دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

موضوع الحكم المجعول في ذلك الجعل (١) ، فيكون عدم قيام دليل خاص على الجعل الشرعي قيدا في الحكم المجعول. فاذا قام هذا الدليل الخاص على الجعل الشرعي انتفى المجعول بانتفاء قيده ، وما دام المجعول منتفيا فلا منجزية ولا معذّرية ، وليس ذلك من سلب المنجزية عن القطع بالحكم الشرعي ، بل من الحيلولة دون وجود هذا القطع ، لان القطع المنجّز هو القطع بفعلية المجعول لا القطع بمجرد الجعل ، ولا قطع في المقام بالمجعول ، وان كان القطع بالجعل ثابتا ، غير ان هذا القطع الخاص بالجعل بنفسه يكون نافيا لفعلية المجعول نتيجة لتقيد المجعول بعدمه ، وقد سبق في ابحاث الدليل العقلي في الحلقة السابقة انه لا مانع من اخذ علم مخصوص بالجعل (٢) شرطا في المجعول او اخذ عدمه (٣) قيدا في المجعول ، ولا يلزم من كل ذلك دور.

وقد ذهب جملة من العلماء (٤) الى ان العلم المستند الى الدليل

__________________

الذي اشترطه الشارع في موضوع الحكم.

(١) فيمكن للشارع المقدّس ان يبطل قطعنا المعتمد على دليل عقلي مثلا فيقول «إن لم يكن الدليل على الجعل الشرعي عقليا فهو حجة».

(٢) كالعلم الناشئ من الآيات الظاهرة والروايات الصحيحة سندا والصريحة دلالة.

(٣) فيقول المولى مثلا «إن لم يكن العلم ناشئا من العقل او من القياس فهو حجة».

(٤) قال الشيخ الاعظم في الرسائل «وينسب الى غير واحد من اصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقلية القطعية الغير ضرورية ...» وذلك للروايات الناهية عن ذلك من قبيل

١٦١

العقلي فقط ليس بحجّة ، وقيل (١) في التعقيب على ذلك : إنه ان اريد بهذا تحويله من طريقي الى موضوعي بالطريقة التي ذكرناها بأن يكون عدم العلم العقلي بالجعل قد اخذ قيدا في المجعول فهو ممكن ثبوتا ، ولكنه لا دليل على هذا التقييد اثباتا ، وان اريد بهذا سلب الحجية عن العلم العقلي بدون التحويل المذكور فهو مستحيل ، لان القطع الطريقي لا يمكن تجريده عن المنجزية والمعذّرية ، وسيأتي الكلام عن ذلك في مباحث الدليل العقلي ان شاء الله تعالى.

__________________

«ان دين الله لا يصاب بالعقول» و «حرام عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تستمعوه منا» و «من دان الله بغير سماع من صادق الزمه الله التيه» و «ولو ان رجلا قام ليله وصام نهاره وحجّ دهره وتصدّق بجميع ماله ولم يعرف ولاية ولي الله فتكون اعماله بدلالته فيواليه ما كان له على الله ثواب» ، وقد روي ان ابان بن تغلب سأل الصادق عليه‌السلام عن رجل قطع اصبعا من اصابع المرأة كم فيه من الدّية؟ قال عشر من الابل ، قال قلت قطع اصبعين؟ قال عليه‌السلام عشرون ، قلت قطع ثلاثا؟ قال ثلاثون ، قلت قطع اربعا؟

قال عشرون ، قلت سبحان الله ، يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعا فيكون عليه عشرون؟! كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق فقلنا إن الذي جاء به شيطان ، قال عليه‌السلام : «مهلا يا ابان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدّية فاذا بلغ الثلث رجع الى النصف ، يا ابان انك اخذتني بالقياس ، والسنّة اذا قيست محق الدين» (والحكم المذكور في هذه الرواية هو فتوى مشهور فقهائنا) ، والروايات بهذا المعنى فوق التواتر ، راجع جامع احاديث الشيعة ج ١ باب «عدم حجية القياس»

(١) القائل هو المحقق النائيني (قدس‌سره) ، راجع المصباح ج ٢ ص ٥٦ ـ ٥٨

١٦٢

تقسيم البحث في الادلّة المحرزة :

وسنقسم البحث في الادلّة المحرزة وفقا لما تقدّم في الحلقة السابقة الى قسمين :

احدهما : في الدليل الشرعي.

والآخر : في الدليل العقلي.

كما ان القسم الاوّل نوعان :

احدهما : الدليل الشرعي اللفظي.

والآخر : الدليل الشرعي غير اللفظي.

والبحث في الدليل الشرعي :

(تارة) في تحديد ضوابط عامّة لدلالته وظهوره ،

و (أخرى) في ثبوت صغراه ـ اي في حيثية الصدور [يعني من جهة ثبوت صدوره من المعصوم ، أو قل من جهة ثبوت حجية خبر الواحد] ،

و (ثالثة) في حجية ظهوره.

وعلى هذا المنوال تجري البحوث في هذه الحلقة.

١٦٣

الدليل الشرعي

البحث الاوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي

١ ـ (تحديد دلالات الدليل الشرعي اللفظي)

الدلالات الخاصّة والمشتركة :

هناك في الألفاظ دلالات خاصّة لا تشكّل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط تتولّاها علوم اللغة ولا تدخل في علم الاصول ، وهناك دلالات عامّة تصلح للدخول في استنباط مسائل مختلفة ، وهذه يبحث عنها علم الاصول بوصفها عناصر مشتركة في عملية الاستنباط كدلالة صيغة افعل على الوجوب ، ودلالة اسم الجنس الخالي من القيد (١) على ارادة المطلق ونحو ذلك.

وقد يقال ان غرض الاصولي انما هو تعيين ما يدل عليه اللفظ من معنى او ما هو المعنى الظاهر للفظ عند تعدد معانيه لغة ، واثبات هذا الغرض انما يكون عادة بنقل اهل اللغة أو بالتبادر الذي هو عملية عفوية يمارسها كل انسان بلا حاجة الى تعمّل ومزيد عناية ، فايّ مجال يبقى

__________________

(١) كلفظتي «رجل» و «الرجل» في قولينا «اكرم رجلا» و «اكرم الرجل» ، فانّ رجلا والرجل هنا غير مقيدتين بشيء كالعدالة والعلم ونحوهما ، لذا فهما مطلقتان تفيدان العموم.

١٦٤

للبحث العلمي ولإعمال الصناعة والتدقيق في هذه المسائل لكي يتولّى ذلك علم الاصول؟

والتحقيق ان البحوث اللفظية التي يتناولها علم الاصول على قسمين :

احدهما : البحوث اللغوية.

والآخر : البحوث التحليلية.

امّا البحوث اللغوية فهي بحوث يراد بها اكتشاف دلالة اللفظ على معنى معيّن من قبيل البحث عن دلالة صيغة الامر على الوجوب ودلالة الجملة الشرطية على المفهوم.

وامّا البحوث التحليلية فيفترض فيها مسبقا ان معنى الكلام معلوم ودلالة الكلام عليه واضحة ، غير ان هذا المعنى مستفاد من مجموع اجزاء الكلام على طريقة تعدد الدّال والمدلول ، فكل جزء من المعنى يقابله جزء في الكلام. ومن هنا قد يكون ما يقابل بعض اجزاء الكلام من اجزاء المعنى واضحا ، ولكن ما يقابل بعضها الآخر [كالحروف وهيآت الجمل] غير واضح ، فيبحث بحثا تحليليا عن تعيين المقابل.

ومثال ذلك : البحث عن مدلول الحرف والمعاني الحرفية ، فاننا حين نقول «زيد في الدار» نفهم معنى الكلام بوضوح ونستطيع بسهولة ان ندرك ما يقابل كلمة «زيد» وما يقابل كلمة «دار» ، وامّا ما يقابل كلمة «في» فلا يخلو من غموض ، ومن اجل ذلك يقع البحث في معنى الحرف ، وهو ليس بحثا لغويا ، اذ لا يوجد فيمن يفهم العربية من لا يتصوّر معنى «في» ضمن تصوّره لمدلول جملة «زيد في الدار» ، وانما هو بحث تحليلي بالمعنى الذي ذكرناه.

١٦٥

ومن الواضح ان البحث التحليلي بهذا المعنى لا يرجع فيه الى مجرّد التبادر او نص علماء اللغة ، بل هو بحث علمي تولّاه علم الاصول في حدود ما يترتب عليه من اثر في عملية الاستنباط (١) على ما يأتي ان شاء الله تعالى.

وأمّا البحوث اللغوية فهي يمكن ان تقع موضعا للبحث العلمي في احدى الحالات التالية :

الحالة الاولى : ان تكون هناك دلالة كلّية كقرينة الحكمة ويراد اثبات ظهور الكلام في معنى كتطبيق لتلك القرينة الكليّة.

ومثال ذلك : ان يقال بأنّ ظاهر الامر هو الطلب النفسي لا الغيري ، والتعييني لا التخييري تمسكا بالاطلاق (٢) وتطبيقا لقرينة الحكمة ، وذلك

__________________

(١) (بيان ذلك) من خلال مثال : إنّه قد جرى البحث في ان الشرط في الجملة الشرطية في قولنا مثلا «اذا استطعت فحج» هل يقيّد الحكم الموجود في الجزاء بحيث ان الوجوب الفعلي يتوقف على تحقق الشرط او انه يقيّد متعلّق الحكم وهو مادّة الحج ، قيل ان الوجه الاوّل وهو تقييد الوجوب بالشرط مستحيل ، لان الوجوب هو مفاد هيئة «حج» وهو معنى حرفي وهو جزئي ولا يمكن تقييده ، فلا بد من القول بالوجه الثاني وإن كان خلاف الظاهر ... ويترتب على القول بالوجه الثاني ان الوجوب سيكون فعليا حتّى قبل تحقق الشرط وهو من الوجوه التي استند اليها للقول بوجوب الذهاب الى الحج شرعا قبل وقته بحيث لا تفوته الفريضة في وقتها المكتوب ... (راجع ثمرة ابحاث المعاني الحرفية).

وكما رأيت ، هذا البحث وامثاله مكانها المناسب علم الاصول.

(٢) لانّ الشارع المقدّس لو كان يريد الامر الفلاني مقدمة لغيره ـ كالوضوء

١٦٦

عن طريق اثبات ان الطلب الغيري والتخييري طلب مقيّد فينفى بتلك القرينة كما تقدّم في الحلقة السابقة ، فان هذا بحث في التطبيق يستدعي النظر العلمي في حقيقة الطلب الغيري والطلب التخييري واثبات انهما من الطلب المقيّد.

الحالة الثانية : ان يكون المعنى متبادرا ومفروغا عن فهمه من اللفظ ، وانما يقع البحث العلمي في تفسير هذه الدلالة ، وهل انها تنشأ من الوضع او من قرينة الحكمة او من منشأ ثالث؟

مثال ذلك : انه لا اشكال في تبادر المطلق من اسم الجنس مع عدم ذكر القيد ، ولكن يبحث في علم الاصول ان هذا [التبادر] هل هو من اجل وضع اللفظ للمطلق ، او من اجل دالّ آخر كقرينة الحكمة؟ وهذا بحث لا يكفي فيه مجرّد الاحساس بالتبادر الساذج بل لا بد من جمع ظواهر عديدة ليستكشف من خلالها ملاك الدلالة.

الحالة الثالثة : ان يكون المعنى متبادرا ، ولكن يواجه ذلك شبهة تعيق الاصولي عن الاخذ بتبادره ما لم يجد حلّا فنيّا لتلك الشبهة.

مثال ذلك : ان الجملة الشرطية تدل بالتبادر العرفي على المفهوم ، ولكن في مقابل ذلك تحسّ أيضا بأن الشرط فيها اذا لم يكن علّة وحيدة ومنحصرة للجزاء لا يكون استعمال أداة الشرط مجازا كاستعمال لفظة

__________________

ـ لصرّح بذلك ليعلم انه مقدّمة ومطلوب لغيره ، ولو كان يريده على نحو الواجب المخيّر ـ كاحدى الخصال الثلاث لمن افطر في شهر رمضان متعمّدا ـ لذكر ذلك ، فعدم ذكره دليل على عدم ارادته ، وبالتالي يكشف عن كون هذا الواجب واجبا لنفسه وبنحو التعيين.

١٦٧

«الاسد» في الرجل الشجاع. ومن هنا يتحيّر الانسان في كيفية التوفيق بين هذين الوجدانيين ، ويؤدّي ذلك إلى الشك في الدلالة على المفهوم ما لم يتوصل الى تفسير يوفق فيه بين الوجدانيين.

وهناك ايضا بعض الحالات الاخرى التى يجدي فيها البحث التحقيقي.

وعلى هذا الاساس وبما ذكرنا من المنهجة والاسلوب يتناول علم الاصول دراسة الدلالات المشتركة الآتية ، ويبحثها لغويا او تحليليا.

١٦٨

(المعاني الحرفيّة)

المعنى الحرفي مصطلح اصولي تقدّم توضيحه في الحلقة السابقة ، وقد وقع البحث في تحديد المعاني الحرفية ، اذ لوحظ منذ البدء ان الحرف يختلف عن الاسم المناظر له كما مرّ بنا سابقا ، ففي تخريج ذلك وتحديد المعنى الحرفي وجد اتجاهان :

الاتجاه الاوّل : ما ذهب اليه صاحب الكفاية رحمه‌الله من ان معنى الحرف هو نفس معنى الاسم الموازي له ذاتا ، وانما يختلف عنه اختلافا طارئا وعرضيّا ، ف «من» و «الابتداء» يدلان على مفهوم واحد ، وهذا المفهوم اذا لوحظ وجوده في الخارج فهو دائما مرتبط بالمبتدئ [كزيد مثلا] والمبتدأ منه [كالبصرة] ، اذ لا يمكن وقوع ابتداء في الخارج الّا وهو قائم ومرتبط بهذين الطرفين ، واذا لوحظ وجوده في الذهن (١) فله نحوان من الوجود ، فتارة يلحظ بما هو ويسمّى باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى يلحظ بما هو حالة قائمة بالطرفين مطابقا لواقعه الخارجي ويسمّى باللحاظ الآلي. وكلمة «ابتداء» تدل عليه ملحوظا بالنحو الاوّل ، و «من» تدلّ عليه ملحوظا باللحاظ الثاني. فالفارق بين مدلولي الكلمتين في نوع اللحاظ (٢) مع وحدة ذات

__________________

(١) كل المعاني والمفاهيم توجد في الذهن سواء المعاني الاسمية منها او الحرفية ، وامّا التي في الخارج فهي مصاديق لا غير.

(٢) وبتعبير نفس صاحب الكفاية رحمه‌الله «... إن قلت : على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ولزم كون مثل كلمة «من» ولفظ «الابتداء»

١٦٩

المعنى الملحوظ فيهما معا ، الّا ان هذا لا يعني ان اللحاظ الاستقلالي او الآلي مقوّم للمعنى الموضوع له (١) او المستعمل فيه وقيد فيه ، لان ذلك يجعل

__________________

مترادفين وصحّة استعمال كلّ منهما في موضع الآخر ... وهو باطل بالضرورة كما هو واضح ، قلت : الفرق بينهما انما هو في اختصاص كلّ منهما بوضع حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، ووضع الحرف ليراد منه معناه لا كذلك بل بما هو حالة لغيره. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال احدهما في موضع الآخر وان اتفقا فيما له الوضع (اي في المعنى) ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان نحو ارادة المعنى (اي من النفسية والآلية) لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوّماته (لانّه حين تقييد المعنى بلحاظ معيّن يمتنع انطباقه على الخارج) انتهى كلامه قدس‌سره. (راجع منتهى الدراية ج ١ ص (٢٨ ـ ٤٦).

(١) الفرق بين المعنى الموضوع له والمعنى المستعمل فيه هو ان الأول وضعه الواضع ، وامّا الثاني فهو المعنى الذي استعمله المستعمل فيه ، مثلا قد تستعمل لفظة كتاب في الكتاب الحقيقي (المعنى الحقيقي) وقد تستعملها في العالم.

ومراده (قدس‌سره) من كلامه هذا ان يقول ... إلّا ان هذا لا يعني ان اللحاظ الاستقلالي ـ في الاسم ـ او الآلي ـ في الحرف ـ مقوّم للمعنى الموضوع له اللفظ او المستعمل فيه اللفظ ، وذلك لانّ تقييد المعنى بأمر ذهني يجعله ممتنع الانطباق على الخارج ، وانما يؤخذ نحو اللحاظ حين الوضع قيدا لنفس العلقة الوضعية بين الاسم ومعناه الاستقلالي والحرف ومعناه الربطي ، بمعنى ان كلّا من الاسم والحرف مختص بنحو من أنحاء الوضع واللحاظ ، فنحو وضع الاسم هو انه وضع ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، ونحو وضع الحرف هو انه وضع ليكون رابطا بين المعاني.

١٧٠

المعنى امرا ذهنيا غير قابل للانطباق على الخارج (١) ، وانما يؤخذ نحو اللحاظ قيدا لنفس العلقة الوضعيّة المجعولة من قبل الواضع (٢) ، فاستعمال الحرف في الابتداء حالة اللحاظ الاستقلالي استعمال في معنى بلا وضع ، لان وضعه له مقيّد بغير هذه الحالة لا استعمال في غير ما وضع له.

والاتجاه الثاني : ما ذهب إليه مشهور المحققين بعد صاحب الكفاية من ان المعنى الحرفي والمعنى الاسمي متباينان ذاتا ، وليس الفرق بينهما باختلاف كيفية اللحاظ فقط ، بل ان الاختلاف في كيفية اللحاظ ناتج عن الاختلاف الذاتي بين المعنيين على ما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

أمّا الاتجاه الاوّل فيرد عليه ان البرهان قائم على التغاير السنخي والذاتي بين معاني الحروف ومعاني الاسماء ، وملخصه انه لا اشكال في ان الصورة الذهنية التي تدلّ عليها جملة «سار زيد من البصرة الى الكوفة» مترابطة ، بمعنى انها تشتمل على معان مرتبط بعضها ببعض فلا بد من افتراض معان رابطة فيها لايجاد الربط بين «السير» و «زيد» و «البصرة» و «الكوفة» ، وهذه المعاني الرابطة ان كانت صفة الربط عرضيّة لها وطارئة فلا بدّ ان تكون هذه الصفة مستمدّة من غيرها ، لانّ كل ما بالعرض ينتهي

__________________

(١) اعلم انّ المعاني الذهنيّة المقيّدة بقيود ذهنية تصير من قبيل الكلّي العقلي الذي لا وجود له في الخارج كالانسان الكلّي ، فانه لا يوجد انسان كلّي في الخارج ، وكذلك المعنى الاسمي والمعنى الحرفي فانه لو افترضنا انهما مقيدان باللحاظ المستقلّ واللحاظ الربطي فانه لا يعود لهما وجود ومصداق في الخارج.

(٢) اي خارج المعنى لا داخله.

١٧١

الى ما بالذات (١) ، وبهذا ننتهي الى معان يكون الربط ذاتيا لها ، وليس شيء من المعاني الاسميّة يكون الربط ذاتيا له ، لانّ ما كان الربط ذاتيا ومقوّما له ـ وبعبارة أخرى عين حقيقته ـ يستحيل تصوره مجرّدا عن طرفيه (٢) لانه مساوق لتجرّده عن الربط وهو خلف ذاتيّته له ، وكل مفهوم اسمي قابل لان يتصوّر بنفسه مجردا عن اي ضميمة ، وهذا يثبت ان المفاهيم الاسمية غير تلك المعاني التي يكون الربط ذاتيا لها ، وهذه المعاني هي مداليل الحروف ، إذ لا يوجد ما يدل على تلك المعاني ـ بعد استثناء الأسماء ـ إلا الحروف ، وحتى (٣) نفس مفهوم «النسبة» ومفهوم «الربط» المدلول عليهما بكلمتي النسبة والربط ليسا من المعاني الحرفية بل من المعاني الاسمية لامكان تصوّرهما بدون أطراف ، وهذا يعني انهما (٤) ليسا نسبة وربطا بالحمل الشائع وان كانا كذلك بالحمل

__________________

(١) فالقيام والقعود مثلا لا بد ان يقوما بشخص (وهو قائم بنفسه وبذاته) ، ولا يمكن ان يكون العرض قائما بنفسه وإلا لكان جوهرا لا عرضا.

وكأنه بعد هذه الجملة حذفت جملة وهي «وان كانت صفة الربط ذاتية لها فهو المطلوب» ، وان كان يمكن التعويض عنها بقوله «وبهذا ننتهي ...».

(٢) كالهيآت ، فانه لا يمكن تصوّر هيئة جملة ما إلا بتصوّر أطرافها.

(٣) هذه جملة استئنافية وهي من باب دفع توهّم ، إذ حينما قال بأن المعاني الحرفية معان نسبية وربطية قد يتوهم أن مفهومي النسبة والربط هي معان حرفية ، فدفع هذا التوهم بقوله بأن مفهومي النسبة والربط هما مفهومان اسميان كسائر المفاهيم الاسمية لانه يمكن تصوّرهما بنحو الاستقلال.

(٤) اي مفهومي النسبة والربط.

ومراده (قده) ان يقول : وهذا يعني ان مفهومي النسبة والربط ليسا نسبة و

١٧٢

الاوّلي. وقد مرّ عليك في المنطق ان الشيء يصدق على نفسه بالحمل الاوّلي ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع ، كالجزئي [الذهني] ، فانه جزئي بالحمل الاوّلي ولكنه كلّي بالحمل الشائع (١).

وهذا البيان كما يبطل الاتجاه الاوّل يبرهن على صحّة الاتجاه الثاني إجمالا ،

وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :

المرحلة الاولى : إنّا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :

الاوّل : مفهوم بإزاء النار ،

والثاني : مفهوم بإزاء الموقد ،

والثالث : مفهوم بإزاء العلاقة والنسبة الخاصّة القائمة بين النار

__________________

ربطا حقيقة وبالنظر الى مصداقهما ، وان كانا كذلك مفهوما ، وقد مرّ عليك في المنطق ان الشيء يصدق على نفسه دائما ، فماهية الانسان انسان وزيد هو زيد ماهية ومفهوما والجزئي جزئي ماهية ومفهوما ، ولكن اذا نظرنا الى مفهوم الجزئي في اذهاننا لوجدناه ـ ككل المعاني الذهنيّة ـ كلّيا ينطبق على كل امر جزئي كالقلم الخارجي الفلاني والكتاب الخارجي المعيّن وو ...

إلخ ، وكذلك الامر في مفهومي النسبة والربط فانهما نسبة وربط مفهوما وماهية (أي بالحمل الذاتي الاوّلي) ولكن اذا نظرنا الى حقيقتيهما (أي بالحمل الشائع الصناعي) لوجدناهما مفاهيم اسمية كسائر المفاهيم الاسمية.

(١) لأنّ كل معنى ذهني هو كلّي أي يصلح للانطباق على كثيرين ، فهذا الكتاب مصداق للجزئي الذهني وذاك الدفتر أيضا جزئي.

١٧٣

والموقد.

غير ان الغرض من احضار مفهومي النار والموقد في الذهن التمكّن بتوسّط هذه المفاهيم من الحكم على النار والموقد الخارجيين ، وليس الغرض ايجاد خصائص حقيقة النار (١) في الذهن ، وواضح انه يكفي لتحقيق (٢) الغرض الذي ذكرناه ان يكون الحاصل في الذهن نارا بالنظر التصوّري وبالحمل الاوّلي لما تقدّم منا سابقا ـ في البحث عن القضايا الحقيقية والخارجية ـ من كفاية ذلك في اصدار الحكم على الخارج.

وامّا الغرض من احضار المفهوم الثالث الذي هو بإزاء النسبة الخارجية والربط المخصوص بين النار والموقد فهو الحصول على حقيقة النسبة والربط لكي يحصل الارتباط حقيقة بين المفاهيم في الذهن. ولا يكفي ان يكون المفهوم المنتزع بإزاء النسبة (٣) نسبة بالنظر التصوّري وبالحمل الاوّلي (اي مفهوم النسبة) وليس كذلك بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، إذ لا يتمّ حينئذ ربط بين المفاهيم ذهنا. وبذلك يتّضح اوّل فرق اساسي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وهو انّ الاوّل سنخ

__________________

(١) اي خصائص النار الخارجية من الاحراق الخارجي ونحوه.

(٢) في النسخة الاصلية «لتوفير» بدل «لتحقيق» وما اثبتناه اوضح.

(٣) اي لا يكفي ان يكون المفهوم المنتزع من النسبة الخارجية والمستعمل في الكلام مفهوم «النسبة» الاسمي ، بأن نقول مثلا النار نسبة الموقد ، إذ لا يحصل بهذا الاستعمال الربط المخصوص المطلوب بين المفاهيم الاسمية ، اذن لا بد لكي نحصّل الربط في الذهن بين المعاني الذهنية من احضار مفهوم ذهني يكون بذاته رابطا.

١٧٤

مفهوم يحصل الغرض من احضاره في الذهن بان يكون عين الحقيقة بالنظر التصوّري ، والثاني سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من احضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.

وهذا معنى عميق لايجادية المعاني الحرفية ، بأن يراد بايجادية المعنى الحرفي كونه عين حقيقة (١) نفسه لا مجرّد عنوان ومفهوم يري الحقيقة (٢) تصوّرا ويغايرها حقيقة. والانسب ان تحمل ايجادية المعاني الحرفية التي قال بها المحقق النائيني على هذا المعنى (*) لا على ما تقدّم

__________________

(١) اي بأن يراد بايجادية المعنى الحرفي كون المعنى الحرفي رابطا حقيقة ، وان لا يكون له دور في الجملة إلا الربط ، وكان الاولى ان يقول «... كون الربط فيه عين حقيقته لا كون الربط مجرّد عنوان ومفهوم يري حقيقة الربط تصوّرا ـ اي مفهوما وبالحمل الاوّلي ـ ويغايره حقيقة وبالحمل الشائع».

(٢) اي يري حقيقة الربط مفهوما وتصوّرا ...

__________________

(*) مراد المحقق النائيني رحمه‌الله من ايجادية المعاني الحرفية كمراد السيد الشهيد (قده) هو ان المعاني الحرفية هي بلا شك معان رابطة دورها ايجاد الترابط المطلوب بين المفاهيم الاسمية ، فكما انّ دور المرآة هو اراءة صورة الواقف امامها لا غير اي ان دورها عادة آلي فكذلك المعاني الحرفية فانها آلة محضة لايجاد الترابط في الذهن بين المعاني والمفاهيم ، ولذلك ترى أنك لا تستفيد من المعاني الحرفية شيئا إلّا حين الاستعمال فقط بخلاف الأسماء فانه يمكن تصوّر معانيها بمجرّد تصورها ، والى هذا يشير قول امير المؤمنين عليه‌السلام المنسوب إليه «والحرف ما اوجد معنى في غيره» ، فانّ دور الاسم ايجاد معنى مسمّاه في ذهن السامع ، وامّا دور المعنى الحرفي فهو ايجاد الربط المخصوص بين المفاهيم الاسمية ولذلك ترى انّه لا يمكن ايجاد الربط هذا إلا حين الاستعمال.

١٧٥

في الحلقة السابقة من انها بمعنى ايجاد الربط الكلامي.

المرحلة الثانية : إنّ تكثّر النوع الواحد من النسبة كنسبة الظرفيّة مثلا لا يعقل إلّا مع فرض تغاير الطرفين ذاتا ، كما في نسبة النار الى الموقد ، ونسبة الكتاب الى الرف ، او موطنا كما في نسبة الظرفيّة بين النار والموقد في الخارج وفي ذهن المتكلم وفي ذهن السامع.

وكلّما تكثرت النسبة على احد هذين النحوين استحال انتزاع جامع ذاتي حقيقي بينها ، وذلك إذا عرفنا ما يلي :

اوّلا : ان الجامع الذاتي الحقيقي هو ما تحفظ فيه المقوّمات الذاتية للافراد ، خلافا للجامع العرضي الذي لا يستبطن تلك المقوّمات. ومثال

__________________

(أقول) وهذا المعنى من الايجادية صحيح الّا انه لا ينبغي ان يتوهّم انه ليس للحرف معنى اصلا والّا لما بقي فرق بين «من» و «الى» وسائر الحروف ، وانما نعني بكلامنا السابق انه ليست معانيها كمعاني الأسماء في امكان تصوّرها مستقلّة لكون الأسماء موضوعة لمعانيها بنحو الاستقلال ، وانما معاني الحروف رابطة في ذاتها وان الربط مأخوذ في معناها ، ولا يبعد ان يكون هذا المعنى هو مراد صاحب الكفاية ايضا.

والربط في المعاني الحرفية واضح والدليل على ذلك اننا ان اردنا ان نبدّل الحروف باسماء في جملة ما فان المعنى المطلوب لا يظهر ، ففي قولنا مثلا «وقع الابريق عن الطاولة الى الارض فانكسر وتبعثرت قطعه» لو اردنا التبديل لصارت هكذا : «وقع الابريق استعلاء الطاولة انتهاء الارض ترتيب انكسر عطف تبعثرت قطعه» وهو كلام كما ترى غريب. (فان قلت) حتّى في الجملة البديلة يوجد نحو ترابط رغم ابدال الحروف فيها باسماء (قلنا) إنّ هذا الترابط ناتج من هيئة الجملة ، والهيئة ـ كما سيأتي في المسألة التالية ـ معنى حرفي أيضا.

١٧٦

الاوّل : الانسان بالنسبة الى زيد وخالد ، ومثال الثاني : الابيض بالنسبة إليهما.

ثانيا : ان انتزاع الجامع يكون بحفظ جهة مشتركة بين الافراد مع إلغاء ما به الامتياز.

ثالثا : ان ما به امتياز النسب الظرفية المذكورة بعضها على بعض انما هو أطرافها ، وكل نسبة متقوّمة ذاتا بطرفيها ، اي انّها في مرتبة ذاتها لا يمكن تعقّلها بصورة مستقلّة عن طرفيها ، وإلا لم تكن نسبة وربطا في هذه المرتبة. وعلى هذا الاساس نعرف ان انتزاع الجامع بين النسب الظرفية مثلا يتوقّف على إلغاء ما به الامتياز بينها ، وهو الطرفان لكل نسبة. ولما كان طرفا كل نسبة مقوّمين لها فما يحفظ من حيثية بعد إلغاء الاطراف لا تتضمّن المقوّمات الذاتيّة لتلك النسب ، فلا تكون [النسبة] جامعا ذاتيا حقيقيا. وهذا برهان على التغاير الماهوي الذاتي بين افراد النسب الظرفية وان كان بينها جامع عرضي (١) اسمي وهو نفس مفهوم النسبة الظرفية.

المرحلة الثالثة : وعلى ضوء ما تقدّم اثبت المحققون ان الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص (٢) ، لانّ المفروض عدم

__________________

(١) قال «جامع عرضي» لان مفهوم «النسبة الظرفية» لا يجمع بين ذاتيات النسب الظرفية ، وانما هو تعبير اسمي عن هذه النسب للاشارة اليها لا اكثر ، وذلك كالتعبير بمفهوم «الشيء» عن كل ما هو موجود ، وما هو إلا للاشارة الى الاشياء لا اكثر ، وليس تعريفا ماهويا بالحدّ التام مثلا.

(٢) بعد ما اثبت في المرحلة الاولى ايجاديّة المعاني الحرفية وان المعنى

١٧٧

__________________

الحرفي هو الرابط بين المفاهيم الاسمية ، ثم قال هذه المعاني الحرفية لا جامع ذاتيا لها وذلك لما ذكره في المرحلة الثانية من ان قوام المعنى الحرفي انما هو بطرفيه ـ لانه ليس إلا رابطا بينهما ـ فمع تبدّل احد الطرفين يتغيّر هذا الرابط ذاتا ، فما هو الجامع الذاتي اذن بين المعاني الحرفية ذات الاطراف المتغايرة؟

ولهذا قال هنا ـ في المرحلة الثالثة ـ «وعلى ضوء ما تقدّم اثبت المحققون ان الحروف موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ...» ، ومراده من هذين الاصطلاحين هو ان الواضع (تارة) يلحظ معنى كلّيا ويضع له اللفظ ، ويصطلحون على هذا بالوضع العام اي المعنى الملحوظ حين الوضع عام والمعنى الموضوع له اللفظ هو نفس هذا المعنى العام ، و (تارة أخرى) يلحظ معنى كليا ولكنه يضع اللفظ لافراده كما فيما نحن فيه ، وذلك يكون عادة اذا وجد مانع من وضع اللفظ لنفس ذاك المعنى العام المتصور ، كما في الحروف حيث قالوا انه لا يوجد معنى عام جامع بين ذاتيات المعاني الحرفية ليوضع اللفظ له ، وهذا ما اصطلحوا عليه بالوضع العام والموضوع له خاص ، و (ثالثة) يكون المعنى الملحوظ خاصّا كالمولود الجديد ثم يضع له وليّه اسما ، وهذه هي حالة الوضع الخاص والمعنى الموضوع له خاص ، (وهناك صورة رابعة) لا وجود لها في الخارج انما تذكر من باب تتميم الوجوه العقلية الاربعة وهي ان يتصور الواضع معنى خاصّا ثم يضع لفظا لمعنى عام ، وهي حالة الوضع الخاص والموضوع له عام ، وامّا لو تصوّر الواضع معنى عامّا من خلال الخاص فسيصير الوضع ح عامّا فلا تشتبه.

وبتعبير آخر : حينما يريد الواضع ان يضع حرف «في» مثلا للنسبة الظرفية الحرفية فانه لن يرى في الخارج ولا في الذهن «مفهوم النسبة الظرفية الحرفية» فانّ ما يكون في ذهنك هو المفهوم الاسمي ل «مفهوم النسبة الظرفية الحرفية» ، وذلك ان «مفهوم النسبة الظرفية الحرفية» لا يوجد الّا رابطا بين المعاني الاسمية فقط ولا يوجد بنحو الاستقلال لا في الذهن ولا

١٧٨

تعقّل جامع ذاتي بين النسب ليوضع الحرف له ، فلا بدّ من وضع الحرف لكل نسبة بالخصوص ، وهذا انما يتأتّى باستحضار جامع عنواني عرضي مشير [لمعنى الظرفية الحرفي](١) فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، وليس المراد بالخاص هنا الجزئي بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ، لانّ النسبة كثيرا ما تقبل الصدق على كثيرين بتبع كلّية طرفيها ،

__________________

في الخارج ، ولذلك يضطرّ الواضع أن يتصوّر المفهوم الاسمي ل «مفهوم النسبة الظرفية الحرفية» ، ومفهوم النسبة الظرفية الحرفية هو ما يعبّر عنه سيدنا الشهيد (قدس سرّه) بالجامع العنواني ـ لا الحقيقي ـ العرضي ـ لا الذاتي المشير ـ أي الى أفراده ـ فيكون الوضع عامّا ، ولكنه يضع حرف «في» لنفس «مفهوم النسبة الظرفية الحرفية» الذي لا يتصوّر الّا ضمن طرفين مثل زيد في البيت ولذلك قالوا بانّ الموضوع له خاص. ولكن الواضع يقول : كل ما كان معناه كمعنى «في» في قولنا «زيد في البيت» فقد وضعت حرف «في» له ، وبتعبير آخر : يقول وضعت حرف «في» لمعنى الظرفية الرابط بين المعاني الاسمية فالموضوع له من هذه الجهة عام. ولذلك ترى سيدنا المصنف رحمه‌الله يقول «وليس المراد بالخاص هنا الجزئي بمعنى ما لا يقبل الصدق على كثيرين ، بل المراد بالخاص هو كون الحرف موضوعا لمعنى كل نسبة بما لها من خصوصية الطرفين».

(١) كعنوان «الظرفيّة» مثلا بنحو المعنى الاسمي ، فانه ـ كما قلنا قبل قليل ـ جامع عرضي ـ لا حقيقي وذاتي ـ مشير الى حقيقة المعنى الربطي للظرفية ، فيكون الوضع عاما لانّ الواضع حين وضع هذه الحروف استحضر جامعا اسميا عرضيا وهذا الجامع عنوان عام ، فكان الوضع عامّا ، ولكنه حينما لم يستطع الواضع ان يتصوّر النسبة الظرفية ـ مثلا ـ إلا مع طرفيها كان الموضوع له خاصّا.

١٧٩

بل كون (١) الحرف موضوعا لكل نسبة بما لها من خصوصيّة الطرفين ،

__________________

(١) اي بل المراد بالخاص في قوله «والموضوع له خاصّا كون الحرف ...» ، بيان ذلك : حينما أراد الواضع ان يضع لفظة «في» مثلا للمعنى الحرفي للظرفيّة فانه يتصوّر هذا الجامع الاسمي العنواني العرضي وهو «المعنى الحرفي للظرفيّة» فيكون بالتالي المعنى الملحوظ عامّا ولذلك قالوا بكون الوضع عامّا ، ثمّ وضع هذه اللفظة للربط المخصوص القائم بين «النار» و «الموقد» مثلا ، فكان المعنى الموضوع له لفظ «في» خاصّا ، ولا يصحّ ان يكون المعنى الموضوع له هو نفس هذا الجامع العنواني العرضي المشير الى النسب الحرفية وذلك لانّ هذا المفهوم الجامع هو مفهوم اسمي لا حرفي ، وهو يغاير المعنى المراد ، فتأمّل(*)

__________________

(*) هنا ملاحظتان :

الملاحظة الاولى : انه يمكن ان يكون المعنى الموضوع له الحرف هو نفس هذا الجامع العنواني الحرفي ـ لا لهذا الجامع كمفهوم اسمي ـ اي ينظر الواضع الى هذا الجامع كعنوان مشير الى معنوناته ، فيكون المعنى الموضوع له اللفظ هو نفس المعنى الملاحظ اي يكون وضع الحروف ح بالوضع العام والموضوع له عاما ، لانّ الواضع يضع لفظ «في» مثلا لنفس «المعنى الحرفي الربطي للظرفية» لا كمفهوم اسمي وانما كعنوان مشير الى المعنى الحرفي الرابط في الخارج ، او قل بالحمل الشائع الصناعي. وهذا المعنى الموضوع له سيكون عامّا لا محالة.

بل من الغريب ان يقال بان المعنى الموضوع له فى الحروف خاص وانّ كلمة «في» مثلا قد وضعها الواضع لخصوص المعنى الحرفي للظرفية القائمة بين «النار» و «الموقد» الخارجيين او الذهنيين ، وأنّ وضعها لهذه النسبة يغاير وضعها للنسبة القائمة بين «زيد» و «الدار» الخارجيين وهكذا ... بل ذلك غير ممكن للبشر العاديين ، إذ كيف يمكن لهم ان يتصوّروا كل الاطراف؟! ثانيا : ان المعاني ـ بما أنّها ذهنية ـ هي

١٨٠