دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وقد يقرّب (١) التفرّع في الحجيّة باحد الوجهين التاليين :

الاوّل : ما ذكره السيد الاستاذ (٢) من انّ المدلول الالتزامي مساو دائما للمدلول المطابقي وليس اعمّ منه ، فكلّ ما يوجب إبطال المدلول المطابقي او المعارضة معه يوجب ذلك بشأن المدلول الالتزامي ايضا ، والوجه في المساواة (٣) ـ مع ان ذات اللازم قد يكون اعم من ملزومه ـ ان اللازم الاعم له حصّتان :

احداهما : مقارنة مع الملزوم الاخصّ ، والاخرى : غير مقارنة ، والامارة الدالة مطابقة على ذلك الملزوم انما تدلّ بالالتزام على الحصّة الاولى من اللازم وهي مساوية دائما.

__________________

عدم كون حضورها محرّما فغير متعارضين ، بل هما متفقان على ذلك ، ولذلك يصحّ ان نقول مثلا بعدم حرمة الحضور الى صلاة الجمعة رغم التعارض بين المدلولين المطابقيين للخبرين.

(١) كان الاولى تغيير التعبير وذلك بان يقال مثلا «وقد يقال بعكس ذلك وهو ان نقول بتفرّع الدلالة الالتزامية على المطابقية في الحجية ، ويقرّب ذلك باحد الوجهين التاليين».

(٢) في المصباح ج ٣ ص ٣٦٩ ، وتجد جواب السيد الشهيد عليه في تقريراته ج ٧ ص ٢٦٢.

(٣) اي والوجه في المساواة ـ مع ان ذات اللازم قد يكون اعمّ من ملزومه كطبيعي الموت الذي هو اعم من الموت بخصوص هذا الاحتراق المذكور ـ ان اللازم الاعم له حصّتان : احداهما مقارنة مع الملزوم وهو الموت بخصوص هذا الاحتراق ، والاخرى غير مقارنة وهو الموت بغيره ...

١٤١

ونلاحظ على هذا الوجه ان المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة ، فان كان طرف الملازمة هو الحصّة (١) كانت هي المدلول الالتزامي ، وان كان طرفها الطبيعي وكانت مقارنته للملزوم المحصّصة له من شئون الملازمة وتفرّعاتها كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي (٢).

__________________

(١) كالموت بالاحتراق فانّه لازم اعم بالنسبة الى الاحتراق بالنار وهو مقارن للملزوم (اي الاحتراق بالنار) لأنه وليده ، وقد قال بان الموت بالاحتراق لازم اعم ، لأنه قد يحصل الموت بالاحتراق من هذه النار وقد يحصل من نار غيرها.

(٢) قوله (قده) «وان كان طرفها الطبيعي ...» هو انه ان كان المدلول الالتزامي هو الطبيعي ـ وهو غير مقارن للملزوم ـ ككلّي عدم السواد ، فانه هو لازم القول بصفرة الشيء ، وهو اعمّ من «عدم السواد المقارن لصفرة الشيء» ، وبتعبير آخر : اذا اخبرك ثقة بكون لون الورقة الفلانية اصفر مثلا فهو بالتالي قد اخبرك بعدم سوادها ، ولكن «عدم السواد» هذا هل هو «كلّي عدم السواد» الذي يجتمع مع جميع افراد «عدم السواد» ام انه هو خصوص «عدم السواد المقارن للصفرة»؟ يقول سيدنا المصنف رحمه‌الله : اللازم هنا هو كلّي «عدم السواد» القابل للانطباق على اي فرد من افراد عدم السواد.

وهذه الملازمة بين «الصفرة» وبين «كلّي عدم السواد» لا يجعل «عدم السواد» حصّة خاصّة مقارنه للصفرة ، بل يبقى عدم السواد كليا وإن كان هو لازم الصفرة.

وكلمة «المحصصة» صفة ل «مقارنة» ، اي ان هذه المقارنة جعلت اللازم حصّة خاصّة(*).

__________________

(*) الانصاف انّ الذي ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله هو الصحيح ، وذلك لانّ اخبار الثقة باصفرار

١٤٢

ومثال الاوّل اللازم الأعم المعلول بالنسبة الى احدى علله (*) ، كالموت بالاحتراق بالنسبة الى دخول زيد في النار ، فاذا اخبر مخبر بدخول زيد في النار فالمدلول الالتزامي له [هو] حصّة خاصّة من الموت وهي الموت بالاحتراق (١) ، لان هذا هو طرف الملازمة للدخول في النار.

__________________

(١) والموت بالاحتراق بالنار له علل كثيرة ، فقد يكون قد احترق بالنار

__________________

الورقة مثلا هو السبب لعلمنا التعبّدي مثلا بعدم اسودادها واخضرارها ونحو ذلك ، والمعلول تابع للعلة وظلّ لها فحدودها لا محالة لن تكون بحال اوسع دائرة من حدود علّته وان قد يتخيّل البعض ذلك في بعض الحالات الموهمة لذلك ، فعدم اسوداد الورقة وعدم اخضرارها في الحقيقة ناشئ من اصفرارها ولذلك سيكون اللازم المعلول لاصفرارها هو عدم سوادها اللازم لاصفرارها والناشئ منه ، ولذلك اذا علمت يوما ما انّ هذه البينة قد أخطأت في تشخيص لون الورقة فانك لن تبقى على اعتقادك بعدم سوادها الغير مقارن للصفرة ، وانما سوف ترمي باخبارها مطابقة والتزاما ...

(ثانيا) ان السيد المصنّف رحمه‌الله لم يبرهن على انه قد يكون المدلول الالتزامي هو الطبيعي وهو غير مقارن للملزوم ، ورغم ذلك قال «وان كان طرفها الطبيعي» مع انه لن يكون طرفها إلا الحصّة المقارنة على ما ندّعي.

(وثالثا) لا معنى لقوله «وان كان طرفها الطبيعي كان المدلول الالتزامي ذات الطبيعي» ، فانّ الشرط والجزاء هنا واحد!

والافضل ان نرجع ببساطة وبدون تعقيد الى وجداننا فاننا إن اخبرتنا امارة بصفرة ورقة فانّ مدلولها الالتزامي عند السيد الخوئي والسيد الشهيد وسائر العقلاء حجة وهو عدم اسودادها واخضرارها ونحو ذلك ، فهذه التبعية صحيحة بلا شك ، بمعنى اننا ان علمنا يوما باشتباه هذه الامارة فان مدلولها الالتزامي سوف يسقط كما سيعترف (قدس‌سره) بذلك بعد قليل.

(*) الاولى التعبير هكذا «ومثال الاوّل اللازم المعلول والمقارن للعلّة كالموت بالاحتراق ...».

١٤٣

ومثال الثاني اللازم الاعم بالنسبة الى ملازمه كعدم احد الاضداد بالنسبة الى وجود ضد معين من اضداده ، فاذا اخبر مخبر بصفرة ورقة فالمدلول الالتزامي له عدم سوادها لا حصّة خاصّة من عدم السواد وهي العدم المقارن للصفرة ، لان طرف الملازمة لوجود احد الاضداد ذات عدم ضدّه لا العدم المقيّد بوجود ذاك ، وانما هذا التقيد يحصل بحكم الملازمة نفسها ومن تبعاتها ، لا انه مأخوذ في طرف الملازمة وتطرأ الملازمة عليه.

الثاني : ان الكشفين في الدلالتين قائمان دائما على اساس نكتة واحدة من قبيل نكتة استبعاد خطأ الثقة في ادراكه الحسّي للواقعة ، فاذا اخبر الثقة عن دخول شخص للنار ثبت دخوله واحتراقه وموته بذلك بنكتة استبعاد اشتباهه في رؤية دخول الشخص الى النار ، فاذا علم بعدم دخوله وان المخبر اشتبه في ذلك فسوف (*) يكون افتراض ان الشخص لم يمت اصلا متضمّنا لاشتباه ازيد مما ثبت (١) ، وبذلك يختلف المقام عن خبرين عرضيين عن الحريق من شخصين اذا علم باشتباه احدهما في رؤية

__________________

الفلانية ، وقد يكون قد احترق بغيرها ، ولذلك فالموت بالاحتراق اعم من الموت بالاحتراق بخصوص هذه النار التي أخبر عنها الثقة.

(١) اي اذا اشتبه الثقة في احتراق زيد فانّ لنا ان نقول له : «إنك اشتبهت فزيد اذن لم يحترق ولم يمت بهذا الاحتراق المدّعى» ، وليس لنا ان نقول له «فزيد اذن لم يحترق ولم يمت» إذ ان «عدم الموت» اعم من «عدم الموت بخصوص الاحتراق».

__________________

(*) في النسخة الاصلية بدل «فسوف» قال «فلا» وهو سهو من قلمه الشريف.

١٤٤

الحريق فان ذلك لا يبرّر سقوط الخبر الآخر عن الحجية ، لان افتراض عدم صحّة الخبر [الثاني](١) يتضمّن اشتباها وراء الاشتباه الذي علم.

__________________

(١) عود على بدء : إنّ منشأ هذه المسألة هو انه قد يحصل احيانا تعارض بين مدلولين مطابقيين لامارتين ـ كما ذكرنا في بداية البحث عند بيان مقالة المحقق النائيني ـ مع اتفاقهما في المدلول الالتزامي ، ومع عدم العلم بصدق احدهما لا بنحو التفصيل ولا بنحو الاجمال(* ١) ، ومع فرض عدم امكان الجمع العرفي بين المدلولين المطابقيين ، ففي هذه الحالة اختلف الاصوليون في امكان القول بقول ثالث يخالف هاتين الروايتين المتعارضتين. فاذا دلّ دليل على وجوب شيء وآخر على استحبابه فهل يصحّ الالتزام بحكم ثالث بعد تساقط الدليلين ولو للاصل ، فيحكم مثلا بعدم الحرمة لاصالة عدم الوجوب وعدم الحرمة او لا؟

ذهب المشهور كالمحقق النائيني وصاحب الكفاية الى امكان الالتزام بنفي الثالث وذهب آخرون ـ كالسيد الخوئي والسيد الشهيد وهو الحق ـ الى عدم امكان الالتزام بنفي الثالث بدليل ان نكتة الحجية وملاكها في الاخبار والحكاية انما هو اصالة عدم الكذب والاشتباه ، فاذا سقطت الدلالة المطابقية بظهور خطئها سقطت مداليلها اللازمة لهذا الخبر ، إذ اننا لم نعلم بهذه اللوازم الّا من جهة هذا الخبر والمفروض انه خبر كاذب او خاطئ*٢.

__________________

(* ١) لانه مع العلم التفصيلي بصدق احدهما المعين يؤخذ بخبره دون الآخر ، ومع العلم بصدق احدهما بنحو الاجمال ـ اي احدهما لا على نحو التعيين ـ يجب الاحتياط بينهما مع الامكان وينفى اللازم الذي هو في المثال السابق «حرمة الحضور الى صلاة الجمعة».

(* ٢) في الختام يحسن ان نقول كلمة موجزة وهي اننا حينما نرى ان الدليل على حجيّة خبر

١٤٥

فالصحيح ان الدلالة الالتزامية مرتبطة بالدلالة المطابقية في الحجية (١) ، وامّا الدلالة التضمنيّة فالمعروف بينهم (٢) أنّها غير تابعة للدلالة المطابقية في الحجية.

__________________

(١) قد بيّنا معنى قوله «في الحجية» في شرحنا لمقالة المحقق النائيني ص ١٢٧ شرح (٢) فراجع.

(٢) امّا السيد المصنّف فانّه فصّل في بحوث خارجه (*) بين الدلالة التضمنيّة التحليلية والدلالة التضمنيّة غير التحليلية ولو كانت ارتباطية ـ كما في دلالة العام المجموعي كدلالة لفظة المكتبة على مجموع ما فيها من كتب بنحو الارتباط والمجموع ـ ، ومثال الاولى ما لو شهدت بيّنة

__________________

الثقة هي الادلة اللفظية على ما ذكرنا في رسالتنا المستقلة التي جعلناها آخر بحث حجية الخبر وكان المورد المهم في هذه التعارضات هي الروايات (وفرض كلامنا كما قلنا قبل قليل هو عدم امكان الجمع العرفي بين المدلولين المطابقيين ، ومع غضّ النظر عن الادلة الخاصّة الدّالة على ترجيح احدى الامارتين ببعض الخصوصيات ، ومع عدم القول بحجية احدى الامارتين على نحو التخيير) ، فنقول : انّه ليس في الادلة اللفظية الدّالة على حجية خبر الثقة اطلاق يشمل حالات التعارض لانها في مقام بيان حجية خبر الثقة من حيث الاصل فهي مهملة من ناحية وقوع تعارض بين اخبار الثقات ونفي الحكم الثالث وعدم نفيه ، ولذلك ـ اي لعدم وجود دليل على حجية خبر الثقة في هكذا حالات ـ لا يعود لقوله اي قيمة سواء في مدلوله المطابقي ام مدلوله الالتزامي ، وسواء في مدلوله التصوّري ام التصديقي ، وبما ان الحجية معلولة للعلم بالمدلول التصديقي الثاني فانه مع سقوط الامارتين بكل مداليلهما للمعارضة فسوف تسقط الحجية تلقائيا.

١٤٦

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي :

اذا كان الدليل قطعيا فلا شك في وفائه بدور القطع الطريقي والموضوعي معا لانّه يحقق القطع حقيقة.

وامّا اذا لم يكن الدليل قطعيا وكان حجّة بحكم الشارع فهناك بحثان :

الاوّل : بحث نظري في تصوير قيامه مقام القطع الطريقي (١) مع

__________________

بكون الدار لزيد ، فانّ شهادتها هذه تستلزم بالدلالة التضمنية كون كل حائط فيه هو له ، فاذا تبيّن اشتباه هذه البيّنة ولو لمعارضتها مع بينه (*) راجع بحوث في علم الاصول ج ٧ ، ص ٢٦٥ أخرى فانّ هذه المداليل التضمنية سوف تسقط لا محالة ، ومثال الثانية ما لو شهدت بيّنة بكون المكتبة الفلانية لزيد ، فانه لو تبيّن اشتباهها في بعض الكتب فانّ حجية البينة لا تسقط بلحاظ بقية الكتب ، وذلك كما هو الحال في العموم الاستغراقي ومثاله «جاء جميع علماء البلد» فانه لو تبيّن عدم مجيء بعضهم لما سقط باقي الافراد عن الحجية(*).

(١) بيان ذلك : انه اذا لم يكن الدليل قطعيا وكان حجّة بحكم الشارع كالبينة التي اخبرت مثلا بنجاسة طعام معيّن مع العلم ان «اكل النجاسات حرام» فانّ الفقهاء قد اتفقوا على حرمة اكل هذا الطعام لحجية البينة ، وإلا لم يكن معنى لحجيّتها. ولكن الكلام في كيفية تصوير قيام هذه الامارة ـ البيّنة ـ مقام القطع الطريقي ـ وهو القطع بكون هذا الطعام الفلاني نجسا ـ ، او قل ان موضوع الحرمة هو اكل النجاسات والبيّنة لم تثبت كون هذا الطعام الفلاني نجسا فكيف يتحقّق موضوع الحرمة ، وكيف تسالم جميع الفقهاء على حرمة ما اخبرتنا به البيّنة بكونه نجسا؟!

__________________

(*) (أقول) تفصيل سيدنا المصنف هذا وان كان صحيحا إلّا انّ الثاني يرجع الى باب العموم الاستغراقي من وجه ، والامر سهل لانه يرجع الى عالم الاصطلاحات.

١٤٧

الاتفاق عمليا على قيامه مقامه في المنجزية والمعذّرية.

والثاني : بحث واقعي في ان دليل حجية الامارة هل يستفاد منه قيامها مقام القطع الموضوعي او لا؟

امّا البحث الاوّل ، فقد يستشكل تارة في امكان قيام غير القطع مقام القطع في المنجزية والمعذّرية بدعوى انه على خلاف قاعدة قبح العقاب

__________________

ولا شك انك تعلم ان المراد بالقطع الطريقي هو القطع المنظور اليه كمرآة وطريق الى الواقع مثل المثال السابق ، فانّ الحرام فيه هو اكل ما تعلم انه نجس ، فهذا العلم الذي لم يذكر في المثال السابق هو علم طريقي أي لم يلحظ كموضوع مستقل وله صفة القطع. وقد يذكر العلم في موضوع الحكم ايضا ويكون ماخوذا على نحو الطريقية ايضا نحو ما ورد في القرآن الكريم (وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط ولا الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) بنفس البيان السابق (*).

__________________

(*) ومن هنا تعرف أنّ الاولى ان يعبّر السيد الشهيد رحمه‌الله بدل كلمة «الموضوعي» في البحث الثاني بكلمة «الصفتي» او «بما هو قطع وكاشف تام» ، وذلك لان القطع الموضوعي إمّا ان يكون منظورا اليه بنحو الطريقية وامّا بنحو الصفتية ، فالمقابل للطريقي هو الصفتي لا الموضوعي كما هو واضح ، (وإن كان) تعبيره هذا ليس خطأ وذلك لان القطع الطريقي حتى وان كان ماخوذا في موضوع الحكم ليس ذا قيمة وأثر اضافي ، لان المراد منه ح هو المنجز والمعذر ، فقول الشارع المقدّس مثلا «وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر» مراده من هذا التبيّن والعلم الموضوعي هو بنحو الطريقية اي حتّى يتبين لنا بحجّة منجزة ومعذرة ، فهي تصير بمعنى كلوا واشربوا حتى طلوع الفجر من دون حاجة الى ذكر التبيّن في موضوع جواز الاكل وعدمه.

(وذكر التبين في الآية قد يكون لفائدة تعليم الناس على استصحاب الليل مع الشك ونحو ذلك)

١٤٨

بلا بيان ، ويستشكل أخرى في كيفية صياغة ذلك تشريعا ، وما هو الحكم الذي يحقق ذلك.

امّا الاستشكال الاوّل فجوابه :

اوّلا : اننا ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان رأسا.

وثانيا : انه لو سلّمنا بالقاعدة فهي مختصّة بالاحكام المشكوكة التي لا يعلم بأهميّتها على تقدير ثبوتها (١) ، وامّا المشكوك الذي يعلم بانه ـ

__________________

(١) بيان هذا الجواب : هو انّ قيام البينة مقام القطع الطريقي بكون الطعام المعيّن في المثال السابق متنجّسا ليس على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان وذلك لانّ المراد من البيان في هذه القاعدة هو الحجّة الشرعية ، وإلا فان لم تقم الامارة الحجّة مقام القطع الطريقي ، اي ان لم تكن الامارة الحجّة منجّزة ومعذّرة فما الفائدة اذن من جعلها حجّة؟!

نعم يقتصر في هذه القاعدة على الامور التي لم نعلم باهميتها في نظر الشارع ، وامّا التي نعلم باهميتها كما في موارد النكاح والدماء فالجاري فيها هي قاعدة الاحتياط كما تشير اليها الروايات من قبيل لا تقيّة في الدماء ، والحدود تدرأ بالشبهات ، وان النكاح احرى واحرى ان تحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد ، ولا تجمعوا النكاح عند الشبهة وفرّقوا عند الشبهة ... الخ.

فمراده من كلمة «ثبوتها» في الجملة الاولى هو ثبوت الاحكام المشكوكة في الواقع ، اي على تقدير ثبوتها في الواقع فهي غير معلومة الاهمية ، فهذه الاحكام تجري فيها قاعدة البراءة.

ومثلها كلمة «ثبوته» في الجملة الثانية ، اي على تقدير ثبوت الحكم المشكوك في الواقع ، اي على تقدير كونه واقعيا فهو مهمّ في نظر المولى ، هذا الاهتمام يكشف عن عدم رضا المولى باجراء قاعدة البراءة في

١٤٩

على تقدير ثبوته ـ مما يهتم المولى بحفظه ولا يرضى بتضييعه فليس مشمولا للقاعدة من اوّل الامر ، والخطاب الظاهري ـ أيّ خطاب ظاهري ـ يبرز اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مورده على تقدير ثبوتها ، وبذلك يخرجها عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وامّا الاستشكال الثاني فينشأ من ان الذي ينساق إليه النظر ابتداء ان اقامة الامارة مقام القطع الطريقي في المنجزية والمعذرية تحصل بعملية تنزيل لها منزلته ، من قبيل تنزيل الطواف منزلة الصلاة ، ومن هنا يعترض عليه بانّ التنزيل من الشارع انما يصحّ فيما اذا كان للمنزّل عليه اثر شرعي بيد المولى توسيعه وجعله على المنزّل ، كما في مثال الطواف والصلاة ، وفي المقام القطع الطريقي ليس له اثر شرعي بل عقلي (١) ، وهو حكم

__________________

هذا المورد المهم.

والخطاب الظاهري ـ ايّ خطاب ظاهري سواء كان اعطاء حجية لامارة ما ام كان اصلا عمليا الزاميا ام ترخيصيا ـ انما يبرز مدى اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية ، فان كان مهتما ببعضها فانّه يكثر من التحدّث بها حتّى تكثر فيها الروايات كما ورد ذلك في بابي النكاح والدماء ، وبتعبير السيد الشهيد : والخطاب الظاهري يبرز مدى اهتمام المولى بالتكاليف الواقعية في مورد الخطاب الظاهري على تقدير ثبوت هذه التكاليف الواقعية في الواقع ، وامّا على فرض عدم ثبوتها في الواقع فيكون المولى قد احتاط مثلا ولو بملاك اهمية نفس موضوعي النكاح والدماء.

وبكلمة أخرى نحن انما نعلم باهتمام المولى في بعض الموارد من لسان الآيات والروايات المبرزة لذلك ، فان علمنا الاهتمام لا تجري قاعدة البراءة وإلا تجري.

(١) إذا اراد الله تعالى ان ينزل الطواف منزلة الصلاة فانه يلزم ان يكون

١٥٠

العقل بالمنجّزية والمعذّرية فكيف يمكن التنزيل (١)؟ وقد تخلّص بعض

__________________

للصلاة اثر شرعي فيكون للتنزيل اثر شرعي وهو وجوب التطهر للطواف ، ولكن ليس للقطع الطريقي (وهو المنزل عليه) اثر شرعي وانما له اثر عقلي فقط وهو التنجيز والتعذير ، ولذلك لا يصح تنزيل الامارة منزلته لعدم وجود اثر شرعي لهذا التنزيل.

(١) وتوضيح هذه الفقرة باسلوب آخر : انّه يمكن ـ في بادئ النظر ـ ان نقول بان قيام الامارة(* ١) مقام القطع الطريقي (اي القطع بما هو منجز ومعذّر) يمكن تصويره بأن نقول ان الشارع المقدّس حينما اعتبر الامارة حجّة فانه نزّلها منزلة القطع الطريقي كما نزّل الطواف منزلة الصلاة.

واعترض على هذا الكلام بانّ التنزيل لا يصحّ إلا بلحاظ الاثر الشرعي ، فتنزيل الطواف منزلة الصلاة يصحّ لوجود آثار شرعية تترتب على هذا التنزيل كاشتراط الطهارة من الخبث والحدث وغير ذلك في الطواف ، امّا في تنزيل الامارة مقام القطع الطريقي فاضافة الى عدم وجود دليل ـ اثباتا ـ عليه لا يمكن ذلك ـ ثبوتا ـ لعدم ترتب اثر شرعي على هذا التنزيل. (فان قيل) يترتب على هذا التنزيل التنجيز والتعذير (قلنا) التنجيز والتعذير حكمان عقليان(* ٢) ، اي يحكم باحدهما العقل عند العلم بفعلية حكم عليه

__________________

(* ١) اصل الاستشكال انما هو في امكان قيام الحكم الظاهري ـ دليلا محرزا كان أو اصلا عمليا ـ مقام القطع الطريقي ، ولذلك كان حقّ البحث ان يقسّم الى قيام الامارات مقام القطع الطريقي والقطع الصفتي ، وقيام الاصول مقامها ، ثم تقسيم الاصول الى تنزيلية ومحرزة ومحضة كما فعل غيره كصاحب الكفاية.

(* ٢) أصل هذا الجواب للمحقق النائيني (قدس‌سره) (راجع بحوث في علم الاصول ، ج ٤ ، ص ٧٦ ـ ٧٧)

١٥١

المحققين عن الاعتراض برفض فكرة التنزيل (١) واستبدالها بفكرة جعل الحكم التكليفي على طبق المؤدّى (٢) ، فاذا دلّ الخبر على وجوب السورة حكم الشارع بوجوبها ظاهرا (* ١) ، وبذلك يتنجّز الوجوب ، وهذا هو الذي

__________________

سواء كان هذا الحكم واقعيا ام ظاهريا ، ولذلك لا يكون هناك معنى لجعل المنجزية والمعذّرية من قبل الشارع ، كما انه لا معنى لجعل الحسن والقبح والعدل والظلم ونحوها من الاحكام العقلية من قبل الشارع ، فانه لغو محض ، فانها امور تكوينية لا تحتاج الى جعل واعتبار ، وذلك كما قلنا في النحو الثاني من انحاء الاحكام الوضعية كالجزئية والشرطية ، فانه لا معنى لاعتبارهما او ايجابهما اضافة الى جعل الوجوب ـ مثلا ـ على المركب(* ٢).

(١) إمّا لعدم امكانه ـ في نظرهم ـ ثبوتا ، وإمّا لعدم الدليل عليه اثباتا.

(٢) بعد رفض فكرة تنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي لعدم وجود أثر شرعي لهذا التنزيل استبدلها بعض المحقّقين بفكرة ان المولى تعالى حينما اعطى الحجية للامارة قصد من خلال ذلك انّ الامارة إذا أفادتنا وجوب السورة بعد الفاتحة مثلا فانّ ذلك يعني ان المولى تعالى يجعل حكما ظاهريا بوجوب السورة ، والأثر العملي هنا هو وجوب السورة.

__________________

(* ١) هذا الكلام وان كان ممكنا ثبوتا إلا انه لا دليل عليه اثباتا ، ومثله الكلام في مسلك الطريقية وقد بيّنا ذلك في تعليقتنا على مسألة «الامارات والاصول» السابقة فراجع.

(* ٢) الصحيح ان جميع الاحكام العقلية كالتنجيز والتعذير التي لا ترجع الى حكم العقل بلزوم اطاعة المولى هي أحكام شرعية ارتكازية ، بمعنى أننا لو سألنا الشارع المقدّس عن الحكم الفلاني إذا تمّت شرائطه وعلمنا بتماميّتها هل صار هذا الحكم منجّزا لاجاب بالايجاب ، وعلى هذا فيمكن تنزيل الامارة مقام القطع الطريقي والاثر الذي يترتّب على هذا التنزيل هو التنجيز والتعذير.

١٥٢

يطلق عليه مسلك جعل الحكم المماثل.

وتخلّص المحقّق النائيني بمسلك جعل الطريقية قائلا : إنّ اقامة الامارة مقام القطع الطريقي لا تتمثّل في عملية تنزيل لكي يرد الاعتراض السابق ، بل في اعتبار الظن علما ، كما يعتبر الرجل الشجاع اسدا على طريقة المجاز العقلي ، والمنجّزيّة والمعذرية ثابتتان عقلا للقطع الجامع بين العلم الحقيقي والاعتباري (١).

والصحيح ان قيام الامارة مقام القطع الطريقي في التنجيز واخراج مؤدّاها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ على تقدير القول بها ـ انما هو بابراز اهتمام المولى بالتكليف المشكوك على نحو لا يرضى بتفويته على تقدير ثبوته كما تقدّم (٢). وعليه فالمهم في جعل الخطاب الظاهري ان

__________________

(١) وبتعبير آخر : إنّ المولى تعالى حينما اخبرنا ان خبر الثقة حجة انما اعتبر من وراء ذلك أنّ خبر الثقة هو بنفسه علم ، وح لا داعي لئن ننزّل العلم منزلة العلم.

(ملاحظة) في النسخة الاصلية قال آخر الفقرة : بين الوجود الحقيقي والاعتباري ، ومراده من الوجود هو العلم ، فاثبتنا مراده تسهيلا للطالب.

(٢) وذكر نفس هذا الكلام في بحوثه ج ٤ ، ص ٨٢. وعلى ايّ حال فمثال هذا الكلام انه قد ورد في من شك بين الثلاث والاربع انه «قال فاضاف اليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ...» وهذه الرواية الصحيحة يفهم منها انّ الامام عليه‌السلام استدلّ بقاعدة الاستصحاب لاثبات وجوب صلاة الاحتياط ، وهذا يقتضي البناء على الاقلّ والاتيان بركعة موصولة (اي من غير تشهّد ولا تسليم بعد الركعات الثلاث المحرزة) ، ولكنّ الامام عليه‌السلام لاهتمامه بهذا الحكم قال في بعض الروايات الصحيحة «ان

١٥٣

يكون مبرزا لهذا الاهتمام من المولى ، لانّ هذا هو جوهر المسألة ، وامّا لسان هذا الابراز وصياغته وكون ذلك بصيغة تنزيل الظن منزلة العلم او جعل الحكم المماثل للمؤدّى او جعل الطريقية فلا دخل لذلك في الملاك الحقيقي ، وانما هو مسألة تعبير فحسب ، وكل التعبيرات صحيحة ما دامت وافية بابراز الاهتمام المولوي المذكور ، لانّ هذا هو المنجّز في

__________________

كنت لا تدري ثلاثا صلّيت ام اربعا ولم يذهب وهمك الى شي فسلّم ثم صلّ ركعتين وانت جالس ...» فامرنا بالتسليم وفي بعضها «فيتشهّد ويسلّم» ، فانّ اهتمام الامام عليه‌السلام بهذا الحكم وعدم رضاه باجراء الاصول العملية لحذف التشهّد والتسليم جعله يورد بعض الامارات المنبّهة على لزوم الاتيان بالتشهد والتسليم.

(اذن) ليس لك ان تقول «انه لا يجب عليّ الاتيان بالتشهّد والتسليم ، ولا استحقّ على تركهما العقاب لانه يقبح العقاب بلا بيان والامارة ليست بيانا» ، وذلك لأنّ العقل انما يحكم بقبح العقاب عند عدم البيان من الاصل ، وابراز الاهتمام من الشارع المقدّس هو نفسه بيان.

(وبتعبير آخر) ان المجعول في الاحكام الظاهرية ـ ادلّة محرزة كانت ام اصول عملية ـ انما هو التنجيز والتعذير ، ولهذا فالامارات تقوم مقام القطع الطريقي فقط لانّ الدليل على حجيتها هي السيرة العقلائية ـ وليست الادلة اللفظية ـ ولا يستفاد من السيرة العقلائية على حجية الامارات أكثر من قيامها مقام القطع الطريقي(*). (راجع البحوث ج ٤ ص ٨٤).

__________________

(*) ما ذكره السيد الشهيد (قدس‌سره) هنا هو عين الصواب الّا انا قد ذكرنا في رسالتنا في حجية خبر الثقة ادلة لفظية دالة على حجيّته ، نعم هي في مقام افادة اصل حجية خبره وفي مقام الاهمال من ناحية قيامه مقام القطع الصفتي او لا ، فنرجع بالنتيجة الى ما ذكره السيد المصنف هنا.

١٥٤

الحقيقة.

وامّا البحث الثاني فان كان القطع ماخوذا موضوعا لحكم شرعي بوصفه منجزا ومعذّرا فلا شك في قيام الامارة المعتبرة شرعا مقامه ، لانّها تكتسب من دليل الحجية صفة المنجزية والمعذّرية فتكون فردا من الموضوع ، ويعتبر دليل الحجية في هذه الحالة واردا (١) على دليل ذلك الحكم الشرعي المرتب على القطع ، لانه يحقق مصداقا حقيقيا لموضوعه.

وامّا اذا كان القطع مأخوذا بما هو كاشف تام (٢) فلا يكفي مجرد اكتساب الامارة صفة المنجزية والمعذرية من دليل الحجية لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا بد من عناية اضافية في دليل حجية الامارة.

وقد التزم المحقق النائيني قدس سرّه بوجود هذه العناية بناء على ما تبنّاه

__________________

(١) لانّ دليل حجية الامارة يعطي الامارة صفة المنجزية والمعذّرية ـ عند السيد الشهيد ـ ، فاذا كان معنى القطع الموضوعي ماخوذا على هذا النحو حقّقت الامارة الحجّة فردا حقيقيا من موضوع الدليل المورود.

فالتبيّن الماخوذ في موضوع حرمة الاكل في شهر رمضان مأخوذ على نحو الطريقية ، اي إن تبين لك طلوع الفجر ـ ولو باخبار ثقة ـ فلا تأكل ، فدليل حجية خبر الثقة ـ بورود هكذا خبر ـ قد حقّق لنا موضوع الحكم بحرمة الاكل.

(٢) فلو فهمنا من القطع الموضوعي معنى العلم الواقعي الحقيقي التكويني فلا تقوم الامارة ـ بما هي منجّزة ومعذّرة ـ مقامه ، نعم إذا فهمنا من الامارة معنى العلم التعبدي ـ كما هو مسلك النائيني ـ فتقوم ح مقام القطع الموضوعي الصفتي اي بما هو كاشف تام.

١٥٥

من مسلك جعل الطريقية ، فهو يقول : إنّ مفاد دليل الحجية جعل الامارة علما ، وبهذا يكون حاكما على دليل الحكم الشرعي المرتب على القطع ، لانه يوجد فردا جعليا وتعبديا لموضوعه فيسري حكمه إليه (١).

غير انك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة ان الدليل الحاكم انما يكون حاكما اذا كان ناظرا الى الدليل المحكوم ، ودليل الحجية لم يثبت كونه ناظرا الى احكام القطع الموضوعي ، وانما المعلوم فيه نظره الى تنجيز الاحكام الواقعية المشكوكة خاصّة اذا كان دليل الحجية للامارة هو السيرة العقلائية (٢) ، إذ لا انتشار للقطع الموضوعي (٣)

__________________

(١) وعليه فحينما يوجد دليل نقلي يقول إذا علمت بخمرية مائع فاجتنبه ، فأنت حينما سمعت من امارة حجة ان هذا المائع خمر ستكون عالما بنظر المولى تعالى ، وسيعتبر الله تعالى انه قد تحقّق موضوع «إذا علمت بخمرية مائع فاجتنبه».

(٢) اشارة الى وجود دليل آخر عند المحقق النائيني (قده) على صحّة مسلك الطريقية كمقبولة عمر بن حنظلة ومعتبرة ابي خديجة اللتين تعتبران الفقيه ـ رغم ان أكثر فتاواه تعتمد على الامارات ـ عالما عارفا.

وعلى أيّ حال فاذا كان الدليل على حجية الامارة هي السيرة العقلائية الممضاة فانّ العقلاء لا يعتبرون الامارة إلا منجّزا ومعذّرا فقط ، ولذلك لن تقوم الامارة مقام القطع الموضوعي الصفتي.

(٣) اي بما هو قطع وكاشف تام.

ومراده (قده) ان دليل حجية الامارة هو السيرة العقلائية على ما ذكر ذلك في بحوثه ج ٤ ، ص ٨٠ عند ما قال «ان مهم دليل الحجيّة عندنا هو السيرة العقلائية ، فانّ اهم الامارات في الشبهات الحكمية الظهور وخبر الثقة ، ومن الواضح ان مهم الدليل على حجيتهما السيرة العقلائية ، وامّا الادلة

١٥٦

في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجية الامارة ناظرة الى القطعين الموضوعي والطريقي معا (١).

__________________

اللفظية الواردة في هذا المجال فكلها مسوقة مساق الامضاء لما عليه السيرة ، فمنهج البحث ينبغي ان يكون بمراجعة السيرة وتحديد مفادها لنرى هل انّ العقلاء بناؤهم قد انعقد على اقامة الامارة مقام القطع الطريقي فقط ام مقامه ومقام القطع الموضوعي الصفتي ايضا؟» ، وبما انه لا انتشار للقطع الموضوعي ـ بما هو كاشف تام وله صفة القطع ـ في حياة العقلاء كي يقال بنظرهم الى هذا القطع الصفتي ايضا ، فلا يبقى عندنا دليل على قيام الامارة مقام هذا القطع(*).

(١) وبتعبير آخر : يقول السيد الشهيد : أيّها المحقق النائيني أثبت لنا أوّلا وجود قطع موضوعي صفتي منتشر بين العقلاء ، ثانيا أثبت لنا ان العقلاء يعتبرون الامارة بمثابة القطع الموضوعي الصفتي ، وثالثا أثبت لنا إمضاء الشارع المقدّس لهذا البناء العقلائي. (والحقيقة) انّ المحقق النائيني لن يجد دليلا على أيّ من هذه الاشكالات الثلاثة.

__________________

(*) ذكرنا في تعليقتنا في الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في الركن الاوّل من أركان الاستصحاب من الجزء الرابع ان كلّ ما ورد في شريعتنا الغرّاء من لفظة «علم» ونحوها ومشتقاتها المراد منها الطريقي وذكرنا الدليل على ذلك فراجع. وعليه فلا يبقى فائدة عندنا من البحث في قيام الامارة مقام القطع الصفتي. وامّا بناء على وجود هكذا قطع في الشريعة المقدّسة فلا يقوم الخبر مقامه اذ ان أدلة حجيّة الخبر مهملة من هذه الناحية (اي ليست في مقام بيان ان الخبر يقوم مقام القطع الصفتي ام لا) ولا دليل آخر لدينا ، وكذلك لا يقوم الظهور مقامه لان دليل حجية الظهور هو السيرة الممضاة ، وكما قال السيد الشهيد ان القطع الصفتي ليس منتشرا في حياة العقلاء لكي نعلم هل انهم يقيمون الظهور مقام القطع الصفتي ام لا ، فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو قيام الظهور مقام القطع الطريقي فقط.

١٥٧

اثبات الامارة لجواز الاسناد :

يحرم اسناد ما لم يصدر من الشارع اليه لانه كذب ، ويحرم ايضا اسناد ما لا يعلم صدوره منه اليه وان كان صادرا في الواقع (١) ، وهذا يعني ان القطع بصدور الحكم من الشارع طريق لنفي موضوع الحرمة الاولى فهو قطع طريقي ، وموضوع لنفي الحرمة الثانية (٢) ، فهو من هذه الناحية قطع موضوعي.

وعليه فاذا كان الدليل قطعيا انتفت كلتا الحرمتين لحصول القطع ، وهو طريق الى احد النفيين وموضوع للآخر (٣). واذا لم يكن الدليل قطعيا وانما كان امارة معتبرة شرعا فلا ريب في جواز اسناد نفس الحكم الظاهري (٤) الى الشارع لانه مقطوع به ، وامّا اسناد المؤدّى (٥) فالحرمة

__________________

(١) اي واسناد ما لا يعلم صدوره من الشارع حرام أيضا ، وان كان صادرا في الواقع ، ويسمّون هذا كذبا أيضا ، لانّه كذب بحسب اعتقاد هذا المسند المتجرّئ على الله ورسوله. وبما ان العلم مأخوذ في موضوع هذه القضيّة فهو قطع موضوعي كما هو واضح.

(٢) يتّضح ذلك من خلال مفهوم القضيّة الثانية والذي هو اذا قطعت بصدوره لا يحرم اسناده ، فقطعك بوجوب الصلاة موضوع لنفي حرمة الاسناد.

(٣) اي طريق الى نفي الحرمة في القضية الاولى ، وذلك لان القطع فيها طريقي ، ولذلك ان حصل عنده قطع فقد تحقّق القطع الطريقي في القضية الاولى وجاز الاسناد ، وهذا القطع يكون موضوعا لجواز الاسناد في القضية الثانية.

(٤) وهو حجية خبر الثقة وحجية الظهور وحجية عمل المسلم ونحوها.

(٥) اي انه اذا جاءتنا امارة حجة بوجوب الحضور لصلاة الجمعة ـ مثلا ـ

١٥٨

الاولى تنتفي بدليل حجية الامارة ، لانّ القطع بالنسبة اليها طريقي (١) ، ولا شك في قيام الامارة مقام القطع الطريقي ، غير ان انتفاء الحرمة الاولى كذلك مرتبط بحجية مثبتات الامارات (٢) ، لان موضوع هذه الحرمة عنوان الكذب وهو مخالفة الخبر للواقع ، وانتفاء هذه المخالفة (٣) مدلول التزامي للامارة الدالة على ثبوت الحكم ، لان كل ما يدل على شيء مطابقة يدل التزاما على ان الاخبار عنه ليس كذبا.

وامّا الحرمة الثانية فموضوعها وهو عدم العلم ثابت وجدانا ، فانتفاؤها يتوقّف امّا على استفادة قيام الامارة مقام القطع الموضوعي (٤)

__________________

فانّ لنا ان نسند المؤدّى الى الشارع ، وذلك بان نقول ان الشارع المقدّس يوجب الحضور اليها.

وبتعبير آخر : إنّ معنى القضية الاولى أن «كل ما لم يصدر من الشارع المقدّس» «فاسناده اليه حرام» إذن فالكذب اسناده حرام وخبر الثقة اسناده جائز.

(١) اي لانّ القطع بالنسبة الى القضية الاولى ـ وهي يحرم اسناد ما لم يصدر من الشارع اليه لانه كذب ـ طريقي لانّ معنى هذه القضية : يحرم اسناد ما لم يصدر من الشارع اليه الّا بحجّة ترفع عنوان الكذب ، وهذه الامارة الفلانية حجّة ، فاذن يجوز الاسناد.

(٢) قد علمت في الابحاث السابقة ان مثبتات الامارات حجة دون مثبتات الاصول العملية ، فان كانت الامارة حجّة فمدلولها الالتزامي انها ليست بكذب ، فاذا آمنّا بحجيّة مثبتات الامارات فسوف ينتفي عنوان الكذب فلا يحرم ح اسناد مؤدّاها الى الشارع المقدّس.

(٣) اي عدم كونها كذبا مدلول التزامي للامارة الحجّة.

(٤) المأخوذ بنحو الصفتية اي بما هو علم وكاشف تام.

١٥٩

من دليل حجيتها ، او على اثبات مخصص لما دلّ على عدم جواز الاسناد بلا علم ـ من اجماع او سيرة ـ يخرج موارد قيام الحجّة الشرعية [من موضوع الحرمة الثانية](*).

طريقة ابطال الدليل :

كل نوع من انواع الدليل حتّى لو كان قطعيا يمكن للشارع التدخل في ابطال حجيّته ، وذلك عن طريق تحويله من الطريقية الى الموضوعية (١) بأن يأخذ عدم قيام دليل خاص على الجعل الشرعي في

__________________

(١) لا شك في حجية القطع عند السيد المصنف وغيره ، فاذا قطعنا بوجوب حضور صلاة الجمعة كان هذا القطع منجّزا علينا ، بل لا يمكن ابطال حجيته حتّى ولو كان منشأ القطع رواية ضعيفة السند. (ولكن) يمكن للشارع ابطال حجيته بطريقة وهي بأن يقول مثلا اذا قطعت بحكم ولم يكن قطعك هذا ناشئا من العقل او من رواية ضعيفة فاعمل بقطعك ، ففي هذه الحالة تبطل حجية قطعنا السابق بوجوب حضور صلاة الجمعة لانه ناشئ من رواية ضعيفة او من استكشاف العقل مثلا فلا يصير «وجوب الحضور» فعليا حتّى نعلم بشرط الحكم ـ وهو في الفرض آية او امارة حجّة ـ ، وذلك لانّ منشأ القطع هناك لم يكن هذا الدليل الخاص

__________________

(*) والنتيجة انه بناء على القضيّة الاولى إذا وردك امارة حجّة تفيد وجوب الحضور الى صلاة الجمعة فلك ان تقول ان الحضور واجب ، وبالتالي فقد اسندت الوجوب الى الشارع المقدّس ، وأمّا بناء على القضية الثانية فلا يجوز لك ان تسند هذا الوجوب الى الشارع لانه لم يحصل لك علم من خلال هذه الامارة ، الّا اذا قلنا بمسلك الطريقية واعتبار الامارة علما وقيامها مقام العلم ، او قلنا بوجود مخصص لهذه الحرمة يفيد جواز الاسناد اعتمادا على الامارة.

١٦٠