دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

كانت معيوبة ، فالكتاب وإن كان معيوبا يصدق عليه اسم الكتاب وكذا غيره.

ولذلك لو قال قائل «بعت كتابا لفلان» ، يحمل بيعه على البيع الصحيح ، والكتاب على ما يصدق عليه لفظة «كتاب» وإن كان معيوبا بحيث لا يخرج المسمّى عن ماهية الكتاب ، ولذلك لو فرض وجود محاكمة لما قبل تفسيره البيع بالبيع الفاسد بلا شك ، وتبادر الذهن الى المعاني الصحيحة دليل على وضعها لخصوص الصحيح.

(إذن) فالدليل على الوضع للصحيح هو التبادر الى المعاني الصحيحة وصحّة السلب عن الفاسد منها ، فانك حينما تسمع الشارع المقدّس يأمرك بالصلاة يتبادر ذهنك الى الصحيح منها ، وهذا امر واضح لا ينبغي الشك فيه.

(فاذا) عرفت هذا نتساءل عن المراد من الصحّة في الشرعيات كلفظة «صلاة» مثلا ، فهل ان الشارع المقدّس حينما يأمرنا بالصلاة في قوله «أقيموا الصلاة» انما يأمرنا بالصلاة الصحيحة واقعا ، او بالصلاة الواصلة إلينا بطرق صحيحة؟ وبتعبير آخر اذا اثبتت لنا الروايات الصحيحة تسعة اجزاء للصلاة ووردنا رواية ضعيفة توجب علينا جزء آخر وشككنا في وجوب هذا الجزء العاشر فان قلنا بانّ المراد من الصحيح هو الصحيح واقعا وجب علينا الاتيان بالجزء العاشر لان الاشتغال اليقيني يستدعي ـ عقلا ـ الفراغ اليقيني ، وإن قلنا بانه تصدق لفظة «الصلاة» على ما وصلنا منها بطرق صحيحة يكفينا الاتيان بالاجزاء التسعة فقط ونجري البراءة في الزائد المشكوك بعد صدق عنوان «الصلاة».

٢٠١

القدر المتيقّن ان الألفاظ الشرعية موضوعة لخصوص الصحيح واقعا ، فهو المصداق الجلي في البين ، وهذا امر واضح ، (ولكن) هذا لا يمنع من وضع هذه الألفاظ لما هو اعم من الصحيح واقعا او ظاهرا. اما وضعها للصحيح واقعا فقد عرفت انه القدر المتيقّن ، وامّا وضعها للصحيح ظاهرا ايضا فلتبادره ايضا عند المتشرّعة ، وذلك بتقريب ان الله تعالى لم يكلّفنا ـ كما في ادلّة البراءة ـ إلا بما آتانا واعلمنا وقد بعث لنا الهداة الاطهار (عليهم‌السلام) ليعلّمونا معالم ديننا ، وقد بعثوا ليبيّنوا لكل الناس الحاضرين منهم في زمانهم والآتين بعد زمانهم ، وهم يعلمون بعلمهم الغيبي ما سيصل الى الغائبين بطرق صحيحة ودلالة واضحة وما لن يصل إليهم كذلك ، وقد كانوا قادرين بطرق طبيعية عاديّة ان يوصلوا إلينا الاحكام الالزامية كما أوصلوا الينا آراءهم في القياس والسواك مثلا عبر مئات الروايات مع ان الاحكام الالزامية اهمّ من قضيّة السواك التي وصلنا فيها أكثر من مائة رواية ... من كل هذا نستكشف وصول الاجزاء والشرائط الدخيلة في متعلّقات الاحكام الالزامية او على الاقل القيود التي يهتمّ بها الشارع المقدّس. (بهذا) التقريب نستكشف ايضا رضا المشرّع الحكيم عن اطلاق لفظة «صلاة» على هذه الماهية التي وصلتنا من خصوص الطرق الصحيحة ، وبتعبير اصحّ نستكشف ان الشارع المقدّس قد وضع لفظة «صلاة» مثلا لمعنى شامل للفرد الكامل والفرد الناقص والمشتمل على خصوص القيود المهمّة ، او قل للشامل ل «الصحيح واقعا» و «الفاسد واقعا والصحيح ظاهرا».

ونتساءل ايضا عن المراد من الصّحة في العرفيات فهل هي خصوص الصّحة الواقعية ام الشاملة لها وللصحّة العرفية؟ فحينما قال

٢٠٢

الشارع المقدّس مثلا «اوفوا بالعقود» وشككنا في اشتراط العربية والماضوية والترتيب بين الايجاب والقبول فهل يمكن التمسّك باطلاق او قل بعموم «العقود» لتصحيح العقود الفاقدة للشروط المذكورة؟

الصحيح ان المولى جلّ وعلا انما يكلّم العرف ، فتحمل لفظة «العقود» على المعنى العرفي فيصحّ التمسّك بهذه اللفظة بمعناها العرفي لطرد احتمال اشتراط الامور المشكوكة.

والنتيجة ان ألفاظ المركّبات سواء كانت شرعية ام عرفية موضوعة للاعم من «الصحيح الواقعي» ، ففي الشرعيات الألفاظ موضوعة للاعم من الصحيح الواقعي والصحيح الظاهري وهو ما يسمّى بالفاسد الواقعي ، وفي العرفيات الألفاظ موضوعة للاعم من الصحيح واقعا والصحيح عرفا. ولا وجه للقول بأنّ الألفاظ موضوعة للفاسد واقعا وظاهرا وعرفا ، فانّ أحدا لا يبحث عن امكان وضع لفظة كتاب مثلا للجدار. وعليه فينبغي ان يكون المراد من الفاسد هو ما ذكرنا وهو الفاسد واقعا والصحيح ظاهرا في الشرعيات وعرفا في العرفيات.

وهنا تنبيهان :

الاوّل : لعلّك لاحظت ان النظر في بحثنا هذا كان الى امكانية التمسّك بالاطلاق اللفظي وعدمه ، وهو يغاير النظر في بحث «دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين» والذي هو الى البراءة او الاشتغال.

وقد بان لك امكانية التمسك باطلاق ألفاظ المركبات سواء منها ألفاظ الماهيات الشرعية ام ألفاظ الماهيات العرفية. فان شككت في الاكتفاء بالتمسك بهكذا اطلاقات فالبراءة عن القيود المذكورة تزيل الشك.

٢٠٣

والثاني : من خلال ما ذكرنا تعرف انه لا وجه لادخال المعاني البسيطة في هذا البحث ، مثال المعاني البسيطة لفظة «البيع» في قوله تعالى «احلّ الله البيع» ، فان المراد من البيع هنا هو اثر التعاقد والاثر امر بسيط إمّا موجود واما معدوم ، ولا يتصوّر الفساد فيه لانه ح يساوق عدمه. مثال آخر الطهارة فانها امر مسبّب عن التوضي فهي إمّا موجودة وامّا معدومة ، والطهارة الفاسدة هي لا طهارة فهي معدومة ، وهكذا في سائر الماهيّات البسيطة ، كسائر العقود والايقاعات كالزوجية والطلاق الذي هو اثر التطليق ، ولهذا كنّا نقول في البحث «الماهيّات المركّبة كالصلاة ...».

تطبيق عملي :

(قال) الشيخ الانصاري رحمه‌الله في مكاسبه (١) :

«ثمّ ان الشهيد الثاني نصّ في كتاب اليمين من المسالك على ان عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواص الحقيقة كالتبادر وصحّة السلب ، قال : ومن ثمّ حمل الاقرار به على الصحيح ، حتّى لو ادّعي ارادة الفاسد لم يسمع اجماعا ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره باحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه الى الصحيح والفاسد (٢) اعم من الحقيقة» (انتهى) ،

__________________

(١) اواخر ص ٨٠ من الطبعة الحجرية (أواخر تعريف البيع وقبل الكلام في المعاطاة).

(٢) هذا دفع توهّم وهو : (فان قلت) لكن لفظة البيع تنقسم الى الصحيح والفاسد ، وهي امارة وضع لفظة البيع للاعم. (قلنا) الاستعمال اعم من الحقيقة ، فلا يستدل بالاستعمال على المعنى الحقيقي.

٢٠٤

وقال الشهيد الاوّل في قواعده : «الماهيّات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا يطلق على الفاسد إلا الحجّ لوجوب المضي فيه» ، ويشكل (١) ما ذكراه بان وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو «أحلّ الله البيع» واطلاقات ادلّة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع ان سيرة علماء الاسلام التمسّك بها في هذه المقامات» (انتهى كلام الشيخ الاعظم رحمه‌الله).

أقول ويرد عليه :

اوّلا : عدم ثبوت اجماع على التمسّك بالاطلاق اللفظي لأمثال ألفاظ «الصلاة» و «البيع» ونحوها ، بل لم نجد في كلمات المتأخرين رغم التتبع من يتمسك بالاطلاق اللفظي للالفاظ الشرعية (اي المخترعة) لنفي الزائد المشكوك.

نعم فصّل السيد الخوئي قدس‌سره في مصباح الفقاهة (٢) فقال «ان الفقهاء لا يتمسّكون بالاطلاق في ألفاظ العبادات ، ويتمسّكون به في ألفاظ المعاملات» انتهى ، ويظهر من كلامه هناك ان سبب هذا التفصيل هو ان أسماء المعاملات تقع على الماهيّات العرفية التي قد يمضيها الشارع وقد يمنعها بخلاف أسماء العبادات فانها موضوعة لماهيات مخترعة من قبل الشارع وهي خصوص الماهيات الصحيحة.

ثانيا : ليست هذه الاجماعات المدركية بحجة لانها لا تكشف عن رأي المعصومين عليهم‌السلام.

__________________

(١) لا يزال هذا الكلام للشيخ الاعظم الانصاري رحمه‌الله.

(٢) ج ٢ ص ٨٠.

٢٠٥

وثالثا : لا ادري كيف يمكن التمسك بالاطلاق اللفظي لكلمة «البيع» مثلا لنفي اشتراط البلوغ مثلا والماضوية والعربية والترتيب والموالاة المشكوك فيها ، فانّ الله تعالى حينما قال لنا «احلّ الله البيع» انما اراد البيع الصحيح واقعا ، لان الآية الكريمة إنما هي في مقام التفرقة الواقعية بين الربا الواقعي والبيع الواقعي فأحلّ الله البيع الصحيح شرعا وحرّم الربا ، ولا يقصد «احلّ الله البيع الصحيح عرفا وإن كان باطلا شرعا» ليتمسّك بلفظة البيع فتنفى القيود المشكوكة. فالمراد اذن من لفظة «البيع» بدليل السياق هو البيع الصحيح واقعا.

وقد يقال : يصحّ التمسك بلفظة «العقود» في «اوفوا بالعقود» وذلك لاحتمال ارادة الاطلاق من هذه اللفظة ، وقد عرفت في محلّه ان الاصل ـ عند احتمال ارادة الاطلاق ـ ان يكون المتكلم في مقام البيان كما عليه المشهور.

ويرد عليه : انّ المولى عزوجل ليس في هذه الآية أيضا في مقام بيان قيود العقد والمتعاقدين من العقل والبلوغ والعربية والترتيب والماضوية ، وثانيا يريد الله تعالى ان يقول «أوفوا بالعقود» الصحيحة شرعا ، لا الصحيحة عرفا وباطلة شرعا.

ولذلك يلزم التمسك بالاطلاق المقامي لنفي القيود الزائدة المحتملة في الصلاة والصيام والبيع والعقود ونحوها ، فنقول ـ بعد بحثنا عن القيود الدخيلة ـ لو ارادها الله تعالى لذكرها.

٢٠٦

(المشتق)

المشتق باصطلاح الاصوليين هو الصفة العرضية التي تحمل على الذات مثل زوج وأخ ورقّ وضارب وآكل ونحو ذلك ، على ان تكون اسما لا فعلا لوضوح الزمان إن كان فعلا ، فهو بالتالي يغاير المشتق باصطلاح النحاة والذي يكون مشتقا من المصدر فلا يشمل بعض الامثلة السابقة كالزوج ونحوه. كما ويشترط في الموضوع ان لا تتبدّل ماهيته عند زوال الصفة عنه ، فلو مات زيد الذي كان قائما وصارت عظامه رفاتا لا يصح ان يبحث عنه : هل يصدق عليه انه قائم ام لا؟ ولهذا قلنا في التعريف «العرضيّة» ، فانّ قولنا مثلا «زيد ناطق» اذا زال النطق عنه ـ والنطق هو كما تعلم قوام الانسانية لانّ المراد منه العقل ـ فانّ ماهية زيد ستزول ، فحينئذ لا يصحّ ان نتساءل بعد زوال الناطقية : هل زيد ناطق ام لا؟ فانّ زيدا قد زال وتبدّل بحسب الفرض ، اذن يشترط بقاء الموضوع بعد زوال الصفة عنه.

وقد اختلف الاصوليون في وضعه لخصوص المتلبّس بالمبدإ فعلا ام للاعم منه وممن انقضى عنه التلبّس. فاذا سمعنا جملة «هند زوجة فلان» ما ذا نفهم منها؟ هل نفهم منها انها زوجته فعلا ام نتردّد في المعنى المراد اذ نحتمل ارادة انها كانت زوجته فيما مضى بناء على ان المشتق موضوع للجامع بين المتلبّس بالمبدإ ومن انقضى عنه التلبّس ، فيكون

٢٠٧

اللفظ حينئذ مجملا؟

يقول سيدنا الشهيد رحمه‌الله ـ وهو على حقّ فيما قال ـ «انه لا شك في كون المفهوم من هذا المثال ونحوه هو خصوص المتلبّس بالمبدإ» ، اي اننا نفهم انها زوجته فعلا ، وكذا اذا قيل «زيد كاتب» او «قاض» ونحوها من الحرف فاننا نفهم منها خصوص المتلبّس بالحرفة لا من انقضت عنه ايضا ، ولا يؤثر نومه ونحوه على بقاء حرفته وملكته كما هو واضح.

دليلنا ـ اضافة الى التبادر ـ صحّة السلب عمن زال عنه التلبس بالمبدإ ، فيصحّ ان يقال لمن زال عنه منصب القضاء مثلا : هذا ليس قاضيا ، ولمن طلّقت : هذه ليست زوجة فلان ، وهكذا ...

ولنا ان نفسّر سبب هذا التبادر بتفسير تحليلي وذلك بأن نقول : ان المشتق يحتوي على مبدأ وهيئة فقط ، والمبدأ كالقضاء ونحوه ، والهيئة هي كيفية نسبة المبدأ الى الذات وانه مثلا هو القاضي لا المقضي عليه او ان فلانا الذي ضرب زيدا والذي نطلق عليه صفة الضارب هو الذي وقع منه مبدأ الضرب وانّ زيدا ـ المضروب ـ هو الذي وقع عليه الضرب ، فلا يفهم من المشتق قيد زمان ما ، لا زمان حال النطق ولا زمان التلبس بالمبدإ في الماضي ، فلا يفهم من العبارة إذن زمان ما ، اضافة الى انه إذا قيل «زيد قاض» لا يفهم منها معنى «زيد كان قاضيا» لانّ هذا التصوّر يحتاج الى مئونة زائدة ، بخلاف ما لو اراد زمان النطق فانه لا يحتاج الى لفظة كان ولا الى تقدير شيء ، وبما انّ الاهمال اي عدم لحاظ زمان التلبس غير متعارف عند المتكلم العاقل ، بل مستحيل على الباري تعالى فيتعيّن ارادة التلبس في زمان النطق.

٢٠٨

نعم قد يعبّر عن معنى «زيد كان قاضيا» بتعبير «زيد قاض» ويريدون به زمان التلبس بمنصب القضاء في الماضي ، وهذا الاستعمال استعمال مجازي وذلك لصحة سلب هذه الصفة عنه فنقول لهم «زيد ليس قاضيا وانما كان قاضيا».

ثمّ إن هناك كلمات الاولى النظر فيها في علم الفقه لانّ هذه الابحاث استظهارية محضة ، ككلمة «مثمرة» مثلا فيما ورد عن الامام عليه‌السلام ـ في سؤال من سأله أين يتوضأ الغرباء؟ قال «يتّقي شطوط الانهار والطرق النافذة وتحت الاشجار المثمرة ومواضع اللعن» ، فما هو المراد من «المثمرة» هنا ـ مع غض النظر عن سائر الروايات ـ فهل المراد المثمرة فعلا ام المراد ما من شأنها الاثمار؟ فهنا اجمال من هذه الناحية ، فانه حتى على المعنى الثاني تكون هذه الشجرة متلبّسة فعلا بصفة «مثمرة» بخلاف التي ليس من شأنها الاثمار ، يقال «ازرع شجرا مثمرا».

وهناك بعض ألفاظ تكون قرائنها عادة معها نحو الفاظ عاشوراء وقاتل وزاني ومضروب ومأكول و «الظالمين» في قوله تعالى «لا ينال عهدي الظالمين».

(*) الى هنا انتهى المهم من أبحاث «الحقيقة الشرعية»

و «الصحيح والأعم» و «المشتق» ، والحمد لله رب العالمين.

٢٠٩

(الأمر أو أدوات الطلب)

ينقسم ما يدلّ على الطلب الى قسمين :

أحدهما : ما يدلّ بلا عناية ، كمادّة الامر وصيغته ،

والآخر : ما يدلّ بالعناية ، كالجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب ، فيقع الكلام في القسمين تباعا :

القسم الاول

الطلب هو السعي نحو المقصود ، فان كان سعيا مباشرا كالعطشان الذي يتحرّك نحو الماء فهو طلب تكويني ، وإن كان بتحريك الغير وتكليفه فهو طلب تشريعي ، ولا شك في دلالة مادّة الامر (١) على الطلب

__________________

(١) اي أ. م. ر. الواردة في كلمات أمر ، يأمر ... وامّا دلالتها على الطلب بنحو المفهوم الاسمي فلأنّها إن وردت بصيغة الاسم نحو (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره) فدلالتها على المفهوم الاسمي للطلب واضحة لأنّ مفهوم الاسم اسمي كما ان معنى الحرف حرفي ، وإن وردت في صيغة الفعل نحو (إنّ الله يعظكم يأمر بالعدل والإحسن) فبما انّ صيغة الفعل مركّبة من مادّة الفعل وهيئته والمادّة عبارة عن

٢١٠

بمفهومه الاسمي ، ولكن ليس كل طلب ، بل الطلب التشريعي من العالي (١) ، كما لا اشكال في دلالة صيغة الامر (٢) على الطلب ، وذلك لان مفاد الهيئة فيها هو النسبة الإرسالية ، والارسال ينتزع منه مفهوم الطلب ، حيث ان الارسال سعي نحو المقصود من قبل المرسل ، فتكون الهيئة دالة على الطلب بالدلالة التصوّرية تبعا لدلالتها تصوّرا على منشأ انتزاعه (٣) ،

__________________

الاسم المتضمّن في الصيغة فستكون المادّة دالّة لا محالة على مفهوم اسمي.

(١) مراده (قده) من العالي هنا اي مولاه والواجب الطاعة عليه ، وليس من هو أكثر منه جاها او علما او مالا ونحو ذلك ، فانه من ناحية التسلّط ووجوب الطاعة لا سلطة لاحدهما على الآخر ولا علو.

(ثم) انه اضاف في الحلقة الثانية بعد كلمة «بينما الامر لا يصدق إلا على الطلب التشريعي من العالي» قوله «سواء كان مستعليا اي متظاهرا بعلوّه او لا». (أقول) لا اثر للبحث في شمول الطلب التشريعي للامر من المستعلي لانّ كلامنا ناظر الى ما ورد من الشارع المقدّس فقط والشارع المقدّس عال علينا.

(٢) مثل «اقيموا الصلاة» ونحو ذلك من افعال الامر ، فان صيغة الامر فيها تدلّ على الطلب بنحو المعنى الحرفي ، اي على النسبة الطلبية والإرسالية.

(٣) منشأ انتزاع الطلب بمفهومه الاسمي هنا هو الطلب بمفهومه الحرفي اي النسبة الإرسالية ، فاذن هيئة صيغة الطلب تدل على مفهوم الطلب بالمفهوم الاسمي بتوسط دلالتها على الطلب بنحو المعنى الحرفي (*).

__________________

(*) لا داعي لهذا التوسط والانتزاع ، بل يستفاد الطلب من نفس الهيئة مباشرة بمعنى ان نفس صيغة الامر طلب ، والطلب طلب سواء افيد بنحو المعنى الاسمي ام بنحو المعنى الحرفي.

٢١١

كما ان الصيغة نفسها بلحاظ صدورها بداعي تحصيل المقصود تكون مصداقا حقيقيا للطلب (١) ، لانها سعي نحو المقصود.

__________________

(١) بيان المطلب : ان صيغة الامر تدلّ وضعا على الطلب والارسال ، ولذلك تتبادر اذهاننا الى هذا المعنى في مرحلة التصوّر ، ولكن الدواعي لصيغة الامر تختلف فتارة يراد منها التهديد مثل (اعملوا ما شئتم إنّه بما تعملون بصير) ، وتارة التعجيز مثل (فأتوا بسورة مّن مّثله) وتارة التعجب كقوله تعالى (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) وتارة غير ذلك ، ولكن هذه المرادات ليست مصاديق حقيقية للطلب ، وانما هي مصاديق مجازية ، وذلك لانه ليس المراد منها الطلب وانما المراد منها التهديد او التعجيز ونحو ذلك ، فهنا تغايرت مداليلها الجدية عن المدلول التصوّري لهيئة الامر وهو الطلب والارسال كما تنادي الرجل الشجاع ب «يا اسد» مجازا فانت في هذه الحالة استعملت هذه اللفظة في معناها الموضوعة له لكن في مرحلة الجدّية انت تريد افادة تشبيهه بالاسد من حيث الشجاعة ، وهذا هو المجاز المصطلح ، وعلى ايّ حال فلو اريد منها الطلب فستكون ح الصيغة مصداقا حقيقيا للطلب التشريعي الذي له عدّة مصاديق وهو الطلب بالقول والطلب بالكتابة والطلب بالاشارة ، ولكل منها ايضا مصاديق فالاوّل مثلا كالطلب بمادّة الامر والطلب بصيغة الامر والطلب بالجملة الخبرية ، ولكل من هذه المصاديق مصاديق ايضا فالطلب بصيغة الامر مثلا له عدّة انحاء مثل «صل» و «ليصلّ» و «اقم الصلاة» و «اقيموا الصلاة» وقد شرح المطلب أكثر في البحوث ج ٢ ص ٥٠ واصول المظفر ج ١ ص ٦٤ ومنتهى الاصول ج ١ ص ١٢٥ وغيرها ، قال في البحوث «ذكروا لصيغة الامر معان عديدة من الطلب والتعجيز والاستهزاء ونحوها ، والمعروف بين المحققين المتأخرين ان الاختلاف في مورد هذه المعاني بحسب الحقيقة في دواعي الاستعمال لا المعنى المستعمل فيه

٢١٢

وممّا اتفق عليه المحصّلون من الاصوليين تقريبا دلالة الامر مادّة وهيئة على الوجوب بحكم التبادر وبناء العرف العام على كون الطلب الصادر من المولى بلسان الامر مادّة (* ١) او هيئة وجوبا ، وانما اختلفوا في توجيه هذه الدلالة وتفسيرها الى عدّة اقوال :

القول الاوّل : ان ذلك بالوضع (١) ، بمعنى ان لفظ الأمر موضوع

__________________

الامر(* ٢) ، فانه واحد وهو النسبة الإرسالية ، غاية الامر تارة يكون الداعي من وراء اخطار هذه النسبة في ذهن السامع اظهار عجزه وأخرى الاستهزاء به او اختباره او الطلب منه.» انتهى. واوضحه ايضا في الحلقة الثانية بحث «الامر» بشكل جيد فراجع.

 (١) وإلى هذا ذهب المشهور كصاحب الكفاية رحمه‌الله وهو الصحيح ، وبيانه :

ان صيغة الامر حقيقة في الوجوب مجاز في غيره وذلك لانه يتبادر منها معنى الوجوب عند تجرّدها عن القرينة ، ولذلك ترى العقلاء يفهمون هذا المعنى في هذه الحالة.

(فان قلت) لازم هذا القول الاعتراف بمجازية الاستعمال اذا استعملت صيغة الامر في معنى الندب كما في الرواية «كل السفرجل ، فانّه يقوّي القلب

__________________

(* ١) (اقول) لا شك ولا اشكال في كون مادّة الامر موضوعة لمعنى الوجوب وانّ شكّ بعضهم هو شبهة مقابل بديهة ، وانما الكلام في المعنى الموضوعة له هيئة الأمر.

(* ٢) (زيادة توضيح) انّ داعي الاستعمال قد يكون نفس المراد الاستعمالي وقد يغايره ، مثال الاوّل : «هذا كتاب» عند ما تشير الى كتاب ما ، ومثال الثاني قولك لمن يدّعي العلم «يا عالم» ، فهنا المراد الاستعمالي هو نفسى المعنى التصوّري ، لكن لا جدّية في الكلام ، لانّ الداعي الجدّي كان الاستهزاء والسخرية. ولا يمكن ان يستعمل العاقل لفظا لا يريد معناه في مرحلة الاستعمال الّا اذا كان مخطئا في استعماله ، وهذا هو مرادهم من ان الاختلاف لا يكون في المعنى المستعمل فيه وانما يكون في الداعي اليه.

٢١٣

للطلب الناشئ من داع لزومي (١) ، وصيغة الامر موضوعة للنسبة الإرسالية الناشئة من ذلك (٢). ودليل هذا القول هو التبادر مع ابطال سائر المناشئ الاخرى المدّعاة لتفسير هذا التبادر.

__________________

ويشجّع الجبان» مع اننا لا نشعر بالمجازية.

(قلت) اننا نعترف بمجازية هذه الاستعمالات ، والاستعمال الحقيقي ان يقال : يحسن اكل السفرجل ... وانما جيء بصيغة الامر مجازا تأكيدا لحسنه وتشبيها له بالواجب. وانما اعترفنا بالاستحباب هنا لعلمنا بعدم وجوب اكل السفرجل ، وإلّا لبان واشتهر كسائر الواجبات ، فلولا علمنا هذا بعدم الوجوب لقلنا بالوجوب لتبادر معنى الوجوب من صيغة الامر.

(١) افاد في البحوث ص ١٨ بقوله «فانه ممّا اتفق عليه المحصّلون دلالة مادّة الامر على الوجوب بحكم التبادر ، وبناء العرف والعقلاء على كون الطلب الصادر من المولى بمادّة الامر وجوبا ، ولم يستشكل فقيه في استفادة الوجوب من لفظ «امر» ورد في لسان الشرع عند عدم القرينة على الاستحباب» انتهى ، وقد يقال بصحّة الاستدلال ايضا بقوله تعالى (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره) إذ يعني ذلك ان الاستحباب خارج عن الامر تخصصا وموضوعا ، وذلك للاطلاق في لفظة «أمره» من قيد «الواجب».

(٢) اي الناشئة من داع لزومي.

سرّ هذا النشوء وجود تطابق عادة بين المراد في مرحلة الاستعمال وداعي الاستعمال ، بمعنى ان العاقل اذا استعمل لفظا دالا على معنى معيّن فانه يكشف عن ارادته لمعناه جدّا. وامّا كون هذا الداعي لزوميا فللتبادر العرفي في ذلك.

٢١٤

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من ان ذلك بحكم العقل ، بمعنى ان الوجوب ليس مدلولا للدليل اللفظي ، وانما مدلوله (٢) الطلب ، وكل طلب لا يقترن بالترخيص في المخالفة يحكم العقل (٣) بلزوم امتثاله (* ١) ، وبهذا اللحاظ يتصف

__________________

(١) راجع الاجود ج ١ ص ٩٥(* ٢) ، وتبعه على هذا الرأي السيد الخوئى رحمه‌الله ذكر ذلك في محاضرات اصوله وفي مستند صلاته ج ٥ ص ٢٤٠.

(٢) اي وانما مدلول الامر ـ مادة او هيئة ـ هو مطلق الطلب (الاعم من الوجوب).

(٣) ينبغي ان يعلم ان مراد الاصوليين من حكم العقل هو كاشفيته عن حكم المولى ، وإلا فالعقل ليس مولى حتى يحكم ويطاع في احكامه.

__________________

(* ١) ومن هنا نسأل المحقق النائيني رحمه‌الله : ما هو منشأ حكم العقل بالوجوب اي من اين يستكشف العقل الوجوب؟ فان قال منشؤه اللفظ ، فهو المطلوب ، وان انكر منشئية اللفظ للوجوب فلا دليل على الوجوب ح ، ويتعيّن القول بالاستحباب لانّه القدر المتيقّن من درجات المطلوبية واللزوم ينفى بالبراءة ، وهو يؤدّي الى الخروج عن الدين في جميع الواجبات والمحرّمات ما عدا الضروريات.

(* ٢) يظهر لمن يطالع في الاجود ضعف ما افاده المحقق النائيني رحمه‌الله واغلب الظن انّ في التقرير نقصا هامّا وهو ما ذكره تلميذه السيد البجنوردي في منتهى اصوله ج ١ ص ١٢٥ وهو «أن طبع الطلب يقتضي لزوم ايجاد المادّة ، وان المأمور لو لم يوجدها لعدّ عاصيا ، إلّا ان يأذن المولى في الترك ...» ، وبهذا التتميم يصير لكلام المحقق النائيني رحمه‌الله وجه قابل للنظر ، وان كنّا لا نصحّح هذا الوجه ايضا لانّ مرجع هذا الطبع الى حاق اللفظ وظهوره في الوجوب.

٢١٥

بالوجوب ، بينما اذا اقترن بالترخيص المذكور لم يلزم العقل بموافقته ، وبهذا اللحاظ يتصف بالاستحباب.

ويرد عليه :

اولا : ان موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال لا يكفي فيه مجرّد صدور الطلب مع عدم الاقتران بالترخيص ، لوضوح ان المكلّف اذا اطلع (*) بدون صدور ترخيص من قبل المولى على ان طلبه نشأ من ملاك غير لزومي ولا يؤذي المولى فواته لم يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فالوجوب العقلي فرع مرتبة معيّنة في ملاك الطلب ، وهذه المرتبة لا كاشف عنها إلا الدليل اللفظي ، فلا بدّ من فرض اخذها (١) في مدلول اللفظ لكي يتنقّح بذلك موضوع الوجوب العقلي.

وثانيا : ان لازم القول المذكور ان يبنى على عدم الوجوب فيما اذا

__________________

(١) اي فلا بدّ من فرض اخذ هذه المرتبة المعيّنة (اي اللزومية) في معنى اللفظ ، فان كانت ماخوذة فيه دلّ اللفظ على الوجوب وإلّا لم يوجد للعقل طريق لاستكشاف الزامية الملاك حتى يحكم بالوجوب. فان اعترف المحقق النائيني رحمه‌الله بان درجة الالزام ماخوذة في معنى لفظ الامر فهو المطلوب ، والّا لا يستكشف العقل الوجوب ح من الأوامر.

ولك أن تقول : ان الكاشف عن الزامية الملاك والوجوب هو الدليل اللفظي لا غير ، فلولاه لما استكشف العقل درجة اللزوم ، فأي دور للعقل وكيف يستكشف الوجوب من دون اللفظ الدال عليه؟!

__________________

(*) هذا الردّ الاوّل ضعيف لانّ الكلام فيما اذا يعلم المكلف بقصد المولى هل انه على نحو الوجوب ام الاستحباب.

٢١٦

اقترن بالامر عام يدلّ على الاباحة في عنوان يشمل بعمومه مورد الامر (١). توضيح ذلك : انه اذا بنينا على ان اللفظ بنفسه يدلّ على الوجوب فالامر في الحالة التي اشرنا اليها يكون مخصّصا لذلك العام الدّال على الاباحة ومخرجا لمورده عن عمومه لانه اخص منه ، والدّال الاخص يقدّم على الدّال العام كما تقدّم. وامّا اذا بنينا على مسلك المحقق النائيني المذكور فلا تعارض ولو بنحو غير مستقر بين الامر والعام ليقدّم الامر بالاخصيّة ، وذلك لان الامر لا يتكفّل الدلالة على الوجوب بناء على هذا المسلك ، بل المتعين ـ بناء عليه ـ ان يكون العام رافعا لموضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، لان العام ترخيص وارد من الشارع ، وحكم العقل معلق على عدم ورود الترخيص من المولى ، مع ان بناء الفقهاء والارتكاز العرفي على تخصيص العام في مثل ذلك والالتزام بالوجوب (*).

وثالثا : انه قد فرض ان العقل يحكم بلزوم امتثال طلب المولى معلقا على عدم ورود الترخيص من الشارع ، وحينئذ نتساءل : هل يراد بذلك كونه معلقا على عدم اتصال الترخيص بالامر ، او على عدم صدور الترخيص من المولى واقعا ولو بصورة منفصلة عن الامر ، او على عدم احراز الترخيص ويقين المكلّف به؟ والكل لا يمكن الالتزام به.

امّا الاوّل فلأنه يعني ان الامر اذا ورد ولم يتصل به ترخيص تمّ

__________________

(١) مثل العام «لا يجب اطاعة أحد من الناس» والامر الخاص «أطع والديك».

__________________

(*) يمكن للمحقق النائيني رحمه‌الله ان لا يخالف المشهور في هذه المسألة وذلك بان يشترط كون المرخّص ناظرا الى مورد الامر لا الى ما هو أعمّ منه.

٢١٧

بذلك موضوع حكم العقل بلزوم الامتثال ، وهذا يستلزم كون الترخيص المنفصل منافيا لحكم العقل باللزوم فيمتنع [مجيء ترخيص منفصل لئلا يتعارض مع حكم العقل باللزوم](١) ، وهذا اللازم واضح البطلان.

وامّا الثاني فلأنه يستلزم عدم احراز الوجوب عند الشك في [صدور] الترخيص المنفصل واحتمال صدوره (٢) واقعا ، لان الوجوب من نتائج حكم العقل بلزوم الامتثال وهو معلّق بحسب الفرض على عدم صدور الترخيص واقعا ولو منفصلا ، فمع الشك في ذلك يشك في الوجوب.

وامّا الثالث فهو خروج عن محل الكلام ، لان الكلام في الوجوب الواقعي الذي يشترك فيه الجاهل والعالم لا في المنجّزيّة (٣).

__________________

(١) اي فيمتنع مجيء ترخيص شرعي منفصل لئلا يتنافى مع حكم العقل باللزوم ، وهذا اللازم واضح البطلان ، فان بناء جميع الفقهاء على عدم التعارض بين هذا الترخيص المنفصل وبين الامر ، وانما يحمل الامر ح على الاستحباب.

(٢) في النسخة الاصلية بدل صدوره واقعا قال «وروده» وكذلك قال في السطر الثاني «... عدم ورود الترخيص ولو منفصلا ...» وما اثبتناه أوضح. (والاولى) حذف كلمة «المنفصل» بعد قوله «عند الشك في صدور الترخيص».

(٣) اي لان الكلام انما هو في دلالة الامر مادّة وهيئة على الوجوب الجعلي الواقعي ، اي هل تدل آية «اقيموا الصلاة» مثلا على الوجوب الواقعي ، وليس كلامنا في مرحلة المنجّزية(*) التي هي وظيفة عملية لا

__________________

(*) في استعمال هذه الكلمة حزازة لان بين الحكم الظاهري والمنجزية عموم من وجه.

(اضافة) الى امكانية الجواب عن المحقق النائيني بانه في هذه الحالة اقصى ما يمكن

٢١٨

القول الثالث : ان دلالة الامر على الوجوب بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وتقريب ذلك بوجوه :

__________________

أكثر ولا تنظر الى الحكم الواقعي الشامل للعالم والجاهل. وبتعبير آخر : إن قول المحقق النائيني هو بالنحو التالي : إن لم تحرز الترخيص فاعمل بالآخر ، وهو بمثابة قولنا : إن لم تحرز أمارة على الحكم الشرعي فالمنجّز عليك هو الاصل العملي وأنت تعلم انك إن لم تعلم بالحكم رغم البحث فالتكليف ـ كوجوب صلاة الجمعة مثلا ـ ثابت فعلا عليك ـ انت الجاهل بهذا الحكم ـ ولكن وظيفتك الشرعية أنك بريء الذمة ، اي أنّ التكليف الواقعي يشمل العالم والجاهل ولكن الاصل العملي ـ الذي لا يأتي دوره إلا في مرحلة التنجيز والتعذير ـ لا ينظر إلّا الى الجاهل بالحكم الواقعي. والنتيجة انه على قول المحقق النائيني ـ بناء على الاحتمال الثالث ـ يجب اتباع الامر من باب الوظيفة العملية للجاهل ، اي في مرحلة التنجيز والتعذير اي في مرحلة العمل فقط مع عدم علمنا بشمول الوجوب الواقعي لنا لاننا نجهل بارادة الوجوب من الامر.

__________________

ادعاؤه هو البناء على الوجوب الظاهري فقط.

(فيبقى) الردّ الوحيد هو الردّ الاوّل. ولك ان تضيف دليلا آخر عليه وهو دليل نقضي على المحقق النائيني وهو : ان الامر بمادّته وهيئته يدلّ عند المحقق النائيني على مطلق الطلب (الشامل للوجوب والاستحباب) ، فلا يدلّ الامر بذاته على خصوص الوجوب ، فربما كان المراد منه الاستحباب في الواقع حتّى ولو لم نر ترخيصا ، وح لا يحكم العقل بالوجوب لعدم الدليل عليه اثباتا (بل) إن الحكم بالوجوب من غير دالّ يدلّ عليه ينافي قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي يعترف بها نفس المحقق النائيني رحمه‌الله والتي مفادها الترخيص. وعلى ايّ حال فاننا لم نجد للقول الثاني وجها إلّا على القول بمسلك حقّ الطاعة.

٢١٩

ـ احدها (١) : ان الامر يدلّ على ذات الارادة ، وهي تارة شديدة كما في الواجبات ، وأخرى ضعيفة كما في المستحبات ، وحيث ان شدّة الشيء من سنخه بخلاف ضعفه (٢) فتتعيّن بالاطلاق الارادة الشديدة ، لانها بحدّها لا تزيد على الارادة بشيء ، فلا يحتاج حدّها الى بيان زائد على بيان المحدود ، بينما تزيد الارادة الضعيفة بحدّها عن حقيقة الارادة (٣).

فلو كانت هي المعبّر عنها بالأمر لكان اللازم نصب القرينة على حدّها الزائد (٤) ، لان الامر لا يدلّ الا على ذات الارادة.

وقد أجيب (٥) على ذلك بان اختلاف حال الحدّين امر عقلي بالغ

__________________

(١) هذا الوجه للمحقق العراقي رحمه‌الله ، راجع مقالات الاصول ج ١ ص ٦٥ ـ ٦٦ ، وبدائع الافكار ص ٢١٤.

(٢) فانه بما انه يشوبه شيء من غير سنخه ـ وهو هنا الترخيص وعدم الارادة ـ فانه لن يكون قسما حقيقيا للمقسم ، وهنا الامر كذلك ، فبما ان ارادة الاستحباب يشوبها ضعف اي عدم ارادة الالزام فارادة الاستحباب ليست ارادة تامّة ، وبما ان الامر يدلّ على الارادة فهو بالتالي لا يدلّ على الارادة الغير مرادة تماما ، فيتعيّن ارادة الوجوب.

(٣) وهو الترخيص وعدم ارادة الالزام.

(٤) بالترخيص.

(٥) مراده من هذا الجواب ان الاطلاق مجاله عالم الالفاظ ، فقول الآمر «اكرم العالم» يفيد وجوب اكرام جميع اصناف العلماء للاطلاق ، ولكن هذا الاطلاق لا يحدّد حقيقة هذا المطلق وهل انّ المراد منه خصوص المجتهد مثلا او لا ، وهنا الامر كذلك فالاطلاق لا يفيدنا ارادة خصوص معنى الوجوب وانما يفيد مطلق معنى الارادة. فلو قال المولى «صلّ الجمعة» فانّ العرف قد يتردّد بين الوجوب والاستحباب

٢٢٠