دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

او اصل على خلافها ، فان قامت الحجّة على خلافها تبدّلت واستقرّ ما قامت عليه الحجّة.

وكلا هذين النحوين من التصويب باطل :

أمّا الاول فلشناعته ووضوح بطلانه ، حيث ان الادلة والحجج انّما جاءت لتخبرنا عن حكم الله وتحدّد موقفنا تجاهه ، فكيف نفترض انّه لا حكم لله من حيث الأساس؟!

وامّا الثاني فلأنّه مخالف لظواهر (١) الأدلّة ، ولما دلّ على اشتراك الجاهل والعالم في الاحكام الواقعية (*).

__________________

(١) يقصد رحمه‌الله تعالى انّه مخالف لاطلاقات الأدلّة ، فليست الادلّة مقيّدة بالعلم. هذا وقد ذكرنا في التعليقة اشكالين غير هذين المذكورين في المتن فراجع.

__________________

(*) (اقول) إن تبيين البحث يحتاج الى ان ننظر فيه موردا موردا فنقول :

(المورد الاوّل) في اصول الدين ، فقد اجمع المسلمون ـ إلا عبد أالله بن الحسن العنبري ـ على انّ الحقّ فيها واحد ، ومعنى هذا هو القول بالتخطئة فيها ، وانّ على الانسان ان يسعى ليتوصّل الى الحقّ فيها مما يجب عليه الاعتقاد به كتوحيده تعالى ونبوّة الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحو ذلك .. وامّا العنبري فقد ذهب الى انّ كل مجتهد مصيب في العقليات وان كانت متناقضة كقولهم «النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم في كل اقواله وافعاله» و «النبي ليس معصوما في كل اقواله وافعاله» ، وهذا القول من الغرابة بمكان بحيث يكون الرّد عليه سفاهة ، ولذلك قال علماء العامّة فيه امّا بضرورة تاويل كلامه بأنه يريد ان يقول بانه قد اصاب ما عليه ـ وان استبعد بعضهم هذا التأويل «لانّ فيه ترك الظاهر من غير

__________________

(أ) او عبيد الله (انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي ص ٤٠٩) وشرح الجلال المحلّى على «جمع الجوامع للامام ابن السبكي» ص ٣٩٠ ، لتعرف تمام كلامهم.

٤١

__________________

دليل» كما قال الآمدي ص ٤١١ ـ والّا فانه «خروج عن طور العقلاء» ـ كما قال العطّار في تعليقته على شرح الجلال المحلى ص ٣٩٠ ـ و «انه من امحل المحالات وما اظن عاقلا يذهب الى ذلك» كما قال الآمدي ص ٤٠٩ ، و «انه جنون محض» كما قال العلامة البناني في حاشيته على «شرح الجلال» ص ٣٨٩ ... الخ.

(المورد الثاني) في الاحكام القطعية ، عقلية كانت كحسن العدل وقبح الظلم ، او نقلية وهي الاحكام الواضحة سندا ودلالة كوجوب الصلاة ، فقد اجمع المسلمون هنا ايضا على ان الحقّ فيها واحد.

(المورد الثالث) الموارد التي لم يرد فيها نصّ قطعي الحجية ـ سواء كان فيه ضعف سندي او دلالي او له معارض ـ أو لم يرد فيه نص اصلا ، او قل الموارد التي هي محلّ الاجتهاد والخلاف أ ، فهنا محطّ رحالنا ، وهنا اختلف رجالنا ، فنقول :

انقسم المسلمون هنا الى فرقتين :

(فرقة) تقول بان الحكم الواقعي فيها موجود فهو واحد ، سواء علم المكلّف به ام لم يعلم. والقائل بهذا القول جمع كبير من العلماء ، اذكر منهم : علماء الفرقة الامامية (جعلنا الله منهم) ، والائمة الفقهاء الاربعة ، والامام ابو إسحاق الشاطبي ، وابن قدامة (من الحنابلة) ، وابن بدران ، وقال السالمي الاباضي (وهو من الخوارج): «وذهب اصحابنا من اهل المغرب وابن بركة من اهل عمان الى انّ المصيب فيها واحد ، وانّ المخطئ غير آثم» ، وكذلك ابو بكر الاصمّ ب وبشر المريسي وابن عليّة والظاهرية ، ونسب ذلك ايضا الى اصحاب الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستدلوا لذلك ـ كما في ايضاح الفرائد وغيره ـ انهم كانوا ينسبون الخطأ الى بعضهم البعض ـ في اجتهاداتهم ـ من دون انكار من احد على التخطئة ، ممّا يعني انّهم كانوا يعتقدون ايضا بانّ الحقّ واحد. بل نسب البعض هذا القول الى جمهور العلماء ، والبعض الآخر الى جمهور المسلمين من غير الشيعة ، امّا الشيعة فقد اطبقوا على ذلك.

__________________

(أ) راجع حاشية العطار على الجلال لجمع الجوامع ص ٣٩٠.

(ب) راجع الاحكام في اصول الاحكام للآمدي ص ٤١٢.

٤٢

__________________

(وفرقه) تقول بالتصويب ، وانّ ما ادّى اليه نظر المجتهد هو حكم الله الواقعي ، وهذه مقالة جمهور المتكلّمين من الاشاعرة والمعتزلة ، اذكر منهم : الامام الغزالي ، القاضي ابو بكر الباقلاني ، ابو الحسن الاشعري ، ابن سريج ، ابو يوسف ومحمد صاحبي ابي حنيفة ، أبا الهذيل ، والجبائي ابنه.

وقد قرأت الكثير من مصادر العامّة أفلم أر من فهرس المطلب وآراء اصحابهم مع تحديد المصطلحات ، بل ترى كلمة التصويب مثلا حتّى في كلام واحد تارة تستعمل في معنى «اصاب الحكم الواقعي» وتارة أخرى في معنى «اصاب ما عليه من بذل الوسع» ، وكذلك كلمة «حكم» الواردة في قول ابي الحسن الاشعري والقاضي أبي بكر الباقلّاني «بانّ حكم الله يتبع ظن المجتهد» (فتارة) تفهم منهم انهم يريدون منها معنى الجعل فتراهم يقولون في بيانها بان حكم الله يتغيّر بحسب ظن المجتهد ، هذا على مبنى أن لله تعالى حكما منذ القديم إلا انه يتغيّر بحسب ما يتوصل اليه المجتهد ، وامّا على مبنى من جعله حادثا ، فقد قالوا يفهم حينئذ منه انه لم يكن لله تعالى حكم اصلا ، ولكن بعد الاجتهاد يحكم الله تعالى بحسب ما ادّى اليه الاجتهاد ب ، و (تارة) يريدون منها معنى الحكم الفعلي وان العلم مأخوذ في موضوع الاحكام ، كما يفهم مما سياتيك من كلام الغزالي ، و (تارة أخرى) تراهم يقولون بانّ المراد.

كلما معنى الحكم في مرحلة التنجيز ، وان العلم بالحكم شرط في تنجيزه ج!

__________________

(أ) وممّا راجعت في هذه المجال : المستصفى للغزالي ، المغني للقاضي عبد الجبار ، الاصول العامّة للفقه المقارن ، اصول الفقه للخضري ، الاجتهاد في الاسلام لمحمد مصطفى المراغي ، الاجتهاد في الاسلام للدكتورة ناديا العمري ، اصول الشيخ محمد عبده ، اصول السرخسي للامام ابي بكر محمد بن ابي سهل السرخسي ، الاصول الثلاثة وادلّتها للامام محمد بن عبد الوهاب ، وكتب علمائنا المتأخرين كالرسائل وبعض حواشيه ومصباح الاصول وتقريرات السيد الهاشمي وغيرها ...

(ب) راجع هامش الشربيني على شرح الجلال لجمع الجوامع ص ٣٨٩.

(ج) راجع حاشية العطّار على شرح الجلال لجمع الجوامع ص ٣٩١.

٤٣

__________________

قال الغزالي في المستصفى ج ٢ ص ٣٦٣ مبيّنا لمسلك التصويب ومتبنّيا اياه : «هل في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن لله تعالى هو مطلوب المجتهد؟ الذي ذهب اليه محقّقوا المصوّبة انّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنّه وهو المختار ... ثم إذا لم يبلغه النصّ ـ لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلّغ والنص قبل ان يبلغه ـ فليس حكما في حقّه ، فليس مخطئا حقيقة ، فاذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسالة التي لا نصّ فيها كيف يتصوّر الخطأ فيها؟! وذهب قوم من المصوّبة الى انّ فيه حكما معيّنا يتوجّه إليه الطلب ، إذ لا بد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته ، فلذلك كان مصيبا وإن اخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر باصابته ، بمعنى انّه ادّى ما كلّف فاصاب ما عليه» انتهى.

وهذا القول الثاني ـ كما هو واضح ـ قول بالتخطئة وان وصفه بالتصويب بتوجيهه المذكور.

وقوله «ثمّ اذا لم يبلغه النصّ ... فليس حكما في حقّه» صريح في انّ مراده من الحكم هنا هو الحكم الفعلي ـ كما ورد عندنا ذلك في القصر والتمام والجهر والاخفات ـ وذلك لانّ قوله «ثمّ إذا لم يبلغه النصّ» صريح بوجود الجعل في اعتقاد الغزّالى.

فمع غضّ النظر عن كلام الغزّالي الذي لم يكن ليتضح لو لا ما ذكره في الشق الثاني بقوله «ثم إذا لم يبلغه النصّ ...» والذي لا يثبت نظرية التصويب تجد الشراح لا يعرفون مراد اصحابهم ، ولم يوجد في مصادرهم ما يتّضح منه كلامهم لنصل الى مرامهم فما علينا إلا ان ننظر في ما نقله عنهم ابن السبكي في جمع الجوامع رغم اجماله ايضا ـ كبقية كلامهم ـ قال «اما المسألة التي لا (دليل) قاطع فيها (من مسائل الفقه) فقال الشيخ (ابو الحسن الاشعري) والقاضي (أبو بكر الباقلّاني) وابو يوسف ومحمد (صاحبا ابي حنيفة) وابن سريج : كل مجتهد (فيها) مصيب ، ثم قال الاوّلان : حكم الله (فيها) تابع لظن المجتهد ، وقال الثلاثة (الباقية) هناك ما لو حكم لكان به» انتهى كلامه مع بيان الشرح بين الاقواس. وامّا شرح الكلمة الاخيرة فهو كالتالي : هناك شيء (اي مقتضي وملاك) ما لو حكم الله تعالى لحكم به (اي على طبقه)

٤٤

__________________

وذلك لوجود مناسبة تكوينية بين الموضوع والمحمول ، ولكن الله تعالى لم يحكم فعلا.

وهذه المقالة تناسب ما ذكره السيد الشهيد (قدس‌سره) في النظرية الاولى للتصويب وهي عدم وجود جعل في الواقع ... هذا غاية ما يفهم من الجماعة أ.

وقد كنّا كتبنا فيه الكثير ، الّا انا رأينا عدم الفائدة فيه فلم نجعله في هذه التعليقة. ولذلك سنردّ على كلا الوجهين اللذين يفهمان من مجموع كلامهم : الوجه الاوّل ان الاحكام الشرعية ـ بمعنى الجعل ـ حادثة وانها تحدث عند اجتهاد المجتهد ، والثاني انها ازلية لكنّها تتبدّل بمجرّد توصّل المجتهد الى خلاف الحكم الواقعي ، وكلا هذين الوجهين يفهمان من كلامهم فنقول :

(امّا) الوجه الاوّل فيرد عليه :

أولا : مخالفته للآيات الكريمة المصرّحة بكمال الدين ، ممّا يعني كمال المعالم الدينية من الناحية العقائدية كضرورة الامامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك عيّن الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا عليه‌السلام بعد ما امره الله تعالى بذلك وخاصّة يوم غدير خم ، ومن الناحية التشريعية. ولعلّه للرّد على ما ذهب اليه بعض العامّة من عدم كمال الشريعة ورد عندنا روايات متواترة في وجود حكم لكل واقعة ، راجع مثلا جامع احاديث الشيعة ج ١ باب «حجية فتوى الأئمة» ، واصول الكافي الجزء الاوّل باب «الردّ الى الكتاب والسّنّة وانه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج اليه الناس الّا وقد جاء فيه كتاب او سنّة» ص ٥٩ ، و «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها‌السلام» ص ٢٣٨ ، ويدلّ أيضا على مطلوبنا الروايات الآمرة بالاحتياط ، والروايات التي هي من قبيل «سلوني عمّا شئتم ، فلا تسألوني عن شيء إلّا نبّأتكم به» ...

ثانيا ـ انّه لا فرق بين الاحكام القطعية التي اجمعتم على وجود حكم لله تعالى فيها ، وغيرها إذ انّه لا تكلّف عند المولى تعالى في ان يحكم على الظلم بالقبح وان يحكم على شرب التتن بالتحريم ـ مثلا ـ ، وذلك لتبعية الاحكام لموضوعاتها فيهما على السواء.

__________________

(أ) ولهذا ترى بعض علمائنا ينسبون نظريتي التصويب الى الاشاعرة والمعتزلة بتعبير «المنسوب» ، انظر مثلا مصباح الاصول ج ٢ ص ١٠١ و ١٠٢ وج ٣ ص ٣٧١ واصول فقه المظفر ج ٣ ص ٤٢.

٤٥

__________________

تبعيّة المعلول لعلّته وهذه التبعيّة منذ الأزل ، فعلم الله تعالى بقبح الظلم وحرمة التتن منذ الازل ، وليس الخطاب الآتي الينا إلّا كاشفا عن هذا الحكم الازلي.

ثالثا : لو فرضنا ان شريعة الله تعالى كانت ناقصة قبل الاجتهاد.

فان حكم المجتهد بخلاف الحكم المناسب لملاك الموضوع فهو حكم خاطئ ، حاشا لله ان يحكم بذلك.

وان اختلف مجتهدان في الحكم وحكم الشارع بهذين الحكمين فستختلف الاحكام الواقعية وهذا لا يقبله الصبيان فضلا عن العقلاء فضلا عن رئيس العقلاء.

رابعا : بما انّا فرضنا انه لم يصل دليل قطعي على الحكم الى المكلّف فيتعيّن عليه حينئذ ان يرجع الى دليل حجّة ليعطيه وظيفة عملية فقط لا غير ، هذا الحكم ـ بما انّه هو بنفسه لا يدّعي الاصابة لانّ نفس المجتهد لم يعرف تمام الملاك ليحكم على اساسه ـ فسيكون في مرتبة الاحكام الظاهرية تلقائيا ، لا في مرتبة الاحكام الواقعية التي تكون فيها الاحكام ناظرة الى الملاكات الواقعية.

خامسا : انكم قد اجمعتم على وجود حكم واحد واقعي في الشرعيات القطعية ، واختلفتم فيما لا دليل قاطع عليه أسواء صدر فيه نص ام لم يصدر ، وهذا لا يناسب كلامكم ، فانّ الجهل بسند الحديث او بدلالته انما هو بالنسبة لنا نحن البشر العاديّين لا بالنسبة الى الباري عزوجل ورسوله الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك كان يلزم ان تخصّوا النزاع فيما لم يصدر فيه نص واقعا ، وانّى لكم ان تعلموا بعدم صدور نص في الواقع ، فقد يكون قد صدر ولم تعلموا به.

وامّا على مبنانا فقد ذكرنا وجود روايات متواترة على انّ لله في كل واقعة حكما حتّى ولو فرضنا عدم صدوره.

(وامّا) الوجه الثاني فيرد عليه ما ذكرناه قبل اسطر من الردّين الثالث والرابع من استحالة ان يحكم الشارع المقدّس بحكم خاطئ لا يناسب الملاك ، ولزوم كون حكم المجتهد في مرتبة الظاهر اضافة الى انّه لا موجب لتبدّله في مرتبة الجعل.

__________________

(أ) راجع جمع الجوامع وشروحه.

٤٦

__________________

(وقد) يستشكل علينا اصحاب المسلك الاوّل من التصويب بلغويّة جعل احكام لمن يجهلها.

(فنقول) إنّ الاحكام الشرعية بل حتّى القوانين الوضعية انّما تجعل بنحو القضايا الحقيقيّة ، فمن علم بها فقد تحقق لديه شرط من شروط التنجيز ، وامّا المحتمل لوجود احكام شرعية فانه يجب عليه البحث ، اضافة الى وجوب القضاء عليه في كثير من الحالات ...

(وامّا) وجه دخول العلم بالجعل في موضوع نفس الجعل او دخول العلم بالحكم الفعلي في موضوع نفسه فلم أر له أثرا في كلام ابناء العامّة ، مع بطلانه في ذاته للدور الواضح فيه.

(وامّا) وجه دخول العلم بالجعل في موضوع الحكم الفعلي ـ على ما قد يظهر من كلام الغزالي وقد يكون هذا الوجه ايضا مراد الاشعري ـ فهو ممكن ثبوتا ، الّا انّه اثباتا لم نر له وجودا في شرعنا الحنيف الّا في موارد نادرة من قبيل تقيّد وجوب صلاة القصر بسماع آية التقصير ، وتقيّد شرطية الجهر او الاخفات في الصلاة بالعلم بها.

(وعلى ايّ حال) فهل الاصل ان يكون العلم قيدا وشرطا في فعلية الحكم ، كما في شرطية البلوغ والعقل والزوال ، او ان يكون شرطا في تنجزه ، كما في أكثر الاحكام الشرعية كوجوب الصلاة وحرمة الخمر ، فحرمة الخمر فعلية ، بمعنى ان ملاك تحريمها تام حتّى بالنسبة الى الجاهل بالحكم (الذي هو محلّ كلامنا) او الموضوع؟

المناسب لطبيعة العلم الذي هو مرآة وكاشف وطريق الى متعلّقه ان يكون شرطا في التنجز ، وان يكون ناظرا الى الاحكام من الخارج ، فالصلاة مثلا بالنسبة الى من تمّت شرائط فعليتها عنده من زوال وعقل وبلوغ المتوقّع ان يكون ملاكها تامّا حتى بالنسبة الى الجاهل بوجوبها ، وكذلك في الخمس والزكاة مثلا ، فالمتوقّع ان يكون الخمس واجبا فعلا حتّى على الجاهل بوجوبه ، وذلك لتماميّة ملاك الوجوب الفعلي ، وان الجهل بهذا الوجوب ينبغي ان يرفع تنجّزه لا اكثر. ويستدلّ علماؤنا عادة على هذا الامر ـ وانّ العلم شرط في التنجيز فقط ـ باطلاقات ادلة الاحكام ، فاذا سال رجل الامام عليه‌السلام عن رجل شك بين الركعة والركعتين في الصلاة الثنائية وبنى على الواحدة مثلا ، وقال له الامام مثلا «اعاد صلاته» فانّ قوله «أعاد صلاته» مطلق من ناحية العلم السابق بالحكم او الجهل به ، ولهذا قالوا نستدلّ باطلاقات ادلّة الاحكام على شمول الاحكام الفعلية ـ فضلا عن الجعل ـ للعالم.

٤٧

__________________

والجاهل ، وهذا الدليل صحيح ولكنه يحتاج الى اثبات الاطلاق في المورد الذي يقع فيه الشك ، واثبات الاطلاق سهل بعد كون الاصل في الكلام ان يكون في مقام البيان.

(ثمّ) إنّ ما يترتّب على هذا البحث من وجوب القضاء يذكرونه في بحث الإجزاء ومسألة هل يتبع القضاء الاداء فهناك تجد تتمّة هذا البحث.

هنا نصل في بحثنا في التخطئة والتصويب او قل في قاعدة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل إلى النتائج التالية :

انّه في مرحلة الجعل كلّ الاحكام مشتركة بين العالمين والجاهلين بها للآيات والروايات المتواترة.

وفي مرحلة الفعلية ايضا كذلك مع تماميّة ملاك الحكم ، وذلك لما ذكرناه من الترتب العلّي والمعلولي بينهما أ ، نعم إلا اذا كان العلم بالجعل ماخوذا في موضوع الحكم الفعلي.

وامّا في مرحلة التنجيز فلا كلام بيننا وبين العامّة في هذا الامر للتسالم عليه ، إذ انه لا إشكال في تنجّز الاحكام بالعلم بها ـ وما يقوم مقام العلم ـ وإلا فمع عدم ذلك تجري الاصول المؤمنة ، فالاصول المؤمنة ترفع التنجيز ولا ترفع الفعلية ، إذ العلم ليس دخيلا ـ في غير الموارد القليلة المستثناة كما ورد في صلاتي القصر والتمام ـ في موضوع الحكم ، فقتل المؤمن ظلما حرام فعلا حتّى على من كان يعتقد بانه كافر محارب وذلك لتمامية ملاك الحرمة ، فالعمل تام القبح ، لكن لا قبح فاعلي بمعنى انّ هذا العمل لكونه مجهولا عنده وكان مكلّفا فرضا بقتال الكافر المحارب فهو غير ملام لعدم تقصيره بحسب الفرض ، وعلى هذا المبنى لو لم يكن شخص يعلم بوجوب الصلاة ـ مثلا ـ عليه ، فصلّاها برجاء المطلوبية لصحّت صلاته بلا إشكال ، ومثلها ايضا من القى بنفسه من شاهق ، ففعله وإن كان محرّما وفعليا عليه لتماميّة ملاك الحرمة الفعلية في حقّه ... إلا ان هذه الحرمة غير محرّكة ولا فاعلة للغويتها المحضة ، فالعجز كما رفع تنجّز الحكم هنا دون فعليته كذلك الجهل رفع تنجيز الحكم دون فعليته ، بل هما في الواقع من باب واحد ، لانّ الجاهل القاصر عاجز ... ويأتي ما يتعلق بهذا الكلام في حديث الرفع وبحث القدرة ان شاء الله تعالى

__________________

(أ) كما يتضح ذلك في الفقرة التالية عند قولنا واما في مرحلة التنجيز ...

٤٨

(الحكم الواقعي والظاهري)

ينقسم الحكم الشرعي ـ كما عرفنا سابقا ـ الى واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك ، وظاهري أخذ في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق (١). وقد كنّا نقصد حتى الآن في حديثنا عن الحكم «الاحكام الواقعية».

وقد مرّ بنا في الحلقة السابقة ان مرحلة الثبوت للحكم ـ اي الحكم الواقعي ـ تشتمل على ثلاثة عناصر ، وهي الملاك والارادة والاعتبار ، وقلنا انّ الاعتبار ليس عنصرا ضروريا ، بل يستخدم غالبا كعمل تنظيمي وصياغي. ونريد ان نشير الآن الى حقيقة العنصر الثالث الذي يقوم الاعتبار بدور التعبير عنه غالبا ، وتوضيحه انّ المولى كما انّ له حقّ الطاعة على المكلّف فيما يريده منه ، كذلك له حق تحديد مركز حق

__________________

(١) أي وظاهري اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعى ، فالحكم الظاهري هو كالحكم بحجية خبر الثقة أي قول الشارع «اذا شككت فاتّبع خبر الثقة» هو حكم ظاهري لانه اخذ في موضوع الشك ، وكالحكم بالاستصحاب والبراءة ونحوهما اي اذا لم تعرف الحكم الواقعي مثلا فارجع الى خبر الثقة ، ف «اعتبار الامارة حجّة» هو الحكم الظاهري وليس مؤدّى الامارة حكما ظاهريا ، (وكذلك) جعل اصل عملي ما عند عدم وجود امارة شرعية في المقام ، فانه ايضا حكم ظاهري.

٤٩

الطاعة في حالات ارادته شيئا من المكلّف ، فليس ضروريا ـ اذا تمّ الملاك فى شيء واراده المولى ـ ان يجعل نفس ذلك الشيء (١) مصبّا لحقّ الطاعة ، بل يمكنه ان يجعل مقدّمة ذلك الشيء التي يعلم المولى بانّها مؤدية اليه في عهدة المكلّف دون نفس الشيء ، فيكون حقّ الطاعة منصبّا على المقدّمة ابتداء ، وان كان الشوق المولوي غير متعلّق بها إلّا تبعا ، وهذا يعني انّ حقّ الطاعة ينصبّ على ما يحدده المولى ـ عند إرادته لشيء ـ مصبا (٢) له ويدخله في عهدة المكلّف ، والاعتبار هو الذي يستخدم عادة للكشف عن المصب الذي عيّنه المولى لحق الطاعة ، فقد يتحد مع مصبّ ارادته وقد يتغاير (٣).

__________________

(١) في الطبعة الاصليّة هكذا «... الشيء في عهدة المكلّف مصبّا ...» والافصح حذفها لاسباب واضحة.

(٢) متعلقة ب «يحدّده».

(٣) ولذلك ترى ان المولى تعالى لم يحرّم الزنا فقط وانما حرّم كشف قليل من الشعر والجسد ايضا ، ولم يحرّم شرب الخمر فقط وانما حرّم زراعته وحمله وعصره وو ... اي انه لم يعتبر المحرّم هو خصوص شرب الخمر وانما اعتبر مقدّماته أيضا محرّمة.

وهنا يحسن بنا ـ ونحن في مقام التعرّض لمرحلة مبادئ الحكم ـ ان نردف بهذا التذييل التالي فنقول :

انّه لا شك في انّ ملاك الحكم هو روحه لانه قوامه وعلّته ، ولذلك فهما متلازمان دائما ، (فان قلت) هناك حالات لا يستتبع فيها الحكم الملاك كما في حالات التزاحم ، فان الصلاة الواجبة ـ لتزاحمها مع ما هو اهم منها وجوبا كانقاذ الغريق ـ يسقط وجوبها رغم تمامية ملاكها الوجوبي ثبوتا (قلت) تقديمنا للواجب الاهم لا يعني سقوط حكم الواجب المهم ثبوتا ، بل تسقط فاعليّته

٥٠

وامّا الاحكام الظاهرية فهي مثار لبحث واسع وجّهت فيه عدّة اعتراضات للحكم الظاهري تبرهن على استحالة جعله عقلا (١) ، ويمكن تلخيص هذه البراهين فيما يلي :

١ ـ ان جعل الحكم الظاهري يؤدّي الى اجتماع الضدّين او المثلين ، لان الحكم الواقعي ثابت في فرض الشك بحكم قاعدة الاشتراك المتقدمة [بين العالم والجاهل] ، وحينئذ فان كان الحكم الظاهري المجعول على الشّاك مغايرا للحكم الواقعي نوعا ـ كالحليّة والحرمة ـ لزم اجتماع الضّدين والّا لزم اجتماع المثلين. وما قيل سابقا من انّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري لانهما سنخان مجرد كلام صوري اذا لم يعط

__________________

اي محرّكيّته فقط لوجود المانع من فاعليّته في مرحلة الامتثال. وعلى اي حال كلما تمّ الملاك (أي المقتضي والشرط أو قل الموضوع باجزائه وشرائطه) لا بدّ من ان يوجد في علم المولى تعالى حكم يناسبه ، وهذا ما يعني به العلماء من ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات.

وعليه فبما ان ملاك الحكم هو روحه وقوامه وعلته فهو المحرّك في الواقع ، وليس الحكم الّا كاشفا عن ملاكه كاشفية المعلول عن علّته والدخان عن النار ، فلو علمنا بتماميّة قبح قتل المؤمن في نظر الشارع المقدّس وفرضنا انه تعالى لم يوصل لنا حكما يبين لنا فيه حرمة هذا القتل الظلمي فانّ العقل يستكشف ان هذا العمل محرّم ، وليس الحكم بالحرمة في هذه الحالة هي من احكام العقل ، وانما هو من مستكشفات العقل ، فالعقل دائما كاشف لا حاكم ومشرّع في قبال الشارع ، بل شريعة الله تعالى كاملة وليست بناقصة كي تتمّمها احكام العقل ..

(١) آثار هذه الشبهات ابن قبة ومن حذا حذوه ، ولا باس بأن يراجع بهذا الصدد منتهى الدراية ج ٤ ص ٢١٥ فما بعد

٥١

مضمونا محدّدا ، لانّ مجرّد تسمية هذا بالواقعي وهذا بالظاهري لا يخرجهما عن كونهما حكمين من الاحكام التكليفية وهي متضادّة.

٢ ـ ان الحكم الظاهري اذا خالف الحكم الواقعي ـ حيث ان الحكم الواقعي بمبادئه محفوظ في هذا الفرض بحكم قاعدة الاشتراك ـ يلزم من جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة نقض المولى لغرضه الواقعي بالسماح للمكلّف بتفويته اعتمادا على الحكم الظاهري في حالات عدم تطابقه مع الواقع ، وهو يعني إلقاء المكلّف في المفسدة وتفويت المصالح الواقعية المهمّة عليه.

٣ ـ إنّ الحكم الظاهري من المستحيل ان يكون منجّزا للتكليف الواقعي المشكوك ومصحّحا للعقاب على مخالفة الواقع ، لانّ الواقع لا يخرج عن كونه مشكوكا بقيام الاصل او الامارة المثبتين للتكليف (*) ، ومعه يشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ـ بناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ، والاحكام العقلية غير قابلة للتخصيص (١).

__________________

(١) ذكر هذا الكلام السيد الخوئي فى مصباحه ج ٢ ، ص ٣٧ ـ ٣٨ ، وعلى اىّ حال فان قلنا بما في المتن فحينئذ من يخالف الاحكام الواقعيّة المجهولة ويشرب مثلا الماء الذي كان متنجّسا سابقا بحجّة انه لا علم له واقعا بنجاسته الآن فانه لا يستحقّ العقاب على المخالفة لقبح العقاب على الامور المجهولة! وعدم قابليّة تخصيص الاحكام العقلية يتّضح من مثال «الظلم قبيح» ، فلا يمكن ان توجد حالة لا يكون فيها الظلم قبيحا ، وكذلك الامور الحسنة ، ولذلك ان وجد حكمان لامر

__________________

(*) الاولى حذف كلمة «بقيام الاصل او الامارة المثبتين للتكليف» ، لوضوح المراد بدونها.

٥٢

__________________

واحد ـ كالقتل مثلا فانه يقبح غالبا ويحسن احيانا قليله كما في قتل المحاربين ـ نستكشف ان هذا الامر ليس من مصاديق الظلم حقيقة وان تخيّله الناس بانه ظلم حقيقة ، فانّ الظلم قد عرض عليه فصار حراما ، فافهم(*)

__________________

(*) في الواقع انّ كلّ الاحكام سواء كانت عقلية ام شرعية هي غير قابلة للتخصيص ، وما التخصيص إلا من باب التسهيل على الناس ، فقولنا «اكرم العلماء الّا الفسّاق منهم» هو حكمان في الواقع حكم بوجوب اكرام العلماء لعلمهم ، وحكم بعدم وجوب اكرام الفسّاق منهم ، وذلك لكون الفسق مقتض مثلا ـ في مقام الملاك ـ لاهانتهم ، أو قل يحصل تعارض بين مقتضي ثبوت وجوب الاكرام لهم لعلمهم والمقتضي لاذلالهم ونهرهم لفسقهم ، وبعد الكسر والانكسار يتغاير حكما اكرام العلماء العدول واكرام العلماء الفسّاق.

فان الحكم هو ظلّ ومظهر من مظاهر متعلقه الذي هو العلّة له وبه قوام وجود الحكم.

وهذا معنى قول علمائنا بتبعيّة الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات.

فقولنا للاجير الذي لا يعطيه صاحب العمل حقّه «لا تسرق إلّا من باب انقاذ حقّك» سواء اعتبرناه حكما عقليا او شرعيا لا فرق فيه من ناحية التخصيص ، فبناء على كونه عقليا يكون حكمين الاوّل مفاده «لا تسرق السرقة القبيحة» والثاني مفاده مثلا «لا بأس وباستنقاذ حقّك ولو من دون اعلام الغاصب» ، وليس هنا تخصيص ، لأن التخصيص يغيّر الموضوع الاوّل وبالتالي سيتغير الحكم تكوينا فتنبّه ..

فملاك العام غير ملاك الخاص ولذلك فهما في الحقيقة حكمان وانما اعتبرناهما من باب التخصيص لوحدة الموضوع العام فيهما.

وفي الحقيقة انّ كل الاحكام العقلية هي شرعية لتمامية الشريعة الاسلامية كما اوضحنا ذلك قبل قليل ، بل بالتدقيق كل الاحكام الشرعية هي احكام عقلية لما ذكرناه أكثر من مرّة في هذه الصفحات ، إلّا انّ البشر لعدم ادراكهم لتمام المصالح والمفاسد لا يستطيعون على ادراك الحكم في كل الموارد.

٥٣

شبهة التضادّ (١) ونقض الغرض :

أما الاعتراض الاوّل فقد أجيب عليه بوجوه :

منها : ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره من انّ إشكال التضادّ نشأ (٢) من

__________________

(١) والتماثل ، وشبهة التضادّ والتماثل هي شبهة الاعتراض الاوّل. وقبل ذكر كلام المحقّق النائيني يحسن ان نذكر كلام صاحب الكفاية القائل بانّ المجعول في باب الامارات هي المنجّزية والمعذّريّة ، وانّها لا تستتبع احكاما تكليفية مماثلة لما أدّت إليه ، والاحكام الواقعية تكليفية ، ولا تضادّ بين «المنجزيّة والمعذّريّة» و «الاحكام الواقعية» (راجع منتهى الدراية ج ٤ ص ٢٢٠).

واعترض عليه المحقّق النائيني ـ من حيث المبنى ـ بان جعل المنجّزية غير معقول لانّه خرق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك لانّه مع عدم حصول العلم من خبر الثقة فلا بيان حقيقة ، وعليه فيقبح العقاب ح ، ومن هنا ودفعا لهذا الاعتراض اعتبر الميرزا النائيني (قدس‌سره) انّ المولى تعالى انما جعل الحجية للامارات لكاشفيّتها ، بهذا تفترق الامارات عن الوظائف العملية ، ولذلك رأى ان المولى حينما يجعل امارة حجّة فهو بذلك يتمّم تعبدا كاشفيّتها ، اي يعتبرها طريقا وعلما ، وح فبما انّ التضادّ والتماثل إنّما يحصلان بين الاحكام التكليفية الظاهريّة والاحكام التكليفيّة الواقعيّة ، فانّ المحقق النائيني رحمه‌الله يرفعه بقوله : لو اخبر ثقة بوجوب غسل الجمعة مثلا ، فانّ جعل المولى الحجية لخبر الثقة لا يعني ان المولى قد جعل غسل الجمعة واجبا ظاهرا حتّى يقع التضادّ بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ، وانما جعل الحجية هذا يعني ان المولى يوجب علينا اتّباعه ـ لا أكثر ـ لكونه علما تعبّدا. (راجع المصباح ج ٢ ص ١٠٤).

(٢) ذكر هذا الكلام قبله صاحب الكفاية (في بحث امكان اجتماع الاحكام

٥٤

افتراض انّ الحكم الظاهري حكم تكليفي [يجعله المولى على طبق مؤدّى الامارة أو مؤدّى الاصل العملي] ، وانّ حجّية خبر الثقة مثلا معناها جعل حكم تكليفي يطابق ما اخبر عنه الثقة من احكام ، وهو ما يسمّى بجعل الحكم المماثل ، فان اخبر الثقة بوجوب شيء ـ وكان حراما في الواقع ـ تمثّلت حجيته (١) في جعل وجوب ظاهري لذلك الشيء وفقا لما اخبر به الثقة ، فيلزم على هذا الاساس اجتماع الضدّين ، وهما الوجوب الظاهري والحرمة الواقعية.

ولكنّ الافتراض المذكور خطأ لانّ الصحيح انّ معنى حجية خبر الثقة مثلا جعله علما وكاشفا تامّا عن مؤدّاه بالاعتبار (٢) ، فلا يوجد حكم تكليفي ظاهري زائدا على الحكم التكليفي الواقعي ليلزم اجتماع حكمين تكليفيين متضادّين ، وذلك لانّ المقصود من جعل الحجيّة للخبر مثلا

__________________

الظاهرية والواقعية ـ منتهى الدراية ج ٤ ص ٢٢١) قال : «نعم لو قيل باستتباع جعل الحجيّة للاحكام التكليفية (الظاهرية) او بانّه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الاحكام (بالجعل الظاهري) ، فاجتماع حكمين وان كان يلزم إلّا انهما ليسا بمثلين او ضدّين ، لان احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه ... (وهو التسهيل على المكلفين مثلا) والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة او مفسدة في متعلقه ...»

(١) اي حجية خبر الثقة

(٢) كما يعتبر السكاكي استعمال ألفاظ التشبيه كلفظة شمس في قول الشاعر

جاءت تظللني من الشمس

نفس أحب الى من نفسي

 جاءت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

استعمالا حقيقيا تنزيلا واعتبارا ، لا من باب المجاز اللغوي. (راجع إن شئت مصباح الاصول ج ٢ ص ١٠٤).

٥٥

جعله منجزا للاحكام الشرعية التي يحكي عنها ، وهذا يحصل بجعله علما وبيانا تامّا ، لانّ العلم منجّز سواء كان علما حقيقة (* ١) كالقطع او علما بحكم الشارع كالامارة ، وهذا ما يسمّى بمسلك جعل الطريقية.

والجواب على ذلك انّ التضادّ بين الحكمين التكليفيين (* ٢) ليس بلحاظ اعتباريهما حتّى يندفع بمجرّد تغيير الاعتبار في الحكم الظاهري

__________________

«تنبيه» يحسن هنا ان نوضّح ولو باختصار مراد المحقق النائيني رحمه‌الله من طريقية الامارات فنقول : ذكر رحمه‌الله في اجود التقريرات ج ٢ ص ١٢ ما يلى :

«الثالثة : انّه ليس معنى حجيّة الطريق مثلا تنزيل مؤدّاه منزلة الواقع ، ولا تنزيل نفس الامارة منزلة القطع حتّى يكون المؤدّى واقعا تعبدا او تكون الامارة علما تعبدا ، بداهة ان دليل الحجيّة لا نظر له الى هذين التنزيلين أصلا ، وانما نظره الى إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للامارة وجعل ما ليس بمحرز حقيقة محرزا تشريعيا. (نعم) لا بد وان يكون المورد قابلا لذلك بأن يكون له كاشفية عن الواقع في الجملة ولو نوعا ، إذ ليس كل موضوع قابلا لاعطاء صفة الطريقية والمحرزيّة له ، فما يجري على الالسن بان ما قامت البينة على خمريته مثلا خمر تعبدا او ان نفس البينة علم تعبدا فمما لا محصّل له وليس له معنى معقول ...»

وستأتي تكملة هذا البحث وستعرف فيها الاثر لهذا الكلام (فراجع مسألة وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي في هذا الجزء والركن الاوّل من أركان الاستصحاب)

__________________

(* ١) الاولى ان يعتبر بدل «حقيقة» واقعا ، جريا على المصطلح المعروف في البلاغة من التفريق بينهما ، لانّ العلم الحقيقي ـ عند النائيني ـ يشمل الواقعي والاعتباري.

(* ٢) الاولى حذف كلمة «التكليفيين» هذه ، إذ كون الحكم الظاهري تكليفيا محلّ كلام بل منع عند المحقّق النائيني كما عرفت في الصفحة الماضية.

٥٦

من اعتبار الحكم تكليفيا (* ١) الى اعتبار العلمية والطريقية ، وانما هو (* ٢) بلحاظ مبادئ الحكم ، كما تقدّم في الحلقة السابقة.

وحينئذ فان قيل بانّ الحكم الظاهري ناشئ من مصلحة ملزمة وشوق في فعل المكلّف الذي تعلّق به ذلك الحكم حصل التنافي بينه وبين الحرمة الواقعية مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري ، وإن قيل بعدم نشوئه من ذلك ـ ولو بافتراض قيام المبادئ بنفس جعل الحكم الظاهري ـ زال التنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، سواء جعل هذا حكما تكليفيا (١) او بلسان جعل الطريقية.

ومنها : ما ذكره السيد الاستاذ من انّ التنافي بين الحرمة [الظاهرية لصلاة الجمعة مثلا] والوجوب [الواقعي لها] ـ مثلا ـ ليس بين اعتباريهما بل بين مبادئهما من ناحية ـ لانّ الشيء الواحد لا يمكن ان يكون مبغوضا ومحبوبا (٢) ـ وبين متطلباتهما في مقام الامتثال من ناحية أخرى ، لانّ كلّا منهما يستدعي تصرّفا مخالفا لما يستدعيه الآخر ، فاذا كانت الحرمة واقعية والوجوب ظاهريا فلا تنافي بينهما في المبادئ ، لأننا نفترض مبادئ الحكم الظاهري في نفس جعله (٣) ، لا في المتعلّق المشترك بينه

__________________

(١) كما هو مسلك جعل الحكم المماثل السالف الذكر.

(٢) في وقت واحد.

(٣) فتتغاير متعلقات المبادئ ، فمتعلق الحكم الواقعي بالحرمة مثلا هو

__________________

(* ١) في النسخة الاصلية «الحكم التكليفي» ، والاولى ان يقال «الحكم تكليفيا» ، فانّه أوضح بيانا.

(* ٢) الموجود في النسخة الاصلية بدل «وانما هو» «بل» ، وما اثبتناه اولى.

٥٧

وبين الحكم الواقعي (١) ، ولا تنافي بينهما في متطلّبات مقام الامتثال ، لانّ الحرمة الواقعية غير واصلة ـ كما يقتضيه جعل الحكم الظاهري في موردها ـ فلا امتثال لها و (٢) لا متطلبات عملية ، لان استحقاق الحكم [الواقعي] للامتثال فرع الوصول والتنجّز (٣).

__________________

الخمر الواقعي ، ولكن متعلّق الحكم الظاهري هو نفس قاعدة الحلّية ـ فانه يوجد مصلحة في جعل الحلّية والبراءة وهو التسهيل على المكلفين ـ يعني أنّ المولى تعالى حينما حلّل السائل المجهول الخمرية لم ينظر الى هذا السائل بعينه ، وحينما حلّل شرب التتن المجهول الحرمة لم ينظر الى شرب التتن بعينه ، وانما نظر الى إعطاء قاعدة البراءة للتسهيل على المكلفين ، إذن فمتعلّق الحكم الظاهري هي قاعدة البراءة وقاعدة الاستصحاب .. ولذلك قال بأنّ لكل متعلّق مبدأ يخصّه ، فأين التضاد في المبادئ؟! نعم لو كان المتعلّق واحدا وهو الخمر مثلا وانصبّ عليه حكمان ظاهري وواقعي فحينئذ تتنافى الاحكام والملاكات.

(١) وهو «الخمر» المذكور في قولنا «نعم لو كان».

(٢) عطف تفسيري ، والمراد ان الحكم الواقعي ـ إن لم يصلنا ـ لا يتنجّز بوجه عقلا ، بل تصل النوبة الى الاحكام الظاهرية.

(٣) لبيان مراد استاذ العلماء السيد الخوئي رحمه‌الله نذكر بعض كلامه (ص ١٠٩ ـ ١١٠ من المصباح ٢) :

«أمّا من ناحية المبدأ فلانّ المصلحة في الحكم الظاهري انّما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه كما في الحكم الواقعي ـ فلا يلزم من تغايرهما اجتماع مصلحة ومفسدة او وجود مصلحة وعدمها او مفسدة وعدمها في شيء واحد ، إذ الاحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، والاحكام الظاهرية ليست تابعة لما في متعلقاتها من المصالح بل تابعة للمصالح في انفسها ، فانّها مجعولة في ظرف الشكّ في وجود المصلحة

٥٨

ولكن نتساءل (١) هل يمكن ان يجعل المولى وجوبا او حرمة لملاك في نفس الوجوب او الحرمة؟ ولو اتّفق حقّا انّ المولى احسّ بان من مصلحته ان يجعل الوجوب على فعل بدون ان يكون مهتمّا بوجوده اطلاقا (*) وانّما

__________________

الواقعية ، وقد لا تكون مصلحة في المتعلّق واقعا ، فكيف يمكن ان تكون تابعة للمصالح الواقعية في المتعلقات؟! ففي موارد الاحتياط ـ كما في الشبهة الحكمية قبل الفحص ـ جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط ، وهي التحفّظ على مصلحة الواقع على تقدير وجودها وتجنّب الوقوع في المفسدة الواقعية احيانا ، وفي موارد الترخيص ـ كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص او الشبهة الموضوعية الغير مقرونة بالعلم الاجمالي على تفصيل في محلّه ـ جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة وهو التسهيل على المكلّفين».

(١) هذا ردّ السيد الشهيد على السيد الخوئي.

__________________

(*) في الحقيقة انتقاد السيد المصنّف (قدس‌سره) على قول السيد الخوئي «بانّ المصلحة في الحكم الظاهري انما تكون في نفس جعل الحكم لا فى متعلقه» وانه قد جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة» ونحو ذلك من تعابير في غير محلّه ، فانّه بقرينة سائر ما قاله السيد الخوئي يتّضح مراده فلا يرد ما استشكله السيد الشهيد رحمه‌الله على السيد الخوئي ، بل يكون جوابهما من واد واحد ، إلّا انّ السيد الشهيد ذكر ما قال به السيد الخوئي (قدس‌سره) بفنيّة اكثر. ولذلك تجدهما معا يؤمنان بانّ الملاك في جعل الاحتياط ـ مثلا ـ هو التحفظ على ملاكات الاحكام الواقعية. وهذا التحفظ هو المصلحة في جعل قاعدة الاحتياط. ومن شاء فليراجع ما قاله السيد الخوئي في المصباح ج ٢ ، ص ٩٢ ـ ٩٤ ، اذ يقول ـ مثلا ـ «... إذ العقل لا يرى مانعا من الزام المولى عبده بفعل ما هو مباح واقعا او بتركه تحفّظا على غرضه المهم اي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الافراد ... واما الصورة الثالثة وهي ما اذا دلّت الامارة على وجوب ما كان حراما في الواقع او على حرمة ما كان واجبا في الواقع ، فالتعبد بالامارة

٥٩

دفعه الى ذلك وجود المصلحة في نفس الجعل ، كما اذا كان ينتظر مكافأة على نفس ذلك من شخص ولا يهمّه بعد ذلك ان يقع الفعل او لا يقع ، اقول لو اتّفق ذلك حقا فلا اثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله ، فافتراض انّ الاحكام الظاهرية ناشئة من مبادئ في نفس الجعل (* ١) يعني تفريغها من حقيقة الحكم (* ٢) ومن اثره عقلا.

__________________

فيها وان كان مستلزما لتفويت المصلحة او الالقاء في المفسدة في بعض الموارد الّا انه لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقة للواقع ... والمفروض ـ في هذه الصورة ـ عدم إمكان الاحتياط ...» ، فانظر مثلا الى قوله «... تحفّظا على غرضه المهم اي المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الافراد ...» أليس ناظرا الى اهميّة المحتمل وهو الحفاظ على المصلحة الملزمة في بعض الافراد ، وانظر الى قوله «... إلّا انّه لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقة للواقع ...» أليس ناظرا الى قوّة الاحتمال؟! فانه من المعلوم ان مراد السيد الشهيد من قوّة الاحتمال هو ما ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله ، لا انّ مراده (قدس‌سره) هو الظّن بمطابقة كل خبر ثقة للواقع ، إذ انّ السيد الشهيد لا يشترط في حجيّة خبر الثقة هذا الشرط على ما صرّح هو نفسه في بحوث خارجه (راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٤ ، ص ٤٢٣) ، فاذن الاحكام الظاهرية عند السيد الخوئي ليست فارغة من روح الحكم.

(* ١) قلنا ان مراد السيد الخوئي ـ كما هو واضح من مجموع ما نقلناه عنه ـ من الجعل لا الجعل المجرّد بل الجعل المضاف الى الاحكام الظاهرية ، اي ان المبادئ موجودة في نفس جعل الاحكام الظاهرية كقاعدة الاحتياط وهي نفس مبادئ الأحكام الواقعيّة ، او قل منشؤها الحفاظ على مبادئ الاحكام الواقعيّة الاهمّ.

(* ٢) الاولى ان يقول بدل «من حقيقة الحكم» «من روح الحكم» تشبيها له بانتزاع الروح من الانسان فيموت ، والامر سهل فانّ مراده من حقيقة الحكم هنا روحه.

٦٠