دروس في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

__________________

حرّا طليقا من التكاليف. وان الصحيح هو ما عليه مشهور العلماء من اصالة قبح العقاب بلا بيان. هذا ، وقد ذكر احد الافاضل المعاصرين تأييدا لنظرية حق الطاعة وجهين :

الاوّل : بان الانسان وكل ما في الكون ملك لله تعالى بالملكية الحقيقية ، فاليد ملك له تعالى ، والعين ملك له ، والشفة ملك له ، والتتن وو ... والعقل يحكم بعدم جواز التصرّف في ملك الغير إلا مع احراز رضاه ، والشفة والتتن حيث انهما ملك لله تعالى فلا يجوز استخدامهما بوضع السيجارة على الشفة الّا مع اليقين برضاه.

والثاني : لو انّ شخصا قدّم لغيره مساعدات كبيرة بان اهدى له دارا او سيارة وزوّجه وقرّر له راتبا شهريا وو ... فاذا احتمل المهدى له ان المهدي يريد حاجة معيّنة كدواء او طعام او او ... فهلّا يحرّكه العقل والعقلاء لتنجيز تلك الحاجة المعيّنة التي لا تتجاوز حدّ الاحتمال؟!

نعم إنّ هذا الاحتمال يكفي في مثل هذه الحالة المذكورة ، واذا قبلنا تنجيز الاحتمال في الحالة المذكورة فكيف به تعالى الذي انعم علينا بنعم لا تعدّ ولا تحصى ، كيف لا يكون احتمال تحريمه او ايجابه لشيء منجّزا؟!

إن هذا البيانين يمكن الاستعانة بهما لتوضيح سعة حقّ الطاعة لموارد احتمال التكليف. (انتهى كلامه زيد في علو مقامه)

(أقول) لقد ذكرنا في مسألة «مسلك حقّ الطاعة» من الجزء الثالث دليلنا على صحّة نظرية قبح العقاب بلا بيان ببيان لا مزيد عليه فلا نعيد ، وهنا نقول ـ بناء على ما ذكرناه هناك ـ كردّ على الوجه الاوّل ان ملكية الله سبحانه وتعالى لنا ولما نملكه هي وان كانت بالملك الحقيقي ولكنها لا تنافي ما ذكرناه بوجه ، إذ ايّ منافات بين كوننا مملوكين بالملك الحقيقي لله تعالى وبين الاطلاق المقامي المذكور؟! فراجع.

وامّا بالنسبة الى الوجه الثاني فانه يوجب حسن تنجيز المحتملات وشدّة استحبابه ، إذ انّ شكر المنعم حسن بلا شكّ ، وخاصّة شكر الله تبارك وتعالى ، أمّا اثبات وجوب تنجيز المحتملات فهذا اوّل الكلام.

وانّما ذكرنا التعليقة الاساسية هناك لانّ المحلّ المناسب لابحاث القطع ـ سواء منها

١٠١

وثانيا : انّ هذه المنجّزية مشروطة بعدم صدور ترخيص جادّ من قبل المولى في المخالفة.

وثالثا : انّ صدور مثل هذا الترخيص معقول في موارد الانكشاف غير القطعي ، ومستحيل في موارد الانكشاف القطعي. ومن هنا يقال : انّ القطع لا يعقل سلب المنجّزية عنه بخلاف غيره من الانكشافات (١).

هذا هو التصور الصحيح لحجيّة القطع ومنجّزيته ولعدم امكان سلب هذه المنجّزية عنه.

غير انّ المشهور لهم تصوّر مختلف ، فبالنسبة الى اصل المنجّزية ادّعوا انّها من لوازم القطع بما هو قطع ، ومن هنا آمنوا بانتفائها عند انتفائه ،

__________________

(١) في النسخة الاصلية «المنجزات» ، وهي على مسلك حقّ الطاعة الانكشافات ، فاثبتنا المعنى المراد.

__________________

مسألة مدى سعة دائرة حقّ مولويّة المولى او مسألة العلم الاجمالي او مسألة التجرّي ـ هو في اوائل ابحاث الاصول العملية ، إذ تفهرس المطالب هناك بان المكلّف إمّا ان يصير عنده قطع بالحكم او بالموضوع او لا ، وعلى الثاني إمّا ان يكون لديه طريق شرعي كالامارات او لا وهي مورد الاصول العملية ، فيبحث هناك الفرق بين الامارات والاصول ومسائل «التنافي بين الاحكام الظاهرية» و «وظيفة الاحكام الظاهرية» و «التصويب بالنسبة الى بعض الاحكام الظاهرية» ... ولذلك ترى سائر علمائنا (رضوان الله عليهم) ذكروا هذه المسائل هناك ، فلم تتشتّت هذه الابحاث ... ومن لوازم ما وقع فيه سيدنا الشهيد (قدس‌سره) هو اعادة بحث مسألة حقّ الطاعة مرّة ثانية هناك ، وتمزيق بحث العلم الاجمالي ، وغير ذلك مما يعرفه اهل الخبرة ، والامر في قضيّة الفهرسة سهل فلا نطيل.

١٠٢

وبما اسموه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١) ، وبالنسبة الى عدم إمكان سلب المنجّزيّة وردع المولى عن العمل بالقطع برهنوا على استحالة ذلك بانّ المكلّف اذا قطع بالتكليف حكم العقل بقبح معصيته ، فلو رخّص المولى فيه لكان ترخيصا في المعصية القبيحة عقلا ، والترخيص في القبيح محال ومناف لحكم العقل.

امّا تصوّرهم بالنسبة الى المنجّزية فجوابه انّ هذه المنجّزية انّما تثبت في موارد القطع بتكليف المولى ، لا القطع بالتكليف من أيّ احد ، وهذا يفترض مولى في الرّتبة السابقة. والمولوية معناها حقّ الطاعة وتنجزها على المكلّف فلا بدّ من تحديد دائرة حقّ الطاعة المقوّم (٢) لمولوية المولى في الرّتبة السابقة ، وهل يختصّ بالتكاليف المعلومة او يعمّ غيرها؟

واما تصوّرهم بالنسبة الى عدم امكان الرّدع (٣) ، فجوابه انّ مناقضة الترخيص لحكم العقل وكونه ترخيصا في القبيح فرع ان يكون حق الطاعة غير متوقف على عدم ورود الترخيص من قبل المولى ، وهو متوقّف حتما (٤) ، لوضوح انّ من يرخّص بصورة جادّة في مخالفة تكليف

__________________

(١) فلو وجب على الناس الاحتياط في أداء التكاليف المحتملة لوقع الناس في هرج ومرج ووسوسة.

(٢) أو قل الذي يحدّد مدى حدود مولوية المولى علينا.

(٣) أي بالنسبة الى امكان الترخيص بالتكليف المقطوع به ، ولو عبّر بالترخيص بدل الردع لكان اولى.

(٤) بيان مراد السيد المصنّف رحمه‌الله مختصرا : ان مناقضة الترخيص ـ سواء كان واقعيا ام ظاهريا ـ لحكم العقل بوجوب الالتزام بالتكليف الواقعي و

١٠٣

لا يمكن ان يطالب بحقّ الطّاعة فيه. فجوهر البحث إذن يجب ان ينصبّ على انّه هل يمكن صدور هذا الترخيص بنحو يكون جادّا ومنسجما مع التكاليف الواقعية او لا؟ وقد عرفت انّه غير ممكن (١).

وكما انّ منجّزية القطع لا يمكن سلبها عنه كذلك معذريّته ، لانّ سلب المعذّريّة عن القطع بالاباحة امّا ان يكون بجعل تكليف حقيقي ، او بجعل تكليف طريقي [ظاهري] ، والاوّل مستحيل للتنافي (٢) بينه وبين الاباحة المقطوعة ، والثاني مستحيل لانّ التكليف الطريقي ليس إلّا وسيلة لتنجيز التكليف الواقعي كما تقدّم. والمكلّف القاطع بالاباحة لا يحتمل تكليفا واقعيا في مورد قطعه لكي يتنجّز ، فلا يرى للتكليف الطريقي اثرا (٣).

__________________

كونه ترخيصا في القبيح فرع بقاء حقّ الطاعة ثابتا وشاملا للحكم التكليفي ، ولكن الحكم التكليفي لا يبقى مع ورود الترخيص ، فلا حكم تكليفي اذن مع ورود الترخيص ، فلا مناقضة ، فلا ترخيص بالمعصية.

وقد ذكر السيد المصنّف عين هذا الكلام في هذا الدرس لكن باسلوب واضح عند ما قال «إذ من الواضح انّه ليس لشخص حقّ الطاعة لتكليفه والادانة بمخالفته اذا كان هو نفسه قد رخص بصورة جادّة في مخالفته».

(١) سواء أكان الترخيص ظاهريا ام واقعيا ، لما بيّنه (قدس‌سره) قبل قليل

(٢) امّا واقعا وامّا في نظر القاطع على الاقلّ

(٣) بالنسبة اليه لانه يرى انّه غير مقصود جدّا

١٠٤

(العلم الاجمالي)

كما يكون القطع التفصيلي حجّة كذلك القطع الاجمالي وهو ما يسمّى عادة بالعلم الاجمالي ، كما اذا علم اجمالا بوجوب الظهر او الجمعة. ومنجّزيّة هذا العلم الاجمالي لها مرحلتان :

الاولى : مرحلة المنع عن المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين في المثال المذكور.

والثانية : مرحلة المنع حتّى عن المخالفة الاحتمالية المساوق لايجاب الموافقة القطعية ، وذلك بالجمع بين الصلاتين.

امّا المرحلة الاولى فالكلام فيها يقع في امرين :

احدهما : في حجية العلم الاجمالي بمقدار المنع عن المخالفة القطعية.

والآخر : في امكان ردع (١) الشارع عن ذلك وعدمه.

__________________

(١) الشامل للترخيص ، بمعنى : هل يمكن للشارع المقدس في هذه الحالة ان يقول لنا «اترك كلتا الصلاتين» او «لك ان تتركهما»؟

(ملاحظة) : المراد من احدهما هو على المستوى العقلي ، والمراد من الآخر على المستوى النقلي ، اي هل ان العقل يمنع من ترك كلتا الصلاتين أم لا؟ وهل يمكن للشرع ان يرخّص في ترك كلا الطرفين مراعاة للمباح؟

١٠٥

امّا الامر الاوّل فلا شكّ في انّ العلم الاجمالي حجّة بذلك المقدار ، لانّه مهما تصوّرناه فهو مشتمل حتما على علم تفصيلي بالجامع بين التكليفين ، فيكون (١) مدخلا لهذا الجامع في دائرة حقّ الطاعة. امّا على رأينا في سعة هذه الدائرة فواضح ، وامّا على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلأنّ العلم الاجمالي يستبطن انكشافا تفصيليا تامّا للجامع بين التكليفين ، فيخرج هذا الجامع عن دائرة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وامّا الامر الثاني (٢) فقد ذكر المشهور انّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي [بتركهما معا] غير معقول ، لانّها معصية قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل ، ويكون ترخيصا في القبيح وهو محال.

وهذا البيان غير متّجه (٣) ، لاننا عرفنا سابقا ان مردّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال الى حكمه بحق الطاعة للمولى ، وهذا حكم

__________________

(١) اي فيكون هذا العلم مدخلا ..

(٢) اي على مستوى إمكان الترخيص الشرعي في ترك كلتا الصلاتين.

(٣) مورد كلام المشهور يغاير مورد كلام السيد الشهيد وانّ كليهما لصحيحان. امّا مورد كلام المشهور فهو انّه يستحيل ان يأتي ترخيص في تكليف معيّن ويبقى حقّ الطاعة ثابتا في هذا التكليف ، وذلك لان هذا الترخيص إن كان واقعيا فسنقع في التناقض في الاحكام الواقعية ، وان كان ظاهريا فلأنّ القاطع لن يتأثّر به لانّه يرى نفسه عالما والحكم الظاهري شرطه الشك. اما مورد كلام السيد الشهيد رحمه‌الله فهو انّ الترخيص ممكن لكنه مشروط بان يرفع المولى حقّ الطاعة في مورد الترخيص لئلّا نقع في التناقض او اللغوية ، كما اسلفنا قبل بضعة اسطر.

١٠٦

معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة. فاذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي ، فلا تكون المخالفة القطعية قبيحة عقلا. وعلى هذا فالبحث ينبغي ان ينصبّ على انّه : هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحو يتلائم مع ثبوت الاحكام الواقعية؟

والجواب انّه معقول ، لانّ الجامع وان كان معلوما ، ولكن اذا افترضنا ان الملاكات الاقتضائية للاباحة كانت بدرجة من الاهميّة (١) تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتى في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال ، فمن المعقول ان يصدر من المولى هذا الترخيص ، ويكون ترخيصا ظاهريا بروحه وجوهره ، لانّه ليس حكما حقيقيا ناشئا من مبادئ في متعلقه ، بل خطابا طريقيا من اجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للاباحة الواقعية. وعلى هذا الاساس لا يحصل تناف بين الترخيص وبين التكليف [الالزامي] المعلوم بالاجمال ، إذ ليس للترخيص مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الاحكام الواقعية ليكون منافيا للتكليف المعلوم بالاجمال.

فان قيل ما الفرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي؟ اذ تقدّم انّ الترخيص الطريقي في مخالفة التكليف المعلوم تفصيلا مستحيل ، وليس العلم الاجمالي إلّا علما تفصيليا بالجامع.

__________________

(١) كما اذا غلب عدد الاحكام الترخيصية على عدد الاحكام الالزامية كثرة رأى من خلالها الشارع انّ تشريع البراءة فيها للتسهيل على الناس اهم من تشريع الاحتياط حفاظا على بعض ملاكات الاحكام الالزامية.

١٠٧

كان الجواب على ذلك انّ العالم بالتكليف بالعلم التفصيلي لا يرى التزامه بعلمه مفوّتا للملاكات الاقتضائية للاباحة ، لانّه قاطع بعدمها (١) في مورد علمه ، والترخيص الطريقي انّما ينشأ من اجل الحفاظ على تلك الملاكات ، وهذا يعني انّه يرى عدم توجّه ذلك الترخيص اليه جدّا ، وهذا خلافا للقاطع في موارد العلم الاجمالي ، فانّه يرى ان الزامه بترك المخالفة القطعية قد يعني الزامه بفعل المباح لكي لا تتحقّق المخالفة القطعيّة [للمباح](٢). وعلى هذا الأساس يتقبّل توجّه ترخيص جادّ اليه من قبل المولى في كلا الطرفين لضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائيّة للاباحة.

ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو : هل ورد الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي؟ وهل يمكن اثبات ذلك باطلاق ادلّة الاصول؟

والجواب هو النفي ، لانّ ذلك يعني افتراض اهمية الغرض الترخيصي من الغرض الالزامي حتّى في حالة العلم بالالزام ووصوله اجمالا او مساواته له على الاقلّ. وهو وان كان افتراضا معقولا ثبوتا ، ولكنّه على خلاف الارتكاز العقلائي ، لانّ الغالب في الاغراض العقلائيّة عدم بلوغ الاغراض الترخيصيّة الى تلك المرتبة. وهذا الارتكاز بنفسه يكون قرينة لبّيّة متصلة على تقييد اطلاق ادلة الاصول (٣) ، وبذلك نثبت حرمة

__________________

(١) اي لانّه قاطع بعدم وجود ملاكات تقتضي الاباحة في مورد علمه بالتكليف الالزامي.

(٢) الاولى ان يقول «التزامه بجواز المخالفة القطعية قد يعني التزامه».

(٣) ذكر ذلك السيد الشهيد في بحوثه ج ٥ ، ص ١٨١ ، بيان المطلب : اذا

١٠٨

المخالفة القطعيّة للعلم الاجمالي عقلا.

ويسمّى الاعتقاد بمنجزيّة العلم الاجمالي لهذه المرحلة على نحو لا يمكن الرّدع عنها عقلا او عقلائيا بالقول بعلّيّة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية (*) ، بينما يسمّى الاعتقاد بمنجّزيّته لهذه المرحلة مع

__________________

كان عندنا علم اجمالي بوجود تكليف وهو امّا وجوب الظهر واما وجوب الجمعة ، وعندنا ايضا قاعدة البراءة الشرعيّة والتي مفادها «رفع عن امّتي ما لا يعلمون» ، ففي الواقع لا يمكن لنا اجراء البراءة في كلا الطرفين لانّ ذلك يتعارض مع علمنا بوجوب إحداهما. (فان قيل) ما المانع من جريان البراءة الشرعية فيهما رغم علمنا بوجوب احداهما ، فانّ كل طرف غير معلوم بذاته وقاعدة البراءة مطلقة؟! (قلنا) إن البراءة الظاهرية معناها تقديم مصلحة الترخيص على مصلحة التكليف ، وهذا بعيد جدّا عقلائيا ، ولهذا الارتكاز ترى العقلاء لا يجرون البراءة في كلا الطرفين ، ويحصرون جريان البراءة فى الشبهات البدوية. فالعقلاء اذن لا يخالفون كلا طرفي العلم الاجمالي ، وهذا يعني اثبات حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالي عقلائيا لا عقلا.

__________________

(*) وهو قول السيد الشهيد رحمه‌الله في هذه المرحلة ، أي في مرحلة وقوع المنع عن المخالفة القطعية وفي مقام الاثبات ، ففي هذا المقام لم يأت من المشرّع الحكيم ترخيص في المخالفة القطعية في نظر العقلاء وهذا يعني ان العلم الاجمالي ـ في نظر العقلاء ـ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية ، (وإلّا) فالسيد الشهيد ـ في مقام الثبوت ـ يقول بامكان الترخيص في كلا الطرفين ...

وممّن قال بكون العلم الاجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية السيد ابن طاووس والمحقّق القمّي والشيخ الانصاري والسيد الخوئي رحمهم‌الله تعالى ، وذلك لانه ـ مع الترخيص بكل الاطراف ـ سوف يحصل مخالفة قطعية للتكليف الواقعي المنجّز والمعلوم

١٠٩

__________________

الوجود ضمن الاطراف ...

إلا انه يوجد بعض الفوارق في بعض جوانب المسألة ، فقال السيد ابن طاووس مثلا بامكان التخلص بالقرعة لانها لكلّ امر مشكل ، وقال المحقّق القمّي بامكان إجراء الاصول الترخيصية في بعض الاطراف على نحو التخيير ... وسيأتي الحديث عن هذه الناحية في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى.

(وأما) صاحب الكفاية فقد قال في الاصول العملية وغيرها : ان كان التكليف المعلوم بالاجمال مما لا يرضى المولى بتفويته على كل حال (كما في حرمة شرب السمّ الضائع بين عدّة اطراف) فالاحتياط واجب عقلا ، وإلا فلا مانع من جريان البراءة في كل الاطراف حتّى في الشبهة المحصورة ، وذلك لقوله عليه‌السلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه».

(أقول) الصحيح ـ على المستوى العقلي ـ أن يقال ان الاحتياط بالموافقة القطعية واجب عقلا ، لكن هذا الاحتياط العقلي موقوف على عدم ورود ترخيص من الشارع بارتكاب بعض او كل اطراف العلم الاجمالي. فنقول إنّ ورود الترخيص في الموارد المهمّة في نظر الشارع كما في النفوس والاعراض مستبعد جدّا في نظر المتشرّعة ، وهذه الاهمية نعرفها من خلال الشرع الحنيف من قبيل الروايات القائلة «ان النكاح احرى واحرى ان تحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد» وقوله عليه‌السلام «لا تجمعوا النكاح عند الشبهة وفرّقوا عند الشبهة» ونحو ذلك فانها تشكّل مانعا من شمول أدلّة البراءة لها.

اذن لا يمكن الترخيص ـ فى نظر المتشرّعة ـ في الموارد المهمّة ، وإنما يمكن في الموارد غير المهمّة ، ولا غرابة في ذلك ثبوتا ، فانّ احتمال ان يكون أحد الاناءين (النجس احدهما) مصيبا للواقع ٥٠% أو اقل او اكثر ، وهذا الاحتمال بعينه قد يوجد في الشبهات البدوية ، بل قد يكون احتمال نجاسة الاناء الواحد في الشبهة البدوية اقوى بكثير من احتمالها في احد اطراف العلم الاجمالي ، كما لو زادت الآنية في مورد العلم الاجمالي عن اثنين ، اذ كلّما زادت كلّما ضعف احتمال الاصابة ، وهذا أمر واضح ، هذا على صعيد إمكان الترخيص ـ أي في مقام الثبوت ـ ، واما إثباتا ، وانّه هل ورد ترخيص في

١١٠

__________________

ارتكاب بعض او كل اطراف العلم الاجمالي ، فهذا ما تجيب عنه بالايجاب بعض الرّوايات التي فيها الصحيح السند ، فقد ورد رواية بسند صحيح في الفقيه والتهذيب والفروع عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٥٩ ، وج ١٦ ، ص ٤٠٣ ح ٢) ، وفي موضع آخر من الفروع (ج ٦ ، ص ٣٣٩) ومحاسن البرقي عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال لي : لقد سألتني عن طعام يعجبني ، ثم أعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا ، ودعا بالغداء فتغدّينا معه وأتي بالجبن فاكل واكلنا معه ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت له : ما تقول في الجبن؟ قال لي : أو لم ترني اكلته! قلت بلى ، ولكنّي احب ان اسمعه منك ، فقال «ساخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ، وهذه الرّواية صحيحة أيضا ، وقد وثّقنا عبد الله بن سليمان لرواية صفوان عنه بسند صحيح في مشيخة الفقيه ، وقد شهد الشيخ الطوسي بانه لا يروي إلّا عن ثقة ، بالاضافة الى وجود قرائن أخرى تؤيّد كلام الشيخ الطوسي ليس هاهنا محلّ ذكرها ، ومثلهما ما رواه المشايخ الثلاثة عن مسعدة بن صدقة عن ابي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال «كل شيء هو لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ...» ومثلها رواية الحسين بن أبي غندر (عن أبيه ـ مستدرك) عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال «الاشياء مطلقة ما لم يرد عليك امر ونهي ، وكل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ما لم تعرف الحرام منه فتدعه» (جامع احاديث الشيعة ج ١ ، ص ٣٢٩).

وهذه الروايات صريحة في نظرها الى موارد حصول العلم الاجمالي ، والمراد منها واضح وهو انّ الجبن ـ مثلا ـ رغم علمنا بانّ بعضهم يجعلون فيه أنفحة الميتة كما ورد في عدّة روايات ولكنّ الامام عليه‌السلام رغم ذلك يعطينا قاعدة عامّة للجبن وغيره وهي اصالة الحلّيّة حتّى في موارد العلم الاجمالي سواء منها الشبهات المحصورة ام غير المحصورة ، وذلك للاطلاق الواضح في هذه الروايات ، ولا عجب في ذلك ، فهناك حالات من الشبهات البدوية كما قلنا قبل قليل يزيد فيها احتمال الحرمة او النجاسة على بعض موارد العلم الاجمالي كما اذا ظننا

١١١

__________________

بالحرمة او النجاسة ، وهناك حالات من الشبهات البدوية تشبه الى حدّ كبير موارد العلم الاجمالي يجري فيها اصحابنا الاصول المؤمّنة ، كما إذا وقع في إناء قطرة من احد إناءين احدهما نجس وظننا ان القطرة وقعت من خصوص الاناء النجس ، فانّ اصحابنا لا يستشكلون في إجراء استصحاب الطهارة في الاناء الذي وقعت فيه هذه القطرة.

ولعله لما ذكرناه وغيره ترى مجموعة من الاساطين يجيزون المخالفة الاحتمالية في اطراف العلم الاجمالي كالسيد ابن طاووس وصاحبي المدارك والذخيرة والعلّامة المجلسي والوحيد البهبهاني والمحقّق القمّي وصاحبي الرياض والمناهج فضلا عما ذكرناه عن صاحب الكفاية (راجع تعليقة منتهى الدراية ج ٤ ص ١٦١ و ١٦٣).

(أقول) إذا جازت المخالفة الاحتمالية وخرج الطرف عن مورد الابتلاء باكله مثلا كان ارتكاب الطرف الآخر أولى لانّ هذه الحالة ستكون أقرب الى الشبهة البدوية من حالة ما قبل ارتكاب الطرف الأوّل ، (لكن) اطلاق أدلّة الحلّ المذكورة يلزم ان تقيّد عقلائيا بكثرة اطراف الحل وقلّة اطراف الحرام.

(لذلك) نعتقد بعدم منجّزيّة العلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية التحريمية وفي خصوص الموارد الغير مهمّة في نظر الشارع ، وأنّ الشارع المقدّس قد الحقها بالشبهات البدويّة ، (لكن) لا ينبغي ان تنسى انّ هذا الاطلاق في روايات الحلّ السالفة الذّكر مقيّدة روائيا ومتشرّعيا بعدم كون نسبة الحرام من الحلال نسبة تورث الاستهجان عند المتشرّعة ، ككون الحرام أكثر من الحلال أو يساويه او يقلّ عنه قليلا ، (أمّا روائيا) فانك تفهم هذا القيد من بعض الروايات كرواية ابي الجارود ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت له : أخبرني من رأى انه يجعل فيه الميتة ، فقال : أمن اجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم في جميع الارضين! اذا علمت انه ميتة فلا تاكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لاعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن ، والله ما اظن كلهم يسمّون ، هذه البرير وهذه السودان» (وسائل ج ١٧ ، ص ٩١) ، (وامّا متشرّعيا) فلوجود ارتكاز عندهم بعدم جريان اصالة الحل مع تساوي افراد الحلال مع الحرام ونحو ذلك مما يكون بمثابة القيد المتصل لادلة البراءة والحلّ ، ولا عبرة بنظر العقلاء بما هم عقلاء في ابحاث العلم الاجمالي ، وذلك لان العقلاء.

١١٢

__________________

قد لا يجرون الاصول المؤمّنة في كثير من الموارد حتّى ولو كانت من الشبهات البدوية ويستهجنونها كما إذا علمنا بوقوع قطرة من أحد إناءين احدهما نجس في اناء وظننّا قويا انها وقعت من الاناء النجس فانّ العقلاء في هذه الحالة وامثالها يستهجنون من هذا الحكم مع أنّه متّفق عليه عند اصحابنا ظاهرا ، بل لا إشكال فيه.

هذا ولكن جريا على عادة اصحابنا قد نستعمل لفظة «الارتكاز العقلائي» في ابحاث العلم الاجمالي ونقصد بها ارتكاز المتشرّعة ، والامر سهل.

(هذا) كله في الشبهات الموضوعية التحريمية ، وأمّا في الشبهات الموضوعية الوجوبية ففيها وجهان لا نتعرّض لهما لندرة حصولها ، ومن شاء فليراجع المطوّلات.

(وأمّا) في الشبهات الحكمية فلا يجري الترخيص بوجه سواء كانت هذه الشبهات وجوبية كالشك في وجوب الظهر او الجمعة بسبب التعارض في الادلّة ، ام تحريميّة كما لو علمنا بحرمة أكل النخاع ، وفرضنا حصول تردّد عندنا في معنى النخاع وانه هل هو الخيط الابيض الممتدّ داخل العمود الفقري (كما هو الصحيح والمتسالم عليه) أو انّه ـ مثلا ـ هو ما في جوف العظام ـ دون العمود الفقري ـ (ووجه) عدم جريان الترخيص فيهما :

اولا : عدم وجود دليل على الترخيص فيهما ، امّا في الشبهات الوجوبية فواضح ، وأمّا في الشبهات التحريمية فلعدم شمول ادلّة الحلّ لها ، وذلك لانّ مورد ادلّة الحل هي الشبهات الموضوعية ، وهذا واضح من أدلته ، فلسان ادلّة الحل هو كالتالي «كل شيء فيه حلال وحرام ...» وهذا إن لم يكن صريحا في الشبهات الموضوعية فلا أقل من انصرافها إليها.

ثانيا : فيتعيّن الرجوع الى قوله تعالى : (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا) ، فانّه يدل بمفهومه الغائي على تنجّز التكليف ووجوب الاحتياط عند تبيين الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاحكام ، والمفروض انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في موارد العلم الاجمالي هذه ـ قد بلّغ واوصل إلينا الّا انه لاسباب ما اختلطت الاحكام ، وليس من وظيفة الشارع المقدّس ـ مع عدم أهميّة الحكم في نظره ـ رفع التعارضات ، ولذلك يجب الاحتياط على ضوء هذه

١١٣

افتراض امكان الرّدع عنها عقلا وعقلائيا (*) بالقول باقتضاء العلم الاجمالي للحرمة المذكورة.

وامّا المرحلة الثانية فيقع الكلام عنها في مباحث الاصول العملية ان شاء الله تعالى.

حجّية القطع غير المصيب (وحكم التجرّي) :

هناك معنيان للاصابة :

احدهما : اصابة القطع للواقع بمعنى كون المقطوع به ثابتا ، والآخر : اصابة القاطع في قطعه (١) ، بمعنى انّه كان يواجه مبررات موضوعيّة لهذا القطع ، ولم يكن متأثّرا بحالة نفسيّة ونحو ذلك من العوامل.

وقد يتحقق المعنى الاوّل من الاصابة دون الثاني ، فلو انّ مكلّفا قطع بوفاة انسان لإخبار شخص بوفاته وكان ميتا حقا ، غير ان هذا الشخص كانت نسبة الصدق في اخباراته عموما بدرجة سبعين في المائة ، فقطع المكلّف مصيب بالمعنى الاوّل ، ولكنه غير مصيب بالمعنى الثاني ، لانّ

__________________

(١) أي قطعه صحيح وفي محلّه حتى وإن خالف الواقع.

__________________

الآية الكريمة.

وثالثا : على فرض عدم التسليم بدلالة الآية السابقة على وجوب الاحتياط ـ رغم ظهورها عندنا في ذلك ـ فيتعيّن الرجوع الى حكم العقل وهو ـ كما سياتيك ـ وجوب الموافقة القطعية.

(*) الاولى ان يقول «أو عقلائيا» بدل «وعقلائيا».

١١٤

درجة التصديق بوفاة ذلك الانسان يجب ان تتناسب مع نسبة الصدق في مجموع أخباره.

ونفس المعنيين من الاصابة يمكن افتراضهما في درجات التصديق الاخرى ايضا ، فمن ظنّ بوفاة انسان لاخبار شخص بذلك وكان ذلك الانسان حيّا فهو غير مصيب في ظنّه بالمعنى الاوّل ، ولكنه مصيب بالمعنى الثاني اذا كانت نسبة الصدق في اخبارات ذلك الشخص أكثر من خمسين في المائة.

ونطلق على التصديق المصيب بالمعنى الثاني اسم التصديق الموضوعي والقطع (١) الموضوعي ، وعلى التصديق غير المصيب بالمعنى الثاني اسم التصديق الذاتي والقطع الذاتي.

وانحراف التصديق الذاتي عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعية له مراتب ، وبعض مراتب الانحراف الجزئية ممّا ينغمس فيه كثير من الناس ، وبعض مراتبه يعتبر شذوذا ، ومنه قطع القطّاع.

فالقطّاع انسان يحصل له قطع ذاتي وينحرف غالبا في قطعه هذا انحرافا كبيرا عن الدرجة التي تفترضها المبرّرات الموضوعية.

وحجيّة القطع من وجهة نظر اصولية ، وبما هي معبّرة عن المنجّزية والمعذرية ليست مشروطة بالاصابة بأيّ واحد من المعنيين.

__________________

(١) في النسخة الاصلية بدل «القطع» «اليقين» وما اثبتناه اولى ولو من باب المقابلة بينها وبين القطع الذاتي الذي ذكره (قده) في آخر الجملة.

١١٥

امّا المعنى الاوّل (١) فواضح ، اذ يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطّاعة ، كما انّ القطع بعدمه [يعتبر ايضا] تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ. ومن هنا (٢) كان المتجرّي (٣) مستحقّا للعقاب كاستحقاق العاصي ، لانّ انتهاكهما (٤) لحقّ الطّاعة على نحو واحد. ويستحيل سلب الحجّية او الرّدع عن العمل بالقطع غير المصيب للواقع ، لانّ مثل هذا الرّدع يستحيل تأثيره في نفس ايّ قاطع ، لانّه يرى نفسه مصيبا ، وإلا لم يكن قاطعا. وكما يستحقّ المتجرّي العقاب كالعاصي (*) ، كذلك يستحق المنقاد (٥) الثواب بالنحو الذي يفترض

__________________

(١) وهو القطع المصيب للواقع ، ومراده ان يقول ان القطع حجة سواء اصاب الواقع ام لم يصبه ، فان اصابه فهو حجة اجماعا ، وإن لم يصبه فان اراد مخالفة المولى فهو متجرئ وإن اراد إطاعة المولى فهو منقاد.

(٢) اي على اساس انّ القطع بالتكليف يشكّل تمام الموضوع لوجوب الامتثال ـ على مسلكي حقّ الطاعة وقبح العقاب ـ فانّ المتجرّي الذي يقطع بالتكليف يجب عليه العمل بمقتضى قطعه.

(٣) قال السيد المصنّف بين قوسين في متن النسخة الاصلية «ونقصد بالمتجرّي من ارتكب ما يقطع بكونه حراما ، ولكنه ليس بحرام في الواقع».

(٤) النفسي.

__________________

(*) بيان قضية التجرّي بتفصيل اكثر :

ان القطع حجة بلا اشكال ، فاذا قطع شخص بكون البعيد عنه شخصا مؤمنا فقتله بهذا.

١١٦

__________________

الاعتقاد وكان في الواقع ممن حكمه القتل ككونه كافرا حربيا مثلا فلا شك في حسن هذا الفعل في الواقع ، او كما لو اطعم شخصا طعاما يعتقد انه مسموم فبان انه غير مسموم وان الشخص كان فقيرا جائعا وقد انقذ حياته بهذا الاطعام ... الخ ففي مثل هذا الحالات لا شك في حسن ذات الفعل ـ خلافا لسيدنا الشهيد (قدس‌سره) في تقريراته ج ٤ ص ٣٦ ـ رغم قبح القصد والنّية ، فانّ القصد والنيّة امران خارجان عن حقيقة الفعل كما هو واضح للمتأمّل.

نعم هذا الشخص المتجرّئ على مولاه يستحقّ العقاب بلا شك وقد ذكروا في تقريب ذلك عدّة وجوه نكتفي بذكر احد الوجوه العقلية والدليل النقلي :

١ ـ (الدليل العقلي) : وهو ما ذكره هنا السيد المصنف رحمه‌الله وذكره ايضا في تقريراته وهو كون «القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة» ، بمعنى انه إذا قطع بتكليف فقد وجبت عليه الاطاعة والعمل بمقتضى قطعه واعتقاده ، فمن حقّ المولى على عبده ـ كما قال (قدس‌سره) في تقريراته ـ ان يطيعه «ويقوم بأدب العبودية والاستعداد لاداء الوظيفة التي يأمره بها وليس بملاك تحصيل مصلحة له او عدم الاضرار به كما في حقوق الناس» فانّ الله تعالى لا يتضرّر ولو عمّ الظلم والفساد والقتل أرجاء المعمورة ، ولا ينتفع الله تعالى باي عمل يقوم به الناس ولو عبدوه كلهم ليلا ونهارا ، فالمصالح والمفاسد راجعة الى العباد فقط وانّ الله غني عن العالمين ، (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ، فالاعتداء ـ كما يقول السيد الشهيد ـ «انما يكون بلحاظ نفس حقّ الطاعة وادب العبوديّة ، ومن الواضح ان مثل هذا الحقّ الاحترامي يكون تمام موضوعه نفس القطع بتكليف المولى او مطلق تنجّزه ولو بامارة حجّة لا واقع التكليف ، فلو تنجّز التكليف على العبد ومع ذلك خالف مولاه كان بذلك قد خرج عن ادب العبوديّة واحترام مولاه ولو لم يكن تكليف واقعا».

وما ذكره (قده) كلام صحيح ، وهو مبيّن في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

٢ ـ (الدليل النقلي) : وهو عبارة عن مجموعة من الآيات الكريمة والروايات الشريفة : اما الآيات :

١١٧

__________________

ـ فقوله تعالى : (وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم وسعها به الله وسعها فيغفر لمن يشآء) (أ).

ـ وقوله عزوجل : (وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن مّا تعمّدت قلوبكم) (ب).

ـ وقوله تبارك وتعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السّمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا) (ج).

ـ وقوله عزّ من قائل : (لّا يؤاخذكم الله بالّلغو فى أيمنكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (د).

وامّا الروايات :

١ ـ فرواية الكافي عن ابي هاشم قال قال ابو عبد الله عليه‌السلام «إنّما خلّد اهل النار في النار لانّ نياتهم كانت في الدنيا ان لو خلّدوا فيها ان يعصوا الله ، وانما خلّد اهل الجنّة في الجنّة لانّ نياتهم كانت في الدنيا ان لو بقوا فيها ان يطيعوا الله ابدا ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء» ، ثم تلا قوله تعالى : (قل كلّ يعمل على شاكلته) قال «على نيته» (ه). (قال) العلّامة في الميزان ج ١٣ ص ٢١٢ تعليقا على هذه الرواية : «اقول : اشارة الى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها» ، وبيان كلامه يحتاج الى بسط ذكره في الحكمة المتعالية ج ٩ يستدل فيه على ان النيات حينما تترسّخ عند الانسان يتشكل الجسم المثالي للانسان في الدنيا والآخرة بحسب ملكاته ، وهذا هو تفسير رؤية بعض العرفاء لحقيقة الشخص في الدنيا كأن يرونه حيوانا من الحيوانات ، وسرّ تشكل الانسان في الآخرة بحسب ملكاته في الدنيا ، فالمتكبر يصير ـ كما ورد ـ نملة تدوسه الناس باقدامها ، والمؤذي يصير سبعا من السباع واهل الشهوات يصيرون بهائم وانعاما كما كانت حقائقهم في الدنيا (ولعلّ) كلمة «شاكلته» في هذه الآية ناظرة الى جسمه المثالي الذي شكّله في الدنيا بنيّاته ، (ولا

__________________

(أ) البقرة ـ ٢٨٤.

(ب) الاحزاب ـ ٥.

(ج) الاسراء ـ ٣٦.

(د) البقرة ـ ٢٢٥.

(ه) وسائل ج ١ باب ٦ من ابواب مقدمة العبادات ص ٣٦ ح ٤.

١١٨

__________________

يبعد) ان يكون تشبيه القرآن الكريم لبعض الناس بالكلب او الحمار او الانعام اشارة الى حقائقهم المثالية ، فالتشبيه بالكلب مثلا للاشارة الى انه ليس كلبا بتمام معنى الكلمة للفرق الواضح بينهما ، وانما له صفات الكلب فيصحّ التشبيه ، ومن هنا تكون آيات التشبيه بالكلب او الحمار ونحوهما مفسّرة لكلمة «شاكلته» في الآية السابقة. (وكفى) بالمنحرف ـ ولو بنيّته ـ عقابا ان تصير حقيقته في الدنيا والآخرة كلبا او حمارا ونحو ذلك من الحقائق السافلة.

٢ ـ رواية الكافي عن سفيان بن عيينة عن ابي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ «والنيّة افضل من العمل ، الا وإنّ النيّة هي العمل» ، ثم تلا قوله تعالى (قل كلّ يعمل على شاكلته) يعني على نيته» (أ).

٣ ـ مصحّحة الكافي عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول من اسرّ سريرة رداه الله رداها ان خيرا وإن شرّا فشرا» (ب).

٤ ـ ضعيفة جابر عن ابي جعفر عليه‌السلام قال قال لي «يا جابر يكتب للمؤمن في سقمه من العمل السّيء ما كان يكتب فى صحّته ، ويكتب للكافر في سقمه من العمل السّيء ما كان يكتب في صحته» ، ثم قال قال «يا جابر ما اشدّ هذا الحديث» (ج).

٥ ـ ضعيفة ابي عروة السلمي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة» (د).

٦ ـ مصحّحة الكافي عن السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نيّة المؤمن خير من عمله ، ونيّة الكافر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل على نيته» (ه).

٧ ـ ضعيفة بكر بن محمد الازدي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال «إن المؤمن لينوي الذنب فيحرم رزقه» و.

٨ ـ وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كلاهما

__________________

(أ) وسائل ج ١ باب ٦ من ابواب مقدمة العبادات ص ٣٦ ، ح ٥.

(ب) المصدر السابق باب ٧ ص ٤١ ح ١.

(ج) نفس المصدر ص ٤٢ ح ٥.

(د) المصدر السابق باب ٥ ص ٣٤ ح ٥.

(ه) المصدر السابق باب ٦ ص ٣٥ ح ٣.

(و) نفس المصدر باب ٧ ص ٤٢ ح ٤.

١١٩

__________________

في النار» قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لانّه اراد قتل صاحبه» (أ).

٩ ـ مرفوعة محمد بن خالد رفعه عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» (ب).

هذا ما وجدته في هذه الساعة ، وكلها تفيد استحقاق المتجرّي للعقاب وإن كان التعرّف على وجه ذلك في بعضها يحتاج الى دقّة نظر ، وقد ذكر في الرسائل (ج) من الآيات والروايات الاخرى ما يصح ان يكون مؤيّدا لنظرية استحقاق المتجرّئ للعقاب.

(ثمّ) ان سيدنا الشهيد رحمه‌الله ذكر في تقريراته رواية لم يذكر سندها ولا مصدرها مفادها «ان الله تفضّل على آدم على ان لا يكتب على ولده وذريّته ما نووا ما لم يفعلوا» (د) ، (وهذه) الرواية لا تنفي استحقاق العقاب ، لا بل تثبته بدليل قوله «تفضّل».

ولم اجد ـ بعد بحثي هذا ـ آية او رواية تفيد عدم الاستحقاق إلا رواية واحدة وهي :

ـ مصحّحة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد (عليهما‌السلام) قال «لو كانت النيّات من اهل الفسق يؤخذ بها اهلها إذا لاخذ كل من نوى الزناء بالزنا ، وكل من نوى السرقة بالسرقة ، وكل من نوى القتل بالقتل ، ولكن الله عدل كريم ليس الجور من شأنه ، ولكنه يثيب على نيات الخير اهلها واضمارهم عليها ، ولا يؤاخذ اهل الفسق حتّى يفعلوا (الحديث)» (ه).

ويمكن الجمع بين الآيات الكريمة والروايات المستفيضة السابقة الذكر وهذه الرواية بان تحمل هذه الرواية على ارادة استحقاق الحدود والتعزيرات الدنيوية ولو بقرينة الامثلة

__________________

(أ) مصباح الاصول ج ٢ ص ٢٩.

(ب) وسائل ج ١٨ ص ١١ ح ٦.

(ج) الرسائل الجديدة ص ١١ ـ ١٢.

(د) بحوث في علم الاصول ج ٤ ص ٦٤.

(ه) وسائل ج ١ ص ٤٠ ح ٢١.

(٥) بيّن السيد الشهيد رحمه‌الله معنى المنقاد بقوله «ونقصد بالمنقاد من اتى بما يقطع بكونه مطلوبا للمولى فعلا او تركا رعاية لطلب المولى ، ولكنّه لم يكن مطلوبا في الواقع».

١٢٠