دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

فجزئية المعنى الحرفي جزئية بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج.

هيآت الجمل :

كما انّ الحروف موضوعة للنسب على انحائها ، كذلك هيآت الجمل ، غير ان هيئة الجملة الناقصة موضوعة لنسبة ناقصة وهيئة الجملة التامّة موضوعة لنسبة تامّة يصحّ السكوت عليها ، وخالف في ذلك السيد الاستاذ ، إذ ذهب الى ان هيئة الجملة الناقصة موضوعة لما هو مدلول

__________________

كلّية مهما قيّدت ، فكيف تقولون بأن المعاني الموضوعة لها الحروف هي جزئية؟! فان الصور الذهنية وإن كانت صورا عن امور خارجية معيّنة كصورتنا الذهنية عن زيد الخارجي مثلا فهي تصلح للانطباق على غيره في الذهن ، فانه يمكن للانسان ان يتصوّر ـ في ذهنه ـ شخصا آخر له نفس خصوصيات هذه الصورة الذهنية.

وبهذا تعرف الجواب على قوله رحمه‌الله «لانّ المفروض عدم تعقل جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له» ، فانّه يكفي حين الوضع تصوّر جامع مشير الى افراده ويوضع له اللفظ كمفهوم عنواني مشير الى افراده وبالحمل الشائع الصناعي.

الملاحظة الثانية : إنّ لازم قوله (قده) بكون المعنى الموضوع له خاصّا جزئية المعنى الموضوع له بالجزئية الحقيقية الخارجية ، وذلك لانّ المعنى الموضوع له على قول سيدنا المصنف هو نفس النسبة الخارجية الجزئية ، فلا ينفعه ادّعاؤه الاخير بكون «جزئية المعنى الحرفي جزئية بلحاظ الطرفين لا بلحاظ الانطباق على الخارج» ، لانّه هو نفسه يقول بان المعنى الملاحظ حين الوضع هو عنوان مشير الى الخارج ووقع الوضع على نفس هذا المعنى الخارجي ، والمعنى الخارجي جزئي فكيف يقول هنا بانه غير جزئي؟!

١٨١

الدلالة التصديقية الاولى ، اي لقصد اخطار المعنى ، وان هيئة الجملة التامّة موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقية الثانية (*) وهو قصد الحكاية في الجملة الخبرية او الطلب وجعل الحكم في الجملة الانشائية وهكذا ...

وقد بنى ذلك على مسلكه في تفسير الوضع بالتعهد الذي يقتضي ان تكون الدلالة الوضعية تصديقية ، والمدلول الوضعي تصديقيا كما تقدّم.

والصحيح ما عليه المشهور من ان المدلول الوضعي تصوّري دائما في الكلمات الإفرادية وفي الجمل ، وان الجملة حتّى التامّة لا تدل بالوضع إلا على النسبة دلالة تصورية ، وامّا الدلالتان التصديقيتان فهما سياقيتان ناشئتان من ظهور حال المتكلّم.

الجملة التامّة والجملة الناقصة :

لا شك في وجود فرق بين الجملة التامّة والجملة الناقصة في المعنى الموضوع له ، فمن اعتبر نفس المدلول التصديقي موضوعا له ميّز بينهما

__________________

(*) تعرّض السيد الخوئي رحمه‌الله لهذا البحث عدّة مرّات منها في المحاضرات ج ١ ص ١٠٢ ، والمصباح ج ٢ ص ١٢٦ ، والمصباح ج ٣ ص ٣٨٦ وغيرها ... ولكنه قال فيها ان هيئة الجملة ـ سواء كانت تامّة ام ناقصة ـ موضوعة لما هو مدلول الدلالة التصديقية الاولى وهو «قصد الحكاية والاخبار عن الواقع» ، وقد صرّح فيها مرّات بان المعنى الموضوع له هو المدلول التصديقي الاستعمالي وهو في المفردات لما يقصد تفهيمه من المعاني المفردة وفي الجمل لما يقصد الحكاية والاخبار عنه ، فراجع. (على) أن قصد الحكاية الذي ذكره السيد المصنف (قده) في المتن هو غير قصد الجدية ، إذ الاول هو المدلول التصديقي الاوّل والمراد الجدي هو المدلول التصديقي الثاني.

١٨٢

على أساس اختلاف المدلول التصديقي كما تقدّم في الحلقة السابقة (١) ، وامّا بناء على ما هو الصحيح من عدم كون المدلول التصديقي هو المعنى الموضوع له فنحن بين امرين :

امّا ان نقول : انه لا اختلاف بين الجملتين في مرحلة المعنى الموضوع له والمدلول التصوّري ، ونحصر الاختلاف بينهما في مرحلة المدلول التصديقي ...

وإمّا ان نسلم باختلافهما في مرحلة المدلول التصوّري.

والاوّل باطل ، لان المدلول التصوّري اذا كان واحدا وكانت النسبة التي تدلّ عليها الجملة التامّة هي بنفسها مدلول للجملة الناقصة ، فكيف امتازت الجملة التامّة بمدلول تصديقي ـ من قبيل قصد الحكاية ـ على الجملة الناقصة ، ولما ذا لا يصحّ ان يقصد الحكاية بالجملة الناقصة؟!

وامّا الثاني فهو يفترض الاختلاف في المدلول التصوّري ، ولمّا كان المدلول التصوّري لهيئة الجملة هو النسبة ، فلا بدّ من افتراض نحوين من النسبة بهما تتحقق التمامية والنقصان.

والتحقيق ان التمامية والنقصان من شئون النسبة في عالم الذهن لا في عالم الخارج ، ف «المفيد» و «عالم» تكون النسبة بينهما تامّة اذا جعلنا منهما مبتدأ وخبرا ، وناقصة إذا جعلنا منهما موصوفا ووصفا. وجعل

__________________

(١) وهو رأي السيد الخوئي رحمه‌الله تفريعا على مذهبه في الوضع ، فقال ان هيئة الجملة التّامّة موضوعة لقصد الحكاية والاخبار عن ثبوت المحمول للموضوع ، وان هيئة الجملة الناقصة موضوعة لقصد إخطار المعنى فقط.

١٨٣

«المفيد» مبتدأ تارة وموصوفا أخرى امر ذهني لا خارجي ، لان حاله (١) في الخارج لا يتغيّر كما هو واضح ، وتكون النسبة في الذهن تامّة اذا جاءت الى الذهن ووجدت بما هي نسبة [تامّة] فعلا (٢) ، وهذا يتطلب ان يكون لها طرفان متغايران في الذهن ، إذ لا نسبة بدون طرفين ، وتكون النسبة ناقصة إذا كانت اندماجية تدمج احد طرفيها بالآخر وتكوّن منهما مفهوما افراديا واحدا وحصّة خاصّة ، إذ لا نسبة حينئذ حقيقة في صقع الذهن الظاهر (٣) وانما هي نسبة مستترة وتحليلية ، ومن هنا قلنا سابقا (٤) ان الحروف وهيآت الجمل الناقصة موضوعة لنسب اندماجية اي تحليلية ، وان هيآت الجمل التامّة موضوعة لنسب غير اندماجية.

__________________

(١) اي لانّ حال «المفيد» ..

(٢) أي يصحّ السكوت عليها.

(٣) اي لا نسبة ظاهرة في نظر العرف او قل ليست النسبة الناقصة ظاهرة كظهور النسبة التامّة ، وذلك لانّ النسبة الناقصة ـ كالنسبة القائمة بين «غلام» و «زيد» في قولنا مثلا «غلام زيد عالم» ـ هي نسبة اندماجية بحيث يشعر الانسان وكأنّ «غلام زيد» كلمة واحدة ، والسبب في هذا الشعور انهما يعبّران عن مفهوم واحد في الحقيقة.

(٤) في الحلقتين الاولى والثانية ، فقد قال في الاولى منهما «ونحن اذا دققنا في الجملة الناقصة وفي الحروف من قبيل «من» و «الى» نجد انها جميعا تدلّ على نسب ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ، فكما لا يجوز ان تقول «المفيد العالم» وتسكت ، كذلك لا يجوز ان تقول «السير من البصرة» وتسكت ، وهذا يعني ان مفردات الحروف وهيآت الجمل الناقصة كلها تدلّ على نسب اندماجية ، خلافا لهيئة الجملة التامّة ، فان مدلولها نسبة غير اندماجية سواء كانت جملة فعلية او اسمية» انتهى

١٨٤

الجملة الخبرية والانشائية :

وتنقسم الجملة التامّة الى خبرية (١) وانشائية ، ولا شك في اختلاف احداهما (٢) عن الاخرى حتّى مع اتحاد لفظيهما كما في «بعت» الخبرية و «بعت» الانشائية فضلا عن «اعاد» و «اعد» ، وقد وجدت عدّة اتجاهات في تفسير هذا الاختلاف :

الاوّل : ما تقدّم في الحلقة الاولى عن صاحب الكفاية وغيره من

__________________

ولك ان تقول ان حرف «من» مثلا حينما يربط بين المعنيين الاسميّين فانما يجعلهما مفهوما واحدا وحصّة خاصّة ، ولذلك ستكون النسبة التي يعبّر عنها هكذا حرف نسبة اندماجية ايضا كما هو الحال في هيئة الجملة الناقصة.

(١) لا يتوهّم ان كلام العلماء هنا انما هو عن الجمل الخبرية الواردة في مقام الانشاء فقط ودلالة الجمل الخبرية على الطلب او النهي ، فانّ هذا البحث يبحثونه في بحثي الاوامر والنواهي ، وامّا البحث هنا فهو في الفرق بين مدلولي هيأتي الجملتين الخبرية والانشائية في حالتي اتحادهما لفظا وتغايرهما ، وهل ان الفرق بينهما هو في مرحلة الوضع والدلالة التصوّريّة ام في مرحلة الدلالة التصديقية ، وخاصّة ما هو المعنى الموضوعة لها الجمل الانشائية ، وهل أنها موضوعة لايجاد المعنى في الخارج؟ فاذا كان كذلك فكيف لا يتحقق البيع ـ مثلا ـ بمجرّد استعمال «بعت» ومن دون قصد للبيع؟ ام انها موضوعة لابراز امر نفساني ـ غير قصد الحكاية ـ كالملكية والزوجية ونحوهما ـ بناء على مسلك التعهد ـ؟ ..

(٢) لا يقال «إحداهما» بدليل قوله تعالى : (وءاتيتم إحدهنّ قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا).

١٨٥

وحدة الجملتين في مدلولهما التصوّري واختلافهما في المدلول التصديقي فقط ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك (١).

الثاني : انّ الاختلاف بينهما ثابت في مرحلة المدلول التصوّري

__________________

(١) في الحلقة الاولى.

وبيان كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله : انه لا يبعد ان يكون الحال في الخبر والانشاء ـ سواء مع اتحاد لفظيهما كما في «بعت» الاخبارية و «بعت» الانشائية او تغايرهما كما في «اعاد الصلاة» و «يعيد الصلاة» ـ كما كان الحال في الحروف والاسماء الموازية لها ، وهو وان اتحد المعنى الموضوع له كما في الجمل المتّحدة لفظا إلّا انهما يختلفان في مرحلة الاستعمال ، بمعنى ان «الخبر يكون موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه ، والانشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته» ، فالدّاعي وان كان ملاحظا في مرحلة الوضع وقبل الاستعمال ، إلّا ان الاخبارية والانشائية ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه (راجع منتهى الدراية ج ١ ص ٤٦). ثم تابع السيد الشهيد في بحوثه ج ١ ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥ في بيان كلام صاحب الكفاية قائلا : واكّد ذلك جملة من اعلام مدرسته ـ كالمحقق الاصفهاني والمحقق العراقي ـ على اساس ان الاخبارية والانشائية من خصوصيات الاستعمال فلا يمكن اخذهما في المعنى المستعمل فيه فضلا عن اخذهما في المعنى الموضوع له ، وذلك كما كان الحال في الأسماء والحروف ، فكما لم يكن يمكن اخذ الاستقلالية والآلية في معاني الأسماء والحروف فكذلك الحال في الجمل الخبرية والانشائية.

(وردّ) عليه سيدنا الشهيد رحمه‌الله في بحوثه ص ٢٩٥ من انه لا يلزم اىّ تهافت او محذور من اخذ خصوصيات معيّنة كالاستقلالية والآلية والاخبارية والانشائية في المعنى الموضوع له ويقرن اللفظ بها فيصير تعدّده سببا لوجود تلك الصورة الذهنية الخاصّة.

١٨٦

وذلك في كيفية الدلالة (١) ، فقد يكون المدلول التصوّري واحدا ، ولكن كيفية الدّلالة تختلف ، فانّ جملة «بعت» الانشائية دلالتها على مدلولها بمعنى ايجادها له باللفظ ، وجملة «بعت» الاخبارية دلالتها على مدلولها بمعنى اخطارها للمعنى وكشفها عنه ، فكما ادّعي في الحروف انها ايجادية كذلك يدّعى في الجمل الانشائية ، لكن مع فارق الإيجاديتين ، فتلك بمعنى كون الحرف موجدا للربط الكلامي ، وهذه بمعنى كون «بعت» موجدة للتمليك بالكلام ، فما هو الموجد في باب الحروف حالة قائمة بنفس الكلام (٢) ، وما هو الموجد في باب الانشاء امر اعتباري مسبّب عن الكلام (٣).

ويرد على ذلك (٤) ان التمليك اعتبار تشريعي يصدر من

__________________

(١) نظر صاحب هذا الاتجاه الى حالة وحدة الجملتين لفظا ، وأمّا في حالة تعددهما لفظا فلا اشكال في تعدّد مدلوليهما التصوّري بالبداهة ، امّا في حال وحدتهما لفظا كما في «بعت» الانشائية و «بعت» الاخبارية فمدلولهما التصوّري وإن كان واحدا اجمالا وهو صدور البيع من المتكلم ولكن كيفية الدلالة على صدور البيع تختلف ، ففي الانشائية تدلّ «بعت» على ارادة صدور البيع اي انشاءه ، وفي الاخبارية تدلّ على الاخبار عن صدوره. (فصار) الفرق بين قول صاحب الكفاية رحمه‌الله وبين هذا ـ رغم اتحادهما في القول بوحدة المدلول التصوري فيهما ـ ان القول الثاني قد التفت الى نكتة التغاير بين المدلولين التصوريين في كيفية الدلالة ، وبالتالي سيختلف المدلولان التصوّريان.

(٢) وهو الربط.

(٣) كالتمليك والزوجيّة ونحوهما.

(٤) ذكر هذا الردّ السيد الخوئي رحمه‌الله في المحاضرات ج ١ ، ص ٨٨ ،

١٨٧

البائع (١) ويصدر من العقلاء ومن الشارع ، فان اريد بالتمليك الذي يوجد بالكلام الاوّل فمن الواضح سبقه على الكلام وان البائع بالكلام يبرز هذا الاعتبار القائم في نفسه [اي يبرز إرادة البيع والتمليك] ، وليس الكلام هو الذي يخلق هذا الاعتبار في نفسه. وان اريد الثاني او الثالث فهو وان كان مترتبا على الكلام غير انّه انما يترتّب عليه بعد فرض استعماله في مدلوله التصوّري وكشفه عن مدلوله التصديقي [الاستعمالي والجدّي] ، ولهذا لو اطلق الكلام بدون قصد او كان هازلا لم يترتّب عليه أثر ، فترتب الاثر اذا ناتج عن استعمال «بعت» في معناها وليس محقّقا بهذا الاستعمال (٢).

__________________

قال ـ باختصار منّي ـ : ان الاعتبارات الشرعية والعقلائية وان كانت مترتبة على الجمل الانشائية إلا ان ذلك الترتّب انما هو فيما اذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها اي من جهة أنها استعملت في معانيها لا مطلقا وبما أنها ألفاظ مخصوصة.

(١) قد يقال الاولى حذف كلمتي «من البائع ومن العقلاء» وذلك لانّ التمليك ونحوه من الآثار المترتبة على الجمل الانشائية انما تترتّب اذا اقرّها الشارع المقدّس فقط ، فلو أقرّ جميع العقلاء البيوعات الفاسدة ولم يقرّها الشارع المقدّس لا بخصوصها ولا بعموم «الزموهم بما الزموا به انفسهم» ونحو ذلك فلا اثر لاعتبارهم.

(أقول) أما بالنسبة الى قوله «يصدر من البائع» فهو من باب ذكر ما هو ممكن وقوعا ، وامّا بالنسبة الى قوله «ويصدر من العقلاء» فهو من باب ذكر ما هو واقع فعلا في الخارج بين غير المتدينين مع غضّ النظر عن حصول التمليك الشرعي وعدمه ، وكلامنا في اصل كيفية دلالة الجملة الانشائية على حصول الملكية الشاملة للملكية الشرعية والعقلائية والفردية.

(٢) في النسخة الاصلية «لهذا» والصحيح «بهذا» ، ولعلّ هذا الخطأ كان

١٨٨

الثالث : ان الجملتين مختلفتان في المدلول التصوّري حتّى في حالة اتحاد لفظهما ودلالتهما على نسبة واحدة ، فان الجملة الخبريّة موضوعة لنسبة تامّة منظورا اليها بما هي حقيقة واقعة وشيء مفروغ عنه ، والجملة الانشائية موضوعة لنسبة تامّة منظورا اليها بما هي نسبة يراد تحقيقها كما تقدّم في الحلقة الاولى (١).

__________________

مطبعيا.

وعلى ايّ حال فمراده (قده) ان يقول : ... فترتب الاثر اذا ناتج عن استعمال «بعت» في معناها الوضعي الكاشف عن إرادة البائع الجديّة في قصد البيع ، وليس هذا الاثر مترتبا ومحقّقا بمجرّد هذا الاستعمال حتى وان لم يكشف بظهور حاله عن ارادته الجدية ، كما لو كان هازلا او في مقام اعطاء امثلة أو سرد حكاية ونحو ذلك. فقول صاحب هذا الاتجاه الثاني بان جملة «بعت» الانشائية تدل على ايجاد البيع باللفظ او قل توجد التمليك بالكلام غير دقيق.

إذن ـ نعيد السؤال ـ لأيّ معنى وضعت الجملة الانشائية سواء كانت من قبيل «بعت» او من قبيل «اعد»؟

(١) في بحث «الجملة الخبرية والجملة الانشائية» ، وانما قال انهما موضوعتان للنسبة ... لانّ الهيئة من الحروف ـ بالمعنى الاصولي ـ فلا بدّ ان تدلّ على معنى حرفي ، والنسبة معنى حرفي وعلى هذا يكون الفرق بين هيأتي الجملتين الخبرية والانشائية في المعنى الموضوع له اي في مرحلة الوضع وليس فقط في مرحلة الدلالة التصديقية فاذا كانت كيفية النظر الى هذه النسبة غير واضحة فسيكون قولنا مثلا «بعت» و «انكحت» ونحوهما سيكون من باب المشترك اللفظي الذي لا يفهم معناها إلا مع القرينة ، من قبيل «عين» و «قرء» (وهو) كلام صحيح ، ولذلك ترانا لا نفهم معنى «بعت الكتاب بدينار» ان سمعنا هذا اللفظ من

١٨٩

ويمكن ان نفسّر على هذا الاساس ايجادية الجملة الانشائية ، فليست هي بمعنى ان استعمالها في معناها هو بنفسه ايجاد للمعنى باللفظ ، بل بمعنى ان النسبة المبرزة بالجملة الانشائية نسبة منظور إليها لا بما هي ناجزة ، بل بما هي في طريق الانجاز والايجاد.

الثمرة :

قد يقال : إن من ثمرات هذا البحث ان الحروف بالمعنى الاصولي الشامل للهيئات اذا ثبت انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص فهذا يعني ان المعنى الحرفي خاص وجزئي ، وعليه فلا يمكن تقييده بقرينة خاصّة (١) ، ولا اثبات اطلاقه بقرينة الحكمة العامّة ، لانّ التقييد والاطلاق من شئون المفهوم الكلي القابل للتخصيص. وممّا يترتّب على ذلك ان القيد اذا كان راجعا في ظاهر الكلام الى مفاد الهيئة (٢) فلا بدّ من

__________________

نائم مثلا ، وذلك لدخالة كيفية النظر الى النسبة في المعنى الموضوع له.

(١) اعلم أنّ الامور الجزئية غير قابلة للتقييد ، فمثلا : لا يصح ان تقول : إن كان هذا الكتاب ابيض فأعطه لزيد ، وذلك لانّ هذا الكتاب هو فعلا إمّا ابيض وإمّا لا ، فهذا الشرط إذن ليس قيدا حقيقة ، ولا يصح ان تقول : إن كان في هذا الاناء ماء فاعطه لزيد ، لأنّ المفروض انك ترى انّ فيه ماء ، ولذلك فهذا الشرط ليس قيدا حقيقة. (ولا شك) انك تعلم انّ الامور الجزئية هي الامور الخارجية فقط ، لأنّ الصور الذهنية مهما قيّدت تبقى كلّية.

(٢) اي هيئة الجزاء كهيئة «افعل» التي هي هيئة «أكرم» في قولنا مثلا «اذا جاءك زيد فاكرمه» ومدلول هيئة الجزاء هنا هو وجوب الاكرام

١٩٠

تأويله كما في الجملة الشرطية ، فان ظاهرها كون الشرط قيدا لمدلول هيئة الجزاء ، وحيث ان هيئة الجزاء موضوعة لمعنى حرفي وهو جزئي فلا يمكن تقييده ، فلا بدّ من تأويل الظهور المذكور. فاذا قيل «إذا جاءك زيد فأكرمه» دلّ الكلام بظهوره الاوّلي على ان المقيّد بالمجيء هو مدلول هيئة الامر في الجزاء وهو الطلب والوجوب الملحوظ بنحو المعنى الحرفي ، فيكون الوجوب مشروطا ، ولكن حيث يستحيل التقييد في المعاني الحرفية فلا بد من ارجاع الشرط الى متعلق الوجوب (١) لا الى الوجوب نفسه ، فيكون الوجوب مطلقا ومتعلّقه مقيّدا بزمان المجيء على نحو الواجب المعلّق الذي تقدّم الحديث عن تصويره في الحلقة السابقة (٢).

ولكن الصحيح ان كون المعنى الحرفي جزئيا ليس بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين لكي يستحيل فيه التقييد والاطلاق ، بل هو قابل لذلك (٣) تبعا لقابلية طرفيه ، وانما هو جزئي بلحاظ خصوصية طرفيه بمعنى ان كل نسبة مرهونة بطرفيها ولا يمكن الحفاظ عليها مع تغيير طرفيها.

__________________

والمراد بالقيد هنا هو الشرط وهو مجيء زيد.

(١) وهو ـ في مثالنا ـ الاكرام ، وهو معنى اسمي يمكن تقييده بلا شك.

(٢) في بحث «زمان الوجوب والواجب».

(٣) اي بل هو قابل للاطلاق تبعا لقابلية طرفيه للاطلاق ، وهذه القابلية في الاطراف متوقّفة على كلّيّتهما ، فتأمّل ، ولنا تعليقة ذكرناها ص ١٨٠ ـ ١٨١ تفيد في هذا المقام.

١٩١

(الحقيقة الشرعيّة) (*)

هناك ألفاظ استعملها القرآن الكريم والرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ماهيات شرعية مخترعة ، كألفاظ الصلاة والصيام والحج والزكاة والطهارة والنجاسة والغنيمة والنكاح ونحوها. وقد وقع البحث بين العلماء في المراد من هذه الألفاظ التي وردت ـ كما قلنا ـ في القرآن الكريم او جاءت على لسان الرسول بعد التسليم عند أكثر العلماء بأنّ ما ورد بعد وفاة الرسول الاعظم فهو محمول على إرادة الماهيات الشرعية المستحدثة لكفاية تلك السنين في نقلها الى المعنى الجديد. وقد اصطلحوا على استعمال لفظة «الحقيقة الشرعية» على المعنى الشرعي المستحدث إن حصل النقل إليه في زمان الوحي ، من باب ان هذا المعنى الجديد صار حقيقة في عصر الشارع المقدّس وهو عصر النبي ، واصطلحوا على استعمال لفظة «الحقيقة المتشرّعيّة» على المعنى الشرعي المستحدث إن حصل النقل بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب ان المعنى الشرعي الجديد قد صار حقيقة لهذه الألفاظ في عصر المتشرّعة (١).

__________________

(١) اي بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكأنّ في هذا الاصطلاح حذفا وأصل الكلمة «حقيقة في عصر الشرع» و «حقيقة في عصر المتشرّعة»

__________________

(*) تنبيه : اضفنا هذا البحث والبحثين التاليين ـ اي الصحيح والاعم والمشتق ـ

١٩٢

ولبيان الحقّ في هذه المسألة ينبغي التفصيل فيها فنقول :

اوّلا : إنّ بحثنا هذا ليس ناظرا الى الألفاظ التي كانت متداولة قبل الاسلام كأكثر ألفاظ المعاملات والايقاعات والتي استعملها الشارع في نفس معانيها كألفاظ البيع والاجارة والهبة ونحوها ، ولم يتدخل الشارع في هذا المجال إلا في تنظيم هذه الماهيات كاضافة بعض الشرائط عليها ليتحقّق البيع مثلا ، ولذلك قلنا في بداية هذه المسألة إن بحثنا في ألفاظ الماهيات المخترعة.

ثانيا : ينبغي التفصيل بين الألفاظ التي نعلم انها كانت موضوعة لماهيات شرعية في الاديان السابقة التي كانت موجودة في الجزيرة العربية الشبيهة ولو اجمالا للماهيات الشرعية الاسلامية وبين ما لا نعلم بها. وفي هذا المجال يقول السيد الشهيد رحمه‌الله (١) «ان كثيرا من تلك المعاني الشرعية كانت بنفس هذه الأسماء قبل الاسلام فيكون المعنى واللفظ كلاهما قديمين ، فالحجّ مثلا وما فيه من مناسك وآداب كان معروفا ومعهودا قبل الاسلام (٢) حتّى سمّيت السنة في اللغة بالحجّة ، و

__________________

(١) في بحوثه ج ١ ص ١٨٣.

(٢) قال تعالى : (وأذّن فى النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق (٢٧) لّيشهدوا منفع لهم ويذكروا اسم الله فى أيّام مّعلومت على ما رزقهم مّن بهيمة الأنعم فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير (٢٨) ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوّفوا بالبيت العتيق (٢٩) ذلك ومن يعظّم حرمت الله فهو خير لّه عند ربّه وأحلّت لكم الأنعم إلّا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرّجس من الأوثن واجتنبوا قول الزّور) سورة الحج.

١٩٣

كذلك الصلاة والصيام (١) وجملة من العبادات الاخرى لم تكن غريبة عن ذهنية الناس قبل مجيء الاسلام ... فان مجتمع الجزيرة كان فيه جمع غفير من اصحاب الديانتين السابقتين على الاسلام وكان يعيش تفاعلا مستمرّا مع اصحابهما وهم يمارسون مختلف عباداتهم التي جزء كبير منها مشترك بينهما وبين الاسلام ، بل كان في القبائل العربية الاصيلة نفسها من اعتنق احدى الديانتين ، ومن البعيد افتراض انهم كانوا لا يطلقون اسما عربيا على تلك العبادات رغم شيوعها ودخولها في محل ابتلائهم ، ولو كانت مسمّاة عندهم باسماء أخرى لبان ذلك في لغتهم ولنقله تاريخ الادب العربي لا محالة.

وممّا يعزّز قدم الأسماء ان الاسلام والقرآن الكريم منذ بداية الوحي طرح نفس الأسماء واستعملها لافادة تلك العبادات يوم كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستضعفا وليس في مرحلة ايجاد عرف لغوي جديد ، وهذا يعني ان تلك الألفاظ لم تكن بدعا من التعبير ولم يستغربها الناس ، وهو كاشف عن تعارفها بمعانيها العباديّة قبل ذلك. بل نلاحظ ان القرآن الكريم يعرّض بكفّار الجاهلية وبعبادتهم فيطلق عليها في مجال التعريض اسم «الصلاة» ، وهذا ظاهر في ان هذا اللفظ هو الاسم الذي كانوا يطلقونه على عباداتهم كما يطلقه الشارع على ما جاء به ، وذلك كما في قوله تعالى : (وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكآء وتصدية)(٢).

__________________

(١) قال تعالى : (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون) (البقرة ـ ١٨٣)

(٢) الانفال ـ ٣٥.

والمعنى ـ والله العالم ـ انهم لم يكونوا يصلّون وانما كانوا يصفّرون

١٩٤

ويعزّز هذا المدّعى ايضا ما يقال من انّ «صلاة» و «زكوت» (١) لفظتان عبريتان كانتا بمعنى العبادة المعهودة وقد عرّبتا وبقيتا محافظتين على الواو في الخط تأثّرا باصله.

وهكذا نعلم ان تلك المعاني الشرعية باساميها كانت ثابتة في المجتمع العربي قبل الاسلام بشكل وآخر بحيث لم يصدر من قبل الشارع عدا تغيير بعض التفاصيل والشروط غير المقوّمة لحقيقة ذلك المعنى الجامع ، فيثبت عندئذ ان المعاني الشرعية الجامعة بين ما جاء به الاسلام وما جاءت به الشرائع السابقة مع ما بينهما من اختلاف في التفاصيل كانت ثابتة كحقائق لغوية لهذه الاسماء.

او ان يدّعى ان المعاني الشرعية وان كانت ثابتة في الجملة قبل الاسلام إلا ان استعمال نفس الاسامي فيها بدرجة تصبح حقيقة لغوية فيها لا جزم بثبوته مع ملاحظة فترة مجيء الاسلام وما خلقته تشريعاته العبادية من الحاجة الاستعمالية لهذه الأسماء في المعاني الشرعية ، فتثبت عندئذ الحقيقة الشرعية التعينية.

__________________

ويصفّقون باليدين كما هي عادة الفسّاق اليوم في المهرجانات ، فانك تراهم ـ في الحالات التي ينبغي فيها ان يصلّى على الرسول الاعظم واهل بيته الاطهار عليهم الصلاة والسلام ـ تراهم يصفّرون ويصفّقون.

(١) قال تعالى في سياق اوامره لبني اسرائيل : (وأقيموا الصّلوة وءاتوا الزّكوة واركعوا مع الرّكعين) (٤٣) ، وقال عن لسان رسوله عيسى عليه‌السلام : (وأوصانى بالصّلوة والزّكوة ما دمت حيّا) ونحو ذلك من الآيات الكريمة.

١٩٥

وانكار هاتين الفرضيتين (١) وادّعاء ان هذه الأسماء لم تكن حقيقة في المعاني الشرعية قبل الاسلام ولم يبلغ استعمالها فيها مرتبة الحقيقة التعينيّة بعد الاسلام امر بعيد جدّا مع تلك المرتبة من شيوع الاستعمالات المذكورة قبل الاسلام وبعده كما عرفت.» (٢) (انتهى كلامه رفع مقامه).

ثالثا : ان أكثر الألفاظ الواردة في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة معروفة المعنى (٣) فهذه ايضا لوضوح امرها لا بحث فيها.

رابعا : وهناك ألفاظ كثيرة الدوران على الالسن امّا كل يوم كالفاظ الصلاة والوضوء والغسل والطهارة ونحوها او في المواسم كألفاظ الحج في موسمه والصيام في شهر رمضان او الزكاة في وقتها وهكذا ، وهذه أيضا لا بحث فيها لعلمنا بصيرورتها حقيقة في معناها الجديد في اقرب وقت.

فيبقى البحث في ما عدا ذلك وهو قليل جدّا ، ككلمات نجاسة (المردّدة بين المادّية والمعنوية) (*) وقرء (المردّدة بين الطهارة والحيض)

__________________

(١) ذكر السيد الشهيد ثلاث فرضيات ذكرنا هنا الاخيرتين ولم نذكر الاولى لبيان ضعفها وهي قوله «ان لا تكون هذه المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام فلا محالة تكون مخترعة من قبله» ، وقد ابان السيد الشهيد ضعف هذه الفرضيّة ، بل ما ذكره هنا في الفرضية الثانية ايضا يبطل الفرضيّة الاولى.

(٢) وهكذا يصل سيدنا الشهيد (قده) في بحوثه ج ١ ص ١٨٤ الى القول بالحقيقة الشرعية ، ولكن سترى ان الحقّ هو التفصيل.

(٣) راجع مثلا آيات الاحكام.

__________________

(*) لا بأس بذكر مثال عملي على هذه المسألة ولو باختصار ، وهو انه قد ورد في القرآن

١٩٦

__________________

الكريم قوله تعالى : (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، واختلف في المعنى المراد من كلمة «نجس» في هذه الآية القرآنية التي وردت في السنة التاسعة للهجرة ، فيحتمل ان يكون المراد منها النجاسة الماديّة وقد كانت تستعمل هذه الكلمة بالنجاسة المادّية بدليل ورود حوالي اثنين وعشرين رواية في كتب المسلمين بالنجاسة المادية ولكن مع قرائن تفيدنا إرادة هذا المعنى كما ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا قوله «لا ينجّس الماء إلا ما غيّر ريحه او طعمه او ما غلب على ريحه وطعمه» ، ويحتمل ارادة النجاسة المعنوية (اي الخباثة النفسانية) بقرائن منها ورود عدّة روايات في عصر الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعمل هذه اللفظة بمعنى الخباثة النفسانية ، فمما ذكره المحدّث المجلسي في البحار قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اذا دخلتم في الصيام فطهّروا نفوسكم من كل دنس ونجس ، وصوموا لله بقلوب خالصة صافية منزهة عن الافكار السيئة» ، وقوله «ان الله خلقني وعليا وفاطمة والحسن والحسين من قبل ان يخلق الدنيا .. (الى ان قال) ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر ، يسعد بنا قوم ويشقى آخرون ، فلما صيّرنا الى صلب عبد المطلب اخرج ذلك النور فشقّه نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في ابي طالب» ، وقوله «... إنه لا احد من محبّي علي عليه‌السلام نظف قلبه من قذر الغش والدغل والغلّ ونجاسة الذنوب إلا لكان اطهر وافضل من الملائكة ...» وقوله «... فازل نجاسة ذنوبك بالتضرّع والخشوع والتهجّد والاستغفار بالاسحار ...» وغيرها ، وهي تبلغ حوالي الخمس روايات او اكثر ، وغيرها من القرائن من قبيل سيرة الرسول الاعظم والأئمة الاطهار على طهارة المشركين والنواصب من اسرى الفرس والروم والقرشيين وغيرهم ، ولعلّه لما ذكرنا افتى مشهور العامّة بطهارة الانسان وان كان مشركا ، وكذا افتى بعض اصحابنا الامامية ، راجع تنقيح السيد الخوئي ج ٢ ص ٤٣ إذ يقول فيه «ان الصحيح في الجواب ان يقال : إنّ النجس عند المتشرعة وإن كان بمعنى النجاسة المادية إلا انه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة لجواز ان لا تثبت النجاسة المادية على شيء من الاعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلا ، وذلك للتدرج

١٩٧

ووضوء (المردّدة بين ما يرفع الحدث الاصغر وبين ما يرفع الخبث أو قل وبين الغسل) ونحوها.

وحينئذ نقول انه لا يوجد دليل في حالة تردّد كون الاستعمال حاصلا في زمان علقة اللفظ مع المعنى القديم او المعنى الجديد على التعبّد بكون العلقة مع المعنى الجديد وهذا امر واضح ومسلّم ، وكذلك لا يوجد دليل لا شرعي ولا عقلائي على كونها مع المعنى القديم ، امّا على المستوى العقلائي فالامر واضح ايضا إذ لا يوجد نكتة كشف اطمئنانية يبني العقلاء على اساسها الحمل على المعنى القديم ، بل لا يوجد عند العقلاء اصل تعبدي إلا ان يفيدهم العلم او الاطمئنان ، وامّا بالنسبة الى وجود اصل شرعي فهو إن وجد فهو الاستصحاب لا غير ، وهذا الاستصحاب ـ في مسألتنا هذه ـ باطل من جهتين (١) :

الاولى : انه مثبت ، بتقريب اننا ان بنينا على بقاء العلقة الوضعية والقرن الاكيد بين اللفظ والمعنى القديم فهو يعني ان الشخص ان استعمل هذا اللفظ فانه سيتصوّر منه المعنى القديم ، ثم سيفهم منه إرادة معناه ، ثم سيفهم منه ـ بمعونة قرينة المقام ـ ارادته الجديّة ، ومع تمامية شرائط

__________________

(١) راجع البحوث ج ١ ص ١٧٣.

__________________

في بيان الاحكام ، بل الظاهر انه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة ، وأي قذارة أعظم واشدّ من قذارة الشرك؟! وهذا هو المعنى المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إن النجس المادّي لا مانع من دخوله المسجد إذا لم يستلزم هتكه ، وأمّا النجاسة الكفرية فهي مبغوضة عن الله ، لانّ الكافر عدو الله ، فكيف يرضى صاحب البيت بدخول عدوه الى بيته؟! (انتهى بتصرف قليل).

١٩٨

فعلية الحكم ومنجزيته سيترتب الاثر الشرعي ، وهذا يعني ان الاثر الشرعي سيترتب بعد ترتّب عدّة من اللوازم العاديّة او العقلية. وسوف يأتيك في ابحاث قاعدة الاستصحاب عدم حجية الاصل المثبت.

الثانية : انه استصحاب تعليقي ، بتقريب ان الاثر الشرعي كما رأيت في الجهة الاولى لا يترتب إلّا بعد استعمال هذا اللفظ وعلى تقدير استعماله ، وسيأتيك إن شاء الله توضيح الاستصحاب التعليقي والدليل على بطلانه في ابحاث «الاستصحاب».

فيتعيّن ان نعتبر ان هذا اللفظ مجمل لا نعرف معناه حين صدوره ، وهو بالنتيجة يؤدّي الى القول بالحقيقة المتشرّعية.

١٩٩

(الصحيح والأعم)

المراد من هذا البحث ان نعرف ان أسماء الماهيّات المركبة كالصلاة والعقود ونحوها هل هي موضوعة للماهيات الصحيحة ام الشاملة لها وللفاسدة.

الصحيح انها موضوعة لخصوص الصحيح منها وان كان فيها عيوب تؤثّر على كمالها لا على اصل ماهيّتها ، بلا فرق في ذلك بين كون الماهية شرعية ام عرفية.

بيان ذلك :

امّا في الشرعيّات فلأن الواضع هو الشارع المقدس ، فحينما وضع مثلا لفظة «الصلاة» وضعها للماهية المركبة من اجزاء وشرائط معيّنة بحيث لو سألناه ما هي صلاة الظهر مثلا لوصفها بجميع خصوصياتها ، وهكذا الامر في جميع الماهيات الشرعية المخترعة كسائر العبادات والايقاعات كالطلاق والأيمان ونحوهما ، ولذلك ترى ذهنك يتبادر الى خصوص المعاني الصحيحة من امثال «الصلاة» ونحوها عند ما ترى الشارع يأمرنا باقامة الصلاة.

وامّا في العرفيات كالبيع وأسماء سائر المركبات ككلمات كتاب وبيت وأسماء الادوية ونحوها فانها موضوعة لماهياتها الصحيحة وإن

٢٠٠