دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

__________________

وامّا تصوّره بانها ماهية عقلية لا وجود لها في الخارج كالانسان النوع ونحوها من المعقولات الثانية التي لا وجود لها في الخارج فهو توهّم خاطئٌ ، وذلك لان هذا النوع من التصوّر للماهية اللابشرط المقسمي هو تصوّر للطبيعة الموجودة ضمن افرادها بخلاف «الانسان نوع» و «الحيوان جنس» و «الضحك عرض خاص» ونحو ذلك ، فانّ الانسان في قولنا «الانسان نوع» هو من المعقولات الثانية التي انتزعت من مصاديقها الذهنية بنحو لا ينطبق على الخارج ، فانه لا يوجد في الخارج إنسان نوع ، لكن يوجد في الخارج انسان. ولذلك قال المحققون بوجود الطبيعة في الخارج بوجود أفرادها وان النسبة بين الطبيعة وبين افرادها نسبة الاب الواحد الى أبنائه المتعددين ، فانّ المقسم للماهية البشرط شيء والماهية البشرطلا والماهية اللابشرط هي «الماهية» المهملة كالانسان مثلا ، فانه جامع بين الانسان العالم والانسان الجاهل والانسان المطلق منهما ، والموجود في الخارج بوجود افراده. هذا اذا نظرنا الى هذه الماهية بحدّ ذاتها.

وامّا اذا نظرنا اليها بما تمثّله من عنوان جامع ومقسم لافرادها الثلاثة فان هذه الزيادة هي خصوصيّة زائدة عن حاقّ المعنى ، وهذه الماهية ح تدخل في الماهية البشرط شيء ولن تكون مقسما فتنبّه.

ومن هنا تعرف ان اسم الجنس موضوع للماهية اللابشرط المقسمي بحدّ ذاتها ومع غضّ النظر عن مقسميّتها وجامعيّتها بل واهمالها ، وانما النظر مقصور على ذاتها وذاتياتها فحسب.

هذا كله كان بالنسبة الى الماهية في مرحلة الوضع.

وامّا فيما يتعلّق بالماهية في مرحلة الارادة فنقول بأن الشارع المقدّس تارة يأمرنا باكرام الهاشمي العادل (وهي الماهية البشرط شيء) ، وتارة يأمرنا باكرام الهاشمي الغير مرتكب للكبائر (وهي البشرطلا) ، وتارة يأمرنا باكرامه على ايّ حال فيقول اكرم الهاشمي (وهي الماهية اللابشرط القسمي) ، ولا يصحّ تسمية هذه الماهية بالماهية المهملة لاستحالة الاهمال على الله تعالى في عالم التشريع ، ولذلك يسمّونها بالماهية المطلقة. فتنبّه للفرق بين الماهية في مرحلة الوضع والماهية في مرحلة الارادة ، او قل بين المدلول التصوّري لاسم الجنس والمدلول الجدّي له.

٢٤١

وعلى هذا فاسم الجنس لا يدلّ بنفسه على الاطلاق ، كما لا يدلّ على التقييد ، ويحتاج افادة كل منهما الى دالّ ، والدّال على التقييد خاص عادة ، وامّا الدّال على الاطلاق فهو قرينة عامّة تسمّى بقرينة الحكمة على ما يأتي ان شاء الله تعالى.

التقابل بين الاطلاق والتقييد :

عرفنا ان الماهية عند ملاحظتها من قبل الحاكم او غيره تارة تكون مطلقة وأخرى مقيّدة ، وهذان الوصفان متقابلان ، غير ان الاعلام اختلفوا في تشخيص هوية هذا التقابل ، فهناك القول بانه من تقابل التضاد وهو مختار السيد الاستاذ ، وقول آخر بانه من تقابل الملكة والعدم (١) ، وقول ثالث بانه من تقابل التناقض ، وذلك لان الاطلاق إن كان هو مجرّد عدم لحاظ وصف العلم وجودا وعدما (٢) تمّ القول الثالث ، وان كان عدم لحاظه حيث يمكن لحاظه (٣) تمّ القول الثاني ، وان كان الاطلاق لحاظ رفض القيد تمّ القول الاوّل (٤).

__________________

(١) هذه مقالة المحقق النائيني وتبعه فيها بعض المحققين كالسيد البجنوردي والشيخ المظفر ، كما ان القول الاوّل نسب الى المشهور ، راجع الاجود ج ١ ص ٥٢٠.

(٢) اي إذا فهمنا من الاطلاق عدم لحاظ القيد ـ سواء كان القيد المحتمل هو العلم او عدم العلم ـ والتقييد هو لحاظ القيد فهو التناقض الذي يقول به السيد المصنف رحمه‌الله.

(٣) والتقييد هو لحاظ القيد حيث يمكن لحاظه ، كالبصر بالنسبة الى الانسان ـ لا بالنسبة الى الحائط ـ.

(٤) لا بأس في هذا المجال بمطالعة ما ذكره السيد الخوئي

٢٤٢

والفوارق بين هذه الاقوال تظهر فيما يلي :

١ ـ لا يمكن تصوّر حالة ثالثة غير الاطلاق والتقييد على القول الثالث لاستحالة ارتفاع النقيضين ، ويمكن افتراضها على القولين الاوّلين ، وتسمّى بحالة الاهمال (١).

٢ ـ يرتبط امكان الاطلاق بامكان التقييد على القول الثاني ، فلا يمكن الاطلاق في كل حالة لا يمكن فيها التقييد. ومثال ذلك : ان تقييد الحكم بالعلم به مستحيل (٢) ، فيستحيل الاطلاق ايضا على القول المذكور ، لان الاطلاق ـ بناء عليه ـ هو عدم التقييد في الموضع القابل ، فحيث لا قابلية للتقييد لا اطلاق. وهذا خلافا لما إذا قيل بان مردّ التقابل بين الاطلاق والتقييد الى التناقض ، فان استحالة احدهما حينئذ تستوجب كون الآخر ضروريا لاستحالة ارتفاع النقيضين. وامّا اذا قيل بان مردّه الى التضاد فتقابل التضاد بطبيعته لا يفترض امتناع احد المتقابلين بامتناع

__________________

في المحاضرات ج ٥ ص ٣٦٤ ، وعلى أيّ حال لم نر فائدة من هذا البحث في الفقه ، سواء في مسألة التعبدي والتوصّلي او في شمول الحكم للعالم والجاهل او في غيرهما.

(١) لانّ المتضادين أمران وجوديان يرتفعان بالامر العدمي او بوجودي ثالث ، فمثلا الابيض ضد الاسود ، لكنها يرتفعان بالاحمر والاصفر وايضا يرتفعان بعدم الابيض والاسود مطلقا. وعلى مسلك المحقق النائيني يرتفع البصر والعمى بالحائط فكانه لا أعمى ولا بصير.

(٢) للدور المعروف ، فانه لا يصحّ ان يقال «تجب عليك الصلاة جعلا إن علمت بهذا الجعل (وهو وجوب الصلاة بنحو الجعل إن علمت بهذا الجعل)» والتسلسل الواضح.

٢٤٣

الآخر ولا ضرورته.

والصحيح هو القول الثالث دون الاوّلين ، وذلك لاننا نريد بالاطلاق الخصوصية التي تقتضي صلاحية المفهوم للانطباق على جميع الافراد ، وهذه الخصوصية يكفي فيها مجرّد عدم لحاظ اخذ القيد الذي هو نقيض للتقييد ، لان كل مفهوم له قابلية ذاتية للانطباق على كل فرد يحفظ فيه ذلك المفهوم ، وهذه القابلية تجعله (١) صالحا لاسراء الحكم (٢) الثابت له الى افراده شموليا او بدليا (٣) ، وهذه القابلية بحكم كونها ذاتية لازمة له (٤) ولا تتوقف على لحاظ عدم اخذ القيد ، ولا يمكن ان تنفك عنه ، والتقييد لا يفكك بين هذا اللازم وملزومه وانما يحدث مفهوما جديدا مباينا للمفهوم الاوّل ، (لان المفاهيم كلها متباينة في عالم الذهن حتّى ما كان بينها عموم مطلق في الصدق) ، وهذا المفهوم الجديد له قابلية ذاتية اضيق دائرة من قابلية المفهوم الاوّل ، وهكذا يتضح ان الاطلاق يكفي فيه مجرّد عدم التقييد (٥).

__________________

(١) اي تجعل المفهوم.

(٢) اي العموم والشمول.

(٣) شموليا مثل «العالم» في «اكرم العالم» ، وبدليا مثل الاكرام الذي هو متعلق الحكم في نفس هذا المثال ، ومثل «عالما» في «اكرم عالما».

(٤) اي للمفهوم الغير مقيد.

(٥) اي ان للاطلاق مثالين وحالتين ، الاولى ان يلاحظ المستعمل الآمر القيود فينفيها وهو اطلاق بالاجماع ، والثانية ان يلاحظ الماهية فقط ولا يلحظ أي قيد معها ، وذلك كما لو لاحظ ماهية العلم فقط فيأمر باكرام العالم لعلمه ، وهذه الحالة هي التي ذكرها هنا السيد المصنف رحمه‌الله

٢٤٤

وبهذا الصدد يجب ان نميّز التقابل بين الاطلاق الثبوتي والتقييد المقابل له ـ وهذا ما كنّا نتحدّث عنه فعلا ـ عن التقابل بين الاطلاق الاثباتي (أي عدم ذكر القيد الكاشف عن الاطلاق بقرينة الحكمة) والتقييد المقابل له ، فان مردّ التقابل بين الاطلاق الاثباتي والتقييد المقابل له الى تقابل العدم والملكة ، فعدم ذكر القيد انما يكشف عن الاطلاق في حالة يمكن فيها للمتكلم ذكر القيد كما مرّ في الحلقة السابقة.

__________________

وتبنّاها ، وقد يستدلّ على صحة هذا القول بانّ المولى ـ حقيقيا كان او عرفيا ـ قد يريد أن يصبّ حكمه على عنوان مطلق مع غضّ النظر عن أي قيد ، فيقول مثلا «اكرم المؤمن» مهما كانت صفته ، وليس هناك داعي لئن يتصوّر المولى جميع القيود او بعضها فينفيها (*).

__________________

(*) هذا الكلام وإن كان صحيحا من جهة إلّا انه لا يكفي لابطال القول الثاني ، بل الظاهر صحّة القول الثاني من جهة أيضا وهو ان الاطلاق هو عدم لحاظ القيد حيث يمكن لحاظه كما في «اكرم العالم» فاننا نستكشف ـ من خلال عدم التقييد ـ ارادة مطلق العالم مهما كانت صفته حتى وإن كان فاسقا ، وذلك لانه كان بامكان المولى التقييد بعدم الفسق ورغم ذلك لم يقيّد ولذلك نستفيد الاطلاق ، وامّا اذا فرض عدم امكان لحاظ القيد كما لو اراد المولى ان يقيّد الصلاة بقيد مستحيل فلا يستكشف الاطلاق ، (على) ان قوله (قدس‌سره) بكون التقابل بينهما في مرحلة الاثبات هو من تقابل الملكة وعدمها يقتضي الاعتراف بكون التقابل بينهما في مرحلة الثبوت تقابل الملكة وعدمها ايضا ، لان مرحلة الاثبات في هكذا موارد كاشفة عن كيفية مرحلة الثبوت. (وقد) يكون عدم ذكره لهذا الكلام من باب ان الفقيه انما يستكشف الاطلاق من القيود المحتملة لا من القيود المستحيلة ، فيسهل الامر ولا يبقى اثر عملي للتدقيق في كيفية التقابل بين الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت ، (إضافة) الى ان لحاظ عدم القيد ليس فيه مئونة زائدة بالنسبة الى المولى تعالى ، فلا يبعد صحّة كلام السيد الخوئي رحمه‌الله ايضا ، إذن لكل قول وجه ، ولا نهتم لهذا البحث لعدم القائدة منه.

٢٤٥

احترازية القيود وقرينة الحكمة :

قد يقول المولى «اكرم الفقير العادل» وقد يقول «اكرم الفقير» ، ففي الحالة الاولى يكون موضوع الحكم في مرحلة المدلول التصوّري للكلام حصّة خاصّة من الفقير وهي الفقير العادل ، وبحكم الدلالة التصديقية الاولى نثبت ان المتكلم قد استعمل الكلام لاخطار صورة حكم متعلق بالحصّة الخاصّة ، وبحكم الدلالة التصديقية الثانية نثبت ان المولى جادّ في هذا الكلام ـ بمعنى ان هذا الحكم مجعول وثابت في نفسه حقيقة ـ وليس هازلا ، وبحكم ظهور الحال في التطابق بين الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية يثبت ان الحكم الجدّي المدلول للدلالة التصديقية الثانية متعلّق بالحصّة الخاصّة كما هو كذلك في الدلالة التصديقية الاولى (*). وبهذا الطريق نستكشف من اخذ قيد العدالة في المثال او اي قيد من هذا القبيل في مرحلة المدلول التصوّري والتصديقي الاوّلي كونه قيدا في موضوع ذلك الحكم المدلول عليه بالخطاب جدّا ، وذلك ما يسمّى بقاعدة احترازية القيود ، ومرجع ظهور التطابق الذي يبرّر هذه القاعدة الى ظهور حال المتكلم في ان كل ما يقوله يريده جدّا.

والدلالة التصوّرية والدلالة التصديقية الاولى بمجموعهما يكوّنان

__________________

(*) قوله «وبحكم ظهور الحال ... الى قوله في الدلالة التصديقية الاولى» كأنها تكرار للجملة السابقة ، وسيعيدها ثالثة في الجملة التالية ، ولعلّ ذلك لترسيخ الفكرة لدى الطالب

٢٤٦

الصغرى لهذا الظهور (١) ، إذ يثبتان ما يقوله المتكلم (٢) فتنطبق حينئذ الكبرى التي هي مدلول لظهور التطابق المذكور (٣).

وقاعدة الاحترازية التي تقوم على اساس هذا الظهور تقتضي انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، الّا انها انما تنفي شخص الحكم المدلول لذلك الخطاب ، ولا تنفي اي حكم آخر من قبيله (٤) ، وبهذا اختلفت عن المفهوم في موارد ثبوته (٥) حيث انه يقتضي انتفاء طبيعي الحكم وسنخه

__________________

(١) في هذا المقام صغرى وكبرى :

فالصغرى هي : انّ من استعمل قيدا معينا فانه ـ لظهور حاله بانه ملتفت ـ يريد إفادة معناه ـ اي في مرحلة الاستعمال ـ.

والكبرى هي : ان كلّ ما يريد المتكلم افادة معناه ـ اي في مرحلة الاستعمال ـ فانه ظاهر في انه يريده جدّا (وهو ما يسمونه باصالة التطابق بين الدلالتين التصديقيتين الاولى والثانية).

فمراده من «الظهور» هنا هي هذه الكبرى السالفة الذكر.

(٢) أي يثبتان ما يريده المتكلم في مرحلة الاستعمال.

(٣) في قوله «ومرجع ظهور التطابق ...».

(٤) فلو ورد مثلا «اكرم العالم العادل» فانه ينفي وجوب اكرام العالم الفاسق ، لكنه لا ينفي وجوب اكرام الفاسق بملاك آخر كما لو ورد «اكرم الفقير» وكان هذا العالم الفاسق فقيرا ، امّا لو ورد «اذا كان العالم عادلا فاكرمه» فانه لا يجب اكرامه حتّى بملاك آخر كما لو ورد «اكرم العالم الفقير» ، وذلك لتعليق وجوب اكرام العالم على كونه عادلا مطلقا ـ اي سواء كان فقيرا ام غنيا ـ ، ولذلك يتعارض هنا الدليلان في العالم الفاسق الفقير.

(٥) اي في موارد ثبوت المفهوم كمفهوم الشرط مثلا.

٢٤٧

بانتفاء الشرط على ما تقدّم في الحلقة السابقة.

وامّا في الحالة الثانية فقد انيط الحكم في مرحلة المدلول التصوّري بذات الفقير ، وقد تقدّم ان مدلول اسم الجنس لا يدخل فيه التقييد ولا الاطلاق ، والدلالة التصديقية الاولية انما تنطبق على ذلك بمقتضى التطابق بينها وبين الدلالة التصورية للكلام (* ١) ، وبهذا ينتج ان المتكلم قد افاد بقوله هذا ثبوت الحكم للفقير ولم يفد دخل قيد العدالة في الحكم ولم يقل ذلك ، لا أنه افاد الاطلاق وقال به ، لان صدق ذلك يتوقّف على ان يكون الاطلاق دخيلا في مدلول اللفظ وضعا (١) ، وقد عرفت عدمه ، فقصارى ما يمكن تقريره انه لم يذكر القيد ولم يقله ، وهذا يحقق صغرى لظهور حالي سياقي وهو ظهور حال المتكلم في انه في مقام بيان موضوع

__________________

(١) بمعنى ان المستعمل انما يريد في مرحلة افادة المدلول الاستعمالي افادة نفس المدلول التصوّري ، والمدلول التصوّري للفقير مثلا هي الماهية المهملة له لا المطلقة كما عرفت سابقا (* ٢).

__________________

(* ١) خلاصة هذه الاسطر العشرة ان يقال : وامّا في الحالة الثانية فقد أنيط الحكم في مرحلة الاستعمال بذات الفقير فنعرف ان المعنى المراد افادته هو هذا المعنى المطلق ، وذلك لما ذكرناه سابقا من ظهور حال المتكلم بانه ملتفت الى عدم التقييد ، وهذا يحقق صغرى لكبرى «ان كل ما لا يريده المتكلم في مرحلة الاستعمال لا يريده جدّا».

(* ٢) اعلم انه وإن كان المعنى الموضوع له اسم الجنس هو الماهية المهملة ، لكن علينا ان لا ننسى ان المستعمل حينما يريد استعماله مجرّدا عن القيد فانه لظهور حاله في الالتفات الى عدم تقييده يريد افادة المعنى المطلق الذي يستفاد منه الشمول في مرحلة الدلالة الاستعمالية ، لاستحالة الاهمال حتّى في مرحلة الارادة الاستعمالية عند المتكلم العاقل الملتفت. وهذا قبل ان نصل الى مرحلة ارادة الشمول جدّيا او عدم ارادته.

٢٤٨

حكمه الجدّي بالكامل ، وهو يستتبع ظهور حاله في ان ما لا يقوله من القيود لا يريده في موضوع حكمه.

وبذلك نثبت ان قيد العدالة غير مأخوذ في موضوع الحكم في الحالة الثانية ، وهو معنى الاطلاق ، وهذا ما يسمّى بقرينة الحكمة (او مقدّمات الحكمة).

وبالمقارنة نجد ان الظهور الذي يعتمد عليه الاطلاق غير الظهور الذي تعتمد عليه قاعدة احترازيّة القيود ، فتلك تعتمد على ظهور حال المتكلم في ان ما يقوله يريده ، والاطلاق يعتمد على ظهور حاله في ان ما لا يقوله لا يريده. ويمكن القول بانّ الظهور الاوّل هو ظهور التطابق بين المدلول اللفظي للكلام والمدلول التصديقي الجدّي ايجابيا (ونريد بالمدلول اللفظي المدلول المتحصّل من الدلالة التصوريّة والدلالة التصديقية الاولى) ، وان الظهور الثاني هو ظهور التطابق بينهما سلبيا. ويلاحظ ان ظهور حال المتكلم في التطابق الايجابي ـ اي في ان ما يقوله يريده ـ اقوى من ظهور حاله في التطابق السلبي ـ اي في ان ما لا يقوله لا يريده ـ.

ومن هنا صحّ القول بانه متى ما تعارض المدلول اللفظي لكلام مع اطلاق كلام آخر قدّم المدلول اللفظي على الاطلاق وفقا لقواعد الجمع العرفي.

ويتضح ممّا ذكرناه ان جوهر الاطلاق يتمثّل في مجموع امرين :

الاوّل : يشكّل الصغرى لقرينة الحكمة ، وهو ان تمام ما ذكر وقيل موضوعا للحكم بحسب المدلول اللفظي للكلام هو الفقير ولم يؤخذ فيه

٢٤٩

قيد العدالة (١).

والثاني : يشكّل الكبرى لقرينة الحكمة ، وهو ان ما لم يقله ولم يذكره اثباتا لا يريده ثبوتا ، لان ظاهر حال المتكلّم انه في مقام بيان تمام موضوع حكمه الجدّي بالكلام (٢).

وتسمّى هتان المقدمتان بمقدمات الحكمة.

فاذا تمّت هاتان المقدّمتان تكوّنت للكلام دلالة على الاطلاق وعدم دخل أيّ قيد لم يذكر في الكلام.

ولا شك في ان هذه الدلالة لا توجد في حالة ذكر القيد في نفس الكلام ، لانّ دخله في موضوع الحكم يكون طبيعيا حينئذ ما دام القيد داخلا في جملة ما قاله وتختل بذلك المقدّمة الصغرى.

وانما وقع الشك والبحث في حالتين :

الاولى : اذا ذكر القيد في كلام منفصل آخر (٣) فهل يؤدّي ذلك الى

__________________

(١) وهذه المقدّمة بيّنها صاحب الكفاية بقوله ان لا ينصب قرينة متصلة على التقييد.

(٢) بمعنى أننا إن شككنا في كون المتكلم في مقام البيان في كلام ما فإننا ناخذ باطلاقه لان الأصل ان يكون المتكلم في مقام البيان ، وهذه نقطة مهمة في علم الفقه ذكرها بشكل مفصّل سيدنا المصنف في تقريرات السيد الهاشمي ج ٣ ص ٤١٧ فراجعها هناك لاهميّتها.

(٣) إذا وردنا «اكرم العالم» ووردنا في رواية أخرى «اكرم العالم العادل» فهل نحمل «العالم» الاولى على الاهمال فيتعين علينا تقييد «العالم» الاول بالعادل كما هي الحالة فيما لو وردنا من الاصل اكرم العالم العادل ، او ان نقول ان الاصل ان يكون العاقل في مقام البيان ، وعليه فيحمل كلامه على الاطلاق ، فاذا جاء قيد نحمله على الاستحباب ، اي الافضل ان يكون العالم عادلا؟

٢٥٠

عدم دلالة الكلام الاوّل على الاطلاق رأسا كما هي الحالة في ذكره متصلا (١) ، او ان دلالة الكلام الاوّل على الاطلاق تستقرّ بعدم ذكر القيد متصلا والكلام المنفصل المفترض يعتبر معارضا لظهور قائم بالفعل وقد يقدّم عليه وفقا لقواعد الجمع العرفي (٢)؟

ويتحدّد هذا البحث على ضوء معرفة ان ذلك الظهور الحالي الذي يشكّل الكبرى هل يقتضي كون المتكلم في مقام بيان تمام موضوع الحكم بشخص كلامه او بمجموع كلماته؟ فعلى الاوّل يكون صغراه عدم ذكر القيد متصلا بالكلام ويكون ظهور الكلام في الاطلاق منوطا بعدم ذكر القيد في شخص ذلك الكلام فلا ينهدم [الاطلاق] بمجيء التقييد في كلام منفصل. وعلى الثاني تكون صغراه عدم ذكر القيد ولو في كلام منفصل فينهدم اصل الظهور (٣) بمجيء القيد في كلام آخر.

والمتعيّن بالوجدان العرفي الاوّل (٤) ، بل يلزم على الثاني عدم امكان التمسّك بالاطلاق في موارد احتمال البيان المنفصل ، لانّ ظهور الكلام في الاطلاق اذا كان منوطا بعدم ذكر القيد ولو منفصلا

__________________

(١) هذا مختار مدرسة المحقق النائيني رحمه‌الله.

(٢) هذا مختار المحقق الخراساني (قده).

(٣) في الاطلاق.

(٤) وهو الاوّل في الفقرة الثانية اي في قوله «ويتحدّد هذا البحث».

٢٥١

فلا يمكن احرازه (١) مع احتمال ورود القيد في كلام منفصل (*).

__________________

(١) اي احراز ظهور الكلام في الاطلاق.

__________________

(*) الصحيح في كيفية التقييد ان يقال :

حينما يطلق المولى موضوعا ما في حكم معيّن ثم يأتي بقيد منفصل فتارة يكون الامام في مقام بيان تمام حدود الموضوع كما لو سأل احدهم الامام عن كيفية تطهير ثوبه من البول فاجابه الامام اغسله ، ولم يقيد الغسل بالمرتين مع كون السائل يسأل ليعمل على طبق جواب الامام عليه‌السلام ، وتارة أخرى يكون في مقام بيان اصل التشريع اي ليس في مقام بيان تمام حدود متعلق الحكم ، وذلك كما في «اقيموا الصلاة» ، فعلى الاوّل ينعقد الاطلاق ، ولذلك ترى السائل يكتفي بغسلة واحدة تمسّكا باطلاق قوله عليه‌السلام «اغسله» بحيث اذا سمع تقييدات منفصلة نحو «اغسله مرّتين» يحملها على الاستحباب ، دليلنا على ذلك الارتكاز العرفي والمتشرّعي ، فان الامام عليه‌السلام لا شك انه في الحالة المذكورة في مقام بيان تمام حدود الحكم والّا فقد نقض غرضه. وعلى الثاني لا بدّ من القول بالتقييد ، لكن بالدقّة ليس هذا من باب التقييد وانما هو من باب تحديد وتشخيص حدود موضوع الحكم بعد ما كان مهملا لا مطلقا ، فهنا ـ اي حينما كان الامام مثلا في مقام الاهمال من ناحية تحديد موضوع الحكم لكونه في مقام بيان اصل الحكم ـ لا ينعقد للموضوع اطلاق رغم وجود ارادة جدّية بالمقدار المنظور اليه. هكذا يفهم العرف والمتشرّعة النصوص الشرعية.

(ومن هنا) اتّضح أنه إن شك في ان المتكلم هل كان في مقام البيان من جهة معيّنة ام لا فان كان الكلام مسوقا لبيان هذه الجهة فان الاصل العقلائي يقضي بحمل الكلام على الاطلاق لظهور حال المتكلّم انه في مقام البيان وتدخل هذه الحالة في الحالة الاولى السالفة الذكر ، وإلا ـ فان لم يكن الكلام مسوقا لبيان هذه الجهة ـ فلا ينعقد اطلاق فيها ، وتدخل ح في الحالة الثانية.

٢٥٢

الثانية : اذا كان هناك قدر متيقّن في مقام التخاطب (١) فهل يمنع

__________________

(١) اعتبر صاحب الكفاية رحمه‌الله ان من مقدّمات الحكمة عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب ، ولعلّه يريد حالة انصراف ذهن السامع الى قدر معلوم بين المتكلم والسامع ، إذ في هذه الحالة يؤخذ بظهور الكلام وهو ارادة قدر معيّن من اسم الجنس دون معنى الاطلاق والشمول ، مثالها ما لو قال احد علماء الدين لطلّابه : «اكرموا العالم» ، فان اذهانهم تنصرف الى خصوص علماء الدين ، وذلك لان مقام التخاطب هو كون هذا الكلام صادرا من العالم الديني الى طلاب العلوم الدينية ، فمقام التخاطب هذا أثّر على كلمة «العالم» ، وهذا ما يسمّيه علماؤنا بقرينة الحال والمقام ، وهذه هي الحالة الثالثة في المتن. ولعلّ اوّل من اضاف هذا الشرط الى مقدّمات الحكمة هو صاحب الكفاية رحمه‌الله.

(ثمّ) استثنى صاحب الكفاية حالة ما لو كان القدر المتيقّن حاصلا من الخارج فانه لا يخلّ باطلاق اللفظ ، مثالها لو قال لنا المولى «اكرموا العالم الديني» ، فرغم ان علماء الدين يختلفون في علميّتهم خارجا تفاوتا كبيرا ، فمنهم المراجع العظام ومنهم غير المجتهدين من الفضلاء الكرام ، فانك ـ رغم هذا التفاوت الكبير بينهم ـ ترى نفسك تاخذ باطلاق لفظة «العالم الديني» ولا تلتفت الى هذا التفاوت الحاصل في الخارج وان كان القدر المتيقن منهم خصوص المجتهدين مثلا ، وما ذلك الّا لان هذا القدر المتيقن في الخارج لم يشكّل لنا قرينة صارفة عن المدلول الوضعي للكلمة(*) راجع إن شئت منتهى الدراية ج ٣ ص ٧١٥ ومحاضرات السيد الخوئي ج ٥ ص ٣٧٠ وتقريرات السيد الهاشمي ج ٣ ص ٤٢٤.

__________________

(*) (أقول) هذا البحث هو بحث في تحديد صغرى الظهور ، فان وجدت قرائن حالية او مقامية او مقالية فهي المتّبعة وذلك لتبعيتنا لظهور الكلام دائما ، وحجية الكلام تتبع عقلا وشرعا الظهور ، وإلّا ـ فان لم توجد هكذا قرائن ـ يتعيّن علينا ان ناخذ باطلاق

٢٥٣

__________________

الكلام تبعا لدلالته الوضعية على الطبيعة حتى ولو لم نطمئن بان مراد الشارع الجدّي هو الشمول لجميع افراد الطبيعة ، فان ظاهر حال المعصومين عليهم الصلاة والسلام انهم في مقام تبليغ تمام الشريعة فحينما اطلق اللفظ ولم يقيّد بقرينة واضحة فان جميع المتشرّعة يأخذون باطلاق اللفظ لما ذكرناه ، بل هذه طبيعة جميع العبيد مع مواليهم حتّى وان لم يحصل عندهم اطمئنان بمراد مولاهم ، فان ديدن العقلاء في هكذا حالات ان يأخذوا بالدلالات الوضعية للكلام ويرون ان الدلالات الوضعية للكلام هي طريق عقلائي لمعرفة مرادات المولى غالبا لا دائما ، فاننا وان كنّا نرى ان حجية الظهور هو حكم عقلائي لكاشفية الظهور عادة عن مراد المتكلّم ، الّا ان حصول الاطمئنان ليس امرا دائميا وذلك كما في حالتنا السابقة المفروضة وكما في حالات التعارض ، فاننا نرى انفسنا كعبيد الله جل وعلا ملزمين باتباع هذا الاطلاق ـ الذي لم نعلم بتقييده بقرينة حالية او مقامية مثلا ـ ولو لم يحصل عندنا اطمئنان بالمراد الجدّي للشارع المقدس ، هذا الارتكاز نشأ من عدّة اسباب ، منها امر الشارع المقدّس لنا بصراحة باتباع اقواله واقوال المعصومين (عليهم‌السلام) والتسليم لهم في آيات وروايات متواترة ، هذه الآيات والروايات خلقت جوّا عاما وارتكازا واضحا للزوم اتباع كلامهم بما يدلّ عليه ـ وضعا ـ من معاني.

(وبتعبير آخر) لو شككنا ان الشارع المقدّس في مقام البيان ام يريد خصوص القدر المتيقّن في مقام التخاطب او في الخارج ونحو ذلك فقد قال مشهور الاصوليين على ما نقل ـ وهم على حقّ في ذلك ـ ان ظاهر حال الشارع المقدّس انه في مقام البيان ، فاخذوا بالاطلاق تبعا للدلالة الوضعية للكلام ، حتّى ولو لم يحصل عندهم اطمئنان بالمراد الجدّي للمشرّع الحكيم ، ويرون ان هذا من باب التسليم لاقوالهم حتّى تتّضح لهم القرينة المقيّدة.

(وهذا) بحث مهم ذو ثمرات عمليه مهمة ، اذكر مثالين فقط وقس عليهما :

الاوّل : وقع كلام وخلاف بين اصحابنا في صحيحة إسحاق بن يعقوب «وامّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجّة الله» ان لفظة «رواة حديثنا» هل هي مطلقة ـ ولو بالمعنى الاعمّ الشامل للعموم ـ بحيث يصحّ

٢٥٤

عن دلالة الكلام على الاطلاق او لا؟

وتوضيح ذلك : ان المطلق اذا صدر من المولى (فتارة) تكون حصصه متكافئة في الاحتمال فيكون من الممكن اختصاص الحكم بهذه الحصّة دون تلك او بالعكس او شموله لهما معا ، وهذا معناه عدم وجود قدر متيقّن ، وفي مثل ذلك تتمّ قرينة الحكمة بلا إشكال ، و (ثانية) تكون احدى الحصتين اولى بالحكم من الحصّة الاخرى ، غير انها اولوية علمت من خارج ذلك الكلام الذي اشتمل على المطلق ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقن من الخارج ، والمعروف في مثل ذلك تمامية قرينة الحكمة ايضا ، و (ثالثة) يكون نفس الكلام صريحا في تطبيق الحكم على احدى الحصّتين ، كما اذا كانت هي مورد السؤال وجاء المطلق كجواب على هذا السؤال من قبيل ان يسأل شخص من المولى عن اكرام الفقير العادل فيقول له «اكرم الفقير» ، وهذا ما يسمّى بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب. وقد اختار صاحب الكفاية رحمه‌الله ان هذا يمنع من دلالة

__________________

للمقلّد الرجوع الى مطلق المجتهد وان كان مفضولا في حال تعارض فتاواه مع فتاوى الافضل او ليس الامام الحجة (عج) في مقام البيان من هذه الناحية ، وهل ناخذ باطلاقها من ناحية موت المرجع وحياته بمعنى اننا اذا اخذنا باطلاقها من هذه الناحية فانه يجوز تقليد الميّت ابتداء ، ام لا ناخذ بهذا الاطلاق لوجود قدر متيقّن في الخارج او لانه لم يثبت انه في محل البيان من هاتين الجهتين؟ ...

والثاني : لفظة «إمام» الواردة في العديد من الروايات بنفس التقريب السابق.

(ويظهر) ان مشهور اصحابنا ـ ومنهم سيدنا المصنف ـ يأخذون باطلاق الكلام تبعا لدلالته الوضعية حتى يثبت غير ذلك بقرينة واضحة صارفة عنها.

٢٥٥

الكلام على الاطلاق ، اذ في هذه الحالة قد يكون مراده مختصا بالقدر المتيقّن وهو الفقير العادل في المثال لانّ كلامه واف ببيان القدر المتيقّن ، فلا يلزم حينئذ ان يكون قد اراد ما لم يقله.

والجواب على ذلك ان ظاهر حال المتكلّم ـ كما عرفت في كبرى قرينة الحكمة ـ انّه في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه الجدّي بالكلام ، فاذا كانت العدالة جزء من الموضوع يلزم ان لا يكون تمام الموضوع بيّنا ، إذ لا يوجد ما يدلّ على قيد العدالة. ومجرّد ان الفقير العادل هو المتيقّن في الحكم لا يعني اخذ قيد العدالة في الموضوع (١) ، فقرينة الحكمة تقتضي اذن عدم دخل قيد العدالة حتّى في هذه الحالة.

وبذلك يتّضح ان قرينة الحكمة ـ أي ظهور الكلام في الاطلاق ـ لا تتوقف على عدم المقيّد المنفصل ولا على عدم القدر المتيقّن بل على عدم ذكر القيد متصلا.

هذا هو البحث في اصل الاطلاق وقرينة الحكمة.

وتكميلا لنظرية الاطلاق لا بدّ من الاشارة الى عدّة تنبيهات :

التنبيه الاوّل : ان اساس الدّلالة على الاطلاق ـ كما عرفت ـ

__________________

(١) بمعنى انه بمجرّد ان الفقير العادل هو المتيقّن من موضوع الحكم لا يخلق ظهورا وانصرافا الى خصوص القدر المتيقن ، فالمتبع دائما ظهور اللفظ بالإطلاق والشمول حتّى نعلم بقرينة صارفة ـ لفظية او حالية ـ بارادة خصوص حصّة خاصّة ، والّا ـ فمع الشك ـ نتعلّق باطلاق اللفظ ، لكون الاصل هو كون المتكلم في مقام البيان على ما بيّناه سابقا.

٢٥٦

هو الظهور الحالي السياقي (١) ، وهذا الظهور دلالته تصديقية ، ومن هنا كانت قرينة الحكمة الدّالة على الاطلاق ناظرة الى المدلول التصديقي للكلام ابتداء ، ولا تدخل في تكوين المدلول التصوري خلافا لما اذا قيل بانّ الدلالة على الاطلاق وضعيّة لاخذه قيدا في المعنى الموضوع له ، فانها تدخل حينئذ في تكوين المدلول التصوّري.

التنبيه الثاني (٢) : ان الاطلاق تارة يكون شموليا يستدعي تعدد الحكم بتعدد ما لطرفه من افراد ، وأخرى بدليا يستدعي وحدة الحكم.

فاذا قيل : «اكرم العالم» كان وجوب الاكرام متعددا بتعدّد افراد العالم (٣) ، ولكنه لا يتعدّد في كل عالم بتعدد افراد الاكرام (٤).

وقد يقال : إن قرينة الحكمة تنتج تارة الاطلاق الشمولي وأخرى

__________________

(١) هذا امر اتضح مرّات في الابحاث السابقة ابتداء من آخر مسألة «هيئات الجمل» فما بعد ، فانّ كبرى قرينة الحكمة هي من الاصل ظهور حالي كما مرّ ، لانها هي «ظهور حال كون المتكلّم في انه لا يريد جدّا القيد الذي لا يفيد معناه». راجع ان شئت تقريرات السيد الهاشمي ج ٣ ص ٤١١. (ثم) إنّ كل ظهور حالي هو سياقي ، فكلمة سياقي بيانية لا احترازية وهي تستعمل عادة في مقابل اللفظية فيقال مثلا إنّ دلالات الاقتضاء والتنبيه والاشارة هي دلالات عقلية ويقال ايضا سياقية ، وأمّا دلالة الجملة الشرطية على المفهوم فهي دلالة لفظية.

(٢) ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله في بحوثه ج ٣ ص ٤٢٨.

(٣) هذا الاطلاق الجاري في لفظة «العالم» هو مثال الاطلاق الشمولي السالف الذكر.

(٤) والاطلاق الجاري في مادّة الاكرام هو مثال الاطلاق البدلي السالف الذكر.

٢٥٧

الاطلاق البدلي.

ويعترض على ذلك بانّ قرينة الحكمة واحدة فكيف تنتج تارة الاطلاق الشمولي وأخرى الاطلاق البدلي؟

وقد اجيب على هذا الاعتراض بعدّة وجوه :

الاوّل : ما ذكره السيد الاستاذ من ان قرينة الحكمة لا تثبت إلا الاطلاق بمعنى عدم القيد ، وامّا البدلية والاستغراقية فيثبت كلّ منهما بقرينة اضافية ، فالبدلية في الاطلاق في متعلق الامر مثلا (١) تثبت بقرينة اضافية ، وهي ان الشمولية غير معقولة ، لان ايجاد جميع افراد الطبيعة غير مقدور للمكلّف عادة ، والشمولية في الاطلاق في متعلق النهي مثلا تثبت بقرينة إضافية وهي ان البدلية غير معقولة ، لان ترك احد افراد الطبيعة على البدل ثابت بدون حاجة الى النهي (٢).

ولا يصلح هذا الجواب لحلّ المشكلة اذ توجد حالات يمكن فيها الاطلاق الشمولي والبدلي معا ، ومع هذا يعيّن الشمولي بقرينة الحكمة ، كما في كلمة «العالم» في قولنا «اكرم العالم» ، فلا بدّ اذن من اساس

__________________

(١) كالاكرام في قولنا «اكرم العالم» ، فان ايجاد جميع افراد الاكرام ـ كالتحية بانواعها وافرادها والاهداء بافراده وغير ذلك ـ غير معقول لعدم تناهي افراده.

(٢) مثال ذلك الكذب ، فان قول المولى «لا تكذب» لا يمكن الا ان يكون النهي فيه شموليا ، وذلك لانه لو كان الاطلاق هنا بدليا اي «لا تكذب ولو لمرّة واحدة في حياتك» فهذا حاصل حتما ولا معنى له.

٢٥٨

لتعيين الشمولية او البدلية غير مجرّد كون بديله مستحيلا.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي رحمه‌الله من ان الاصل في قرينة الحكمة انتاج الاطلاق البدلي ، والشمولية عناية إضافية بحاجة الى قرينة ، وذلك لان هذه القرينة (١) تثبت ان موضوع الحكم ذات الطبيعة بدون قيد ، والطبيعة بدون قيد تنطبق على القليل والكثير وعلى الواحد والمتعدّد. فلو قيل «اكرم العالم» وجرت قرينة الحكمة لاثبات الاطلاق كفى في الامتثال اكرام الواحد لانطباق الطبيعة عليه ، وهذا معنى كون الاطلاق من حيث الأساس بدليا دائما ، وامّا الشمولية فتحتاج الى ملاحظة الطبيعة سارية في جميع افرادها ، وهي مئونة زائدة تحتاج الى قرينة.

الثالث : ان يقال (٢) ـ خلافا لذلك ـ ان الماهية عند ما تلحظ بدون قيد وينصبّ عليها حكم انما ينصبّ عليها ذلك بما هي مرآة للخارج فيسري الحكم نتيجة لذلك الى كل فرد خارجي تنطبق عليه تلك المرآة الذهنية ، وهذا معنى تعدد الحكم وشموليته. وأمّا البدلية ـ كما في متعلق الامر ـ فهي التي تحتاج الى عناية وهي تقييد الماهية بالوجود الاوّل ، فقول «صلّ» يرجع الى الامر بالوجود الاوّل ، ومن هنا لا يجب الوجود الثاني ، وعلى هذا فالاصل في الاطلاق الشمولية ما لم تقم قرينة على البدلية.

__________________

(١) اي قرينة الحكمة.

(٢) هذه مقالة المحقق الاصفهاني (قدس‌سره).

٢٥٩

وتحقيق الحال في المسألة يوافيك في بحث أعلى إن شاء الله تعالى (١).

التنبيه الثالث : اذا لاحظنا متعلّق النهي في «لا تكذب» ومتعلّق الامر في «صلّ» نجد ان الحكم في الخطاب الاوّل يشتمل على تحريمات متعدّدة بعدد افراد الكذب وكل كذب حرام بحرمة تخصّه ، ولو كذب المكلّف كذبتين يعصي حكمين ويستحق عقابين ، وامّا الحكم في الخطاب الثاني فلا يشتمل إلا على وجوب واحد ، فلو ترك المكلّف الصلاة لكان ذلك عصيانا واحدا ويستحقّ بسببه عقابا واحدا ، وهذا من نتائج الشمولية في اطلاق متعلق النهي التي تقتضي تعدد الحكم والبدلية في اطلاق متعلّق الامر الذي يقتضي وحدة الحكم.

ولكن قد يتجاوز هذا ويفترض النهي في حالة لا يعبّر إلا عن

__________________

(١) ذكره في بحوثه ج ٢ ، ص ١٢١ وج ٣ ص ٤٣٠ ، وخلاصته ان الموضوع ـ كالعالم في قولنا مثلا «اكرم العالم» ـ يلحظ مفروض الوجود في المرتبة السابقة على الحكم اي تلحظ هذه القضية بنحو القضية الشرطية فيكون معناها «اذا كان العالم موجودا فاكرمه» وحيث ان له تطبيقات متكثرة فلا محالة يتعدّد الموضوع ويتكرّر وينحل الحكم بعدد تلك التطبيقات ، بينما المتعلّق يطلب ايجاده او اعدامه ، امّا الاوّل فان طلب ايجاد الطبيعة يكفي فيه ايجاد فرد واحد. وأمّا على الثاني فان الطبيعة لا تعدم إلا بانعدام كل افرادها ، فان قول المولى مثلا «لا تكذب» يعني ان كل فرد من افراد الكذب ذو مفسدة بحدّ ذاته.

(وقد) يقول المولى مثلا «اكرم عالما» فعالم هنا يدل على شخص واحد لدلالة التنوين على الوحدة.

٢٦٠