دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

__________________

احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحج اذا طمثت». (أ)

٤ ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ـ الواردة في الكافي والعلل ـ قال : سألت أبا ابراهيم عليه‌السلام (يعني الامام الكاظم) عن الجارية التي لم تدرك متى ينبغي لها ان تغطي رأسها ممّن ليس بينها وبينه محرم؟ ومتى يجب عليها ان تقنع رأسها للصلاة؟ قال : «لا تغطي رأسها حتّى تحرم عليها الصلاة» (ب) ، أي حتى تحرم عليها الصلاة بالحيض.

٥ ـ صحيحة محمد بن مسلم ـ الواردة في الكافي ـ عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : «لا يصلح للجارية اذا حاضت الّا ان تختمر الّا ان لا تجده» (ج) ، هذا ظاهرا في الصلاة بقرينة الروايتين الرابعة والسادسة وموثقة عمار الآتية.

٦ ـ مصحّحة يونس بن يعقوب ـ الواردة في الفقيه ـ انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي في ثوب واحد؟ قال : «نعم» ، قال قلت : فالمرأة؟ قال : «لا ، ولا يصلح للحرّة اذا حاضت إلّا الخمار إلّا ان لا تجده» (د) ، أي لها ان تصلّي من دون خمار إذا لم تجده.

الطائفة الرابعة : وهي تفيد ان سن بلوغ الفتاة هو ثلاث عشر سنة الّا ان تحيض قبل ذلك وهي :

موثقة عمّار الساباطي ـ الواردة في التهذيب ـ عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟ قال : «اذا اتى عليه ثلاث عشر سنة ، فان احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم ، والجارية مثل ذلك ، إن اتى لها ثلاث عشر سنة او حاضت قبل ذلك فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم». (ه)

(ومقتضى) الجمع بين هذه الروايات أن يقال :

ان سن تكليف الفتاة في العبادات والخمار هو ثلاث عشر سنة الّا ان تحيض قبل ذلك.

(وأمّا) في موارد الحدود كالزنا وغيره فيضاف شرط وهو ان تبلغ تسع سنين وتتزوّج

__________________

(أ) المصدر السابق ح ٢.

(ب) جامع الاحاديث ٢٠ ابواب جملة من احكام الرجال والنساء باب ١٠ ح ١ ص ٢٩٧.

(ج) المصدر السابق ح ٢.

(د) وسائل ٣ ابواب لباس المصلّي باب ٢٨ ح ٤ ص ٢٩٤.

(ه) جامع الاحاديث ١ باب اشتراط التكليف بالبلوغ ح ١١ ص ٤٢٢.

٣٠١

__________________

وتدخل على زوجها ، فأي شرط من هذه الشروط الثلاثة تحقق فانها تستحق اجراء الحدود التامّة عليها. (ونذكّر) الاخوة ان الدم الذي قد يأتي الفتاة قبل التسع سنوات لا يعتبر حيضا نقلا واجماعا.

(وإنما) اخترنا هذا البحث لكثرة ما استعملت فيه أداة الشرط ، وان كل مورد وجدناه في الفقه من هذا القبيل وجدنا فيه فقهاءنا لا يتردّدون في العطف بأو ، وهو امر يجده العرف بفطرتهم ، ولا نجد تعارضا مستقرّا بين هذه الروايات او ان استعمالهم هذا خطأ أو مجاز.

اذا عرفت هذا فنقول : ان القضية الشرطية انما تفيد الاستلزام بين الشرط والجزاء كقدر متيقّن من معنى الربط ، بعد إجمال وتردّد معناه بين معنى التوقف والانحصار ومعنى الاستلزام ، وعلى هذا الاساس فاقصى ما نستفيده هو انّه إذا حصل الشرط حصل الجزاء. ولو تنزّلنا وقلنا باستفادة معنى التوقف لكان القدر المتيقن هو توقف شخص الحكم على الشرط المذكور وهذا ايضا لا يفيدنا معنى المفهوم ، فحينما يرد مثلا «اذا اغتسل الرجل للجمعة فليس عليه وضوء» ، ثم يرد في الروايات الصحيحة ان «الوضوء بعد الغسل بدعة» نفهم فورا ان ذكر غسل يوم الجمعة هو كمثال ولذلك ترانا نجمع بأو فنقول «اذا اغتسل للجمعة أو غيره من الاغسال المشروعة فليس عليه وضوء» ، (هذا) إن وجدنا شرطا آخر.

(وأمّا) إن وجدنا قيدا في رواية أخرى فهل نقيّد الشرط وكأنه متصل او نحمله على الاستحباب حالتان : (فان) كان القيد ناظرا الى هذه القضية الشرطية أي كان الشرط مهملا لا مطلقا قيدنا الشرط به كأنه جاء متصلا ، وذلك كما ورد في الموثق «اذا كان الغلام ابن عشر سنين جازت وصيّته» ، وورد في الصحيح «اذا بلغ الغلام عشر سنين واوصى بثلث ماله في حقّ جازت وصيّته» فانّ فقهاءنا يحملون المطلق على المقيد.

(وأمّا) إن لم نعلم بنظر الخاص الى المطلق او العام وكان هذا المطلق واردا في مقام البيان والعمل فانهم يحملون القيد على الاستحباب.

(وأمّا) إن لم نجد شرطا آخر ولا قيدا له رغم بحثنا في المصادر فانّ الاطلاق الاحوالي والأفرادي والمقامي أو الاخيرين او خصوص الأخير يجري في الشرط ، وبجريان الاطلاق

٣٠٢

__________________

يثبت المفهوم ، مثال ذلك قوله تعالى : (وابتلوا اليتمى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإنءانستم مّنهم رشدا فادفعوا إليهم أمولهم) النساء ـ ٦ ، ومفهومها إن لم تأنسوا منهم رشدا فلا تدفعوا اليهم أموالهم ، وذلك لاطلاق الشرط من التقييدات.

ومن قال بالمفهوم نظر الى هذه الحالة الاخيرة ، ومن قال بعدمه نظر الى الحالة الاولى بشقّيها. والنظر الاوّل اشتباه ، فانّ ما يفهم من آية (وابتلوا اليتمى) ليس مفهوما ، وامّا فهم المعنى السلبي منها فهو من باب السالبة بانتفاء الموضوع (وهو الرشد) وهو في قوّة المعنى السلبي للجملتين الوصفية واللقبيّة ، وهذا لا ينافي وجود شرط آخر لنفس الجزاء. ومعنى هذا انّ الحكم في الجزاء ليس هو طبيعي الحكم.

(والخلاصة) انه لا وجود لمعنى عند العرف اسمه «مفهوم الجملة الشرطية» ، وما ذكروه من أدلّة كالاطلاق إن هو إلّا اشتباه ، فان الاطلاق في مقابل «او» إنما يفيدنا المفهوم إذا كان المراد من الجزاء طبيعي الحكم وأنّى لهم اثبات ذلك وقد بيّنا لك من خلال الامثلة السابقة انه ليس المراد من الجزاء ذلك ، وان معنى الربط في الجملة الشرطية مجمل ومردّد المعنى بين معنى الاستلزام كالاستلزام القائم بين الموضوع والمحمول في الجملتين الوصفية واللقبية ومعنى التوقف وانحصار العلة.

(ولنا) في المقام اسلوب جديد في بحث المسألة خلاصته :

انّه من المسلّم عند السيد الشهيد وغيره ان قولنا «يجب اكرام الفقراء إلّا الفساق منهم» ليس له مفهوم ، واستدلّوا على ذلك بقولهم ان هذا الاستثناء ناظر الى الموضوع (اي الفقراء) فكأنّ المولى قال «اكرم الفقراء العدول» ، وكلامهم هذا صحيح. فاذا اردنا ان نحوّل نفس هذه الجملة الاستثنائية او الوصفية الى شرطية لقلنا «إذا كان الفقير عادلا فاكرمه» ويصحّ هذا الاسلوب بنحو الحقيقة. (فاذا) كان الشرط راجعا الى الموضوع (اي الفقير) فلا مفهوم كما عرفت ، (وإن) كان ناظرا الى الحكم فللجملة مفهوم (لأنّه لا معنى لحصر الحكم الّا ارادة الطبيعي منه ، فمثلا لا معنى لقولنا «انما تجب العبادات على الجارية اذا حاضت» الّا أن يراد من الحكم الطبيعي.). ومع التردّد ـ لاجمال المعنى ـ لا معيّن لاستفادة النظر الى الحكم ، فلا دليل لنا ح على إرادة المفهوم من الجملة الشرطية

٣٠٣

الانحصار فيمكن أن يفسّر بتفسيرات أخرى ، من قبيل ان هذه الحالات لا تعني عدم استعمال الجملة الشرطية في الربط المذكور ، بل عدم ارادة المطلق من مفاد الجزاء ، ومن الواضح ان هذا إنّما يثلم الاطلاق وقرينة الحكمة (١) ، ولا يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع :

يلاحظ في كل جملة شرطية تواجد ثلاثة أشياء وهي : الحكم ، والموضوع ، والشرط. والشرط تارة يكون أمرا مغايرا لموضوع الحكم في الجزاء ، وأخرى يكون محقّقا لوجوده.

فالاوّل : كما في قولنا «إذا جاء زيد فاكرمه» ، فانّ موضوع الحكم زيد والشرط مجيئه (*) وهما متغايران.

والثاني : كما في قولنا «اذا رزقت ولدا فاختنه» ، فانّ موضوع الحكم بالختان هو الولد ، والشرط ان ترزق ولدا ، وهذا الشرط ليس مغايرا للموضوع ، بل هو عبارة أخرى عن تحقّقه ووجوده.

ومفهوم الشرط ثابت في الاوّل فكلما كان الشرط مغايرا للموضوع وانتفى الشرط دلّت الجملة الشرطية على انتفاء الحكم عن موضوعه بسبب انتفاء الشرط.

__________________

(١) في مفاد هيئة الجزاء.

__________________

(والنتيجة) انه لا مفهوم للجملة الشرطية إلّا اذا كانت الجملة الشرطية مسوقة لافادة المفهوم.

(*) في النسخة الأصليّة «والشرط المجيء» ، وما اثبتناه اولى.

٣٠٤

وامّا حالات الشرط المحقّق للموضوع فهي على قسمين :

احدهما : ان يكون الشرط المحقق لوجود الموضوع هو الاسلوب الوحيد لتحقيق الموضوع ، كما في مثال الختان المتقدّم.

والآخر : ان يكون الشرط احد اساليب تحقيقه ، كما في «إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا» ، فانّ مجيء الفاسق بالنبإ عبارة أخرى عن ايجاد النبأ ، ولكنه ليس هو الاسلوب الوحيد لايجاده ، لانّ النبأ كما يوجده الفاسق يوجده العادل أيضا.

ففي القسم الاوّل : لا يثبت مفهوم الشرط ، لانّ مفهوم الشرط من نتائج ربط الحكم بالشرط وتقييده به على وجه مخصوص ، فاذا كان الشرط عين الموضوع ومساويا له فليس هناك في الحقيقة ربط (١) للحكم بالشرط وراء ربطه بموضوعه ، فقولنا «اذا رزقت ولدا فاختنه» في قوّة قولنا «اختن ولدك».

وأمّا في القسم الثاني فيثبت المفهوم ، لانّ ربط الحكم بالشرط فيه امر وراء ربطه بموضوعه ، فهو تقييد وتعليق حقيقي ، وليس قولنا «إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا» في قوّة قولنا «تبيّنوا النبأ» (٢) ، لأنّ القول

__________________

(١) بمعنى انه ليس هناك ربطان : ربط للحكم بالشرط وتوقّفه عليه ، وربط للحكم بموضوعه ، وانما عندنا ربط واحد فقط وهو ربط الحكم بموضوعه لكنه بيّن بصورة ربط الحكم بالشرط.

(٢) وذلك لانّ الآية ليست تقول «إن جاءكم نبأ فتبيّنوا» (*).

__________________

(*) بل حتى لو فهمنا معنى الآية هكذا «نبأ الفاسق إن جاءكم فتبيّنوا» يكون شرطها مسوقا لتحقق الموضوع فلا يكون لها مفهوم ، لانّ معناها ح سيكون : «تبيّنوا نبأ الفاسق» ، وهذا المعنى

٣٠٥

الثاني (١) لا يختصّ بنبإ الفاسق ، بينما الاوّل (٢) يختصّ به ، وهذا الاختصاص نشأ من ربط الحكم بشرطه ، فيكون للجملة مفهوم.

مفهوم الوصف

اذا تعلّق حكم بموضوع وانيط (٣) بوصف في الموضوع كوصف العدالة الذي انيط به وجوب الاكرام في «اكرم الفقير العادل» فهل يدلّ بالمفهوم على انتفاء طبيعي الحكم بوجوب الاكرام عن غير العادل من الفقراء بعد الفراغ عن دلالته على انتفاء شخص الحكم تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود ام لا؟

والجواب : انه على مسلك المحقّق العراقي رحمه‌الله في إثبات المفهوم يفترض ان دلالة الجملة المذكورة على الربط المخصوص المستدعي لانتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسلّمة ، وانما يتّجه البحث الى ان المربوط بالوصف والذي ينتفي بانتفائه هل يمكن ان نثبت كونه طبيعي الحكم بالاطلاق وقرينة الحكمة أو لا؟

__________________

(١) وهو كون الآية المباركة في قوّة قولنا «تبيّنوا النبأ».

(٢) وهو ان يكون مفادها بمعنى «النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا» او قل ـ بتعبير آخر ـ «إن كان الجائي بالنبإ فاسقا فتبيّنوا».

(٣) في اللغة : ناط الشيء ونوّطه وأناط به ، كلّها بمعنى علّقه.

__________________

هو الظاهر من الآية المباركة كما سيأتيك في بحث الاستدلال على حجية خبر الواحد بآية النبأ ، الاعتراض الاوّل.

٣٠٦

والصحيح انه لا يمكن ، لانّ مفاد هيئة «أكرم» مقيّدة (١) بمدلول المادّة باعتباره طرفا لها ، ومدلول المادّة مقيّد بالفقير ، لان المطلوب اكرام الفقير ، والفقير مقيّد بالعدالة تقييد الشيء بوصفه ، وينتج ذلك ان مفاد هيئة «أكرم» هو حصّة خاصّة من وجوب الاكرام يشتمل على التقييد بالعدالة ، فغاية ما يقتضيه الربط المخصوص بين مفاد «أكرم» والوصف انتفاء تلك الحصّة الخاصّة عند انتفاء العدالة ، وهذا واضح ، لا انتفاء طبيعي الحكم.

وأمّا اذا لم نأخذ بمسلك المحقق العراقي فبالامكان ان نضيف الى ذلك أيضا منع دلالة الجملة الوصفيّة على ذلك الربط المخصوص الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء وهو التوقّف ، فان ربط مفاد «أكرم» (٢) بالوصف انما هو بتوسّط نسبتين ناقصتين تقييديتين ، لان مفاد هيئة الامر مرتبط بذاته بمدلول مادّة الفعل وهي مرتبطة بنسبة ناقصة تقييدية بالفقير ،

__________________

(١) اي ان الوجوب يتحصّص باكرام الفقير العادل ، وكأنه قال وجوب اكرام الفقير العادل ثابت شرعا ، إذن فالحكم في الجملة الوصفية ـ بما انه مقيّد ـ فهو شخص الحكم لا طبيعي الحكم. او قل ان تقيّد الوجوب بمتعلّقه المقيّد بالموضوع يسبّب تحصّص الحكم بحصّة خاصّة تساوي دائرة الموضوع المقيّد. سبب ذلك ان الحكم في الحقيقة هو معلول للموضوع المتعلق به وناتج عنه وظلّ له.

(وهذا) التحصّص للحكم يعني كون تقيد الوجوب بالاكرام ذا نسبة ناقصة لانها نسبة اندماجية ، وكون تقيد الاكرام بالفقير والفقير بالعادل ايضا ذات نسب اندماجية ناقصة.

(٢) اي مفاد هيئة «أكرم» اي الوجوب.

٣٠٧

وهذا مرتبط بنسبة ناقصة تقييدية بالعادل ، ولا يوجد ما يدلّ على التوقف والالتصاق لا بنحو المعنى الاسمي ولا بنحو المعنى الحرفي (١).

فالصحيح ان الجملة الوصفية ليس لها مفهوم.

نعم لا بأس بالمصير إلى دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء بنحو السالبة الجزئيّة وفقا لما نبّهنا عليه في الحلقة السابقة.

مفهوم الغاية

ومن الجمل التي وقع الكلام في مفهومها جملة الغاية من قبيل قولنا «صم الى الليل» ، فيبحث عن دلالته على انتفاء طبيعي وجوب الصوم بتحقق الغاية ، ولا شك هنا في دلالة الجملة على الربط بالنحو الذي يستدعي الانتفاء عند الانتفاء ، لان معنى الغاية يستبطن ذلك.

__________________

(١) إنّ القائل بوجود مفهوم للجملة الوصفية يفهم ان طبيعي الحكم متوقّف على الوصف ، فيكون معنى قولنا «اكرم الفقير العادل» إن كان الفقير عادلا فاكرمه وإن لم يكن عادلا فلا يجب اكرامه مهما حصل ، بحيث لو وردنا «اكرم الفقير الهاشمي» لقال بالتعارض.

(فاجابه) هنا السيد رحمه‌الله بانه لا يوجد في الجملة الوصفية ما يفيدنا معنى التوقف ، أمّا بنحو المعنى الاسمي فواضح ، وذلك لعدم وجود اسم يفيدنا هذا المعنى ، فانه ليست هذه الجملة هكذا «ان وجوب اكرام الفقير متوقّف على كونه عادلا» ، وامّا بنحو المعنى الحرفي فكذلك ، لاننا لا نفهم من الوصف معنى الشرط الذي يتوقّف طبيعي الحكم عليه ، فليس معنى النسبة القائمة بين مفاد هيئة «اكرم» اي الوجوب والوصف هو التوقّف.

٣٠٨

فمسلك المحقق العراقي في جملة الغاية واضح الصواب (١) ، ومن هنا يتّجه البحث إلى ان المغيّى هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم المجعول والمدلول لذلك الخطاب؟ فعلى الاوّل يثبت المفهوم دونه على الثاني.

ولتوضيح المسألة يمكننا أن نحوّل الغاية (٢) من مفهوم حرفي مفاد بمثل «حتّى» أو «إلى» الى مفهوم اسمي مفاد بنفس مادّة «الغاية» ،

فنقول تارة : «وجوب الصوم مغيّا بالغروب» ،

ونقول أخرى : «جعل الشارع وجوب الصوم المغيّى بالغروب» ، وبالمقارنة بين هذين القولين نجد ان القول الاوّل يدلّ عرفا على ان طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب لان هذا هو مقتضى الاطلاق (٣) ، فكما ان قولنا «الربا ممنوع» يدلّ على ان طبيعي الربا ومطلقه ممنوع كذلك قولنا «وجوب الصوم مغيّا» يدلّ على ان طبيعي وجوب الصوم مغيّا ، ف «وجوب الصوم» بمثابة «الربا» و «مغيا» بمثابة «ممنوع» ، فتجري قرينة الحكمة على نحو واحد. وأمّا القول الثاني فلا يدلّ على ان طبيعي وجوب الصوم مغيّا بالغروب ، بل يدلّ على اصدار وجوب مغيّا

__________________

(١) اي ان مسلك المحقق العراقي واضح الصواب كمسلك ، لا ان للجملة الغائية مفهوم عند السيد الشهيد رحمه‌الله.

(٢) يقصد الدّال على الغاية.

(٣) في «وجوب الصوم» ، بيان ذلك ان مفاد هذه القضية على القول الاوّل هكذا : انما وجوب الصوم يكون الى غروب الشمس ، فاذا غربت فلا وجوب مطلقا وبايّ عنوان.

٣٠٩

بالغروب ، وهذا لا ينافي انّه قد يصدر وجوب آخر غير مغيّا بالغروب ، فالقول الثاني اذن لا يثبت أكثر من كون الغروب غاية لذلك الوجوب الذي تحدّث عنه.

فاذا اتضح هذا يتبيّن ان اثبات مفهوم الغاية في المقام وأن المغيّى هو طبيعي الحكم يتوقّف على ان تكون جملة «صم الى الغروب» في قوّة قولنا «وجوب الصوم مغيّا بالغروب» لا في قوّة قولنا «جعلت وجوبا للصوم مغيّا بالغروب» ، ولا شك في ان الجملة المذكورة في قوّة القول الثاني لا الاوّل ، إذ يفهم منها جعل وجوب الصوم فعلا وابرازه بذلك الخطاب ، وهذا ما يفي به القول الثاني دون الاوّل.

فلا مفهوم للغاية إذن ، وانما تدلّ الغاية على انتفاء شخص الحكم ، اي على الانتفاء بنحو السالبة الجزئية ، كما كانت الجملة الوصفية تدلّ على ذلك (*).

مفهوم الاستثناء

ونفس ما تقدّم في الغاية يصدق على الاستثناء ، فانه لا شك في دلالته على نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى ، ولكن المهم تحقيق ان المنفي عن المستثنى بدلالة اداة الاستثناء هل هو طبيعي الحكم او شخص ذلك الحكم. وهنا أيضا لو حوّلنا الاستثناء في قولنا «يجب اكرام الفقراء إلا

__________________

(*) كانت العبارة في النسخة الاصلية هكذا : «... على انتفاء شخص الحكم ، كما تدلّ على السالبة الجزئية التي كان الوصف يدلّ عليها ايضا كما تقدم» وهي كما ترى.

٣١٠

الفسّاق» إلى مفهوم اسمي لوجدنا ان بالامكان ان نقول تارة : «وجوب اكرام الفقراء يستثنى منه الفسّاق» ، وان نقول أخرى : «جعل الشارع وجوبا لاكرام الفقراء مستثنى منه الفساق».

والقول الاوّل يدل على الاستثناء من الطبيعي ، والقول الثاني يدلّ على الاستثناء من شخص الحكم.

فان رجعت الجملة الاستثنائية إلى مفاد القول الاوّل كان لها مفهوم ، وان رجعت الى مفاد القول الثاني لم يكن لها مفهوم ، وهذا هو الاصحّ (١) ، كما مرّ في الغاية.

مفهوم الحصر

لا شك في ان كلّ جملة تدلّ على حصر حكم بموضوع تدلّ على المفهوم ، لان الحصر يستبطن انتفاء الحكم المحصور عن غير الموضوع

__________________

(١) ولذلك اذا ورد «اكرم العلماء» فانها لا تعارض «يجب اكرام الفقراء إلا الفساق» ، في العلماء الفساق ، وانما يفهم العرف منهما وجوب اكرام الفقير الفاسق اذا كان عالما بملاك العلم ، كما ذكرنا هذا الامر في الجملة الشرطية ، ونفس هذه الملاحظة ترد أيضا في الجملتين الوصفية والغائية (*).

__________________

(*) الصحيح ان يفصّل في جملة الاستثناء بين ما لو كان الاستثناء استثناء من الحكم مثل «لا تجب الصلاة على الجارية إلا اذا حاضت» ، وبين ما لو كان الاستثناء استثناء من الموضوع كما في مثال المتن ، ففي الحالة الاولى لا شك في وجود مفهوم لجملة الاستثناء ، وفي الحالة الثانية لا يوجد مفهوم لجملة الاستثناء لانها ستكون كالجملة الوصفية واللقبية ، فافهم.

٣١١

المحصور به. والحصر بنفسه قرينة على ان المحصور هو طبيعي الحكم لا حكم ذلك الموضوع بالخصوص ، إذ لا معنى لحصره حينئذ ، لان حكم الموضوع الخاص مختص بموضوعه دائما ، وما دام المحصور هو الطبيعي فمقتضى ذلك ثبوت المفهوم ، وهذا مما لا ينبغي الاشكال فيه.

وانما الكلام في تعيين ادوات الحصر :

ـ فمن جملة ادواته : كلمة «إنّما» ، فانها تدلّ على الحصر وضعا للتبادر العرفي.

ـ ومن ادواته : جعل العام موضوعا مع تعريفه والخاص محمولا ، فيقال : «ابنك هو محمّد» ـ بدلا عن ان نقول : «محمّد هو ابنك» ـ فانّه يدلّ عرفا على حصر البنوّة بمحمد ، والنكتة (١) في ذلك ان المحمول يجب ان يصدق بحسب ظاهر القضيّة على كل ما ينطبق عليه الموضوع ، ولا يتأتّى ذلك في فرض حمل الخاص (٢) على العام إلا بافتراض انحصار العام بالخاص (*).

__________________

(١) النكتة واضحة لكن لتوضيحها أكثر نقول : انه لا معنى لتقديم العام على الخاص في قولنا «ابنك هو محمّد» وحمل الخاص على العام إلّا حصر العام بالخاص.

(٢) الذي هو «محمّد» في مثال «ابنك هو محمّد».

وكان الاولى توضيح المثال أكثر وذلك بان يقول مثلا «الولد الذكي هو ابنك» ، فهنا «الولد الذكي» هو العام وقد حصرناه ب «ابنك» الذي هو الخاص.

__________________

(*) ومن ادوات الحصر والاستثناء معا «لا» و «إلا» نحو «لا ابن لك الّا محمّدا» ، أو «لا تكرم من القوم احدا الّا زيدا».

٣١٢

__________________

(ملاحظة) : ان جملة الحصر هي بقوّة الجملة الاستثنائية بلا أيّ فرق بينهما مطلقا ، فقولك مثلا «انما ابنك محمّد» بمعنى قولك «لا ابن لك الّا محمدا».

وبيان ذلك بتفصيل اكثر :

(تارة) يكون الحصر ناظرا الى الحكم كما في قولنا «انما تجب على الجارية العبادات اذا حاضت» ، وهذه بمعنى قولنا «لا تجب العبادات على الجارية إلّا اذا حاضت» ، فان الاستثناء هنا ناظر الى الحكم ، وفي هذه الحالة يوجد مفهوم هاتين الجملتين لان المحصور فيهما هو طبيعي الحكم كما هو واضح.

(وأخرى) يكون الحصر ناظرا الى الموضوع كما اذا حوّلنا الجملة الاستثنائية السابقة وهي «يجب اكرام الفقراء إلّا الفساق منهم» والتي ذكر عنها السيد المصنف انه لا مفهوم لها لانّ الاستثناء ناظر الى الموضوع فيها (وهو الفقراء) لو حوّلناها الى جملة حصر لقلنا «انما الواجب اكرامهم من الفقراء هم ما عدا الفسّاق منهم» فهنا لا يوجد مفهوم لجملة الحصر هذه لانّ الحصر فيها ناظر الى الموضوع ، فهي بالتالي بقوّة الجملة الوصفية.

(تذييل) :

ذكر سيدنا الشهيد رحمه‌الله في تقريرات السيد الهاشمي ذيلا هذا نصّه : «وأمّا العدد واللقب فلا نكتة خاصّة فيهما ، بل يظهر حالهما ممّا تقدّم في مفهوم الوصف ، نعم في العدد اذا فرض ان المولى كان في مقام التحديد فهذا بنفسه يصبح قرينة على المفهوم كالقرائن الشخصية الاخرى.» انتهى.

مثال اللقب قول الرجاليين «زرارة ثقة» ، فانه لا يدلّ بوجه على عدم وثاقة غيره كمحمد بن مسلم وجميل بن درّاج.

ومثال العدد ما لو ورد في الشرع يجب على المؤمن خمسة امور وهي كذا وكذا ... ، وورد في أخرى سبعة امور (باضافة اثنين على تينك الخمسة) ، وورد في ثالثة «عشرة أمور» باضافة ثلاثة على تلك السبعة ، ففي هذه الحالة ترى اصحابنا يأخذون برواية العشرة لان روايتي الخمسة والسبعة لا تنفيان الزائد لقولهم بعدم وجود مفهوم للعدد ، وهم على حقّ في ذلك ، وذلك لأنّ الروايتين الاولتين ناظرتان الى الامور السبعة وليستا.

٣١٣

__________________

ناظرتين الى نفي الزائد ، فهي بالتالي تكون ـ كما قال السيد الشهيد رحمه‌الله ـ بقوّة الجملة الوصفية.

(ولكن) «اذا فرض كون المولى في مقام التحديد فهذا بنفسه يصبح قرينة على ارادة المفهوم» من قبيل ما لو ورد من ان مقدار مسافة السفر هو أربعة فراسخ ، فمفهومها أنه إن لم يبلغ أربعة فراسخ فليس سفره بسفر شرعي (اي من حيث الآثار المعروفة كالصيام) ، ومن قبيل ما ورد من أن اقلّ الحيض ثلاثة ايام واكثره عشرة ، فانه يعني ان الدم إن جاءها أقلّ من ثلاثة أيّام فهو ليس بحيض وكذا من طرف الزيادة ، ومثلهما ما ورد في الشرع من ان اقلّ مدّة الاقامة عشرة أيام وهكذا غيرها من التحديدات.

وزيادة التفصيل على هذا المقدار في مفهوم العدد لغو لظهور الكلام في سائر الحالات ، ونحن انما نريد في ابحاث المفاهيم ان نستكشف الظهورات. (وإن شئت الزيادة فراجع مثلا منتهى الدراية ج ٣ ص ٤٤٦).

الى هنا انتهت ابحاث المفاهيم وقد خرجنا بالنتيجة التالية :

انه لا يوجد مفهوم لاي جملة من الجمل الا في جملتي الحصر والاستثناء ان كان الحصر او الاستثناء ناظرين الى الحكم والا في جملة العدد ان كان المولى في مقام التحديد نحو «اقلّ الحيض ثلاثة واكثره عشرة».

والحمد لله رب العالمين.

٣١٤

٢ ـ (تحديد دلالات الدليل الشرعي غير اللفظي)

الدليل الشرعي غير اللفظي يشتمل على الفعل والتقرير ، فيقع البحث في كلّ منهما :

دلالات الفعل :

تقدّم منّا في الحلقة السابقة الحديث عن دلالات الفعل او الترك ، وانه ان اقترن بقرينة فيتحدّد مدلوله على اساس تلك القرينة ، وان وقع مجرّدا كان له بعض الدلالات من قبيل دلالة صدور الفعل على عدم حرمته (*) ، ودلالة تركه على عدم وجوبه ، ودلالة الاتيان به على وجه عبادي على مطلوبيّته ، الى غير ذلك. إلّا ان الحكم المستكشف من الفعل لا يمكن تعميمه لكلّ الحالات لعدم الاطلاق في دلالة الفعل (١) ، وانما

__________________

(١) فقد ورد ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان اذا ركب لم يستظلّ بالمحمل ... هذا.

__________________

(*) لعلّ الصحيح ان جميع افعال المعصومين عليهم الصلاة والسلام هي اما واجبة وامّا مستحبة ، فان لم يكن الفعل في نفسه واجبا فهو مستحب ولو بالاستحباب الفاعلي اي لاتصافه بانه يفعل لله تعالى ، فينوى بالاكل والنوم والاستراحة مثلا التقوّي على طاعة الله جلّ وعلا ، فتتصف هذه الافعال المباحة بالاستحباب الفاعلي ، هذا ما نتوقّعه من المعصومين عليهم الصلاة والسلام من خلال سيرتهم وكمالاتهم (حشرنا الله معهم)

٣١٥

يثبت ذلك الحكم في كل حالة مماثلة لحالة المعصوم من سائر الجهات المحتمل كونها مؤثرة في ثبوت ذلك الحكم على ما مرّ سابقا.

دلالات التقرير

سكوت المعصوم عن موقف يواجهه يدلّ على إمضائه ، (امّا) على أساس عقلي ، باعتبار انه لو لم يكن الموقف متّفقا مع غرضه (١) لكان سكوته نقضا للغرض ، (او) باعتبار انه لو لم يكن الموقف سائغا شرعا لوجب على المعصوم الردع عنه والتنبيه ، (وإمّا) على أساس استظهاري ، باعتبار ظهور حال المعصوم في كونه بصدد المراقبة والتوجيه.

والموقف قد يكون فرديا ، وكثيرا ما يتمثّل في سلوك عام يسمّى ببناء العقلاء او السيرة العقلائية. ومن هنا كانت السيرة العقلائية دليلا على الحكم الشرعي ولكن لا بذاتها ، بل باعتبار تقرير الشارع لها وامضائه المكتشف من سكوت المعصوم وعدم ردعه.

وفي هذا المجال ينبغي التمييز بين نوعين من السيرة :

احدهما : السيرة بلحاظ مرحلة الواقع ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن باعتباره الموقف الذي ينبغي اتخاذه واقعا في نظر العقلاء ،

__________________

الفعل لم نعرف حدوده ، فهل ان استظلاله في المنزل الذي لم يبرحه حرام او من باب السهولة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كي لا يرفعه عند حدود المنزل او لارشاد الناس انهم في طريقهم للخروج من هذا المنزل ...

(١) كخليفة لله تعالى على عباده في التبليغ وبيان الاحكام الشرعية

٣١٦

سواء كان [هذا التصرّف] مرتبطا بحكم تكليفي ، كالسيرة على إناطة [جواز] التصرّف في مال الغير بطيب نفسه ولو لم يأذن لفظيّا ، او بحكم وضعي ، كالسيرة على التملك (١) بالحيازة في المنقولات.

والنوع الآخر : السيرة بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظن ، ونقصد بذلك السيرة على تصرّف معيّن في حالة الشك في امر واقعي اكتفاء بالظن مثلا ، من قبيل السيرة على الرجوع الى اللغوي عند الشك في معنى الكلمة واعتماد قوله وإن لم يفد سوى الظن ، او السيرة على رجوع كل مأمور في التعرّف على أمر مولاه الى خبر الثقة ، وغير ذلك من البناءات العقلائية على الاكتفاء بالظن (*) او الاحتمال في مورد الشك في الواقع.

امّا النوع الاوّل فيستدل به على احكام شرعية واقعيّة ، كحكم الشارع بإباحة التصرّف في مال الغير بمجرّد طيب نفسه ، وبأنّ «من حاز ملك» وهكذا ، ولا ريب في انطباق ما ذكرناه عليه (٢) ، حيث ان الشارع

__________________

(١) فان جواز التصرّف حكم تكليفي وحصول التملّك حكم وضعي.

(٢) أي ... ما ذكرناه من امثلة على النوع الاوّل.

__________________

(*) لا يوجد عند العقلاء امور مبنيّة على الظن فضلا عن الاحتمال ، فمثلا اعتمادهم على اللغوي في معرفة معنى كلمة ما ليس مبنيا على الظن ، ولذلك ترى المحققين يحققون بانفسهم في معاني الكلمات ان لم يثقوا بأقوال اللغويين ولا يكتفون بالظن مطلقا في مجال الشرعيات وكذا الامر في اتباع خبر الثقة فانهم لا يتّبعونه في مجال الشريعة ـ الذي كلامنا فيها ـ إن لم يثقوا به ، ولما ذا يتّبعونه؟! وللبحث تكملة تأتيك ان شاء الله تعالى ص ٣٢٣.

٣١٧

لا بد ان يكون له حكم تكليفي او وضعي فيما يتعلّق بذلك التصرّف ، فان لم يكن مطابقا لما يفترضه العقلاء ويجرون عليه من حكم كان على المعصوم ان يردعهم عن ذلك ، فسكوته يدلّ على الامضاء.

وامّا النوع الثاني فيستدلّ به عادة على احكام شرعية ظاهريّة ، كحكم الشارع بحجيّة قول اللغوي وحجية خبر الثقة ، وهكذا.

وفي هذا النوع قد يستشكل في تطبيق ما ذكرناه عليه ، وتوضيح الاستشكال : ان التعويل على الامارات الظنية كقول اللغوي وخبر الثقة له مقامان :

المقام الاوّل : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص لاغراضه الشخصيّة التكوينية من قبيل ان يكون لشخص غرض في ان يستعمل كلمة معيّنة في كتابه ، فيرجع الى اللغوي في فهم معناها ليستعملها في الموضع المناسب ، ويكتفي في هذا المجال بالظن الحاصل من قول اللغوي.

المقام الثاني : التعويل عليها بصدد تحصيل الشخص المأمور لمؤمّن امام الآمر ، او تحصيل الشخص الآمر لمنجّز للتكليف على مأموره من قبيل أن يقول الآمر : «اكرم العالم» ولا يدري المأمور ان كلمة «العالم» هل تشمل من كان لديه علم وزال علمه أو لا؟ فيرجع الى قول اللغوي لتكون شهادته بالشمول منجّزة وحجّة للمولى على المكلف ، وشهادته بعدم الشمول معذّرة وحجّة للمأمور على المولى.

وعلى هذا فبناء العقلاء على الرجوع الى اللغوي والتعويل على الظن الناشئ من قوله : ان كان المقصود منه بناء العقلاء بنحو المقام الاوّل فهذا لا يعني حجية قول اللغوي بالمعنى الاصولي ، اي المنجزية والمعذّرية ، لانّ التنجيز والتعذير انما يكونان بالنسبة الى الاغراض

٣١٨

التشريعية التي فيها آمر ومأمور ، لا بالنسبة الى الاغراض التكوينية ، فلا يمكن ان يستدل بالسيرة المذكورة على الحجية شرعا.

وان كان المقصود بناء العقلاء بنحو المقام الثاني ، فمن الواضح انّ جعل شيء منجّزا او معذّرا من شأن المولى والحاكم ، لا من شأن المأمور ، فمردّ بناء العقلاء على جعل قول اللغوي منجزا ومعذرا الى ان سيرة الآمرين قد انعقدت على ان كل آمر يجعل قول اللغوي حجّة في فهم المامور لما يصدر منه من كلام بنحو ينجّز ويعذّر ، وبعبارة أشمل : ان سيرة كل عاقل اتّجهت الى انه إذا قدّر له ان يمارس حالة الآمرية فانه يجعل قول اللغوي حجّة على مأموره ، ومن الواضح ان السيرة بهذا المعنى لا تفوّت على الشارع الاقدس غرضه ، حتى إذا لم يكن قد جعل قول اللغوي حجّة ومنجّزا ومعذّرا بالنسبة الى احكامه ، وذلك لان هذه السيرة يمارسها كل مولى في نطاق اغراضه التشريعية مع مأموريه ولا يهمّ الشارع الاغراض التشريعية للآخرين ، فكم فرق بين سيرة العقلاء على ملكية الحائز وسيرتهم على حجية قول اللغوي ، لانّ السيرة الاولى تقتضي سلوكا لا يقرّه الشارع إذا كان لا يرى الحيازة سببا للملكية ، وأمّا ما تقتضيه السيرة الثانية من سلوك فلا يتجاوز الالتزام بأنّ قول اللغوي منجز ومعذر في علاقات الآمرين بالمأمورين من العقلاء ، ولا يضرّ الشارع ذلك على ايّ حال (١).

فإن قال قائل : لما ذا لا يفترض بناء العقلاء على ان قول اللغوي

__________________

(١) طالما كانت سيرة الاعتماد على قول اللغوي مقتصرة على الآمرين العاديّين دون الشارع المقدّس

٣١٩

حجّة بلحاظ كل حكم وحاكم وأمر وآمر بما فيهم الشارع ، فيكون هذا البناء مضرّا بالشارع اذا لم يكن قد جعل الحجية لقول اللغوي.

قلنا : إن كون قول اللغوي منجّزا لحكم او معذّرا عنه أمر لا يعقل جعله واتخاذ قرار به إلا من قبل جاعل ذلك الحكم بالنسبة الى مأموره ومكلّفه. فكل أب مثلا قد يجعل الأمارة الفلانية حجّة بينه وبين أبنائه بلحاظ اغراضه التشريعية التي يطلبها منهم ، ولا معنى لأن يجعلها حجة بالنسبة الى سائر الآباء الآخرين مع ابنائهم.

وهكذا يتضح ان الحجية المتبانى عليها عقلائيا انما هي في حدود الاغراض التشريعية لاصحاب البناء انفسهم فلا يضرّ الشارع ذلك.

وليس بالامكان تصحيح الاستدلال بالسيرة على الحجية بافضل من القول بانها تمسّ الشارع ، لانها توجب على اساس العادة الجري على طبقها حتى في نطاق الاغراض التشريعية لمولى لم يساهم في تلك السيرة وتوحي ولو ارتكازا وخطأ بانّ مؤدّاها مورد الاتفاق من الجميع ، وبذلك تصبح مستدعية للردع على فرض عدم التوافق ، ويكون السكوت عندئذ كاشفا عن الامضاء. وبهذا نعرف ان الشرط في الاستدلال بالسيرة العقلائية على الحجيّة بمعناها الاصولي ـ اي المنجزية والمعذرية ـ ان تكون السيرة العقلائية في مجال التطبيق قد افترضت ارتكازا (١) اتفاق الشارع مع غيره في الحجية وجرت في علاقتها مع الشارع على أساس

__________________

(١) مراده (قده) ان تكون السيرة العقلائية مبنيّة على اعتقاد اتفاق الشارع مع غيره في الحجية

٣٢٠