دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

فالجواب المذكور في افتراضه المصلحة في نفس الجعل غير تام ، ولكنه في افتراضه انّ الحكم الظاهري لا ينشأ من مبادئ في متعلّقه بالخصوص تام ، فنحن بحاجة اذن في تصوير الحكم الظاهري الى افتراض انّ مبادئه ليس من المحتوم تواجدها في متعلّقه بالخصوص لئلا يلزم التضادّ ، ولكنها في نفس الوقت ليست قائمة بالجعل فقط لئلّا يلزم تفريغ الحكم الظاهري من حقيقة الحكم ، وذلك بان نقول : انّ مبادئ الاحكام الظاهرية هي نفس مبادئ الاحكام الواقعية (*).

توضيح ذلك انّ كل حرمة واقعية لها ملاك اقتضائي ـ وهو المفسدة والمبغوضية القائمتان بالفعل ـ وكذلك الامر في الوجوب. وامّا الإباحة فقد تقدم في الحلقة السابقة ان ملاكها قد يكون اقتضائيا وقد يكون غير اقتضائي لانّها قد تنشأ من وجود ملاك في ان يكون المكلّف مطلق العنان ،

__________________

(*) الاهمّ. وهذا نفس كلام السيد الخوئي ص ٩٣ سطر ٢ ، ... اذ يقول : «ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميّز واجد المصلحة عن غيره تحفظا على تلك المصلحة الموجودة في البعض. وقد وقع نظير هذا الحكم في الشرع المقدّس ويقع في العرف كثيرا. امّا في الشرع فكتشريع العدّة ، فان المصلحة فيه ـ وهي حفظ الانساب وعدم اختلاط المياه ـ وان لم تكن مطّردة في جميع موارد وجوبها ، الا انّ الشارع قد شرّعها بنحو العموم تحفّظا على تلك المصلحة المهمّة الموجودة في بعض الموارد ، فاكتفى في تشريع العدّة بوجود المصلحة النوعية وليس دائرا مدار المصلحة الشخصية. وامّا في العرف فكثيرا ما يتفق ذلك ، كما اذا علم المولى بانّ احدا يريد قتله في يوم معيّن فيأمر عبده بان لا يأذن لاحد في الدخول عليه في ذلك اليوم ، تحفظا على عدم دخول من يريد قتله ...».

٦١

وقد تنشأ من خلوّ الفعل المباح من اي ملاك. وعليه فاذا اختلطت المباحات بالمحرّمات ولم يتميّز بعضها عن البعض الآخر (* ١) لم يؤدّ ذلك الى تغيّر في الاغراض والملاكات والمبادئ للاحكام الواقعية ، فلا المباح بعدم تمييز المكلّف له عن الحرام يصبح مبغوضا ولا الحرام بعدم تمييزه عن المباح تسقط مبغوضيّته ، فالحرام على حرمته (* ٢) واقعا ولا يوجد فيه سوى مبادئ الحرمة ، والمباح على اباحته ولا توجد فيه سوى مبادئ الاباحة ، غير انّ المولى في مقام التوجيه للمكلّف الذي اختلطت عليه المباحات بالمحرّمات بين امرين : فاما ان يرخّصه في ارتكاب ما يحتمل اباحته ، واما ان يمنعه عن ارتكاب ما يحتمل حرمته ، وواضح ان اهتمامه بالاجتناب عن المحرّمات الواقعية يدعوه الى المنع عن ارتكاب كل ما يحتمل حرمته ، لا لانّ كل ما يحتمل حرمته فهو مبغوض وذو مفسدة ، بل لضمان الاجتناب عن المحرّمات الواقعية الموجودة ضمنها ، فهو منع ظاهري ناشئ من مبغوضيّة المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها ، وحينئذ (* ٣) (فان) كانت الاباحة في المباحات الواقعية ذات ملاك لا اقتضائي فلن يجد المولى ما يحول دون اصدار المنع المذكور ، وهذا المنع سيشمل الحرام الواقعي والمباح الواقعي ايضا اذا كان محتمل الحرمة للمكلّف ، وفي حالة شموله للمباح الواقعي لا يكون

__________________

(* ١) ليس في النسخة الاصلية كلمة الآخر ، واثباتها أولى.

(* ٢) ولك ان تجعل بدل «حرمته» «مبغوضيّته» ، لانّ الكلام حول تغيّر المبادئ عند الجهل بالأحكام.

(* ٣) في النسخة الاصلية بدل حينئذ «وفي مقابل ذلك» ، وهو سهو من قلمه الشريف.

٦٢

منافيا لاباحته ، لانّه ـ كما قلنا ـ لم ينشأ عن مبغوضية نفس متعلّقه ، بل عن مبغوضيّة المحرّمات الواقعية والحرص على ضمان اجتنابها.

(وأمّا) اذا كانت الاباحة الواقعية ذات ملاك اقتضائي فهي تدعو ـ خلافا للحرمة ـ الى الترخيص في كل ما يحتمل اباحته ، لا لانّ كل ما يحتمل اباحته ففيه ملاك الاباحة ، بل لضمان اطلاق العنان في المباحات الواقعية الموجودة ضمن محتملات الاباحة ، فهو ترخيص ظاهري ناشئ عن الملاك الاقتضائي للمباحات الواقعية والحرص على تحقيقه. وفي هذه الحالة يزن المولى درجة اهتمامه بمحرّماته ومباحاته ، فان كان الملاك الاقتضائي في الإباحة اقوى واهمّ رخّص في المحتملات ، وهذا الترخيص سيشمل المباح الواقعي والحرام الواقعي اذا كان محتمل الاباحة ، وفي حالة شموله للحرام الواقعي لا يكون منافيا لحرمته ، لانّه لم ينشأ عن ملاك للاباحة في نفس متعلّقه (١) ، بل عن ملاك الاباحة في المباحات الواقعية والحرص على ضمان ذلك الملاك (*). واذا كان ملاك

__________________

(١) وهو ـ على سبيل المثال ـ الخمر الواقعي المجهول الحقيقة عند المكلّف ، فتجري فيه البراءة ، لا لوجود ملاك الاباحة في الخمر الواقعي ، بل شرّع الشارع المقدّس البراءة فيه لاهميّة الملاك الاقتضائي للاباحة على ملاك الحرمة.

__________________

(*) (أقول) ما ندركه من سبب تشريع البراءة هو التسهيل على المكلّفين وعدم وقوعهم في الحرج ، دلّ على ذلك ما ورد في الشريعة من رفع الحرج وان الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث «بالشريعة السهلة السمحاء» أ. وهذا التوجيه اقرب في النظر من التوجيه الذي ذكره السيد الشهيد (قدس‌سره) وانسب بادلّة قاعدة البراءة ، وهذه مصلحة غير موجودة في نفس الفعل المباح ، وانّما هي خارجه ، وح لا يختلف الحال سواء أكان ملاك الإباحة

٦٣

المحرّمات الواقعية اهمّ منع من الاقدام في المحتملات ضمانا للمحافظة على الاهم.

وهكذا يتّضح انّ الاحكام الظاهرية خطابات تعيّن الاهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلّب كلّ نوع منها الحفاظ عليه (١) بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر (*).

وبهذا اتّضح الجواب على الاعتراض الثاني وهو انّ الحكم الظاهري (٢) يؤدّي الى تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ، فانّ الحكم

__________________

(١) اي الحفاظ على نفسه بنحو ينافي ما يتطلّبه النوع الآخر.

(٢) ان لم يطابق الحكم الواقعي الذي هو محلّ الكلام والاشكال.

__________________

في الفعل اقتضائيا ام غير اقتضائي ، إلّا ان يكون مراده هذا الوجه لكنه لم يتّضح منه ذلك لا في الحلقات ولا في تقريرات السيد الهاشمي.

(*) قلنا انه لا يمكن الجزم بما افاده السيد الشهيد من التعليل لتشريع البراءة ، نعم يصح ذلك في غيرها من الاحكام الظاهرية ، فمن المستبعد ان يكون السبب في تشريع البراءة هو اهمية الملاكات الترخيصية على الملاكات الالزامية ، الّا ان يكون مراده ما ذكره المحقق النائينى والسيد الخوئي رحمهما‌الله تعالى من انّ سبب تشريعها هو التسهيل على المكلّفين ، فانّ مراعاته في نظر الشارع اهم من مراعات الملاكات الالزامية الغير مهمّة ، ولو لترتّب الحرج على كثرة الاحتياط ، او لندرة وجود احكام الزامية مجهولة عندنا مع قدرة المعصومين (عليهم‌السلام) على البيان طيلة أكثر من ثلاثة قرون ... وعلى أيّ حال فانّه يحتمل ان يكون مراد السيد الشهيد رحمه‌الله من الملاكات الترخيصية ما يشمل مصلحة التسهيل على المكلّفين فتتّحد تقريبا الآراء ح.

__________________

(أ) على ما ينقل ذلك علماؤنا كالسيد البجنوردي في قواعده ، ولم اعرف مصدرها ، الّا انّه يوجد في كنز العمال ، ج ٦ ، ح ١٧٢١ ، ص ١١١ انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بالحنفية السمحة.

٦٤

الظاهري وان كان قد يسبّب ذلك ولكنّه انّما يسبّبه من اجل الحفاظ على غرض اهمّ.

شبهة عدم تنجّز الواقع المشكوك (*) :

وامّا الاعتراض الثالث فقد اجيب عنه (١) بانّ تصحيح العقاب على التكليف الواقعي الذي اخبر عنه الثقة ـ بلحاظ حجّية خبره (٢) ـ لا ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لانّ المولى حينما يجعل خبر الثقة حجّة يعطيه صفة العلم والكاشفية اعتبارا ـ على مسلك الطريقية المتقدّم ـ ، وبذلك يخرج التكليف الواقعي عن دائرة قبح العقاب بلا بيان ، لانّه يصبح معلوما بالتعبّد الشرعي ، وان كان مشكوكا وجدانا.

ونلاحظ على ذلك انّ هذه المحاولة ـ اذا تمّت ـ فلا تجدي في الاحكام الظاهرية المجعولة في الاصول العملية غير المحرزة كاصالة الاحتياط ، على ان المحاولة غير تامّة كما يأتي (٣) ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) هذا الجواب ذكره السيد الخوئي فى مصباحه ، ج ٢ ، ص ٣٧.

(٢) اي مع لحاظ حجيّة خبره.

(٣) بعد بضع صفحات تحت عنوان «وظيفة الاحكام الظاهرية» ص ٨٠ من ان الاحكام الظاهرية طرق ووسائل لتسجيل الحكم الواقعي المجهول ، ولذلك اذا خالف المكلّف الحكم الظاهري وصادف انه خالف الحكم الواقعي فهو يستحقّ العقاب على مخالفته للحكم.

__________________

(*) في النسخة الاصلية «شبهة تنجّز الواقع المشكوك» ، والاولى ما اثبتناه ، وذلك لان متعلّق الشبهة والتوهم هو عدم تنجّز الواقع المجهول بالاحكام الظاهرية.

٦٥

__________________

الواقعي وان كان مجهولا ، لوصول الحكم الواقعي حينئذ اليه بطريق معتبر شرعا بامارة او باستصحاب او باحتياط(*). وبتعبير آخر :

يحكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة الحكم الظاهري وهذا صحيح ايضا ـ لكن لا بنحو الجمع بين العقاب على مخالفة الحكم الواقعي والعقاب على مخالفة الحكم الظاهري كما هو واضح ـ وذلك لكون الظاهري طريقا الى الواقع ، ومبادئهما واحدة ، راجع إن شئت ص ٨٠.

__________________

(*) وما نراه جوابا موجزا على الاشكالات الثلاثة المتقدمة هو :

١ ـ انه لا يوجد تضادّ بين الاحكام الواقعية المجهولة والاحكام الظاهرية ، وذلك لاختلاف رتبهم ، فانّ الاولى ستكون فعلية فقط لانّ هذه المرتبة معلولة لما قبلها من الملاك والجعل ... وقد اوضحنا الامر أكثر في طيّات هذا الكتاب انظر مثلا اواخر تعليقتنا المطوّلة على مسألة «شمول الحكم للعالم والجاهل» ص ٣٩ ، ولا تنجيز فيها لعدم العلم بها ، والثانية لا تكون إلا منجزة او معذرة ولا فعلية لها لانها ليست ناشئة من ملاك في متعلقها ، والتّضاد لا يتم إلا مع وحدة الرتب كما هو واضح.

٢ ـ إنه وان سوف يقع المكلّف في بعض المفاسد في بعض الحالات الّا انّ في تشريع الاحكام الظاهرية مصالح اقوى واهمّ من هذه المفاسد ، وذلك بالبيان المتقدّم من سيدنا المصنف رحمه‌الله.

٣ ـ ان المراد من قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» العقلية هو انه يقبح العقاب بلا اعلام مطلقا لا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري في حال الجهل بالحكم الواقعي ، اي يقبح العقاب بلا بيان أصلا ، وامّا اعلام الشارع المقدّس لنا بالحكم الظاهري في حال جهلنا بالواقعي فهو اعلام وبيان ، وبذلك يصحّ العقاب. (نعم) لا يصحّ العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول ـ في حال مصادفة اتفاق الحكم الظاهري مع الواقعي ـ وذلك لانّ الانسان انما يكلّف ـ عقلا ـ ويستحق العقاب على ما وصله ، ولا ربط له بالتكليف الواقعي ولذلك لو كان معتقدا ان ما يشربه خلّا فبان بعد شربه انه خمر فان العقل يحكم بعدم استحقاق العقاب.

٦٦

والصحيح انه لا موضوع لهذا الاعتراض على مسلك حقّ الطاعة ، لما تقدّم من انّ هذا المسلك المختار يقتضي انكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.

وقد تلخّص ممّا تقدّم ان جعل الاحكام الظاهرية ممكن (١).

__________________

(١) وقد سمّى كيفية هذا الجعل في أبحاث خارجه بالطريقية الصرفة في مقابل القول بالسّببية وغيرها من الاقوال الستّة ، راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ، ص ١٦٢

٦٧

(الامارات والاصول)

تنقسم الاحكام الظاهرية الى قسمين :

أحدهما : الاحكام الظاهرية التي تجعل لاحراز الواقع (١) ، وهذه الاحكام تتطلّب وجود طريق ظنّي (٢) له درجة كشف عن الحكم الشرعي (٣) ، ويتولّى الشارع الحكم على طبقه بنحو يلزم على المكلّف التصرف بموجبه ، ويسمّى الطريق بالامارة (٤) وتسمّى حجية

__________________

(١) أي أغلب الاحكام الواقعية على ما صرّح (قده) في البحث السابق

(٢) اي غالبا خبر الثقة يصيب الواقع.

(٣) الواقعي ، وقد تكون درجة الكشف الظنيّة بلحاظ مجمل الامارات اي على نحو المجموع لا على نحو العموم الاستغراقي اي كل خبر خبر.

ثم ان المراد من كلمة «طريق ظنّي» هنا هو بلحاظ السند ، ومن «له درجة كشف ...» هو بلحاظ الدلالة ، فان موضوع الحكم الظاهري إمّا ان يكون المظنون الصدور (كخبر الثقة) وإمّا ان يكون المظنون الدلالة (كأن لا يكون صريحا ، وانما يكون له ظهور فقط) ، وامّا ان يكون ظنّي السند والدلالة. أمّا إن كان قطعي السند والدلالة كأن كان آية قرآنية مثلا تدل بصراحة على الحكم ، فهنا لا يكون هذا الدليل إلّا كاشفا عن الحكم الواقعى ، مثل (... وينهى عن الفحشآء والمنكر والبغى ...) و (إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ...).

(٤) إنّ مراد العلماء من قولهم «خبر الثقة امارة» هو خبر الثقة من حيث

٦٨

الطريق (١) بالحكم الظاهري (٢) ، فيقال مثلا «حجية خبر الثقة حكم ظاهري».

والقسم الآخر : الاحكام الظاهرية التي تجعل لتقرير [أي لتشريع] الوظيفة العملية تجاه الحكم المشكوك ، ولا يراد بها احرازه ، وتسمّى بالاصول العملية (٣).

__________________

دلالته وصدوره ، فظهور خبر الثقة امارة ، والظهور امارة سواء كان ظهور رواية ام آية.

(وعلى ايّ حال) فحجيّة الظهورات حكم ظاهري ، وحجيّة خبر الثقة حكم ظاهري ، وكذلك حجية الاجماع وو ... فالظهورات واخبار الثقات والاجماعات ونحوها طرق ظنيّة لها درجة كشف ـ ولوالى حدّ ما ـ عن الحكم الشرعي الواقعي ، فهي طرق توصلنا الى الواقع غالبا اي تصيب الواقع غالبا ، وإلا لما اعتبرها الشارع المقدّس حجّة

(١) سواء كان هذا الطريق ظهورا او سند ثقات او اجماع او شهرة او غير ذلك.

(٢) في النسخة الاصلية هكذا «وسمّى الحكم الظاهري بالحجية من قبيل حجية خبر الثقة» ، وما اثبتناه افصح. ولا بأس في هذا المجال بمراجعة اصول فقه المظفّر ج ٣ ، ص ١٢ بحث معنى الحجيّة.

(٣) قد يظنّ بعض الطلبة ان مؤدّى خبر الثقة الذي جعله المولى تعالى حجّة هو حكم ظاهري ، وهذا اشتباه ، والصحيح ان الحكم الظاهري هو «خبر الثقة حجّة» بمعنى انه لو اخبر ثقة عن الامام بان غسل الجمعة واجب ـ مثلا ـ فانّ «غسل الجمعة واجب» ليس حكما ظاهريا ، وانما يكون هذا المؤدّى منجّزا علينا بمقتضى جعل «الحجيّة» لخبر الثقة ، وأمّا الحكم الظاهري هنا فهو «حجيّة خبر الثقة».

٦٩

ويبدو من مدرسة المحقق النائيني (قدس‌سره) التمييز بين هذين القسمين على أساس ما هو المجعول الاعتباري في الحكم الظاهري (١) ، فان

__________________

وكذلك الامر بالنسبة الى الاصول العملية فانّ طهارة الثوب الثابتة بالاستصحاب مثلا ليست حكما ظاهريا ، وانما هذه الطهارة هي نتيجة الاستصحاب ، وقاعدة الاستصحاب هي الحكم الظاهري الذي شرّعه الله تعالى وجعله في اللوح المحفوظ.

(١) يظهر ذلك من قول المحقّق في اجود التقريرات ج ٢ ص ١٢ «وانما نظر الشارع الى اعطاء صفة الطريقية والكاشفية للامارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزا تشريعيا» (*). واشار اليه فى المصباح ج ٢ ، ص ١٠٥ وشرحه مفصلا في تقريرات السيد الهاشمي ج ٦ ، ص ١٧٥ فما بعد.

__________________

(*) في الحقيقة انّ من يطالع مجموع ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله يجد انّه لا يفرّق بين الامارات والاصول بكيفية صياغة الجعل فقط ، وانما يؤمن بوجود فرق ذاتي بينهما وهو ان يكون المورد المعطى له صفة الطريقية والكاشفية قابلا لذلك بان يكون له كاشفية عن الواقع في الجملة ولو نوعا ... وانّ السبب في جعل الاحتياط ـ مثلا ـ هو طريقي «لرعاية الحكم الواقعي المشكوك من جهة عدم امكان استيفاء نفس الغرض الواقعي ...» (ص ١١ ـ ١٢ و ٨٤ من اجود التقريرات ج ٢) ، نعم هذه التفرقة لا تفي بجعل مثبتات الامارة حجّة ، بل هناك فرق اعمق مما ذكره (قدس‌سره). ثم يضيف المحقّق النائيني قائلا ـ ص ٦٦ ـ «لو كان حكم الشارع بوجوب ما ادّت الامارة الى وجوبه او بحرمة ما ادّت الى حرمته حكما واقعيا فلا بدّ وان ينشأ عن ملاك ملزم يقتضيه كما هو الحال في بقية الاحكام الالزاميّة على ما هو التحقيق عندنا من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وأمّا اذا كان حكما ظاهريّا ناشئا من تحفّظ الشارع على احكامه الواقعيّة الموجودة في جملة من موارد الطرق الغير عمليّة (أي الامارات) الغير ممتازة عن موارد خطئها فلا يلزم كونه ناشئا عن ملاك ملزم في كل مورد مورد ، بل يكفي

٧٠

كان المجعول هو الطريقية والكاشفية دخل المورد في الامارات ، واذا لم يكن المجعول ذلك وكان الجعل في الحكم الظاهري متّجها الى انشاء الوظيفة العملية دخل (١) في نطاق الاصول ، وفي هذه الحالة اذا كان انشاء الوظيفة العملية بلسان تنزيل مؤدّى الاصل منزلة الواقع في الجانب العملي او (٢) تنزيل نفس الاصل او الاحتمال المقوّم له منزلة اليقين في جانبه العملي

__________________

(١) اي الحكم الظاهري

(٢) الفرق بينهما انّ الاوّل ـ ومثاله قاعدة الطهارة ـ ينزّل المشكوك الطهارة منزلة الطاهر واقعا على ما تبنّاه صاحب الكفاية والامام الخميني (قدهما) ، وامّا الثاني فمثاله قاعدة الاستصحاب بناء على فهمها بانها اصل محرز ، ومفادها حينئذ ان ينزّل الشارع الاحتمال المقوّم للاصل منزلة اليقين فنزّل احتمالك للبقاء على الطهارة منزلة انّك متيقّن بذلك ، لكن ايضا بلحاظ الجنبة العملية لا بلحاظ الجنبة الاحرازية ، لانّ الاخيرة مختصة بالامارات التي تدّعي الاحراز والكاشفية ، ففي هذه الامارات ينزّل الشارع المقدّس الاحتمال منزلة اليقين بلحاظ الجنبة الاحرازية ، او قل في الامارات يكون الشخص قد

__________________

وجود الملاك في جعل نوعها حجّة ، وهذا نظير ما ذكرناه سابقا من ان مصلحة حفظ الانساب وعدم اختلاط المياه اقتضت جعل العدّة ، ولكنّا نعلم من الخارج عدم توقّفه في بعض الموارد عليها ، إلّا انّ اشتباه الموارد وعدم تميّز بعضها عن بعض اوجب ايجاب العدّة على الجميع ، وهذا اجنبي عن كون الحكم مجعولا بلا ملاك ، هذا كلّه بناء على الطريقية المحضة ، ...» ، ومراده (قدس‌سره) من قوله الاخير «وهذا اجنبي ...» انّه بناء على هذا البيان لا يكون الحكم بحجية الامارات من دون ملاك ، فالملاك موجود وهو عين الملاكات الواقعية الأهم. وقد ذكرنا هذا الكلام بطوله لتعرف انّ كلام المحقق النائيني إن لم يكن عين كلام السيد الشهيد فهما على ايّ حال من واد واحد.

٧١

لا الاحرازي ، فالاصل تنزيلي او اصل محرز (١) ، واذا كان بلسان تسجيل وظيفة عملية محدّدة بدون ذلك فالاصل اصل عملي صرف (٢).

وهذا يعني ان الفرق بين الامارات والاصول ينشأ من كيفية صياغة الحكم الظاهري في عالم الجعل والاعتبار.

ولكن التحقيق أنّ الفرق بينهما اعمق من ذلك ، فان روح الحكم الظاهري في موارد الامارة تختلف عن روحه في موارد الاصل بقطع النظر عن نوع الصياغة ، وليس الاختلاف الصياغي المذكور الّا تعبيرا عن ذلك الاختلاف الاعمق في الروح بين الحكمين.

وتوضيح ذلك انّا عرفنا سابقا انّ الاحكام الظاهرية مردّها الى خطابات تعيّن الاهم من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلّب كل نوع منها ضمان الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر ، وكل ذلك يحصل نتيجة الاختلاط بين الانواع عند المكلّف وعدم تمييزه المباحات عن المحرّمات مثلا. والاهميّة التي تستدعي جعل الحكم الظاهري وفقا لها تارة تكون بلحاظ الاحتمال (٣) وأخرى بلحاظ

__________________

احرز تعبّدا الاحكام الشرعية ، لانّ الشارع المقدس جعل الامارات ـ عند المحقّق النائيني (قده) ـ طرقا تحرز الاحكام الشرعية تعبّدا.

(١) لا بأس بمراجعة الفرق بين التنزيلي والمحرز في الجزء الثالث من هذه الحلقة ص ٢١.

(٢) كقواعد البراءة والاحتياط والطهارة.

(٣) أي انّ المولى تعالى تارة يشرّع حكما ظاهريا ـ بوجوب الاتباع ـ لعلمه بأنّ الامارة الفلانية ـ كخبر الثقة وأعمال المسلمين المعبّر عنها بسوق

٧٢

المحتمل وثالثة بلحاظ الاحتمال والمحتمل معا ، فانّ شكّ المكلّف في الحكم يعني وجود احتمالين او أكثر في تشخيص الواقع المشكوك ، وحينئذ فان قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر وجعل الحكم الظاهري وفقا لها لقوّة احتمالها (١) وغلبة مصادفتها للواقع بدون اخذ نوع المحتمل بعين الاعتبار فهذا هو معنى الاهميّة بلحاظ الاحتمال ، وبذلك يصبح الاحتمال المقدّم امارة (*) ، سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم

__________________

المسلمين واصالة الصحة في عمل الغير ـ تصيب الواقع غالبا ، ولهذا يقول السيد المصنف قدس الله سره بأنّ الله تعالى شرّع الامارات لقوّة احتمال الاصابة فيها ، اي بلحاظ الاحتمال. وتارة يشرّع حكما ظاهريا بهدف إعطاء وظيفة عملية للجاهل بالحكم الواقعي والفاقد للامارة الحجّة ، وهنا تارة يجد أنّ من الحكمة ان يشرّع قاعدة البراءة للتسهيل على المكلفين ، فانّ البراءة في مواردها أهم من تشريع الاحتياط ، وهذا ما يعبّر عنه السيد المصنف (قده) باهمية المحتمل أي بأهمية البراءة على غيرها ، وتارة يلاحظ الشارع المقدّس ان تشريع الاستصحاب احسن واضبط من غيره فانه يناسب فطرة العقلاء وبناءهم الفطري على بقاء الحالة السابقة ، وهذا الحكم الظاهري روعي فيه أهمية المحتمل (اي بقاء الحالة السابقة) وقوّة الاحتمال (اي احتمال بقاء الحالة السابقة) ، وتعرف بقية الاصول العملية والامارات مما ذكر.

(١) بمعنى انّ الشارع المقدس انما اعتبر الامارة حجّة لانه يعلم انّ أكثر الامارات تصيب الواقع ، وهذا يجعل احتمالنا لاصابة اي امارة للحكم الواقعي احتمالا قويّا ، وعلى هذا يكون قوله (قده) «وغلبة مصادفتها للواقع» عطف تفسيري لقوله «لقوة احتمالها» اي بيانا وتفسيرا له.

__________________

(*) فى هذا التعبير مسامحة ، اذ انّ قوّة احتمال اصابة الامارات للواقع ـ عند السيد

٧٣

__________________

الشهيد (قده) ـ هو قوام حجيّة الامارة ، وكان الاولى ان يقول «وبذلك تصبح الامارة حجة لانّ الشارع المقدّس راى ان احتمال اصابتها للواقع غالب وفي أكثر الموارد».

والامارية لا تحتاج الى جعل ، فالقياس امارة وكذلك الاستحسان والشهرة. ثمّ ان السيد الخوئي رضوان الله عليه قد ذكر انّ علّة جعل الامارات هو تحفظ المولى على غرضه المهم اي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الافراد ، وكذلك قال بالنسبة الى الاصول ، اذ قال انّ الملاك في جعل الاحتياط مثلا هو الحفاظ على ملاكات الاحكام الالزامية ، والملاك في جعل البراءة هو الحفاظ على سهولة الشريعة وهكذا غيرهما ... راجع إن شئت مصباح الاصول ج ٢ من ص ٩٢ الى ص ٩٤ ، ومثله قال المحقق النائيني والشيخ المظفر (راجع اجود التقريرات ج ٢ ص ٧٨ سطر ٦ واصول الفقه ج ٣ ص ٤٠)

وهذا من جهة ، ومن جهة أخرى نقول في التفرقة بين الامارة والاصل ما يلي :

أولا : انه لم يرد عنوانا الامارة والاصل في شرعنا الحنيف بالشكل الذي اصطلح عليه علماؤنا لكي نبحث عن حقيقتهما ونحو ذلك ، انما احتجنا الى التفرقة بينهما من باب اختلاف آثارهما من حجية المثبتات في الامارة دون الاصل.

ثانيا : وعلى ضوء الكلمة الاولى وتحليلا لسببها نقول ان الامارة ـ مع غضّ النظر عن جعل الشارع الحجية لها ـ تحكي عن الواقع بما في ذلك المداليل الالتزامية العقلية ، فعند ما يعتبرها الشارع المقدّس حجّة فان العرف يفهم من ذلك حجية ما تدلّ عليه بالمطابقة والالتزام ، وهذا امر واضح عند العقلاء ، ومن هنا ترى علماءنا لا يتردّدون في القول بحجيّة مثبتات الامارات.

وامّا الاصول كالطهارة مثلا فهي امور تعبّدية بحتة ، فاذا تعبّدنا الشارع المقدّس بطهارة لحم وجد في صحراء فان هذا لا يعني انّه تعبّدنا بتذكيته ، إذ يمكن الفصل بينهما ، لان الحكم بالطهارة والحكم بعدم التذكية مجرّد حكمين تعبديين اعتباريين غير ناشئين من الملاك الواقعي حتّى يقال بضرورة تلازمهما. بل هذا امر غير عزيز في الشرع المقدّس ، ألا ترى ان الشارع المقدّس قد حكم باخوّة الرضيع مع ابناء صاحب اللبن دون اخوته على ما حكي عن أكثر الفقهاء ، بل قيل لا خلاف في ذلك.

٧٤

__________________

ثالثا : وعلى اساس ما ذكرناه ايضا من اعتبار الشارع الامارة حجّة قيل : ان الشارع عند ما اعتبر الامارة حجّة انما اعتبرها كذلك على نحو ما يفهمه الناس من طريقيتها وكاشفيتها ، ومن هنا نقول بطريقيتها وكاشفيتها ، وانّ ما ورد من الروايات التي تؤيّد ما ذكرناه انما ترشد الى ذلك ، اذكر بعضها :

ـ منها ما ورد في الروايات التي تشترط في القاضي المعرفة بالاحكام الشرعية ، مع ان المعرفة بالاحكام الشرعية تؤخذ عادة او كثيرا ما من اخبار الثقات ، ومع ذلك اعتبره الشارع المقدّس عالما ، وذلك من قبيل :

ـ صحيحة عمر بن حنظلة اذ سال الامام الصادق عليه‌السلام «... فكيف يصنعان؟ قال عليه‌السلام : «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما ، فانّي قد جعلته عليكم حاكما ، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ...» فانّها واضحة في اعتبار هذا الفقيه قد «عرف» احكام الشرع المقدّس ، مع انه ـ كما هو معلوم ـ يعتمد عادة او غالبا على اخبار الثقات التي لا تورث العلم الوجداني في اغلب الحالات ، ومع ذلك اعتبره الشارع عارفا بالاحكام الشرعية.

ـ وهكذا القول في معتبرة ابي خديجة عن الصادق عليه‌السلام «ايّاكم ان يحاكم بعضكم بعضا الى اهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» ...

ومثلهما :

ـ صحيحة احمد بن إسحاق «العمري وابنه ثقتان ، فما ادّيا إليك عني فعني يؤدّيان ، وما قالا لك عني فعني يقولان» ، بتقريب تنزيل الامارة منزلة العلم.

ـ ورواية القاسم بن العلاء «فانه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا ، قد عرفوا باننا نفاوضهم بسرّنا ونحمّلهم ايّاه اليهم ...».

وبهذه المقالة قال المحقق النائيني والسيد الخوئي رحمهما‌الله تعالى (راجع اجود التقريرات ج ٢ ص ١٢ ومصباح الاصول ج ٢ ص ٣٧ ، وسيأتي ان شاء الله مزيد توضيح

٧٥

الظاهري لسان جعل الطريقية ، او وجوب الجري على وفق الامارة ، وان قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر لاهمية المحتمل ـ بدون دخل

__________________

لمسلك الطريقية في شرحنا لكلام المحقق النائيني في الركن الاوّل من أركان الاستصحاب)

(أقول) أمّا الاستدلال بالسيرة العقلائية على مسلك الطريقية فغير تامّ ، ذلك لانّ العقلاء لا يعملون بخبر الثقة إلّا اذا اورث عندهم الاطمئنان ، وليس في نظر العقلاء من حيث هم عقلاء شيء اسمه تعبدي ، فهم لا يتبعونه ما لم يحصل منه عندهم اطمئنان فضلا عن اعتبارهم له علما.

وامّا المتشرّعة من حيث كون سيرتهم ناشئة من الشرع فلم يتّضح انهم يتعاملون مع الامارة معاملة العلم او مع مؤدّاها معاملة الواقع.

وامّا الروايات التي قد يعتبرونها العمدة في استدلالهم فلا دلالة لها أيضا على المطلوب اذ ان التعبير ب «عرف» و «يعلم» في سياق الروايتين السابقتين تعبير عرفي جدّا ومتعارف عليه في مثل هذه المجالات ، ألا ترى الناس يقولون العالم الفلاني يعرف الاحكام الشرعية وعالم بها ... ومرادهم من ذلك انه يعرفها ولو من خلال الحجج والاصول العملية ، ولا يفهمون منها انّه عالم تعبّدا واعتبارا وانّ الامارة علم تعبدا ونحو ذلك.

(وامّا) الروايتان الاخيرتان فناظرتان ـ رغم التفريع بالفاء في الصحيحة الاولى بقوله فما ادّيا اليك عنّي ـ الى اعطاء الحجية لهؤلاء المذكورين لكونهم ثقات ، لا انهما تقولان : اني قد نزّلت خبر الثقة منزلة العلم بحيث لو جاءكم شرط العلم المأخوذ بنحو الصفتية في موضوع حكم ما لقام خبر الثقة مقامه.

رابعا : سوف تعرف في محلّه ان تقدّم الامارة على الاصل انما هو من باب الورود ، بمعنى ان دليل حجية الامارة يلغي بوصول الامارة موضوع دليل الاصل الذي هو عدم وجدان دليل محرز على ما سوف يأتي بيانه في ابحاث التعارض من الجزء الرابع ان شاء الله تعالى.

٧٦

لكاشفية الاحتمال في ذلك ـ كان الحكم من الاصول العملية البحتة ، كاصالة الاباحة [والبراءة والطهارة] واصالة الاحتياط الملحوظ في احدهما اهمية الحكم الترخيصي المحتمل [فانّ تشريع قاعدة الطهارة اهم من تشريع الحكم بالنجاسة] ، وفي الآخر اهميّة الحكم الالزامي المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، سواء كان لسان الانشاء والجعل للحكم الظاهري لسان تسجيل وظيفة عملية ، او لسان جعل الطريقية ، وان قدّمت بعض المحتملات على البعض الآخر بلحاظ كلا الامرين من الاحتمال والمحتمل كان الحكم من الاصول العملية التنزيلية او المحرزة كقاعدة الفراغ.

نعم الانسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة الاحتمال ان يصاغ الحكم الظاهري بلسان جعل الطريقية ، والانسب في موارد التقديم بلحاظ قوّة المحتمل ان يصاغ بلسان تسجيل الوظيفة ، لا أنّ هذا الاختلاف الصياغي هو جوهر الفرق بين الامارات والاصول.

التنافي بين الاحكام الظاهرية :

عرفنا سابقا انّ الاحكام الواقعية المتغايرة نوعا كالوجوب والحرمة والاباحة متضادّة ، وهذا يعني انّ من المستحيل ان يثبت حكمان واقعيان متغايران على شيء واحد ، سواء علم المكلّف بذلك او لا ، لاستحالة اجتماع الضدّين في الواقع.

والسؤال هنا هو انّ اجتماع حكمين ظاهريين متغايرين نوعا هل هو معقول او لا؟

فهل يمكن ان يكون مشكوك الحرمة حراما ظاهرا ومباحا ظاهرا في نفس الوقت؟

٧٧

والجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف المبنى في تصوير الحكم الظاهري والتوفيق بينه وبين الاحكام الواقعية ، فان اخذنا بوجهة النظر القائلة بانّ مبادئ الحكم الظاهري ثابتة في نفس جعله لا في متعلّقه امكن جعل حكمين ظاهريين بالاباحة والحرمة معا ، على شرط ان لا يكونا واصلين معا (١) ، فانّه في حالة عدم وصولهما معا لا تنافي بينهما لا بلحاظ نفس الجعل ـ لانّه مجرّد اعتبار ـ ولا بلحاظ المبادئ (٢) ـ لانّ

__________________

(١) أي معلومين لنا.

(٢) راجع المصباح ج ٢ من ص ٩٢ ـ ٩٤ ، وتعرّض لهذا الامر أكثر من مرّة في اجود التقريرات ج ٢ من ص ٦٢ الى ص ٨٦. ويمكن استفادة ما ذكره السيد الشهيد (قدس‌سره) من امكان جعل حكمين ظاهريين متنافيين بشرط ان لا يكونا واصلين معا ... الخ ممّا ذكره السيد الخوئي قدس‌سره الشريف من ص ١٠٨ الى ١١٠ ، والظاهر قويا انّ نظر السيد الشهيد الى السيد الخوئي(*) والمحقق النائيني (قدّس سرهما) في هذا المجال.

__________________

(*) يمكن الدفاع عن رأي السيد الخوئي (قدس‌سره) بان نقول :

(إنّ) السيد الشهيد رحمه‌الله لم يوضّح مراد السيد الخوئي ، فالمتأمّل في كلمات السيد الخوئى (قدس‌سره) يفهم منه عدم «امكان جعل حكمين ظاهريين متنافيين وإن لم يكونا واصلين» وذلك على الاقلّ من جهة التنافي في المبدأ ، فمبدأ الاحتياط الذي هو «التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها والتحذّر عن الوقوع في المفسدة الواقعية احيانا» يعارض مبدأ البراءة والتي «هي التسهيل على المكلّفين» ، فعليه كيف يمكن جعل حكمين ظاهريين متنافيين وان لم يكونا واصلين؟! ثمّ ان السيّد الخوئي قد اوضح مراده من قوله بانّ المصلحة في الاحكام الظاهرية هي في جعلها بقوله : «ففي موارد الاحتياط جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط وهي التحفظ على

٧٨

مركزها ليس واحدا بل مبادئ كل حكم في نفس جعله لا في متعلقه ـ ولا بلحاظ عالم الامتثال والتنجيز والتعذير ، لانّ احدهما على الاقل غير واصل [أي غير معلوم] فلا اثر عملي له ، وامّا في حالة وصولهما معا فهما متنافيان متضادّان لانّ احدهما ينجّز والآخر يؤمّن.

وامّا على مسلكنا في تفسير الاحكام الظاهرية وانّها خطابات تحدّد ما هو الاهمّ من الملاكات الواقعية المختلطة فالخطابان الظاهريان المختلفان ـ كالاباحة والمنع ـ متضادّان بنفسيهما ، سواء وصلا الى المكلّف او لا ، لانّ الاوّل يثبت اهميّة ملاك المباحات الواقعية ، والثاني يثبت أهميّة ملاك المحرّمات الواقعية ، ولا يمكن ان يكون كلّ من هذين الملاكين اهمّ من الآخر كما هو واضح (١).

__________________

(١) ويترتّب على ذلك عدم امكان جعل حكمين ظاهريين متنافيين حتى ولو لم يوصلهما الشارع الى المكلّف ، وذلك لانّ اي جعل اعتباري لا بدّ ان يكون له مبدأ وملاك ، فاذا تنافت الملاكات تنافى بالتالي جعلها معا ، و (قولهم) ان الاعتبار سهل المئونة ، اذ قد نعتبر الحائط كتابا (واضح البطلان) فيما نحن فيه ، اذ ليس كلامنا في محض الافتراضات الخيالية اللغوية التي لا أثر لها ، وانّما كلامنا فيما هو ممكن فعلا ، فاذن جعل حكمين ظاهريين متنافيين كالاحتياط والبراءة على مورد واحد حتّى ولو لم يكونا واصلين غير ممكن عقلائيا وذلك لوحدة الملاك الواقعي الاهمّ ، بل غير ممكن عقلا في عالم الله سبحانه وتعالى لانه خلاف الحكمة فهو بالتالي مستحيل على الباري تعالى.

__________________

مصلحة الواقع على تقدير وجودها ... وفي موارد الترخيص جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة وهي التسهيل على المكلّفين» ، فلا يرد ما اورده السيّد الشهيد عليه.

٧٩

وظيفة الاحكام الظاهرية :

وبعد ان اتّضح ان الاحكام الظاهريّة خطابات لضمان ما هو الاهمّ (١) من الاحكام الواقعية ومبادئها ، وليس لها مبادئ في مقابلها ، نخرج من ذلك بنتيجة : وهي انّ الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الاحكام الواقعيّة المشكوكة ، فهو ينجّز تارة ويعذّر أخرى وليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الاحكام الواقعية ، لانّه ليس له مبادئ خاصّة به وراء مبادئ الاحكام الواقعية ، فحين يحكم الشارع بوجوب الاحتياط ظاهرا يستقلّ العقل بلزوم التحفّظ على الوجوب الواقعي المحتمل واستحقاق العقاب على عدم التحفّظ عليه لا على مخالفة نفس الحكم بوجوب الاحتياط بما هو ، وهذا معنى ما يقال من ان الاحكام الظاهرية طريقية لا حقيقية ، فهي مجرّد وسائل وطرق لتسجيل الواقع المشكوك وادخاله في عهدة المكلّف ، ولا تكون هي بنفسها موضوعا مستقلّا للدخول في العهدة لعدم استقلالها بمبادئ في نفسها (٢) ، ولهذا فانّ من يخالف وجوب الاحتياط في مورد ويتورّط

__________________

(١) لا شك انك علمت من مجموع كلام السيّد الشهيد (قده) في مواضع متعدّدة من كلماته انّه يرى انّ الشارع المقدّس قد جعل امارات معينة حجّة لانّها تصيب الواقع غالبا ، بحيث انّ هذه المصلحة الكبيرة الحاصلة تغلب مفسدة خطئها في حالات قليلة ، وشرّع اصولا عملية في حالات معيّنة لاهميّة الاحكام التي تفيدها ـ كالبناء على الحالة السابقة ـ على الاحكام الاخرى كوجوب الاحتياط مثلا

(٢) هذا البحث اقرب الى الاعادة من كونه بحثا جديدا ، فقد ذكره في مسألة «شبهة عدم تنجّز الواقع المشكوك» فراجع ..

٨٠