنع تواطؤهم على الكذب» ، وبموجب (١) هذا التعريف يمكن ان نستخلص ان المنطق يفترض ان القضية المتواترة مستنتجة من مجموع مقدّمتين : احداهما بمثابة الصغرى وهي تواجد عدد كبير من المخبرين ، والاخرى بمثابة الكبرى وهي ان كل عدد من هذا القبيل يمتنع تواطؤهم على الكذب.

وهذه الكبرى يفترض المنطق أنها عقلية ومن القضايا الاوّلية في العقل ، ومن هنا عدّ «المتواترات» في القضايا الضرورية الست (٢) التي تنتهي إليها كل قضايا البرهان.

وهذا التفسير المنطقي للقضية المتواترة يشابه تماما تفسير المنطق نفسه للقضية التجريبية التي هي احدى تلك القضايا الست (٣) ، فانه يرى

__________________

(١) تقرأ بضمّ الميم وسكون الواو ، لانّ فعلها أوجب ، يوجب على وزن أكرم يكرم فهو مكرم.

(٢) أي المنطق ، وقوله «في القضايا ...» في محل نصب مفعول به ثان ل «عدّ».

(٣) القضايا الضرورية ستّ : أوّليّات ، مشاهدات ، تجربيات ، متواترات حدسيّات ، وفطريّات (راجع منطق المظفر ج ٣ ص ٢٨٠).

٣٢٩

ان علّيّة الحادثة الاولى للحادثة الثانية (١) (التي ثبتت بالتجربة عن طريق اقتران الثانية بالاولى في عدد كبير من المرّات) مستنتجة من مجموع مقدّمتين :

إحداهما : بمثابة الصغرى ، وهي اقتران الحادثة الثانية بالاولى في عدد كبير من المرّات.

والاخرى : بمثابة الكبرى وهي ان الاتفاق لا يكون دائميا ، بمعنى أنه يمتنع ان يكون هذا الاقتران في كل هذه المرّات صدفة ، لان الصدفة لا تتكرّر لهذه الدرجة. وهذه الكبرى يعتبرها المنطق قضيّة عقليّة أوّليّة ولا يمكن في رأيه ان تكون ثابتة بالتجربة ، لانها تشكّل الكبرى لاثبات كل قضية تجريبيّة ، فكيف يعقل ان تكون هي بنفسها قضيّة تجريبية (٢).

واذا دقّقنا النظر وجدنا ان الكبرى التي تعتمد عليها القضيّة المتواترة مردّها الى نفس الكبرى التي تعتمد عليها القضية التجريبية ، لان كذب المخبر يعني افتراض مصلحة شخصية معيّنة دعته الى اخفاء الواقع ، وكذب العدد الكبير من المخبرين معناه افتراض ان مصلحة المخبر الاوّل في الاخفاء اقترنت صدفة بمصلحة المخبر الثاني في الاخفاء ، والمصلحتان معا اقترنتا صدفة بمصلحة المخبر الثالث في الشيء نفسه

__________________

(١) كمن يعرّض نفسه للهواء البارد بعد كونه دافئا فانه يلاحظ في كل مرّة انه يصاب بالرشح.

(٢) ولذلك جعل القضايا التجريبية من البديهيات والقضايا اليقينية الستّة ، فقالوا ان «الاتفاق لا يكون دائميا ، وانما هو معلول لعلّة منظورة او غير منظورة» قضيّة عقلية يقينية بديهية.

٣٣٠

وهكذا ... على الرغم من اختلاف ظروفهم واحوالهم ، فهذا يعني أيضا تكرّر الصدفة مرّات كثيرة.

وعلى هذا الأساس أرجع المنطق الاستدلال على القضيّة التجريبيّة والقضية المتواترة الى القياس المكوّن من المقدّمتين المشار إليهما ، واعتقد بأنّ القضية المستدلّة ليست بأكبر من مقدّماتها (١).

ولكن الصحيح ان اليقين بالقضية التجريبية والمتواترة يقين موضوعي استقرائي ، وان الاعتقاد بها حصيلة تراكم القرائن الاحتمالية الكثيرة في مصبّ واحد. فاخبار كل مخبر قرينة احتمالية ، ومن المحتمل بطلانها لامكان وجود مصلحة تدعو المخبر الى الكذب ، وكلّ اقتران بين حادثتين قرينة احتمالية على العلية بينهما ، ومن المحتمل بطلانها ـ أي القرينة ـ لإمكان افتراض وجود علّة أخرى غير منظورة هي السبب في وجود الحادثة الثانية غير انها اقترنت بالحادثة الاولى صدفة ، فاذا تكرّر الخبر او الاقتران تعدّدت القرائن الاحتمالية وازداد احتمال القضية المتواترة او التجريبية وتناقص احتمال نقيضها حتّى يصبح قريبا من الصفر جدّا فيزول تلقائيّا لضآلته الشديدة. ونفس الكبرى التي افترضها

__________________

(١) لانّه من باب القياس. فقد قالوا في المنطق :

اقتران حادثة ـ كالرشح ـ بحادثة أخرى ـ كالتعرّض فجأة للهواء البارد ـ دائمي (الصغرى) وكل دائمي ليس اتفاقيا (الكبرى)

فالاقتران المذكور ليس اتفاقيا (النتيجة)

فهذه القضية المستدلّة (أي النتيجة) ليست بأكبر من مقدّماتها وانما هي متضمّنة في الكبرى.

٣٣١

المنطق القديم ليست في الحقيقة إلا قضية تجريبية ايضا (١). ومن هنا نجد ان حصول اليقين بالقضيّة المتواترة والتجريبية يرتبط بكل ما له دخل في تقوية القرائن الاحتمالية نفسها ، فكلما كانت كل قرينة احتمالية اقوى واوضح كان حصول اليقين من تجمّع القرائن الاحتمالية أسرع. وعلى هذا الاساس نلاحظ ان مفردات التواتر اذا كانت إخبارات يبعد في كل واحد منها احتمال الاستناد الى مصلحة شخصية تدعو الى الإخبار بصورة معيّنة ـ إمّا لوثاقة المخبر او لظروف خارجية ـ حصل اليقين بسببها بصورة أسرع ، وكذلك الحال في الاقترانات المتكرّرة بين الحادثتين ، فانه كلما كان احتمال وجود علّة غير منظورة (٢) اضعف كانت الدلالة الاحتمالية لكل اقتران على العليّة أقوى ، وبالتالي يكون اليقين بالعلية أسرع وأرسخ ، وليس ذلك إلا لان اليقين في المتواترات والتجربيات ناتج عن تراكم القرائن الاحتمالية وتجمّع قيمها الاحتمالية المتعددة في مصبّ واحد وليس مشتقّا من قضيّة عقلية أوّلية كتلك الكبرى التي يفترضها المنطق (٣).

__________________

(١) فانه لا يوجد دليل عقلي على ان «كل دائمي لا يتكرّر» ، وانما عرفنا ذلك من خلال التجارب الكثيرة ، لانّ مرادنا من كل دائمي لا يتكرّر انه يبعد كثيرا جدّا ان يكون اقتران كل تلك الحوادث اتفاقيا.

(٢) كما مرّ في المثال السابق من كون اقتران التعرّض للهواء البارد بعد الدفء بالرشح أمرا دائميا ، مع ضعف احتمال وجود علّة غير منظورة للرشح غير ما ذكر.

(٣) والتي هي مساوية أو اكبر من النتيجة.

٣٣٢

الضابط للتواتر :

والضابط في التواتر الكثرة العددية ، ولكن لا يوجد تحديد دقيق لدرجة هذه الكثرة التي يحصل بسببها اليقين بالقضيّة المتواترة ، لان ذلك يتأثر بعوامل موضوعية مختلفة وعوامل ذاتية أيضا.

أمّا العوامل الموضوعية

فمنها : نوعية الشهود من حيث الوثاقة والنباهة ،

ومنها : تباعد مسالكهم وتباين ظروفهم ، إذ بقدر ما يشتدّ التباعد والتباين يصبح احتمال اشتراكهم جميعا في كون هذا الاخبار الخاص ذا مصلحة شخصيّة داعية إليه بالنسبة الى جميع اولئك المخبرين على ما بينهم من اختلاف في الظروف ابعد بحساب الاحتمال ،

ومنها : نوعية القضية المتواترة وكونها مألوفة او غريبة ، لان غرابتها في نفسها تشكّل عاملا عكسيّا ،

ومنها : درجة الاطلاع على الظروف الخاصّة لكل شاهد بالقدر الذي يبعّد او يقرّب بحساب الاحتمال افتراض مصلحة شخصية في الاخبار ،

ومنها : درجة وضوح المدرك المدّعى للشهود ، ففرق بين الشهادة بقضيّة حسّيّة مباشرة كنزول المطر وقضية ليست حسّية ، وانما لها مظاهر حسيّة كالعدالة ، وذلك لأن نسبة الخطأ في المجال الاوّل أقلّ منها في المجال الثاني ، وبهذا كان حصول اليقين في المجال الاوّل أسرع ،

الى غير ذلك من العوامل التي يقوم تأثيرها إيجابا او سلبا على أساس دخلها في حساب الاحتمال وتقييم درجته.

٣٣٣

وأمّا العوامل الذاتية

فمنها : طباع الناس المختلفة في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الضئيلة ، فان هناك حدّا أعلى من الضآلة لا يمكن لأيّ ذهن بشري ان يحتفظ بالاحتمال البالغ إليه (١) مع الاختلاف بالنسبة الى ما هو اكبر من الاحتمالات (٢) ،

ومنها : المبتنيات القبلية التي قد توقف ذهن الانسان وتشلّ فيه حركة حساب الاحتمال ، وإن لم تكن إلّا وهما خالصا لا منشأ موضوعيا له ،

ومنها : مشاعر الانسان العاطفية التي قد تزيد او تنقص من تقييمه

__________________

(١) كواقعة الغدير وخطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، فلو سألت جميع المحققين فيه لاكّدوا لك هذه الواقعة وخطاب الرسول فيها لكثرة من رواها ، (مع انّ) هذا العلم لا يخرج عن كونه من هذا الباب (اي من باب الاطمئنان).

(٢) اي مع الاعتراف باختلاف الناس في القدرة على الاحتفاظ بالاحتمالات الاكبر من ذلك الاحتمال الضعيف جدّا ، فاحتمال كذب واقعة الغدير مثلا ٠٠٠٠٠١ ، ٠% بحيث لا يستطيع اي محقّق انكار هكذا حادثة ، نعم هناك احتمالات اقوى من هذا الاحتمال الضعيف مثل ٠٠١ ، ٠% وهناك اقوى منه مثل ١ ، ٠% ، فهناك اناس يعتبرون ان مقابل العشرة ١٠% علم لانه يكون ٩٠% وذلك لعدم قدرتهم على تصوّر العشرة ١٠% مثلا كالقطّاع ، بينما هناك اناس لا يعتبرون هذا علما لقدرتهم على احتمال كذب هذه الحادثة ولو بهذه النسبة الضئيلة ، ويحتاجون الى نسبة ٩٩٩ ، ٩٩% حتى يؤمنوا كالوسواسيين ، وهكذا تختلف الطبائع ، الّا انها بالاخير تتّحد عند نسبة واحدة كما ذكرنا.

٣٣٤

للقرائن الاحتمالية او من قدرته على التشبّث بالاحتمال الضئيل تبعا للتفاعل معه ايجابا او سلبا.

تعدّد الوسائط في التواتر :

اذا كانت القضية الاصليّة المطلوب إثباتها ليست موضعا للإخبار المباشر في الشهادات المحسوسة ، وانما هي منقولة بواسطة شهادات أخرى كما هو الغالب في الروايات ، فلا بدّ من حصول احد امرين ليتحقق ملاك التواتر :

احدهما : ان تكون كل واحدة من تلك الشهادات الاخرى (١) موضوعا للاخبار المباشر المتواتر ، وهكذا يلحظ التواتر في كل حلقة.

والآخر : ان تبدأ عملية تجميع القرائن الاحتمالية على أساس حساب الاحتمال من القيم الاحتمالية للخبر غير المباشر (٢) فتلحظ القيمة

__________________

(١) وهي الحلقة الثانية (أي الجيل الثاني) ، بمعنى انه بعد الفراغ عن لزوم وجود تواتر في الحلقة الاولى التي شاهدت الحادثة ، فانه يلزم ان يسمع كل شخص من الجيل الثاني هذه الحادثة من اشخاص كثيرين كي يحصل عند كل شخص من ابناء الجيل الثاني ـ ممّن ينقلون الينا حادثة الغدير مثلا ـ علم بحصول هذه الواقعة ، فحين يخبرنا هؤلاء العالمون بوقوع هذه الحادثة سيحصل عندنا علم.

(٢) وهو احد رواة الحلقة الثانية ، فندرس قيمة إخباره ومدى احتمال صدقه ، فان كان ينقل عن زيد بن أرقم حادثة غدير خم ننظر هل له عضيد ينقل ايضا عن زيد هذا ، وهكذا الامر بالنسبة لمن يروي عن ابي سعيد الخدري مثلا.

٣٣٥

الاحتمالية لقضية يشهد شخص بوجود شاهد بها ، وتجمع مع قيم احتمالية مماثلة وهكذا ... حتّى يحصل الاحراز الوجداني ، وهذا طريق صحيح غير انه يكلّف افتراض عدد اكبر من الشهادات غير المباشرة ، لان مفردات الجمع (١) اصغر قيمة منها في حالة الشهادات المباشرة (٢).

__________________

(١) يريد من مفردات الجمع نسبة اصابة خبر فلان عن زيد للواقع وكذا خبر فلان الآخر عن زيد ايضا وخبر ثالث عن أبي سعيد وهكذا ..

(٢) كون مفردات الجمع اصغر قيمة من الشهادات المباشرة سببه انّه اذا كان احتمال الصدق في خبر زيد ٢ / ١ وخبر فلان في نفسه عن زيد ٢ / ١ أيضا فان احتمال اصابة خبر فلان للواقع يساوي ٢ / ١* ٢ / ١ وهو يساوى ٤ / ١ ، وهو المراد هنا ، وهكذا تضعف القيمة الاحتمالية لمن يروي عن فلان السابق عن زيد فانها ستصير ٨ / ١ لانها حاصل ضرب ٤ / ١* ٢ / ١ وسبب عملية الضرب هنا ـ لا الجمع ـ واضح ، فانه :

يحتمل صدق الاوّل وصدق الثاني وصدق الثالث (١)

ويحتمل صدق الاوّل وصدق الثاني وكذب الثالث (٢)

ويحتمل صدق الاوّل وكذب الثاني وصدق الثالث (٣)

ويحتمل كذب الاوّل وصدق الثاني وصدق الثالث (٤)

ويحتمل صدق الاوّل وكذب الثاني وكذب الثالث (٥)

ويحتمل كذب الاوّل وكذب الثاني وصدق الثالث (٦)

ويحتمل كذب الاوّل وصدق الثاني وكذب الثالث (٧)

ويحتمل كذب الاوّل وكذب الثاني وكذب الثالث (٨)

فاحتمال حصول الصدق من الرواة الثلاثة هو واحد من هذه الثمانية ، كما ان احتمال اجتماع الثلاثة على الكذب ايضا يساوي ٨ / ١ ،

(هذا) بلحاظ كل سلسلة من سلسلات التواتر ،

٣٣٦

أقسام التواتر :

إذا واجهنا عددا كبيرا من الاخبار فسوف نجد إحدى الحالات التالية :

الحالة الاولى : ان لا يوجد بين المدلولات الخبرية مشترك يخبر الجميع عنه ، كما اذا جمعنا بطريقة عشوائية مائة رواية من مختلف الابواب ، وفي هذه الحالة من الواضح ان كل واحد من تلك المدلولات لا يثبت بالتواتر ، وانما يقع الكلام في اثبات احدها على سبيل العلم الاجمالي لكي ترتب عليه آثار العلم الاجمالي.

والتحقيق في ذلك ان قيمة احتمال كذب الجميع ضئيلة جدّا لوجود مضعّف (وهو عدد الاحتمالات التي ينبغي ان تضرب قيمها [ببعضها] من اجل الحصول على قيمة احتمال كذب الجميع) (١) ، وكلّما كانت عوامل

__________________

(وأمّا) إذا تعاضد خبر ابي سعيد مع زيد فان.

احتمال اجتماعهما على الكذب يساوى ٤ / ١ واحتمال اجتماعهما على الصدق يكون [٤ / ٤ ـ ٤ / ١ ـ ٤ / ٣] ، وحينما أيّدهما عمر صارت قيمة احتمال الكذب [٤ / ١* ٢ / ١ ـ ٨ / ١] ، وقيمة احتمال الصدق ٨ / ٨ ـ ٨ / ١ ـ ٨ / ٧ ، وحينما ايّدهم ابنه عبد الله صار احتمال الكذب [٨ / ١* ٢ / ١ ـ ١٦ / ١] ، واحتمال الصدق [١٦ / ١٦ ـ ١٦ / ١ ـ ١٦ / ١٥] وهكذا ... الى ان تصير قيمة احتمال الكذب قريبة الى الصفر جدّا.

(١) بيان ذلك : لو فرضنا ـ لتبسيط الفكرة أوّلا ـ وجود عشرة اخبار فقط في جيبنا ، بينها اثنان كاذبان ، ثم اخذنا منها خبرين مجهولي الحال بشكل عشوائي ، فان نسبة انطباق هذين الخبرين العشوائيّين على ذينك الكاذبين هي نسبة ٤٥ / ١ ، وذلك انه من المحتمل ان يأتينا (١ و ٢) أو

٣٣٧

__________________

(١ و ٣) أو (١ و ٤) أو (١ و ٥) أو (١ و ٦) أو (١ و ٧) أو (١ و ٨) أو (١ و ٩) أو (١ و ١٠) ، وهي ٩ احتمالات أو (٢ و ٣) أو (٢ و ٤) أو (٢ و ٥) أو (٢ و ٦) أو (٢ و ٧) أو (٢ و ٨) أو (٢ و ٩) أو (٢ و ١٠) ، وهي ثماني احتمالات.

أو (٣ و ٤) ... الخ وهي سبعة احتمالات ، وهكذا ... الى (٩ و ١٠) وبالتالي تكون مجموع الاحتمالات ـ اذا عدّدتها ـ ٤٥ احتمالا.

(وكذا) الامر لو كانت الأخبار الكاذبة من هذه العشرة هي ثلاثة واخذنا ثلاثة عشوائية ، فان احتمال انطباق هذه الثلاثة العشوائية على الثلاثة الكاذبة يساوي ٣٦ / ١ ، و (قاعدة) هذا الامر واضحة ، فانه نصف حاصل ضرب الاحتمال في كل طرف مع عدد الاطراف ، ففي المثال الاوّل عدد الاحتمالات هو ٩ (على ما ذكرنا قبل قليل في الطرف الاوّل) وعدد الاطراف هو عشرة (من الواحد إلى العشرة) ، وبما انّ نصفها مكرّر كما هو واضح ، فيكون عدد الاحتمالات هو ٢ / ٩٠ ـ ٤٥ احتمالا.

وكذا الامر بالنسبة الى المثال الثاني ، فانّ عدد الاحتمالات في كل طرف هو ثمانية وعدد الاطراف هو تسعة (من الواحد إلى التسعة لا إلى العشرة ، وذلك لانّ العشرة خارجة عن دائرة الاطراف ، فان آخر عدد في هذه الدائرة هو التسعة وكل محتملات العشرة مكرّرة باجمعها فانتهت بذلك دائرة الاطراف) ، وبالتالي يكون مجموع الاحتمالات ٩* ٨ ـ ٧٢ ، نصفها مكرّر ، فيبقى ٢ / ٧٢ ـ ٣٦.

وبذلك يتّضح ايضا انه اذا اخذنا مائة خبر بشكل عشوائي من مجموع عشرة آلاف خبر مثلا ، فيها مائة خبر كاذب ـ على فرض السيد في المتن ـ فانك سترى ان نسبة احتمال انطباق هذه المائة العشوائية على المائة الكاذبة يساوى ٤٩١ ، ٩٠١ ، ٤ / ١. واحتمال ٤٩١ ، ٩٠١ ، ٤ / ١ هو احتمال ضئيل للغاية ويقارب الصفر جدّا ، واحتمال عدم انطباقها بالكامل على المائة الكاذبة هو ٤٩١ ، ٩٠١ ، ٤ / ٤٩٠ ، ٩٠١ ، ٤ وهو احتمال قويّ للغاية ، بل هو

٣٣٨

الضرب كسورا تضاءلت نتيجة الضرب تبعا لزيادة تلك العوامل ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكمي ، فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلا جدّا ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد على الاقلّ. ولكن هذا الاطمئنان يستحيل ان يتحوّل الى يقين بسبب الضآلة. ووجه الاستحالة اننا نعلم اجمالا بوجود مائة خبر كاذب في مجموع الأخبار ، وهذه المائة التي التقطناها تشكّل طرفا من اطراف ذلك العلم الاجمالي ، وقيمة احتمال انطباق المعلوم الاجمالي عليها تساوي قيمة احتمال انطباقه على ايّ مائة أخرى تجمع بشكل آخر ، فلو كان المضعّف الكمّي وحده يكفي لافناء الاحتمال لزال احتمال الانطباق على أيّ مائة نفرضها ، وهذا يعني زوال العلم الاجمالي وهو خلف (١).

وهكذا نعرف ان درجة احتمال صدق واحد من الاخبار على الاقلّ تبقى اطمئنانا ، وحجّية هذا الاطمئنان مرتبطة بتحديد مدى انعقاد السيرة العقلائية على العمل بالاطمئنان وهل تشمل الاطمئنان الاجمالي المتكوّن

__________________

من درجات الاطمئنان العليا ، ولذلك قال هنا السيد المصنف رحمه‌الله «فيكون احتمال كذب الجميع ضئيلا جدّا ويحصل في المقابل اطمئنان بصدق واحد على الاقلّ

(١) لتوضيح المطلب : لو فرضنا وجود عشرة آلاف إناء كلها طاهرة الا واحد متنجّس ضائع بينها ، فانّ احتمال انطباق هذا المتنجّس على هذا الاناء المعيّن تساوي ٠٠٠ ، ١٠ / ١ وهو احتمال ضعيف جدّا ، لكن رغم ضعفه لا يزول هذا الاحتمال ولا يتحوّل مقابله الى العلم ، اي لا نستطيع ان نقول : حتما هذا الاناء طاهر ، وذلك لاننا إن قلنا حتما هذا الاناء طاهر ، لصحّ هذا الكلام في سائر الآنية ، فاين المتنجّس إذن؟

٣٣٩

نتيجة جمع احتمالات اطرافه او لا؟ إذ قد يمنع عن شمول السيرة لمثل هذه الاطمئنانات الاجمالية (١).

__________________

(١) بمعنى أنّ الاشكال في وجود هكذا سيرة في عصر المعصومين عليهم‌السلام ـ الذي هو المهم عندنا ـ فانه لم يثبت وجود هكذا سيرة في عصرهم عليهم‌السلام ليثبت بالتالي إمضاؤهم وتقريرهم بسكوتهم عن هكذا سيرة(*).

__________________

(*) نعم قد يقال بحجيّة هكذا اطمئنان من باب ان اتّباع هكذا اطمئنان امر عقلائي جدّا يقرّه جميع العقلاء بعقلائيّتهم وذلك لكونه علما عرفا ولذلك يرون العمل بمتعلقه أمرا بديهيا جدّا ، وبما ان الشارع رئيس العقلاء فيعلم برضا الشارع المقدّس باتباع الاطمئنان وباعتباره علينا حجّة ومنجّزا ومعذّرا.

(نظرة في حجّيّة الاطمئنان)

مقدّمة البحث :

بناء على مسلك العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في موضوعاتها لا يوجد حكم في الشريعة الاسلامية الّا وهو يخبر عن حقيقة الموضوع او قل ظلّ للموضوع ومعلول وناتج عنه ، فمثلا حينما يقول الشارع المقدّس مثلا «الصلاة واجبة» لا يكون الوجوب غريبا عن حقيقة الصلاة ثم نسبناه لها ، بل لو اطلعنا على الغيب لوجدنا ان هذه الصلاة واصلة في مصلحتها الى حدّ اللزوم ، وما تشريع الوجوب ونسبته لها الا من باب الإخبار بكونها واصلة واقعا الى هذه المرحلة ، لا انه اعتبار ونسبة امر الى امر آخر غريب عنه.

وما ذكرناه يصحّ حتّى في الامور التكوينية (مقابل التشريعية) ، فمثلا حينما نقول «زيد قائم» نقصد «وضع زيد هو القيام» ، فهو إخبار محض ، اقصد ان «القيام» هنا هو نفس «وضع زيد» فعلا ، لا انه اجنبي عنه.

فالحكم هو نفس الموضوع حقيقة وبالحمل الشائع وإن كان يغايره مفهوما وبالحمل الذاتي ، فقولنا السابق «الصلاة واجبة» اي «الصلاة من حيث وجوبها وعدمه ـ لا من

٣٤٠