دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

__________________

حيث أجزائها مثلا ـ واجبة» او قل «حكم الصلاة هو الوجوب» ، فالوجوب هو نفس الموضوع فعلا حقيقة ، ولذلك نقول بين الموضوع والمحمول كلمة «هو» اشارة الى الهوهوية بينهما ، وليس فقط لتصحيح العبارة. (فاذا) عرفت هذه المقدّمة نقول : اختلفوا في «الاطمئنان» هل هو علم ، بحيث لا نحتاج في اثبات الحجّية له الى امضاء المعصومين (عليهم‌السلام) لسيرة المتشرّعة والعقلاء على أساسه ، وذلك لانه كاشف عرفا وفي نظر المطمئن عن متعلق اطمئنانه ، فيكون بالتالي كالعلم في كونه حجّة لكاشفيته الذاتيّة ، او انه ليس علما وكاشفا وانما هو ظنّ ـ ولو بالدقّة العقلية ـ فنحتاج في اثبات حجيته الى امضاء من الشارع المقدّس للسيرة على اساسه ، فيه بحث وكلام.

والصحيح :

ان الاطمئنان معناه الكاشفية ، فهو بالتالي علم في نظر العرف ، فعلمنا باكثر الامور التاريخية حتّى خطبة الغدير وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحجاج آنذاك «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» هو في الحقيقة اطمئنان حتّى وإن كان الناقلون لها العشرات من الصحابة بطرق متواترة ، فانك اذا قرأت الروايات المتواترة الواردة فيها من الاصدقاء والاعداء تشعر انه قد صار عندك علم بحصول هذه الواقعة ، ولذلك ترى بعضهم يقولون ـ على فطرتهم ـ انا اعلم علما قطعيا لا اطمئنانيا بحصول هذه الخطبة. (اذن) الاطمئنان هو الكاشفية وهو علم عرفا.

(فاذا) عرفت ذلك تعرف أننا لسنا بحاجة الى إمضاء من الشارع المقدّس لهذه السيرة ، بل حتّى لو جاءنا نهي عن العمل به لا يؤثّر وذلك لانّ المطمئن يرى نفسه عالما فهو غير مراد من هذا النهي ، فاطمئنانه بوجود سلمان الفارسي وابي ذر وعمّار بن ياسر في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نظره علم ، وكاشفيته وحجيته معه.

وبكلمة أخرى ، حينما نقول الاطمئنان حجّة نقصد ان الاطمئنان كاشف وعلم عرفا.

وليس بعد قولنا علم من حاجة لان نقول حجّة ، لاننا لا نريد من الحجية الا المنجزية والمعذرية ، وبعد اطمئنانك بوجوب الصلاة مثلا فانت تعلم بوجوبها وعليك ان تعمل بما تعلم ، وليس وراء عبّادان من قرية ، فقولنا «الاطمئنان حجّة» بمثابة قولنا

٣٤١

الحالة الثانية : ان يوجد بين المدلولات الخبرية جانب مشترك يشكّل مدلولا تحليليا لكل خبر ، امّا على نسق المدلول التضمّني (١) ، او على نسق المدلول الالتزامي (٢) ، مع عدم التطابق في المدلول المطابقي بكامله ، كالاخبارات عن قضايا متغايرة ، ولكنها تتضمّن جميعا مظاهر من كرم حاتم مثلا (٣). ولا شك هنا في وجود المضعّف الكمّي الذي

__________________

(١) كما لو ثبت لنا بالتواتر ان زيدا قد اشترى المكتبة الفلانية ، فانه يثبت بالدلالة التضمّنية كون الكتاب الفلاني ـ الذي هو جزء منها ـ انه له.

(٢) كما في حصول التواتر على أن الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يعطون الفقراء والشعراء أموالا كثيرة ليبعدوا عنهم الذل والحاجة فانها تدلّ بالدلالة الالتزامية على كرمهم.

(٣) وهو ما يسمّى بالتواتر المعنوي.

__________________

«الاطمئنان علم وكاشف» فيجب العمل بمقتضى هذا العلم تنجيزا وتعذيرا ، فكان الحكم عين الموضوع حقيقة وإن غايره مفهوما كما قلنا في المقدّمة.

(والنتيجة) ان الاطمئنان حجيته ذاتية ـ كالقطع ـ لانه ليس المراد من الاطمئنان الا العلم العرفي ، وليس المراد من الحجية الّا ما ينجّز ويعذّر ، وهل يوجد فوق العلم منجّز ومعذّر ، فالعلم اعلى مرتبة من مراتب الحجّة. ومن هنا تعرف ان قولنا «ذاتيّة» إنما هو لوجود وحدة حقيقية بنظر العقلاء بين الاطمئنان والحجّة كما عرفت ، فكأنك قلت «العلم علم».

ولا يفرق الحال في اسباب حصول هذا الاطمئنان ـ وذلك كما مرّ في القطع ـ سواء حصل من تواتر الاخبار كالعلم بحصول وقعة الخندق مثلا ، او من خبر واحد ـ ثقة او غير ثقة ـ بانّ فلانا من الناس يدقّ الباب. (نعم) على الانسان أن يتوجّه الى اسباب حصول الاطمئنان عنده ويحاول ان يكون عقلائيا في اطمئناناته كي لا يصير قطاعا ولا وسواسيّا.

٣٤٢

رأيناه في الحالة السابقة يضاف إليه مضعّف آخر ، وهو ان افتراض كذب الجميع يعني وجود مصلحة شخصية لدى كل مخبر دعته الى الإخبار بذلك النحو ، وهذه المصالح الشخصيّة إن كانت كلها تتعلّق بذلك الجانب المشترك فهذا يعني أن هؤلاء المخبرين على الرّغم من اختلاف ظروفهم وتباين احوالهم اتفق صدفة أن كانت لهم مصالح متماثلة تماما ، وان كانت تلك المصالح الشخصيّة تتعلّق بالنسبة الى كل مخبر بكامل المدلول المطابقي فهذا يعني انها (١) متقاربة ، وذلك أمر بعيد بحساب الاحتمالات ، وهذا ما نسمّيه بالمضعّف الكيفي ، يضاف الى ذلك المضعّف الكمّي. ولهذا نجد ان قوّة الاحتمال التي تحصل في هذه الحالة اكبر منها في الحالة السابقة ، والاحتمال القويّ هنا يتحوّل الى يقين [عرفي] بسبب ضآلة احتمال الخلاف ، ولا يلزم (٢) من ذلك ان ينطبق هذا

__________________

(١) اي المصالح الشخصيّة.

(٢) أي : لا يلزم من تحوّل الاحتمال القوي في هذه الحالة الى يقين ان نقول : وكذا الامر في الحالة الاولى فانه يلزم ان يتحوّل احتمالنا الى يقين ايضا كما في هذه الحالة الثانية. (وذلك) اي دليل عدم الاستلزام هو وجود وحدة معنوية في الحالة الثانية تفيد معنى كرم حاتم ، يعني ان كل رواية تعاضد غيرها في وحدة المعنى ، بخلاف الحالة الاولى ، ولذلك لن يتحوّل احتمالنا في الحالة الاولى الى يقين وسنبقى نحتمل ان كل الروايات المائة التي اخذناها بلا تأمّل ان تكون هي عين هذه الروايات المائة الكاذبة من بين العشرة آلاف رواية ، كما نحتمل ان يكون الاناء الذي اخذناه من بين العشرة آلاف إناء طاهر هو نفسه النجس ولن يتحوّل احتمالنا هذا ـ رغم اعترافنا بضآلته ـ الى يقين ، لاننا اذا قلنا ليس النجس هو هذا فاذن لك ان تقول ايضا ليس ذاك هو

٣٤٣

على كل مائة خبر نجمعها ، لانّ المضعّف الكيفي المذكور لا يتواجد إلّا في مائة تشترك ولو في جانب من مدلولاتها الخبرية.

الحالة الثالثة : ان تكون الإخبارات مشتركة في المدلول المطابقي بالكامل (١) ، كما اذا نقل المخبرون جميعا انّهم شاهدوا قضيّة معيّنة من قضايا كرم حاتم ، وفي هذه الحالة يوجد المضعّف الكمّي والمضعّف الكيفي معا ، ولكن المضعّف الكيفي هنا اشدّ قوّة منه في الحالة السابقة ، وذلك لان مصالح الناس المختلفين كلّما افترض تطابقها وتجمّعها في محور اضيق كان ذلك أغرب وابعد بحساب الاحتمالات لما بينهم من الاختلاف والتباين في الظروف والاحوال ، إذ كيف (*) أدّت مصلحة كل واحد منهم الى نفس ذلك المحور الذي ادّت إليه مصلحة الآخرين ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى اذا كان الكل ينقلون واقعة واحدة بالشخص فاحتمال الخطأ فيهم جميعا ابعد مما اذا كانوا ينقلون وقائع متعددة بينها جانب مشترك. وفي هذه الحالة كلما كان التوحّد في المدلول أوضح والتطابق في الخصوصيات بين اخبارات المخبرين اكمل كان احتمال الصدق اكبر والمضعّف الكيفي أقوى أثرا.

__________________

النجس وهكذا الى تمام العشرة آلاف ، وسينتج انه ليس عندنا إناء نجس وهو خلاف الفرض ، وهذه التفاتة جميلة من سيدنا الشهيد (حشرنا الله معه) ، فافهم الفرق بين الحالتين.

(١) وهو ما يسمّى بالتواتر اللفظي.

__________________

(*) في النسخة الاصلية «فكيف» بدل «إذ كيف».

٣٤٤

من هنا كان اشتمال كل خبر على نفس التفاصيل التي يشتمل عليها الخبر الآخر مؤدّيا الى تزايد احتمال الصدق بصورة كبيرة. ومن اهمّ امثلة ذلك التطابق في صيغة الكلام المنقول ، كما اذا نقل الجميع كلاما لشخص بلفظ واحد ، لاننا نتساءل حينئذ :

هل اتّفق ان كانت للجميع مصلحة في ابراز نفس الألفاظ بعينها مع امكان أداء المعنى نفسه بالفاظ أخرى؟ او كان هذا التطابق في الألفاظ عفويا وصدفة؟ وكل ذلك بعيد بحساب الاحتمالات. ومن هنا نستكشف ان هذا التطابق ناتج عن واقعية القضيّة وتقيّد الجميع بنقل ما وقع بالضبط.

وعلى ضوء ما ذكرناه يتّضح الوجه في اقوائية التواتر اللفظي من المعنوي ،

والمعنوي من الاجمالي كما هو واضح.

٣٤٥

٢ ـ (الاجماع)

الاجماع يبحث عن حجّيته في اثبات الحكم الشرعي تارة على اساس حكم العقل المدّعى بلزوم تدخل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ ، وهو ما يسمّى بقاعدة اللطف (١) ، وأخرى على أساس قيام دليل

__________________

(١) قال السيد الشهيد رحمه‌الله في ابحاث خارجه ما نصّه : «هذا المسلك نسب الى بعض الاقدمين من اصحابنا من جملتهم الشيخ (قده) ، وهو يبتني على اساس قاعدة اللطف العقلية ، وهي قاعدة متفرّعة على اصل العدل الالهي في علم الكلام ، إذ يراد بها ادراك العقل لما يكون واجبا على الله سبحانه وتعالى بحكم كونه عادلا ، وتسميته باللطف تادّبا ، وقد تمسّكوا بها في علم الكلام لاثبات النبوّة العامّة ، وحاول تطبيقها الفقهاء الاقدمون في مسألة الاجماع لاثبات حجيته بدعوى ان من اللطف اللازم عليه سبحانه ان لا يسمح بضياع المصالح الحقيقية في احكام الشارع على الناس نهائيا ، بل لا بدّ من انحفاظها ولو ضمن بعض الاقوال ، فاذا اجمعت الطائفة على قول ينكشف انه هو الحقّ وإلّا لزم خفاء الحقيقة كليا وهو خلاف اللطف.

وهذا المسلك غير تام لوجوه ...» الى آخر ما ذكره رحمه‌الله في تقريرات السيد الهاشمي ج ٤ ص ٣٠٦(*)

__________________

(*) اقول : يكفي في إبطال هذا المسلك ردّان :

الاوّل : ان اللطف ثابت بمقدار ارسال الرسل لبيان المهم من التشريعات الالهية وهذا المقدار بيّنه لنا الشارع المقدّس عبر الآيات والروايات الصحيحة والروايات الموثوق

٣٤٦

__________________

بصدورها والاجماع الذي يورث وثوقا واطمئنانا. أمّا غير المهم منها فلا دليل على وجود هكذا قاعدة عند العقل ، ان لم يكن اللطف في عدم بيان جميع الاحكام ـ فيما عدا المهم كما قلنا ـ وذلك لاحتمال ان يكون من اللطف بالخلق ان يجعل مقدارا كبيرا من الاحكام مجهولة الاحكام الواقعية ليسعى علماء الدين بالتعمق والتوسّع في دراسة العلوم الاسلامية فيوفّق الله تعالى ثلّة منهم ويختارهم لاستلام مقاليد مرجعية الطائفة المحقّة وذلك لكون المرجعية امتدادا لخطّ الامامة في عصر الغيبة ولجمع شمل المؤمنين على مركز او مراكز معيّنة. وامّا لو اوصل لنا الأئمة عليهم الصلاة والسلام رسالة عملية كاملة في الفقه مثلا فانه لا يعود يوجد حاجة الى اجتهاد العلماء فلا تتمحور مرجعية الامّة ح في اشخاص معيّنين ، وفي هذا تشتّت الامة وتفرّقها.

(والنتيجة) ان قاعدة اللطف لا تجري فيما نحن فيه.

والثاني : إن كانت قاعدة اللطف تقتضي عدم اجتماع الامّة على الخطأ كي لا تضيع الاحكام الشرعية او مصالحها او كي لا نقع في المفاسد. (فهذا) الكلام جار أيضا بالنسبة الى الفئة الجاهلة من الناس بالاحكام. فان قلتم : صحيح ، لا باس بالالتزام بهذه القاعدة حتّى بالنسبة الى هؤلاء كي لا يقعوا في مخالفة الواقع ، قلنا : هذا الكلام بديهي البطلان ، إذ لو كان هذا الكلام صحيحا فكيف اختلف المجتهدون؟ ولم لم يوصل لنا الائمة (عليهم‌السلام) رسالة عملية كاملة بطرق معتبرة طبيعية تتجاوز موانع التقية والخطر كما وصلنا كتاب الكافي وغيره؟! ، اضافة الى لغويّة قاعدة البراءة في الاحكام الشرعيّة المجهولة ح.

(ومن هنا) تعرف بطلان قول بعضهم : انّ من اللطف مخالفة الامام الحجة (روحي وأرواح العالمين لمقدمه الفداء) للاجماع إن خالف الحكم المجمع عليه الحكم الواقعي وذلك لكي لا ينطمس الحقّ ولذلك كانوا يقولون بأنّ المخالف للاجماع إن كان معلوم النسب كالعلامة الحلّي فهو لا يخدش بالاجماع والّا فانه يخدش لاحتمال ان يكون المخالف هو الامام عليه‌السلام ، (وذلك) لأنّ الشارع المقدّس قد أبان كل الاحكام المهمة ، وترك الفقهاء يختلفون في امور غير مهمّة وشاء ربك ان يختلفوا لحكمة بالغة عنده كما ذكرنا قبل قليل.

٣٤٧

شرعي على حجّية الاجماع ولزوم التعبد بمفاده (١) كما قام على حجية خبر الثقة والتعبّد بمفاده ، وثالثة على أساس إخبار المعصوم وشهادته بانّ الاجماع لا يخالف الواقع ، كما في الحديث المدّعى «لا تجتمع امّتي على خطأ» (٢) ، ورابعة باعتباره كاشفا عن دليل شرعي ، لان المجمعين لا

__________________

(١) من قبيل قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة عن ابي عبد الله عليه‌السلام : ـ في حديث ـ قال : فان كانا ـ اي الراويين ـ عدلين مرضيين عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال عليه‌السلام : «ينظر الى ما كان من روايتيهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند اصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ، وانما الامور ثلاثة : امر بيّن رشده فيتّبع ، وامر بيّن غيّه فيجتنب ، وامر مشكل يردّ حكمه الى الله ...» (*).

(٢) قال السيد الشهيد (قده) في أبحاثه (المصدر السابق ص ٣٠٧) ما نصّه :

«المسلك الثاني : اثبات حجية الاجماع بدليل شرعي ، وقد استدلّ اصوليو الجمهور على حجيته بوجوه عديدة ، ما يستحق منها الذكر هو التمسّك بالنبوي المشهور «امّتي لا تجتمع على ضلالة» ، وقد وجدناه بصيغتين :

احداهما : ما عن ابي خلف الاعمى قال : سمعت انس بن مالك يقول :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن امتي لا تجتمع على ضلالة ، فاذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الاعظم» (نقله ابن ماجه في سننه ج ٢ ص ١٢٠٣)

__________________

(*) سيأتي إن شاء الله تعالى في أبحاث التعارض بيان ان المراد من الشهرة في هذه المقبولة هي الشهرة الروائية التي تفيد الاطمئنان بدليل التعليل بقوله عليه‌السلام «فان المجمع عليه لا ريب فيه ، وانما الامور ثلاثة : امر بيّن رشده فيتّبع ...».

وهذا المعنى ظاهر للمتامّل ، ولذلك فهذه المقبولة لا تفيدنا في إعطاء الحجيّة للاجماع.

٣٤٨

يفتون عادة إلا بدليل ، فيستكشف بالاجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي.

والفارق بين الأساس الرابع لحجية الاجماع والاسس الثلاثة الاولى ان الاجماع على الاسس الاولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة ، وأمّا على الاساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم (١).

__________________

الثانية : ما نقله شريح عن ابي مالك الاشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إنّ الله اجاركم من ثلاث خلال : ان لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا ... وان لا تجتمعوا على ضلالة» (*). (نقله ابن داود في سننه ج ٤ ص ٩٨).

فيستدل بها على حجية الاجماع لكونها شهادة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصمة مجموع الامّة».

قال السيد الشهيد ـ بتصرّف منا ـ : «ويرد على هذا :

اولا : ضعف سند الحديثين عندنا وعند العامّة ، أمّا الاوّل فلشهادة جملة من علمائهم بضعف ابي خلف الاعمى ، وأمّا الثاني ففي سنده قضمضم المهمل عندنا ، وعندهم محل خلاف في وثاقته وعدمها ، وأيضا هناك شك كبير في صحّة نقل شريح عن ابي مالك الاشعري الذي هو من اصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدّة قرائن ...

ثانيا : الظاهر من كلمة «ضلالة» هو ما يستبطن الانحراف وهو أمر يغاير الخطأ في مسألة فرعية ...» انتهى كلامه.

(١) وإلا فكيف يحكم علماؤنا مع دقّتهم وورعهم بغير علم ودليل شرعي؟!

__________________

(*) ومن هنا تعرف انه كان الاولى ان يقول في المتن : كما في الحديث النبوي الضعيف «ان امّتي لا تجتمع على ضلالة»

٣٤٩

والبحث عن حجية الاجماع على الاسس الثلاثة الاولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي (١) على الحكم الشرعي ، والبحث عن حجّيته على الاساس الاخير يدخل في نطاق احراز صغرى الدليل الشرعي (٢) ويعتبر (٣) من وسائل اثبات هذا الدليل ، وهذا ما نتناوله في المقام.

__________________

(١) المراد بالدليل غير الشرعي هنا الدليل على حجية الاجماع ، فانه دليل غير شرعي ، بخلاف الكتاب والسنّة فانهما دليلان شرعيان(*).

(٢) اي انه بناء على الاساس الرابع فان البحث عن حجّيّة الاجماع هو بالحقيقة بحث عن اصل وجود هذا الاجماع ـ لا عن حجّيته ـ وذلك لاستكشاف وجود دليل عند المجمعين لم نطلع عليه ، خاصّة القدماء منهم ، فيكون بالتالي تحصيل الاجماع واسطة في استكشاف وجود دليل شرعي في البين على الحكم الذي أجمعوا عليه.

(والمراد) ب «صغرى الدليل الشرعي» نفس وجود الدليل الشرعي ، ولذلك يمكن لك حذف كلمة «صغرى» ولا يتغير المعنى اصلا. وفي مقابل هذه الصغرى «كبرى حجية هذا الدليل الشرعي» ، وهذه الكبرى صحيحة لأنها عبارة عن رأي المعصوم عليه‌السلام

(٣) اي ويعتبر الاجماع واسطة في إثبات وجود دليل شرعي على الحكم المطلوب.

__________________

(*) لم نفهم وجها صحيحا لكون الدليل على حجية الاجماع على الاسس الثلاثة الاولى دليلا غير شرعي ، فانّ الاجماع على الاسس الثلاثة الاولى ـ كما رأيت ـ حجيّته شرعية فهو دليل شرعي كالدليل على حجية خبر الثقة ، أليس هو دليلا شرعيا كما يقول الكل؟! نعم الاجماع على الاساس الرابع هو دليل غير شرعي قد يكشف عن الحكم الشرعي في بعض الحالات كما اوضح ذلك السيد المصنف.

٣٥٠

وقد قسّم الاصوليون الملازمة ـ كما نلاحظ في الكفاية (١) وغيرها ـ الى ثلاثة أقسام ، ثم بحثوا عن تحقّق ايّ واحد منها بين الاجماع والدليل الشرعي ، وهي الملازمة العقلية والعادية والاتفاقيّة ، ومثّلوا للاولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه ، وللثانية بالملازمة بين اتفاق آراء المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم ، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.

والتحقيق ان الملازمة دائما عقلية (٢) ، والتقسيم الثلاثي لها مردّه في

__________________

(١) راجع مثلا منتهى الدراية ج ٤ ص ٣٤٧.

(٢) شرحها السيد المصنف رحمه‌الله في تقريرات السيد الهاشمي ج ٤ ص ٣٠٩ بقوله : «والصحيح ان الملازمة على نحو واحد دائما وهي بملاك استحالة الانفكاك عقلا ، فان الاستحالة والامكان لا يدركان الا بالعقل دائما ، ولكنه تارة يحكم العقل بذلك مطلقا ، وأخرى يحكم به ضمن ظروف موجودة عادة وغالبا ، وثالثة ضمن ظروف اتفاقية.» انتهى كلامه (قدس‌سره).

(وبالجمع) بين كلا الكلامين نفهم ان مراده رحمه‌الله أن يقول :

إنّ الملازمة امر عقلي اي علّي دائما لانها عبارة عن الربط العلّي بين المتلازمين ، فان النار (الملزوم) اذا كانت في كل الظروف والاحوال نارا لها كل خصائص النار من الحرارة وغيرها كانت الملازمة بين النار والحرارة علّيّة وسمّيت الملازمة عقلية ، وإن كان الملزوم ـ كالشيخوخة بالنسبة الى الشيب ـ تحفّه عادة ظروف معيّنة سمّيت هذه الملازمة بالملازمة العادية نظرا إلى ان الظروف تتواجد بحسب العادة ، وان كانت اذا تواجدت هذه الظروف (أي تمّت العلّة) فسيحصل المعلول لا محالة وتكون الملازمة ح في الحقيقة ملازمة عقلية ايضا لكونها عبارة عن الربط العلّي بين العلّة ومعلولها أو بين المعلولين لعلّة واحدة كضعف البدن ـ عند الشيخ ـ والشيب ، وكذلك الامر

٣٥١

الحقيقة الى تقسيم الملزوم (١) لا الملازمة ، فانّ الملزوم اذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه واحواله سمّيت الملازمة عقلية (*) كالملازمة بين النار والحرارة ، واذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سميت الملازمة عادية ، واذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف قد يتّفق وجودها فالملازمة اتفاقية.

والصحيح انه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية (٢) فضلا عن الاجماع ، وهذا لا ينفي أننا نعلم بالقضية القائلة «كل قضية ثبت تواترها فهي ثابتة» (٣) ، لان العلم بانّ المحمول لا ينفك عن الموضوع غير العلم بأنّه لا يمكن ان ينفك عنه ، والتلازم يعني الثاني ، وما نعلمه هو الاوّل على

__________________

تماما بالنسبة الى ما اسموه بالملازمة الاتفاقية ، فانهم سمّوها اتفاقيّة لكون الظروف تحفّ بالملزوم احيانا ، وإلّا ففي الحقيقة اذا وجد الملزوم كقراءة الدرس وحصلت الظروف كفراغ البال تمّت العلّة فوجب المعلول وهو فهم الدرس. ولهذا قال السيد المصنف رحمه‌الله كانت الملازمة عقلية.

(١) فاذا كان الملزوم علّة تامّة في كل حال وظرف كانت الملازمة علّيّة ، وان لم يكن علّة تامّة وانما كان أكثر اجزاء العلّة ويحتاج الى شرط آخر يحصل عادة سمّوا الملازمة عادية ، وان كان الملزوم بعض اجزاء العلّة ويحتاج الى اجزاء أخرى قد تحصل وقد لا تحصل سمّوها اتفاقية.

(٢) بنحو القطع.

(٣) بحسب وثوقنا واطمئناننا.

__________________

(*) الاولى ان يقول بدل «سمّيت الملازمة عقلية» «كانت الملازمة دائمية» ، لانه اعتبر ان الملازمة دائما عقلية ، وانما قد تكون هذه الملازمة العقلية : دائمية وقد تكون عاديّة وقد تكون اتفاقية.

٣٥٢

اساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضآلته ، لا لقيام برهان على امتناع محتمله عقلا (١).

فالصحيح ربط كشف الاجماع بنفس التراكم المذكور وفقا لحساب الاحتمال ، كما هو الحال في التواتر ، على فوارق بين مفردات الاجماع (٢) بوصفها اخبارا حدسية (٣) ومفردات التواتر بوصفها اخبارا حسّية. وقد تقدّم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة.

وتقوم الفكرة في تفسير كشف الاجماع بحساب الاحتمال على ان الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة ، فاذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي ، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الاصابة (٤) والخطأ

__________________

(١) وبتعبير آخر العلم الحاصل من خلال التواتر والاجماع هو علم بنظر العرف اي وثوق واطمئنان ، وأمّا العلم الثاني ـ اي الذي لا يمكن ان ينفك عقلا عن معلومه ـ فهو علم حقيقة ويقين بحيث ان اعتقادنا بخلافه يوقعنا في التناقض. فمثلا ١+ ١ ـ ٢ بنحو العلم الحقيقي ـ لا العرفي فقط ـ بحيث لو قلنا ١+ ١ ـ ٣ لصارت النتيجة ١+ ١ يساويان اثنين بالبداهة ولا يساويان اثنين إدّعاء وهو تناقض ، وهكذا في كل قضية مشابهة.

وهنا مراده هكذا : اي لا لقيام برهان على امتناع المحتمل الضعيف عقلا بحيث لو اتفق ولم يكن شيء من الاخبار المتواترة صادرا لوقعنا في التناقض.

(٢) اي فتاوى العلماء.

(٣) اي يعبّر عن وجود خبر بحدسنا.

(٤) مراده اصابة الدليل الشرعي الصحيح ، لا إصابة الواقع ، فنحن لسنا مكلّفين بادراك الواقع وانما مكلّفون بالعمل على طبق الادلّة الشرعية الصحيحة.

٣٥٣

معا ، وبقدر احتمال الاصابة يشكّل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي ، وبتراكم الفتاوى تتجمّع القرائن الاحتمالية لاثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة تتحوّل بالتالي الى يقين [عرفي] لتضاؤل احتمال الخلاف.

ويستفاد من كلام المحقّق الاصفهاني رحمه‌الله الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعي من الاجماع بالنقطتين التاليتين :

الاولى : ان غاية ما يتطلّبه افتراض ان الفقهاء لا يفتون بدون دليل ان يكونوا قد استندوا الى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهورها في اثبات الحكم وحجيتها سندا ، وليس من الضروري ان تكون الرواية في نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها ، كما انه ليس من الضروري ان يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها كذلك عندنا ، إذ قد لا نبني إلّا على حجية خبر الثقة ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجيّة الحسن او الموثّق (١).

والثانية : ان اصل كشف الاجماع عن وجود رواية خاصّة دالّة على الحكم ليس صحيحا ، لاننا ان كنا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا

__________________

(١) قد يكون قصده من الاختلاف بين الثقة والموثّق (أن) يكون الثقة هو الثقة واقعا او قل معلوم الوثاقة ، والموثق هو من وثّقوه ، وقد لا نؤمن مثلا بدليل حجية اقوال الموثقين. (وقد يكون) قصده هو ان الثقة هو من وثّقوه بصراحة ، والموثق هو من ثبتت وثاقته بقاعدة ما كقاعدة أنّ من روى عنه صفوان او البزنطي او ابن أبي عمير فهو ثقة ، وقد لا نؤمن نحن بهذه القاعدة.

٣٥٤

القبيل فهي واصلة بنفسها ـ لا بالاجماع ـ فلا بدّ من تقييمها بصورة مباشرة ، وان كنّا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن ان نفترض وجود رواية ، إذ كيف نفسّر حينئذ عدم ذكر احد من المجمعين لها في شيء من كتب الحديث او الاستدلال مع كونها هي الاساس لفتواهم على الرّغم من انهم يذكرون من الاخبار حتى ما لا يستندون اليه في كثير من الاحيان.

ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول : ان الاجماع من اهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدّمين لا نريد به ان نكتشف رواية على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريبا ، وانما نكتشف به ـ في حالة عدم وجود مستند لفظي محدّد للمجمعين ـ ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقّى من الطبقات السابقة على اولئك الفقهاء والمتقدّمين ، لان تلقّي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسّر حينئذ اجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين (*) على الرّغم من عدم

__________________

(*) يحسن في هذا المجال ان نذكّر الاخوة بان مراد السيد الشهيد من هؤلاء الفقهاء هم المتقدمون من اصحابنا الذين يحتمل في حقهم وصول هذا الارتكاز اليهم ، والمعروف منهم في زماننا خمسة عشر فقيها وراويا ممّن وصلتنا آراؤهم والأركان منهم هم :

الكليني والصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي ، والخمسة عشر فقيها هم :

١ ـ الشيخ الكليني (... ـ ٣٢٩) ،

٢ ـ والد الشيخ الصدوق : ابن بابويه (نحو ٢٦٠ ـ ٣٢٩) ،

٣ ـ ابن ابي عقيل العماني (من اهل المائة الرابعة ، وهو في طبقة ابن الجنيد وهو من مشايخ جعفر به محمد بن قولويه).

٤ ـ القاضي نعمان المصري (... ـ ٣٦٣) صاحب «دعائم الاسلام» ،

٥ ـ الشيخ الصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١)

٣٥٥

وجود مستند لفظي مشخّص بايديهم ، وهذا الارتكاز والوضوح لدى تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الائمة عليهم‌السلام يكشف عادة عن وجود مبرّرات كافية في مجموع السّنّة التي عاصروها من قول وفعل وتقرير اوحت اليهم بذلك الوضوح والارتكاز ، وبهذا يزول الاستغراب المذكور ، إذ لا يفترض تلقّي المجمعين من فقهاء

__________________

٦ ـ ابن الجنيد : ابو علي الكاتب الاسكافي (... ـ ٣٨١) ،

٧ ـ ابن قولويه : ابو القاسم جعفر بن محمد ، وهو تلميذ الكليني واستاذ الشيخ المفيد ،

٨ ـ ابن شعبة (معاصر للشيخ الصدوق) صاحب كتاب «تحف العقول» ، وقد اخذ عنه الشيخ المفيد ،

٩ ـ الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣) ،

١٠ ـ الصابوني (من طبقة الشيخ المفيد) ،

١١ ـ السيد المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦) ،

١٢ ـ ابو الصلاح الحلبي : تقي الدين بن نجم (٣٤٧ ـ ٤٤٧) : من تلامذة المرتضى والطوسي ،

١٣ ـ سالار (... ـ ٤٤٨) من كبار تلامذة المفيد والمرتضى ،

١٤ ـ ابو الفتح الكراجكي (... ـ ٤٤٩) من تلامذة المفيد والمرتضى وسالار ،

١٥ ـ شيخ الطائفة الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠)

وبه يختمون الفقهاء الاقدمين ، ولك ان تضيف من كان من الفقهاء في طبقة الشيخ الطوسي لوحدة المناط فيهم ، ونسبة الاستفادة من هؤلاء الفقهاء تختلف كثيرا فالاستفادة من الاركان الخمسة اعظم من الاستفادة من ابن شعبة وابن قولويه والقاضي النعمان والصابوني بمرّات كما يعرف ذلك اهل الخبرة. والشيخان الكليني والصدوق ونحوهما وإن غلب عليهم اسم المحدّثين ، الّا انهم كانوا من اوائل فقهاء عصر الغيبة ، (على) انه لا يهمّنا هنا ما يطلق عليهما انما يهمّنا توسّطهم لاستكشاف وجود ارتكاز في عصر النص اي عصر ظهور الامام وحضوره العلني مع الناس.

٣٥٦

عصر الغيبة رواية محدّدة وعدم إشارتهم إليها ، وانما تلقّوا جوّا عاما من الاقتناع والارتكاز الكاشف [عن رأي المعصومين عليهم‌السلام] فمن الطبيعي ان لا تذكر رواية بعينها.

وعلى هذا الضوء يتّضح الجواب على النقطة الاولى أيضا ، لان المكتشف بالاجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميّتها سندا او دلالة ، بل هذا الجوّ العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي. وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين اجماع اهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة والدليل الشرعي المباشر من المعصوم ، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثالهم من معاصري الأئمة ، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل الشرعي. ولهذا فانّ ايّ بديل للاجماع المذكور في اثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدّي نفس دور الاجماع ، فاذا امكن ان نستكشف بقرائن مختلفة ان سيرة المتشرّعة المعاصرين للائمة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معيّن كفى ذلك في اثبات هذا الحكم. وقد سبق ـ عند الكلام عن طرق اثبات السيرة في الحلقة السابقة ـ ما ينفع في مجال تشخيص بعض هذه القرائن.

الشروط المساعدة على كشف الاجماع :

وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالاجماع وتسلسلها يمكن ان نذكر الامور التالية كشروط اساسية لكشف الاجماع عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدّمة الذكر أو مساعدة على ذلك :

٣٥٧

الاوّل : ان يكون الاجماع من قبل المتقدّمين من فقهاء عصر الغيبة (١) الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرّعين المعاصرين للمعصومين ، لان هؤلاء هم الذين يمكن ان يكشفوا عن وجود ارتكاز عام لدى طبقة الرواة ومن إليهم (٢) دون الفقهاء المتأخرين.

الثاني : ان لا يكون المجمعون او جملة متعدّ بها منهم قد صرّحوا بمدرك محدّد لهم (*) ، بل ان لا يكون هناك مدرك معيّن من المحتمل استناد المجمعين إليه وإلّا كان المهم تقييم ذلك المدرك. نعم في هذه الحالة قد يشكّل استناد المجمعين الى المدرك المعيّن قوّة فيه ويكمّل ما يبدو من نقصه. ومثال ذلك ان يثبت فهم معنى معيّن للرواية من قبل كل الفقهاء المتقدّمين القريبين من عصر تلك الرواية والمتاخمين لها ، فان ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر (٣) في ظهورها في ذلك المعنى

__________________

(١) بمرحلتيها الصغرى والكبرى.

(٢) أي ومن اليهم ينتسب ، ممن تأخّر عنهم واتصل بالفقهاء المتقدمين ، كالكليني والصدوق ومن في طبقتيهما ، فانهما من الرواة الذين اتصل عهدهم بالفقهاء المتقدمين كابن ابي عقيل (العماني) وابن الجنيد (الاسكافي) فقيهي اوّل عصر الغيبة الكبرى التي بدأت سنة ٣٢٩ ه.

(٣) لنا وفي زماننا.

__________________

(*) كما لو اجمع الفقهاء المتاخمون لعصر الغيبة الصغرى بعدم وجوب إقامة صلاة الجمعة او بعدم وجوب حضورها ـ رغم وجود نصوص تؤكّد على صلاة الجمعة ـ فانّ اجماعهم يكشف عن وجود سيرة منذ عصر النص على عدم وجوب إقامتها وعلى عدم وجوب حضورها ، وهذه السيرة تكشف عن رأي المعصومين (ع).

٣٥٨

نظرا لقرب أولئك من عصر النص واحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.

الثالث : ان لا توجد قرائن عكسيّة تدلّ على انه في عصر الرواة والمتشرّعة المعاصرين للأئمة عليهم‌السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللذين يراد اكتشافهما عن طريق اجماع الفقهاء المتقدّمين. والوجه في هذا الشرط واضح بعد ان عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف (١) ودور الوسيط المشار اليه فيه.

الرابع : ان تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقّي حكمها عادة إلا من قبل الشارع ، وأمّا إن كان بالامكان تلقّيه من قاعدة عقلية مثلا او كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل او اطلاق فلا يتمّ الاكتشاف المذكور.

مقدار دلالة الاجماع :

لما كان كشف الاجماع قائما على أساس تجمّع انظار اهل الفتوى على قضية واحدة اختصّ بالمقدار المتّفق عليه ، ففيما اذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتمّ الاجماع إلّا بالنسبة لمورد الخاص.

ويعتبر كشف الاجماع عن اصل الحكم بنحو القضية المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات التفصيلية للحكم ، وذلك لأنّا عرفنا سابقا ان كشف الاجماع يعتمد على ما يشير اليه من الارتكاز في طبقة الرواة

__________________

(١) اي اكتشاف الارتكاز الذي هو «الوسيط المشار اليه» بين الاجماع ووجود دليل شرعي صحيح على الحكم.

٣٥٩

ومن اليهم. وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالاجماع نجد ان احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين اقوى نسبيا من احتمال خطئهم في اصل ادراك ذلك الارتكاز ، فان الارتكاز بحكم كونه قضيّة معنوية غير منصبّة في ألفاظ محدّدة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته واطلاقاته.

الاجماع البسيط والمركّب :

يقسّم الاجماع الى بسيط ومركّب : فالبسيط هو الاتفاق على رأي معيّن في المسألة ، والمركّب هو انقسام الفقهاء الى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه او اكثر ، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالاجماع المركب ، وما تقدّم من الكلام كان الملحوظ فيه الاجماع البسيط ، وامّا المركّب من الاجماع فان افترضنا ان كل فقيه من المجمعين يبني على نفي الوجه الثالث بصورة مستقلّة عن تبنّيه لرأيه فهذا يرجع في الحقيقة الى الاجماع البسيط على نفي الثالث ، وان افترضنا ان نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا باثبات ما تبنّاه من رأي فهذا هو الاجماع المركب على نفي الثالث ولا حجية فيه ، لان حجّيته انما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمّع القيم الاحتمالية لعدم الخطأ ، وفي المقام نعلم بالخطإ عند احد الفريقين المتنازعين فلا يمكن ان تدخل القيم الاحتمالية كلها في تكوين الكشف للاجماع المركّب لانها متعارضة في نفسها كما هو واضح (١).

__________________

(١) مثال ذلك : افرض ان عشرة فقهاء قدامى قالوا بوجوب غسل الجمعة وباقي القدماء قالوا مثلا باستحبابه ، فهنا اجماع مركّب على عدم حرمته اذن ، لكن عدم الحرمة لا يستكشف من خلال فتاوى جميع الفقهاء ،

٣٦٠