دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وثانيا : إنّ ظهور صيغة الامر في الوجوب وأيّ ظهور آخر بحاجة الى ضمّ قاعدة حجّية الظهور ، وهي اصولية ، لانّ مجرّد عدم الخلاف فيها لا يخرجها عن كونها اصوليّة ، لانّ المسألة لا تكتسب اصوليّتها من الخلاف فيها ، وانّما الخلاف ينصبّ على المسألة الاصوليّة.

وهكذا يتّضح ان الملاحظة الثالثة واردة على تعريف المشهور.

والاصحّ في التعريف أن يقال «علم الاصول هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي». وعلى هذا الأساس تخرج المسألة اللغوية كظهور كلمة الصعيد لانّها لا تشترك إلا في استنباط حال الحكم المتعلّق بهذه المادّة فقط ، فلا تعتبر عنصرا مشتركا (١).

__________________

(١) وتخرج القواعد الرجالية كقاعدة ان ترحّم الامام على شخص امارة الوثاقة مثلا لكون الغرض منها ليس هو الاستنباط وانما هو تمييز الثقة عن غير الثقة ، فهي مقدمات بعيدة ليست ناظرة الى عملية الاستنباط ، نعم هي تنفعنا في الاستنباط كغيرها من العلوم كالادبيّات العربية.

وكذلك تخرج اصالتا الطهارة والحل ، فانهما وإن كانتا كلّيتين من جهة انهما تجريان في كل ابواب الطهارة والاطعمة والاشربة إلّا انّ الانسب ـ رغم ذلك ـ بحثهما في علم الفقه لانّ مورديهما مخصوصان بما ذكرنا والبحث فيهما فقهي واضح ، بخلاف قاعدة البراءة مثلا فانه لا اختصاص لها بباب دون باب ولم تلحظ فيها اىّ جنبة فقهية

__________________

وهذا ضمنا وبالارتكاز واضح.

وامّا بالنسبة الى الشقّ الثاني فنقول ان ظهور كلمة الصعيد وامثالها هي صغريات وليست كبريات في قياس الاستنباط.

(نعم) يرد على السيد الخوئي ما اورده السيد المصنف على المحقق النائيني قبل قليل

٢١

__________________

ومثل البراءة البحث في مسألة «ان النهي عن العبادة هل يقتضي الفساد ام لا» ، فانّه وان كان خاصّا في العبادات إلا انّه رغم ذلك يبحث في علم الاصول بحقّ ، لانّ البحث فيها ليس فيه مسحة فقهيّة بل البحث فيها ينظر الى انّه هل يمكن ان يكون امر واحد كالصلاة في المغصوب مثلا مطلوبا من جهة الصلاتية ومحرّما من جهة الغصبيّة فتكون الصلاة صحيحة ح (أ)؟ ... فهو اذن بحث في الملازمات العقلية في الواقع.

__________________

(أ) حرف ح يعني حينئذ.

٢٢

موضوع علم الاصول

موضوع علم الاصول ـ كما تقدّم في الحلقة السابقة ـ هي «الادلّة المشتركة (١) في الاستدلال الفقهي» ، والبحث الاصوليّ يدور دائما حول دليليّتها.

وعدم تمكّن بعض المحقّقين (٢) من تصوير موضوع العلم على

__________________

(١) اختلف في بيان موضوع العلم ـ بناء على الاعتقاد بوجوده لكل علم ـ على قولين : قول بانّه هو الكلي الجامع بين موضوعات مسائل العلم ، كالكلمة مثلا التي هي جامع بين الفاعل والمفعول والمبتدأ وغيرها من الكلمات ... وقول بانّه هو الجامع بين نفس الادلة والمسائل التي يبحثها العلم ، والسيد المصنّف (قده) أيّد القول الثاني.

(٢) ينبغي أن يعلم ان نظر هؤلاء المحقّقين كان الى علم النحو وأمثاله ممّا له موضوع واحد كالكلمة مثلا ، فتارة تكون مرفوعه اذا كانت فاعلا وتارة تكون منصوبة اذا كانت مفعولا به وهكذا ... فقالوا ان موضوع علم النحو «الكلمة» ، ثم نظروا الى علم الاصول فوجدوا انّ موضوعات مسائله متغايرة ، فهناك «خبر الثقة» وهناك «البراءة» و «الاستصحاب» وإمكان اجتماع الامر والنهي وحالات التعارض وو ... وليس بينها جامع ، ولذلك قالوا ليس لبعض العلوم موضوع واحد ...

ومن هؤلاء المحقّقين السيد الامام والسيد البجنوردي والسيد الخوئي رحمهم‌الله تعالى إذ يقول السيد الامام مثلا : «إنّ الالتزام بانّه لا بدّ لكل علم من

٢٣

النحو الذي ذكرناه ادّى الى التشكّك في ضرورة ان يكون لكل علم موضوع ، ووقع ذلك موضعا للبحث ، فاستدلّ على ضرورة وجود موضوع لكل علم بدليلين :

احدهما : ان التمايز بين العلوم بالموضوعات ، بمعنى انّ استقلال علم النحو عن علم الطبّ انّما هو باختصاص كلّ منهما بموضوع كلّي يتميّز عن موضوع الآخر ، فلا بدّ من افتراض الموضوع لكل علم.

وهذا الدليل أشبه بالمصادرة ، لانّ كون التمايز بين العلوم

__________________

موضوع جامع بين موضوعات مسائله او من غرض واحد به تتميّز العلوم ، وانّ البحث فيها عن العوارض الذّاتيّة للموضوع الكلّي غير صحيح ، بل البرهان قائم على خلافه ، نعم الموحّد والرابط بين مسائل العلم الواحد هو كونها وكون فوائدها من سنخ وطبيعة واحدة ...» (وقال) «وليس العلم الّا عدّة قضايا متشتّتة ولهذه المتشتّتات ارتباط خاص وسنخيّة واحدة لأجلها قام العقلاء بتدوينها وعدوّها شيئا واحدا ، وليس موجودا واحدا مشخّصا وراء الاعتبار فيكون ذا صورة ومادّة او جنس وفصل ...» (*) (تهذيب الاصول).

ويقول السيد الخوئي ـ ومثله السيد البجنوردي ـ «وامّا الكلام في موضوع هذا العلم فقد سبق ان أقمنا البرهان على انّه لا موضوع له واقعا ، وانّ حقيقته عبارة عن عدّة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين اشتراكها في الغرض الواحد».

__________________

(*) أقول لا شكّ انك تعرف الفرق بين الغرض والفائدة ، فغرض طالب العلم التعلّم ، واما الفائدة فهي ما يحصل مما لا يكون مقصودا من العمل ، كأن ينال بسبب علمه مالا كثيرا ، وعليه فكل ما كان يراه العلماء يصبّ في غرضهم من العلم الفلاني كانوا يدخلونه فيه حتّى تطوّرت العلوم ، فالجامع بين مسائل العلم الواحد هو الغرض الواحد ، كما سيأتي.

٢٤

بالموضوعات فرع وجود موضوع لكل علم ، والّا تعيّن أن يكون التمييز قائما على أساس آخر كالغرض.

والآخر (١) : ان التمايز بين العلوم إن كان بالموضوع فلا بدّ من موضوع لكل علم اذن لكي يحصل التمايز ، وإن كان بالغرض ـ على اساس ان لكل علم غرضا يختلف عن الغرض من العلم الآخر ـ فحيث ان الغرض من كلّ علم واحد ، والواحد لا يصدر إلّا من واحد ، فلا بدّ من افتراض مؤثر واحد في ذلك الغرض. ولمّا كانت مسائل العلم متعدّدة

__________________

(١) بيان هذا الوجه هو انّ قائله يرى ان الغرض هو ما يترتّب على العمل ، فالغرض من علم الاصول هو الاقتدار على الاستنباط ، فكل ما يوصلنا الى هذا الغرض يدخل في هذا العلم ، وعلى هذا الأساس تمايزت العلوم ، ثمّ ان الغرض من كل علم واحد ، فالمسائل التي توصلنا الى هذا الغرض وإن تعدّدت لكن هي ذو وجهة واحدة ... او قل إنّ الواحد (كالغرض الواحد) لا يصدر إلا من واحد (كالدليل الذي يقدرنا على الاستنباط) ، فهو العلّة والمؤثّر في تحصيل الغرض ، ولما كانت مسائل العلم متعدّدة فلا بدّ من وجود جامع واحد لها ينتج هذا المعلول الواحد ، ولهذا يمكن ان نقول إنّ الجامع لهذه المسائل المتشتّتة هي قضيّة كلّية جامعة بموضوعها لموضوعات المسائل وبمحمولها لمحمولات المسائل ، ففي علم الطب مثلا يكون الموضوع الكلّي مثلا «بدن الانسان من حيث سلامته ومرضه» والمحمول الكلّي «علاجه المناسب» وفي علم النحو «الكلمة من حيث اعرابها» والمحمول «حكمها الاعرابي» ، وفي علم الاصول «الدليل المشترك الذي من شأنه ان يوصلنا الى الاقتدار على الاستنباط» والمحمول أي الذي يبحث فيه عنه هو «دليليّته وحجّيته» (راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ١ ص ٣٨).

٢٥

ومتغايرة فيستحيل ان تكون هي المؤثّرة بما هي كثيرة في ذلك الغرض الواحد ، بل يتعيّن ان تكون مؤثّرة بما هي مصاديق لأمر واحد ، وهذا يعني فرض قضيّة كلّيّة تكون بموضوعها جامعة بين الموضوعات ، وبمحمولها جامعة بين محمولات المسائل. وهذه القضيّة الكلّيّة هي المؤثّرة ، وبذلك يثبت ان لكل علم موضوعا ، وهو موضوع تلك القضيّة الكلّية فيه.

وقد اجيب على ذلك بأنّ الواحد على ثلاثة أقسام (١) : واحد

__________________

(١) يريدون ان يقولوا في هذا الجواب بعدم وجود قضيّة كلية جامعة حقيقة بين مسائل علم الاصول هي علّة هذا الغرض الواحد الذي هو الاقتدار على الاستنباط ، نعم هذه القضية الجامعة واحدة بالنوع او بالعنوان.

ولتوضيح ذلك نبيّن أوّلا قاعدة «الواحد لا يصدر إلا من واحد» فنقول :

إنّ كلمة «الواحد» في الفلسفة تطلق ويراد منها احد ثلاثة معان :

الاوّل : معنى الواحد الشخصي ، وله ثلاثة أنحاء :

١ ـ فامّا ان يكون واحدا من جميع الجهات ، وهو الباري عزوجل ، بمعنى انّه عين الوجود ، والوجود لا يتثنّى ولا يجمع ، فلا يقال وجودان او ثلاثة وجودات ، وذلك لانّ منشأ التعدّد بين الموجودات هو الامتياز بينها ، ولا امتياز بين وجود ووجود ـ من حيث الوجود وإن يوجد بينهما تمايز من حيث الماهيّات او الاعراض ـ فلا تعدّد في ذاته تعالى ، ولذلك قال تعالى في بيان ذلك «قل هو الله أحد» ولم يقل قل هو الله واحد ، وذلك لانّ الواحد يقبل الاثنينيّة باضافته الى واحد آخر ، وأمّا الاحد فلا يقبلها ، وهذا ما يعبّر عنه في علم العرفان ب «مقام الذات الأحديّة» الذي هو فوق «مقام الأسماء والصفات» والتعدّد بالجهات.

٢ ـ وإمّا ان يكون واحدا من حيث التركيب الخارجي وعدمه ، كالمجرّدات (وهي ما ليست بمادّة كالعقول والنفوس) ، فانّها ليست مركّبة من

٢٦

__________________

مادّة وصورة.

٣ ـ وإمّا ان يكون واحدا بلحاظ الخارج ، كزيد من الناس ، فانّه وإن كان مركّبا من مادّة (وهي البدن) وصورة (وهي النفس الناطقة) ، إلّا انّه واحد خارجا ، وكذا الكتاب الفلاني والحائط ونحو ذلك.

الثاني : الواحد النوعي ، وقد يعبّر عنه الواحد بالنوع ، وهو عبارة عن الجامع (الكلّي) الحقيقي بين ذاتيّات افراده ، كالانسان بلحاظ زيد وعمرو ... او قل الانسان بالحمل الشائع الصناعي.

الثالث : الواحد العنواني ، وهو الجامع بين اعراض المصاديق بنحو الاشتقاق كالطويل والاسود ... او قل بنحو العرضي لا بنحو العرض (كالطول والسواد) ، وهذا الجامع ـ كما ترى ـ جامع عرضي لا حقيقي.

بعد ان عرفت إطلاقات كلمة «الواحد» نقول :

إنّ قاعدتي «الواحد لا يصدر إلّا من واحد» و «الواحد لا يصدر منه إلّا واحد» مرجعهما الى قاعدة واحدة وهي قاعدة «لزوم السنخيّة بين العلّة ومعلولها» ، بمعنى ان المعلول لا بدّ وان يسانخ علّته ، فهو ظلّ لها وشأن من شئونها.

(إن قلت) بناء على هذا فكيف صدر من الباري عزوجل وهو الواحد الاحد الكثير؟!

(قلت) قد يجاب على ذلك بانّ الجهة التي صدرت منها هذه الكثرة ليست هي «مقام الذات الاحديّة» ، فانّه ليس في هذا المقام تعدّد جهات ، وانّما هي «مقام الذات الواحديّة» وهو «مقام الأسماء والصفات» ، ومن هذا المقام خلق الله تبارك تعالى الصادر الاوّل الذي فيه جهة الامكان ، وبها افترق عن الواجب تعالى ، وفيه تعدّد الأسماء والصفات ، ثم صدر بواسطة الصادر الاوّل الصادر الثاني بتضييق حدود وجوده فتنزّل بذلك عن «مقام الوجود المنبسط» الذي هو مقام الصادر الاوّل ، وهكذا تتنزّل الوجودات ... الى ان يصل الصدور الى عالم المثال ثم الى عالم المادّة ... ومن هنا قالوا «اين

٢٧

بالشخص ، وواحد بالنوع وهو الجامع الذّاتي لافراده ، وواحد بالعنوان وهو الجامع الانتزاعي الذي قد ينتزع من انواع متخالفة. واستحالة صدور الواحد [كالغرض] من الكثير [كالادلة الاصولية المتغايرة] تختصّ بالاوّل (١) ، والغرض المفترض لكل علم ليست وحدته شخصيّة بل نوعيّة

__________________

التراب وربّ الأرباب» ، على انّه لا انفصال بين كل هذه الوجودات الطوليّة ، بل وجود الدانية منها قائم بوجود العالية ... (راجع في ذلك نهاية الحكمة والحكمة المتعالية وفصوص الحكم وغيرها من الكتب العقائديّة القيّمة).

وعلى أيّ حال فاستحالة صدور الواحد من الكثير تختصّ بالواحد الشخصي ومن جهة واحدة (راجع الاسفار ج ٢ ص ٨٢ ـ فما بعد وص ٢٠٤ ـ فما بعد) ، فمن اسم «المنتقم» يصدر الانتقام ، ومن اسم «الرحيم» تصدر الرحمة وهكذا ... وكذلك من جهة حركة يد زيد تحرّك ما في يده ومن جهة تنفّسه تحرّك الهواء ، وهذا لا يصدق على الغرض من علم الاصول فانّ وحدته ليست شخصيّة ، لانه يوجد لكل مسألة منه غرض خاص وهو مثلا في حجية خبر الثقة معرفة حجية خبر الثقة او عدمها وسعة دائرة هذا الحجيّة ، وهكذا في الاجماع ، فانّ الغرض منه معرفة حجيته أو عدمها ومدى سعة دائرة هذا الحجيّة ، وهكذا في سائر مسائل علم الاصول ، فغرض كل مسألة يغاير الغرض من المسألة الاخرى ، هذا التعدّد في الاغراض يكشف عن تعدّد المسائل وتغايرها ، وان «الاقتدار على الاستنباط» هو جامع نوعي او انتزاعي ـ لا شخصي ـ ذو جهات متعدّدة بتعدّد اغراض مسائل علم الاصول ، فلا تنطبق قاعدة الواحد هنا لاشتراط الوحدة البسيطة في هذه القاعدة ، ولم يبرهن على وجود قضيّة كليّة واحدة تكون بموضوعها جامعة حقيقة بين موضوعات المسائل وبمحمولها جامعة بين محمولاتها ، تنتج غرضا واحدا هو «القدرة على الاستنباط».

(١) بمعنى انه قد يصدر الغرض الواحد ـ بالوحدة العنوانية ـ من أدلة أصولية

٢٨

او عنوانيّة (١) ، فلا ينطبق برهان تلك الاستحالة في المقام (٢).

وهكذا يرفض بعض المحقّقين الدليل على وجود موضوع لكل علم ، بل قد يبرهن على عدمه بأنّ بعض العلوم تشتمل على مسائل موضوعها الفعل والوجود ، وعلى مسائل موضوعها الترك والعدم ، وتنتسب موضوعات مسائله الى مقولات ماهويّة واجناس متباينة ، كعلم الفقه الذي موضوع مسائله الفعل تارة والترك أخرى ، والوضع تارة والكيف أخرى ، فكيف يمكن الحصول على جامع بين موضوعات مسائله؟!

وعلى هذا الأساس استساغوا ان لا يكون لعلم الاصول موضوع غير انّك عرفت ان لعلم الاصول موضوعا كلّيا (*) [واحدا ولو بالوحدة العنوانية] على ما تقدّم (٣).

__________________

متغايرة إذن قد لا يوجد موضوع واحد جامع بين موضوعات الادلة الاصولية ولا بين نفس الأدلة

(١) هنا يجزم السيد الشهيد (قده) بتغاير موضوعات الادلة أو بتغاير نفس الأدلّة ، أي انه لا يوجد موضوع واحد كلّي جامع بين موضوعات الادلة ولا بين نفس الادلّة.

(٢) وانما قد تكون موضوعات المسائل الاصولية متعدّدة ومتغايرة جمع بينها وحدة الغرض ـ بالوحدة العنوانية ـ والنتيجة انه لا يوجد موضوع واحد كلي يجمع بين موضوعات الادلة الاصولية ولا بين نفس الادلّة.

(٣) لقد قلنا في بداية البحث انّ الموضوع الكلّي الذي نفاه المحقّقون

__________________

(*) كان الاولى ان يحذف كلمة «كلّيا» لانّ هذه الكلمة تعني ـ اصطلاحا ـ جامعا واحدا ينطبق على افراده ، وهو (قدس‌سره) لم يذكر هذا الجامع ، اي لم يقل هو الدليل المشترك

٢٩

__________________

هو الجامع الحقيقي بين موضوعات المسائل الاصوليّة ، إذ رأوا ان لا جامع حقيقيّ بين البراءة والاستصحاب ودلالة الامر بشيء على وجوب مقدّمته والنهي عن ضدّه وحالات التعارض وو ... ، وقد آمن السيد الشهيد رحمه‌الله بهذا الامر ، ولكنه رأى ان البحث انّما هو عن دليلية الادلّة الاصوليّة لا عن «الاستصحاب» و «البراءة» ونحوهما كمفاهيم اسمية مجرّدة ، وانما البحث عن انّ روايات «لا تنقض اليقين بالشك» مثلا هل تثبت لنا قاعدة الاستصحاب المدّعاة؟ فالبحث إذن عن اثبات دليليّة دليل الاستصحاب المدّعى او عدم دليليّته ، وهكذا الامر في سائر الابحاث الاصولية ، فهذه الادلّة المشتركة التي توصلنا الى غرضنا المطلوب وهو «القدرة على الاستنباط» هي محور دراسات علم الاصول وهي موضوعه ، وهذا يعني عدم وجود داعي لئن نجمعها في جامع حقيقي بان نقول بانّ موضوع علم الاصول هو الدليل المشترك الذي من شأنه ان يوصلنا الى غرضنا ، وانما يكفي ان نقول بان موضوع علم الاصول هو الادلّة المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة ، وإن كان يصح أيضا أن نقول بان موضوع علم الأصول هو الدليل المشترك في الاستدلال الفقهي ويكون المراد من الدليل المشترك بنحو الحمل الشائع الصناعي ، اي بنحو العنوان الجامع بين الادلة.

__________________

وانما قال هو «الادلة المشتركة» ، و «الادلة» ليست موضوعا كليّا جامعا بين موضوعات المسائل ولا بين نفس المسائل والادلّة.

وبعبارة أوضح : ما ذكره السيد الشهيد (قدس‌سره) ليس موضوعا لعلم الاصول ، انما هو إشارة الى وحدة الغرض في هذا العلم وهذا امر صحيح ومتسالم عليه. (ولا فائدة) ـ بعد موحّدية الغرض وصحّة النتيجة التي توصّل اليها سيدنا الشهيد ـ من هذا التطويل إذ ايّ فائدة من ان نعرف ان الغرض هنا شخصي او نوعي او عنواني ، او أن القضية الكلية ـ التي هي علّة هذا الغرض من جهة ومعلولته من جهة أخرى ـ هل جامعيّتها لمسائل علم الاصول شخصية او نوعية او عنوانية ، او ان الموضوع في علم الاصول هل هو الجامع بين موضوعات مسائله او هو القضيّة الكليّة الجامعة بين موضوعات مسائله ومحمولاتها؟! ..

٣٠

(الحكم الشرعي وتقسيماته)

الاحكام التكليفية والوضعيّة :

قد تقدّم في الحلقة السابقة ان الاحكام الشرعية على قسمين (١) :

__________________

(١) راجع إن شئت الكفاية ج ٢ ص ٣٠١ من طبعة المشكيني ، إذ قال فيها «لا خلاف ولا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما ، (*) واختلافهما في الجملة موردا لبداهة ما بين مفهوم السببيّة او الشرطيّة ومفهوم مثل الايجاب او الاستحباب من المخالفة والمباينة ...» ، وإن شئت ان تنظر في مصادر أخرى فانظر مثلا في الرسائل الجديدة ص ٣٤٥ ، اجود التقريرات ج ٢ ص ٣٨٢ ، ومصباح الاصول ج ٣ ص ٧٧ ..

__________________

(*) (أقول) لا شك في كون الشارع المقدّس يجري في التشريع للبشر على نسق يناسبهم ، فيعتبر اعتبارات معيّنة وهي ما يسمّى بالمبادئ التصوريّة ، هذه المبادئ التصوّرية (إمّا) ان تقع موضوعات في الجعل الشرعي وهي على أربعة أقسام :

١ ـ إمّا ان يعتبرها الشارع ليجعلها شرطا خاصّا في فعلية حكم كالحضر الذي هو شرط خاص في وجوب صلاة التمام والصيام ، فعرّفنا مراده من الحضر مثلا ليرتّب عليه وجوب الصيام وهكذا ..

٢ ـ وإمّا ان يعتبرها الشارع ليجعلها شرطا عامّا لفعلية الاحكام التكليفية كالبلوغ ، فعرّفنا مراده من البلوغ.

٣ ـ وإمّا يبيّن لنا نفس متعلّق الحكم كالصلاة والصيام والحج والبيع والاجارة والنكاح

٣١

__________________

والطلاق وشبهه والنذر واخويه وسائر العقود والايقاعات والحدود والرجم وو ...

فيبيّن لنا مراده من الطلاق مثلا ومراده من الصلاة وانها مركّبة من كذا وكذا ... ليرتب على ذلك ـ في مرحلة التكليف ـ احكاما تناسبها.

٤ ـ وامّا ان يبيّن لنا شرائط المتعلّق كالطهارة والستر (في الصلاة مثلا) ، فيعرّفنا ان الطهارة هي ـ مثلا ـ الاثر المترتب على الوضوء المركّب من كذا وكذا ...

(وامّا) ان تقع محمولات في الجعل الشرعي وهي على قسمين : (قسم) ناظر الى الحكم و (قسم) ناظر الى الاثر.

الاول فهو عبارة عن المفاهيم المحرّكة الخمسة المعروفة (وهي الوجوب والاستحباب والاباحة والكراهة والحرمة) ، وادخلنا الاباحة ضمنها لانها من عالمهم وإن لم تكن محرّكة حقيقة ، والامر سهل ، فاعتبر الشارع المقدّس ان الواجب والمحرّم لا يجوز مخالفتهما ويستحق العاصي عليهما العقاب ، بخلاف المستحب والمكروه والمباح.

وامّا الثاني فهو عبارة عن الصحّة والفساد الشرعيين ـ لا التكوينيين ـ اي الصحة والاكتفاء في نظر الشارع المقدّس وان كان ناقصا تكوينا ، وامّا الفاسد في نظر الشرع فهو فاسد تكوينا حتما لنقصانه ، ولا شك انك تعلم ان المراد بالصحة والفساد التكوينيين هو مطابقة المأتي به للمامور به تكوينا وعدم المطابقة.

(ثم في مرحلة الحكم) يحكم الشارع المقدّس فيقول مثلا «الصلاة واجبة» ، امّا تبيينه تعالى كيفية الصلاة والطهارة مثلا فهو امر يكون في مرحلة المبادئ التصورية.

ومن هنا تعرف ان مرتبة الحكم تغاير مرتبة التصوّر لان الحكم يكون في مرحلة التصديق ، فالحكم هو نسبة محمول الى موضوع يناسبه ، (وهي نسبة تعلقيّة من قبيل نسبة المعلول الى علّته) فما قد يتوهّمه البعض من ان كلمة «واجب» في قول المولى «الصيام واجب» حكم هو اشتباه وغفلة عما ذكرناه ، فليست كلمة «واجب» المجرّدة عن موضوعها ومع غضّ النظر عن غيرها هي حكم ، بل هي مفهوم اسمي تصوّري لا اكثر ، وانما الحكم هو «ترتّب الوجوب على الصيام» ، او قل «الصيام واجب» ، فالحكم إذن هو هذه النسبة الحكمية القائمة بين الموضوع والمحمول والتي يعبّر عنها ـ فى مثالنا ـ بثبوت الوجوب للصيام.

٣٢

أحدهما الاحكام التكليفية ، والآخر الاحكام الوضعيّة ، وقد عرفنا سابقا نبذة عن الاحكام التكليفية (١) ، وامّا الاحكام الوضعية فهي على نحوين :

الاوّل : ما كان واقعا موضوعا للحكم التكليفي كالزوجيّة (٢) الواقعة موضوعا لوجوب الانفاق ، والملكية الواقعة موضوعا لحرمة تصرّف الغير في المال بدون إذن المالك.

__________________

(١) فائدة : يقال في اللغة : التكليف هو الحمل والبعث على فعل شاقّ.

لكن توسّع علماؤنا في هذه اللفظة لاسباب معروفة ـ ذكروها في كتاب توضيح المراد ص ٥٨٠ وغيره ـ فاطلقوا لفظة «الاحكام التكليفية» على الاحكام الخمسة المعروفة «الوجوب الاستحباب الاباحة ...» ولا مشاحة في الاصطلاحات.

(٢) يقصد كحكم الله تعالى بالزوجية (لان الحكم الشرعي مركّب من مبتدأ وخبر) والملكية.

__________________

(اذا) عرفت هذا تعرف ان الاحكام الوضعية هي أيضا مبادئ تصديقية كحكم الشارع بالملكية والطهارة ونحوهما ، وهي المبادئ الناظرة الى موضوعات الاحكام التكليفية ، وان الاحكام التكليفية هي مبادئ تصديقية ، كترتيب وجوب النفقة على الحكم بالزوجية.

ويحسن ـ ونحن في هذا المقام ـ ان نذكّر الاخوة الطلبة أن قول الشارع مثلا «لا يجب الفحص عن النجاسة» ليس بحكم شرعي أيضا ، ذلك لانّ هذا يقبل الاستحباب والكراهة والاباحة ، فهو مهمل من هذه الجهة ، ولا اهمال في عالم الجعل ، بل في عالم الجعل كل الاحكام محدّدة ، لانّ الاهمال في عالم الجعل امّا يرجع الى الجهل وهو محال على المولى تعالى ، وإمّا الى نقص الشريعة وهو باطل عندنا ، واطلاقنا عليه احيانا حكما شرعيا انما يكون بسبب تحدّده من جهة ، وهي جهة مقابلته للوجوب ، وهذا الاطلاق ـ كما علمت ـ فيه تساهل ، فتأمّل.

٣٣

الثاني : ما كان منتزعا عن الحكم التكليفي ، كجزئية السورة للواجب المنتزعة عن الامر (*) بالمركّب منها [ومن غيرها] ، وشرطيّة

__________________

(*) الصحيح ان هذه المفاهيم الانتزاعية التابعة للقسم الثاني منتزعة من نفس المركّب ، كما ننتزع جزئيّة الآجر من الجدار تماما ، وشرطية كون الآجر على بعضه البعض ليتشكل الجدار ومثل الجزئية والشرطية المانعية والقاطعية ، كمانعيّة كون اللباس ماخوذا من الميتة للصلاة ، وقاطعية الكلام عمدا لها ، فانّ كلّ هذه الانتزاعات ينتزعها الذهن من المركّب ، ولا يمكن جعلها بنحو الاستقلال ، لانّها عناوين انتزاعية كانتزاع العناوين الاضافية من طرفين كالابوّة والبنوّة والتحتيّة والفوقيّة ونحو ذلك من الوجودات الانتزاعية الّتي لا وجود استقلالي لها إلّا في صقع انتزاعها وهو ذهن المنتزع.

اما إذا اردت ان تنتزع جزئية السورة للواجب فانّك تحتاج الى امر بالمركّب في المرحلة الاولى ، ثم تنتزع من هذا الواجب جزئية السورة للواجب وشرطية الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر ... الخ

(ان قلت) لا قيمة لأي مركّب اعتباري ـ كالصلاة ـ إن لم يترتّب عليه حكم ، ولذلك قال هنا السيد الشهيد رحمه‌الله «كجزئية السورة للواجب المنتزعة عن الامر بالمركّب منها ومن غيرها» ،

(قلت) عدم القيمة شيء وامكان تصوّر مركّب اعتباري ـ مع غضّ النظر عن ترتب حكم عليه ـ وانتزاع الجزئية منه أمر آخر.

(إذن) كان الاولى لسيدنا المصنّف (قدّس الله روحه) ان يقول : الثاني : ما كان منتزعا عن متعلّق الحكم التكليفي ، كجزئية السورة للواجب المنتزعة عن المركّب المأمور به ... الخ وتجدر الاشارة هنا الى التداخل احيانا بين معنيي السبب والشرط ، فقد يتداخلان كليّا فيتّحدان كما في قولنا «اذا نجح زيد فاكرمه» ، وقد يتداخلان جزئيا تداخل الكل مع جزئه كما في قولنا «اذا كان العالم عادلا فاكرمه» فالعدالة شرط ، ولكن السبب في وجوب الاكرام هو مجموع العلم والعدالة وهو المعبّر عنه في هذه الحالة بالعلّة ، وقد يقولون العلم هنا مقتض لوجوب الاكرام والعدالة شرط وذلك مربوط بنظر المعتبر ، وليس هاهنا

٣٤

الزوال للوجوب المجعول لصلاة الظهر المنتزعة عن جعل الوجوب المشروط بالزوال.

ولا ينبغي الشك في ان القسم الثاني ليس مجعولا للمولى بالاستقلال (١) ، وانما هو منتزع عن جعل الحكم التكليفي ، لانّه مع جعل الامر بالمركّب من السورة وغيرها يكفي هذا الامر التكليفي في انتزاع عنوان الجزئية للسورة (*) وبدونه لا يمكن ان تتحقق الجزئية للسورة بمجرّد انشائها وجعلها مستقلّا.

__________________

(١) إلّا اذا رجعت هذه الاحكام الانتزاعية الى الاحكام الاستقلالية وكانت عبارة أخرى عنها ، كسببيّة الغليان لحرمة العصير العنبي التي مرجعها الى قضيّة «إذا غلى عصير العنب فقد حرم» ، ولا كلام في هذا الفرض لوضوحه أوّلا ، ولكونه يرجع الى عالم الألفاظ ثانيا وليس كلامنا في عالم الالفاظ ، فالاحكام الشرعية غير محدّدة في علم الباري تعالى بقوالب هذه الألفاظ العربية ، وانّما هي موجودة بمعانيها ، ولذلك يجوز لك ان تنقل الروايات بمعانيها إن استطعت ان تؤدّي تمام معانيها بالفاظ أخرى. وقد يستفاد من هذا الكلام مقدّمة على طريق القول بعدم توقيفية ألفاظ العقود والايقاعات كالزّواج والطلاق ما لم يعلم بالتوقيفية كما في الصلاة.

__________________

محل بیانه کما قد یقال عن ارادة الطرفین للزواج واتفاقهما علی ذلک واجراء العقد انها مقض للزواج ویعتبرون عن اذن والد المرأة بالشرط ، والمجموع هو سبب الزوجة او قل علّة الزوجیة، والامر سهل لانه في علام الاصطلاحات.

(*) في النسخة الاصلية قال بدل «للسورة» «للواجب من السورة» وبدل «للسورة» الثانية «للواجب» وما اثبتناه اولى.

٣٥

وبكلمة أخرى إن الجزئية للواجب من الامور الانتزاعية الواقعية وإن كان وعاء واقعها هو عالم جعل الوجوب ، فلا فرق بينها وبين جزئية الجزء للمركّبات الخارجية من حيث كونها امرا انتزاعيا واقعيا ، وإن اختلفت الجزئيّتان في وعاء الواقع ومنشأ الانتزاع ، وما دامت الجزئية امرا واقعيا فلا يمكن ايجادها بالجعل التشريعي والاعتبار (*).

وأمّا القسم الاوّل فمقتضى وقوعه موضوعا للاحكام التكليفية عقلائيا وشرعا (١) هو كونه مجعولا بالاستقلال لا منتزعا عن الحكم التكليفي ، لأنّ موضوعيّته للحكم التكليفي تقتضي سبقه عليه رتبة مع ان انتزاعه يقتضي تأخّره عنه.

وقد تثار شبهة لنفي الجعل الاستقلالي لهذا القسم ايضا بدعوى انّه لغو ، لانّه بدون جعل الحكم التكليفي المقصود لا اثر له ، ومعه لا حاجة الى الحكم الوضعي ، بل يمكن جعل الحكم التكليفي ابتداء على نفس

__________________

(١) «عقلائيّا وشرعا» متعلّقان ب «وقوعه» ، امّا وقوعه موضوعا للاحكام التكليفية عقلائيا فكحرمة تصرّف المكلف بمال غيره إلا باذنه ، فانّ ممنوعية التصرّف باموال الآخرين واضح حتّى عند غير المتدينين باىّ دين سماوي فهذه الحرمة هي حرمة عقلائية امضاها الشارع المقدّس لكن ضمن حدود معيّنة ... ، وامّا وقوع الاحكام الوضعية موضوعا للاحكام التكليفية شرعا فكحرمة الجمع بين الاختين ، فانّ هذه الحرمة عرفناها من خلال الشرع وليست واضحة عند العقلاء.

__________________

(*) ومعنى ذلك ان الاحكام الوضعية هو القسم الاوّل فقط.

٣٦

الموضوع (١) الذي يفترض جعل الحكم الوضعي عليه.

والجواب على هذه الشبهة انّ الاحكام الوضعية التي تعود الى القسم الاوّل اعتبارات ذات جذور عقلائية ، الغرض من جعلها تنظيم الاحكام التكليفية وتسهيل صياغتها التشريعية (٢) فلا تكون لغوا.

__________________

(١) اي عقد البيع او النكاح

(٢) يقصد (قدس‌سره) تسهيل صياغتها التشريعية بالنسبة لنا لا بالنسبة الى الشارع المقدّس. تفصيل ذلك ، لقد اوضح لنا الشارع المقدّس انّه اذا قالت المرأة للرجل زوجتك نفسي بكذا ، وقال الرجل قبلت ، فانّ النكاح يحصل ، ويترتّب على النكاح وجوب نفقة الرجل على المرأة ووجوب تمكين الزوجة الى ما هنا لك من آثار ، فالذي حصل هنا هو امران : الاوّل «إذا قالت المرأة للرجل (كذا) واجابها الرجل (بكذا) فقد حصل الزواج بينهما» ، والثاني «اذا حصل الزواج ترتّبت الاحكام المعروفة».

فهنا قضيّتان : الاولى ناظرة الى عقد الوضع ، او قل الى موضوع الاحكام الشرعية وهو الزواج ، والثانية تكليفية ، كوجوب النفقة المترتّبة على الامر الاوّل وهو حصول الزواج ، فالشارع المقدّس يعلّمنا اوّلا كيف يحصل النكاح والطلاق والنذر والملكية مما تعتبر مواضيع للاحكام التكليفية المترتّبة ، هذه الاحكام التي تعلمنا كيفية حصول هذه المواضيع تسمّى بالاحكام الوضعية لانها ناظرة الى عقد الوضع من الاحكام التكليفية (اي الى مواضيع الاحكام التكليفية) ، فالاحكام الوضعية هي مواضيع الاحكام التكليفية ، فمن حاز ملك ارشاد الى الملكية في نظر الشارع لا انّها حكم ينجّز ويعذّر. وبعد هذا تعرف الجواب على مسألة هل ان الشارع المقدس رتّب الاحكام التكليفية من وجوب النفقة على الزوجة على العقد ام على

٣٧

__________________

الزوجية المترتّبة على العقد ولو في نظر العقلاء ، بانّ الصحيح هو الثاني لانّ الشارع المقدّس يكلم العقلاء بحسب ارتكازاتهم ، ومن ارتكازاتهم الضرورية ترتيب الاحكام التكليفية على الحكم بالزوجية والملكية ونحوهما ، وان العقد ما هو الّا طريق لحصولهما ، وعلى ايّ حال فالاثر المترتّب على هذا البحث هو انه إن ثبت ان موضوع وجوب النفقة على الزوجة مثلا هي الزوجية في علم الباري تعالى فسيصحّ لا محالة استصحابها ، ويكفينا في اثبات صحّة استصحاب الزوجية وجود لفظة زوج او زوجة في لسان الشارع ، وكذا الامر في غير الزوجية. (راجع المصباح ج ٣ ، ص ٨٨).

٣٨

شمول الحكم للعالم والجاهل

واحكام الشريعة ـ تكليفية ووضعيّة ـ تشمل في الغالب (١) العالم بالحكم والجاهل على السواء ، ولا تختصّ بالعالم ، وقد ادّعي ان الاخبار الدّالة على ذلك مستفيضة (٢) ، ويكفي دليلا على ذلك إطلاقات ادلّة تلك الاحكام ، ولهذا اصبحت قاعدة اشتراك الحكم الشرعي بين العالم والجاهل موردا للقبول على وجه العموم بين اصحابنا ، إلّا إذا دلّ دليل خاص على خلاف ذلك في مورد (٣).

وقد يبرهن على هذه القاعدة عن طريق اثبات استحالة اختصاص

__________________

(١) نعم في موارد قليلة جدّا كما في القصر والتمام والجهر والاخفات ترى ان هذين الحكمين يشملان خصوص العالمين بالجعل.

(٢) نقل الشيخ المظفّر ص ٣٣ عن الشيخ الانصاري وصاحب الفصول «انّ اخبارنا متواترة معنى في اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل ... (ثم قال) وهو كذلك» ، وذكر غيرهم ايضا التواتر ، وقال السيد الخوئي «ويكفي في بطلان القول بالتصويب ـ مضافا الى الاجماع والاخبار الكثيرة الدّالة على انّ لله حكما في كل واقعة يشترك فيه العالم والجاهل ـ نفس إطلاقات أدلّة الاحكام (اي اطلاقها من قيد العلم بها) ، فانّ مقتضى إطلاق ما يدلّ على وجوب شيء او حرمته ثبوته في حقّ من قامت عنده الامارة على الخلاف أيضا».

(٣) كما في القصر والتمام والجهر والاخفات.

٣٩

الحكم بالعالم ، لانّه يعني ان العلم بالحكم قد أخذ في موضوعه ، وينتج عن ذلك تاخّر الحكم رتبة عن العلم به وتوقفه (١) عليه ، وفقا لطبيعة العلاقة بين الحكم وموضوعه.

ولكن قد مرّ بنا في الحلقة السابقة ان المستحيل هو اخذ العلم بالحكم المجعول في موضوعه ، لا أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم المجعول فيه (٢).

ويترتّب على ما ذكرناه من الشمول ان الأمارات والاصول التي يرجع اليها المكلّف الجاهل في الشبهة الحكمية او الموضوعية قد تصيب الواقع وقد تخطئ. فللشارع إذن احكام واقعيّة محفوظة في حقّ الجميع ، والادلّة والاصول في معرض الاصابة والخطأ ، غير ان خطأها مغتفر ، لانّ الشارع جعلها حجّة ، وهذا معنى القول بالتخطئة.

وفي مقابله ما يسمّى بالقول بالتصويب ، وهو انّ احكام الله تعالى هي ما يؤدّي اليه الدليل والاصل ، ومعنى ذلك انّه ليس لله من حيث الاساس احكام ، وانّما يحكم تبعا للدليل او الاصل ، فلا يمكن ان يتخلّف الحكم الواقعي عنها.

وهناك صورة مخفّفة للتصويب (٣) مؤدّاها ان الله تعالى له احكام واقعية ثابتة من حيث الاساس ، ولكنها مقيّدة بعدم قيام الحجة من امارة

__________________

(١) اي توقف الحكم على العلم.

(٢) اصطلاح «الجعل والمجعول» وان المجعول بمعنى الحكم الفعلي اصطلاح معروف على السنة الاصوليين كالمحقق النائيني وغيره.

(٣) ذكر هذين المذهبين في تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ، ص ١٦٢ ، وقد نسب القول الاول للاشاعرة والثاني للمعتزلة.

٤٠