الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

فصفوه بها ، وذروا الذين يلحدون (١) في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها وقيل : إلحادهم في أسمائه : تسميتهم (٢) الأصنام آلهة ، واشتقاقهم اللات من الله ، والعزى من العزيز.

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(١٨١)

لما قال (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار ، أتبعه قوله (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها «هذه لكم ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها (٣)» (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) وعنه صلى الله عليه وسلم «إنّ من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام (٤)» وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(١٨٥)

__________________

ـ قضائه عدل ، وانه لا يجب عليه رعاية ما يتوهمه الخلق مصلحة بعقولهم ، وأن وعده الصدق وقوله الحق ، وقد وعد رؤيته فوجب وقوعها ، إلى غير ذلك من أوصافه الجليلة ، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها ، ثم يزعمون أنه لا تشمل قدرته المخلوقات ، بل هي مقسومة بينه وبين عباده ، ويوجبون عليه رعاية ما يتوهمونه مصلحة ، ويحجرون واسعاً من مغفرته وعفوه وكرمه على الخطائين من موحديه ، إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف بالطائفة المتلقبين عدلية ، المزكين لأنفسهم وهو أعلم بمن اتقى.

(١) قوله «وذر الذين يلحدون» يريد أهل السنة القائلين : كل كائن فهو مراد ومخلوق له تعالى ولو شرا ، وتجوز رؤيته ، خلافا للمعتزلة في كل ذلك ، كما تقرر في محله. (ع)

(٢) قال محمود : «وقيل إلحادهم في أسمائه : تسميتهم ... الخ» قال أحمد : وهذا تفسير حسن ملائم ، والله أعلم.

(٣) ذكره الثعلبي عن قتادة وابن جريج. وإسناده إليها مذكور في أول كتابه.

(٤) ذكره الثعلبي عن الربيع بن أنس ، وإسناده إليه في أول كتابه. رواه أحمد من حديث عمران بن حصين بلفظ «لا تزال طائفة من أمتى على الحق حتى يأتى أمر الله ، وينزل عيسى ابن مريم» وفي تاريخ البخاري عن عبد الطغاوى عن جابر نحوه ، ورواه أبو يعلى من وجه آخر ، وزاد «فيقول إمامهم : تقدم يا روح الله فيقول : أنتم أحق أمر كرم به هذه الأمة».

١٨١

الاستدراج : استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة. قال الأعشى :

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السّماء بسلّم

ليستدر جنك القول حتّى تهرّه

وتعلم أنّى عنكم غير مفحم (١)

ومنه : درج الصبى إذا قارب بين خطاه. وأدرج الكتاب : طواه شيئاً بعد شيء. ودرج القوم : مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغىّ ، فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية ، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ، ظانين أنّ مواترة النعم أثرة من الله وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهو استدراج الله تعالى ، نعوذ بالله منه (وَأُمْلِي لَهُمْ) عطف على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) وهو داخل في حكم السين (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد ، من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان (ما بِصاحِبِهِمْ) بمحمد صلى الله عليه وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) من جنون ، وكانوا يقولون شاعر مجنون. وعن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يهوّت (٢) إلى الصباح (٣) (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيما تدلان عليه من عظم الملك. والملكوت : الملك العظيم (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ، من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف (وَأَنْ عَسى) أن مخففة من الثقيلة ، والأصل : وأنه عسى ، على أن الضمير ضمير الشأن. والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى (أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولعلهم يموتون عما قريب ، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم. قبل مغافصة الأجل (٤) وحلول العقاب. ويجوز أن يراد باقتراب الأجل : اقتراب الساعة ، ويكون من «كان» التي فيها ضمير الشأن. فإن قلت : بم يتعلق قوله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قلت : بقوله (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) كأنه قيل : لعلّ أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان

__________________

(١) مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٩٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «بات يهوت» أى يضيح. (ع)

(٣) أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة قال «ذكر لنا ـ فذكره. فأنزل الله (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) الآية

(٤) قوله «قبل مغافصة الأجل» أى أخذه إياهم على حين غفلة. اه من الصحاح. (ع)

١٨٢

بالقرآن قبل الفوت ، وما ذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ ، وبأىّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦)

قرئ (وَيَذَرُهُمْ) بالياء والنون ، والرفع على الاستئناف ، ويذرهم ، بالياء والجزم عطفا على محل (فَلا هادِيَ لَهُ) كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(١٨٧)

(يَسْئَلُونَكَ) قيل إن قوما من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً ، فإنا نعلم متى هي ، وكان ذلك امتحاناً منهم ، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل : السائلون قريش. و (السَّاعَةِ) من الأسماء الغالبة ، كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة ، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو على العكس لطولها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. (أَيَّانَ) بمعنى متى. وقيل : اشتقاقه من أىّ فعلان منه ، لأن معناه أىّ وقت وأى فعل ، من أويت إليه ، لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه ، قاله ابن جنى ، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان ، «وأين» مكان. وقرأ ا لسلمى : إيان ، بكسر الهمزة (١) (مُرْساها) إرساؤها ، أو وقت إرسائها ، أى إثباتها وإقرارها. وكل شيء ثقيل رسوّه ثباته واستقراره. ومنه : رسى الجبل وأرسى السفينة. والمرسى : الأنجر الذي ترسى به ، ولا أثقل من الساعة ، بدليل قوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والمعنى : متى يرسيها الله (إِنَّما عِلْمُها) أى علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به ، لم يخبر به أحداً من ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل ، يكاد يخفيها من نفسه ، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أى لا تزال خفية ، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة ، لا يجليها (٢) بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه ، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى كل من أهلها من الملائكة

__________________

(١) قوله «وقرأ السلمى إيان بكسر الهمزة» في الصحاح «أيان» سؤال عن زمان و «إيان» بكسر الهمزة لغة سليم. وبه قرأ السلمى (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). (ع)

(٢) قوله «بغتة لا يجليها» لعله : وقيل لا يجليها ، بل لعله «أو لا يجليها». (ع)

١٨٣

والثقلين أهمه شأن الساعة ، ويودّه أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه. أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها. أو لأن كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها (إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على غفلة منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه (١) والرجل يسقى ماشيته ، والرجل يقوّم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه (٢)» (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) كأنك عالم بها. وحقيقته : كأنك بليغ في السؤال عنها (٣) ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه ، استحكم علمه فيه ورصن (٤) وهذا التركيب معناه المبالغة. ومنه : إحفاء الشارب. واحتفاء البقل : استئصاله. وأحفى في المسألة ، إذا ألحف (٥). وحفى بفلان وتحفى به : بالغ في البرّ به. وعن مجاهد : استحفيت عنها

__________________

(١) قوله «والرجل يصلح حوضه» في البخاري : يليط حوضه. وروى «يلوط» أى يصلحه اه (ع)

(٢) أخرجه الطبري بالإسناد المذكور إلى قتادة قال ذكر لنا ـ فذكره ، وفي الصحيحين عن أبى هريرة رفعه «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ـ الحديث».

(٣) قال محمود «معناه كأنك بليغ في السؤال عنها ... الخ» قال أحمد وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز ، وهو أجل من أن يشارك فيها ، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد ، واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده ، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وسيأتى وهذا منها ، فانه لما ابتدأ الكلام بقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) إلى قوله (بَغْتَةً) أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمن في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده فطري ذكره تطرية عامة ، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم ، فمن ثم قيل (يَسْئَلُونَكَ) ولم يذكر المسئول عنه وهو الساعة ، اكتفاء بما تقدم ، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله :

عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال

الشحم إنا قد مللناه يجل

أى فقط ، فذكر الألف واللام خاتمة للأول من الرجزين ، ثم لما استفتح الرجز الثاني استبعد العهد بالأولى ، فطري ذكرها وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جنى على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء فهو بيت كامل وليس بنصف ، كما ذهب إليه أبو الحسن ، قال : ولو كان بيتا واحدا لم يكن عهد الأولى متباعدا ، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها. ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل ، لم يعدها أول المصراع الثاني ، لأنها بيت واحد ، فلم ير عهدها بعيدا ، وذلك قوله :

يا خليلي أربعا واستخبرا ال

منزل الدارس من أهل الحلال

مثل سحق البرد عنى بعدك ال

قطر مغناه وتأويب الشمال

ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا ، فانظر هذه النكتة كيف بالغت العرب في رعايتها حتى عدت القريب بعيدا والمتقاصر مديدا ، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان في صناعتي العربية والبيان ، والله المستعان.

(٤) قوله «ورصن» أى : ثبت وتمكن اه. (ع)

(٥) قوله «إذا ألحف» أى ألح وعنف اه. (ع)

١٨٤

السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود : كأنك حفىّ بها ، أى عالم بها بليغ في العلم بها. وقيل (عَنْها) متعلق بيسئلونك : أى يسئلونك عنها كأنك حفىّ أى عالم بها. وقيل : إن قريشاً قالوا له إن بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل : يسئلونك عنها كأنك حفىّ تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى علمها عن غيرهم ، ولو أحبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في إخبارك به ، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص ، كسائر ما أوحى إليك. وقيل : كأنك حفىّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره ، يعنى أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً من خلقه. فإن قلت : لم كرر يسئلونك وإنما علمها عند الله؟ قلت : للتأكيد ، ولما جاء به من زيادة قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة ، منهم محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رحمهما الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه العالم بها ، وأنه المختص بالعلم بها.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٨)

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي) هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب : أى أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك والعبيد (إِلَّا ما شاءَ) ربى ومالكى من النفع لي والدفع عنى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لكانت حالى على خلاف ما هي عليه ، ومن استكثار الخير ، واستغزار المنافع ، واجتناب السوء والمضارّ ، حتى لا يمسني شيء منها. ولم أكن غالباً مرة ومغلوبا أخرى في الحروب ، ورابحا وخاسرا في التجارات ، ومصيبا مخطئا في التدابير (إِنْ أَنَا إِلَّا) عبد أرسالات نذيراً وبشيراً ، وما من شأنى أنى أعلم الغيب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعاً ، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم. أو يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفا أى إلا نذير للكافرين ، وبشير لقوم يؤمنون.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٩٠)

١٨٥

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي نفس آدم عليه السلام (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء ، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه. أو من جنسها كقوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً). (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس ، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال (لِيَسْكُنَ) فذكر بعد ما أنث في قوله : واحدة. منها زوجها ، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. والتغسى : كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) خف عليها ، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ، ولم تستثقله كما يستثقلنه ، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها : ما كان أخفه على كبدي حين حملته (فَمَرَّتْ بِهِ) فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق (١) وقيل (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) يعنى النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه : فاستمرت به ، وقرأ يحيى بن يعمر : فمرت به ، بالتخفيف. وقرأ غيره : فمارت به ، من المرية ، كقوله (أَفَتُمارُونَهُ) وأ فتمرونه. ومعناه : فوقع في نفسها ظن الحمل ، فارتابت به (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) حان وقت ثقل حملها كقولك : أقربت (٢). وقرئ : أثقلت ، على البناء المفعول : أى أثقلها الحمل (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا (لَئِنْ آتَيْتَنا) لئن وهبت لنا (صالِحاً) ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء (٣). وقيل. ولداً ذكراً ، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في (آتَيْتَنا) و (لَنَكُونَنَ). لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما (٤)

__________________

(١) قوله «من غير إخداج ولا إزلاق» إخداج : أى نقصان. ولا إزلاق : أى إسقاط. (ع)

(٢) قوله «كقولك أقربت» أى قرب ولادها. (ع)

(٣) قوله «وبريء» لعله : وبريء من الآفات. (ع)

(٤) قال محمود : «الضمير في (آتَيْتَنا) و (لَنَكُونَنَ) لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما ... الخ» قال أحمد وأسلم من هذين التفسيرين وأقرب ـ والله أعلم ـ أن يكون المراد جنسى الذكر والأنثى ، لا يقصد فيه إلى معين ، وكان المعنى ـ والله أعلم ـ خلقكم جنسا واحدا ، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن ، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرّى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون ، لأن المشركين منهم (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) و (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) كما أنه كذلك على التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم وعلى التفسير الثاني أضافه إلى قصى وعقبه ، والمراد البعض ، فهذا السؤال وارد على التأويلات الثلاثة ، وجوابه واحد ويسلم هذا الثالث من حذف المضاف المضطر إليه في التأويل الأول. ومما ينصرف إلى التأويل الثاني من استبعاد تخصيص قصى بهذا الأمر المشترك في الجنس ، وهو جعل زوجته منه وكون المراد بذلك أن يسكن إليها لأن ذلك عام في الجنس ، والله أعلم.

١٨٦

(فَلَمَّا آتاهُما) ما طلباه من الولد الصالح السوىّ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أى جعل أولادهما له شركاء ، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك (فِيما آتاهُما) أى آتى أولادهما ، وقد دلّ على ذلك بقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير. وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة (١) وعبد شمس وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم آل قصى ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد (٢) :

فَيَا لَقُصَىّ مَا زَوَى اللهُ عَنْكُمُ

بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُودَدِ (٣)

ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصىّ ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوىّ جعلا له شركاء فيما آتاهما ، حيث سميا أولادهما

__________________

(١) قوله «وعبد مناة» في النسفي : وعبد مناف (ع)

(٢) هذا طرف من حديث أم معبد في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الحاكم مطولا. من حديثها وحديث أخيها حبيس بن خالد. ومن حديث زوجها أبى معبد ، وطريق أم معبد رويناها في الغيلانيات. وفي الطبراني وفي الدلائل لأبى نعيم والبيهقي.

(٣) جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر ثم ترحلا

فيا فوز من أمسى رفيق محمد

فيالقصى ما زوى الله عنكم

به من فخار لا يبارى وسؤدد

ليهن بنى سعد مقام فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد

لرجل من الجن ، سمعوا صوته بمكة ولم يروا شخصه ، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مع أبى بكر مهاجراً وجهل أهلها خبرهما بعد خروجهما من الغار. ويروى «جزاية» بالتاء كهداية. ويروى «قالا» بدل «حلا» والمعنى متقارب ، إلا أن الثاني خاص بالاستراحة في منتصف النهار. و «خيمتي» نصب على التوسع بحذف حرف الجر و «أم معبد» امرأة من بنى سعد نزلا عندها بالبر والخير. ذكر بعضهم أن اسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية و «يالقصى» أصله «يا آل قصى» فخفف وقد اختلف فيها ، فقيل : أصلها يا آل قصى أيضاً. وقيل : هي حرف جر ، فقيل زائد. وقيل أصلى متعلق بيا عند سيبويه ، وبالفعل الذي نابت عنه عند ابن جنى «وما» استفهامية ، والمعنى : يا آل قصى ، أتدرون ما قبضه الله ومنعه بخروج رسول الله من بينكم من فخار لا يضاهي ومن شرف عظيم؟ وفي هذا الاستفهام معنى التعجب والاستعظام ، حتى كأن المستفهم عنه لا يعرف كنهه. ويجوز أن اللام للتعجب ، و «ما» موصول بدل من «قصى». ويجوز أن اللام للاستغاثة ، كأنه استغاث بهم لعلهم يتداركون ما فاتهم. وساد في قومه : شرف ، ومصدره السؤدد ، بالهمز وضم الدال ، وبالواو فتفتح داله كما هنا. والأصل : السود ـ بالضم ـ كالحسن ، فزيدت الدال للإلحاق بيرفع وجندب. «وليهن» مجزوم بلام الأمر ، والمقصود الدعاء. و «مقام» فاعل ، و «بنى» مفعول. يقال : هنأه الطعام ونحوه ، بالهمز : إذا نفعه وحمدت عاقبته عنده ، وهو من بابى نفع وضرب ، ويبدل همزه بما يناسب ما قبله ، وقد يحذف البدل كما هنا ، كأنه أصلى ، لكن الحذف عامي. والمرصد والمرصاد : الطريق يرصد فيه الرصد. وقوله «للمؤمنين» فيه حث على الهجرة.

١٨٧

الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصىّ وعبد الدار ، وجعل الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقرئ : شركاء أى ذوى شرك وهم الشركاء ، أو أحدثا الله شركا في الولد.

(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١٩٣)

أجريت الأصنام مجرى أولى العلم في قوله (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى : أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله ، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء ، لأنه جماد ، وهم يخلقون ، لأن عبدتهم يختلقونهم ، فهم أعجز من عبدتهم (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ) لعبدتهم (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث ، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) وإن تدعوا هذه الأصنام (إِلَى الْهُدى) أى إلى ما هو هدى ورشاد ، وإلى أن يهدوكم. والمعنى : وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى ، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) أم صمتم عن دعائهم ، في أنه لا فلاح معهم. فإن قلت : هلا قيل : أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت : لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم ، كقوله (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم ، فقيل : إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم ، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)(١٩٥)

١٨٨

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) وقوله (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) استهزاء بهم ، أى قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم. ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) وقيل : عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير : إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم بتخفيف إن ونصب عباداً أمثالكم ، والمعنى : ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم ، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) جميعاً أنتم وشركاؤكم (فَلا تُنْظِرُونِ) فإنى لا أبالى بكم ، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله ، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك ، كما قال قوم هود له : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) قال لهم : (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ).

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)(١٩٧)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) أى ناصري عليكم الله (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) الذي أوحى إلىّ كتابه وأعزنى برسالته (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨)

(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يشبهون الناظرين إليك ، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وهم لا يدركون المرئىّ

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(١٩٩)

(الْعَفْوَ) ضد الجهد : أى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم ، وتسهل من غير كلفة ، ولا تداقهم ، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ، كقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا» (١) قال :

خذي العفو منى تستديمى مودّتى

ولا تنطقى في سورتي حين أغضب (٢)

__________________

(١) متفق عليه من حديث أنس أتم منه.

(٢) مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ٣٦٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.

١٨٩

وقيل : خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل نزول آية الزكاة ، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً. والعرف : المعروف والجميل من الأفعال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ، ولا تمارهم ، واحلم عنهم ، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل : لما نزلت الآية سأل جبريل فقال : لا أدرى حتى أسأل (١) ، ثم رجع فقال : يا محمد ، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك. وعن جعفر الصادق : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٠٠)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وإما ينخسنك منه نخس ، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ولا تطعه. النزغ والنسغ : الغرز والنخس ، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغا ، كما قيل جدّ جدّه. وروى أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف يا رب والغضب (٢)» فنزل (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب ، كقول أبى بكر رضى الله عنه : إنّ لي شيطاناً يعتريني (٣)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري من طريق سفيان بن عيينة عن أبى المرادي قال لما أنزل الله فذكره وهذا منقطع. وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر ومن حديث قيس بن سعد ، وزاد في أوله «لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة قال : والله لأمثلن بسبعين منهم. فجاء جبريل بهذه الآية ، فذكر الحديث» وفي مسند أحمد عن عقبة بن عامر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا عقبة ، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا : أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وغفل الطيبي فقال في حديث الأصل : رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر.

(٢) أخرجه الطبري من رواية ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم «لما نزلت» فذكره مفصلا.

(٣) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده. وابن سعد في الطبقات قالا : حدثنا وهب بن جرير حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن يقول «خطب أبو بكر رضى الله عنه يوما ، فقال : أما والله ، ما أنا بخيركم ولقد كنت لمقامى هذا كارها. ولوددت أن فيكم من يكفيني أفرط ، وأن أعمل فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ؟؟؟؟ أقوم لها ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي. وكان معه ملك. وإن لي شيطانا يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني الحديث» رواه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن الحسن نحوه. ورويناه في جزء الأنصارى من طريق أبى هلال عن الحسن قال «لما استخلف أبو بكر بدأ بكلام والله ما تكلم به أحد غيره» فذكر نحوه.

١٩٠

(طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) لمة منه مصدر ، من قولهم : طاف به الخيال يطيف طيفاً. قال :

أنَّى ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ بَطِيفُ (١)

أو هو تخفيف طيف فيعل ، من طاف يطيف كلين. أو من طاف يطوف كهين. وقرئ : طائف ، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وأنّ المتقين هذه عادتهم : إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه ، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم. وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين ، فإن الشياطين يمدونهم في الغى ، أى يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ : يمُدّونهم من الامداد. ويمادّونهم ، بمعنى يعاونونهم (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. وقوله (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) كقوله :

قَوْمٌ إذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِى كَوَاثِبِهَا (٢)

في أنّ الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين ، فيكون الخبر جاريا على ما هو له ، والأوّل أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. فإن قلت : لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت : المراد به الجنس ، كقوله (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

__________________

(١) أنى ألم به الخيال يطيف

ومطافه بك ذكرة وشغوف

لكعب بن زهير. وأنى : استفهام تعجبي بمعنى كيف ، أو من أين. وألم : أى نزل للزيارة. والخيال : ما يراه النائم. وطاف به الخيال يطيف طيفا ومطافا : أقبل عليه. وطاف حوله يطوف طوافا وطوفانا : حام عليه ودار حوله ، ويكنى به عن اللمس. وقوله «يطيف» جملة حالية مؤكدة أو مؤسسة. ومطافه : أى طيفه هو سبب التذكر ووصول الحب لشغاف القلب ، فأقام المسبب مقام السبب ، وعبر عن نفسه أولا بضمير الغيبة ، وثانيا بالخطاب. على طريق الالتفات فرارا من شبهة التكرار. وروى بك بالخطاب.

(٢) قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها

فوارس الخيل لا ميل ولا قدم

«الخيل» الأفراس. و «الكاثبة» الفرس القربوس ، وللبعير الغارب ، والرجل الكاهل. والحمار السيسيا. و «الميل» جمع أميل ، وهو الذي لا يثبت على ظهر فرسه. والقدم : جمع أقدم ، وهو اللئيم الضعيف. أو جمع قدم بالسكون بمعناه. وضمير «جالوا» للقوم ، فجرى الخبر على غير ما هو له. أى إذا الخيل جالوا هم في سروجها وما يبرز الضمير هكذا ، لأن محل وجوبه في الصفة لا الفعل ، أو لأمن اللبس ، لأن الواو ضمير العقلاء. فان قيل : إن «إذا» لا تضاف إلا الجملة الفعلية ، فالخيل فاعل فعل محذوف. أجيب بمنع أنها لا تضاف إلا للفعلية ، وبأن ذلك في الشرطية لا الظرفية كما هنا. وقيل : يحتمل على بعد أن الخيل بمعنى الفرسان ، وضمير كواثبها للأفراس المدلول عليها بذكر الخيل : أى قوم إذا الفرسان جالوا في كواثب الأفراس ، فوارس الخيل ، ثابتون عليها لا مائلون عن ظهورها ، ولا عاجزون كأن أيديهم مغلولة.

١٩١

وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٠٣)

اجتبى الشيء ، بمعنى جباه لنفسه : أى جمعه ، كقولك : اجتمعه ، أو جبى إليه فاجتباه : أى أخذه ، كقولك : جليت إليه العروس فاجتلاها ، ومعنى (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) هلا اجتمعتها ، افتعالا من عند نفسك ، لأنهم كانوا يقولون : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟ (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست بمفتعل للآيات ، أو لست بمقترح لها (هذا بَصائِرُ) هذا القرآن بصائر (مِنْ رَبِّكُمْ) أى حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى ، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤)

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت ، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه : وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل : معنى فاستمعوا له : فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)(٢٠٥)

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) هو عامّ في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) متضرعاً وخائفاً (وَدُونَ الْجَهْرِ) ومتكلما كلاماً دون الجهر ، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدوّ : بأوقات الغدوّ ، وهي الغدوات. وقرئ : والإيصال ، من آصل إذا دخل في الأصيل ، كأقصر وأعتم (١) وهو مطابق للغدوّ (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)

__________________

(١) قوله «كأقصر وأعتم» أقصر : أى دخل في القصر أى العشى ، وأعتم : دخل في العتمة ، أى وقت العشاء. أفاده الصحاح. (ع)

١٩٢

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى (عِنْدَ) دنوّ الزلفة ، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله ، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً ، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» (١)

سورة الأنفال

مدنية ، [إلا من آية ٣٠ إلى غاية آية ٣٦ فمكية]

وهي خمس وسبعون آية [نزلت بعد البقرة]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

النفل : الغنيمة ، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد :

إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ (٢)

__________________

(١) ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران وسيأتى في آخر الكتاب.

(٢) إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثى وعجل

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير ما شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

للبيد بن ربيعة العامري ، شبه الثواب الذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل ـ بالتحريك ـ وهو ما يعده الامام ـ

١٩٣

والنفل ما ينفله الغازي ، أى يعطاه زائداً على سهمه من المغنم ، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب : من قتل قتيلا فله سلبه. أو قال لسرية : ما أصبتم فهو لكم ، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل ، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه : لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر ، وفي قسمتها ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له : قل لهم هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء ، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا ، فقال الشبان : نحن المقاتلون ، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردآ لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم (٢) وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : المغنم قليل والناس كثير : وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبى وقاص : قتل أخى عمير يوم بدر ، فقتلت به سعيد بن العاص (٣) وأخذت سيفه فأعجبنى ، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت : إنّ الله قد شفى صدري من المشركين ، فهب لي هذا السيف فقال : ليس هذا لي ولا لك ، اطرحه في القبض (٤) فطرحته وبى مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخى وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت

__________________

ـ المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب فاستعار النفل له على طريق التصريحية وأخبر به عن التقوى لأنها سببه. ويجوز استعارة النفل التقوى يجامع النفع ، وبإذن الله وتسهيله. ريثى : أى بطئى ، وعجل : أى سرعتي ، فحذفت ياء الاضافة للوزن ، فلا ند : أى لا مثل له ، بيديه : أى بقدرته التي هي كالآلة في أفعاله تعالى كاليدين لأفعالنا. ويحتمل أنه شبه خزائنه سبحانه باليد فيها شيء ، لسهولة تصرفه فيما فيها واختصاصه به ، فالباء بمعنى في. وتثنية اليد للمبالغة في التشبيه ، ولا مانع من جعله ترشيحا للاستعارة على الوجهين. «ما شاء فعل» أى ما أراده فعله ، وبين ذلك بقوله «من هداه طرق الخير اهتدى» حتما حال كونه طيب الشأن. ومن شاء إضلاله أضله حتما ، أى تركه ونفسه ومنعه لطفه ، حتى يضل حال كونه كاسف البال أى حزين القلب في العاقبة ، فهي حال منتظرة «أو سيء الحال والشأن ، وهذا محذوف معلوم من المقابلة بما قبله.

(١) أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والحاكم من حديث أبى أمامة عن عبادة بن الصامت. قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه بدرا. فالتقى الناس. فهزم الله العدو. فذكر الحديث في اختلافهم في قسمة الغنائم. قال : فنزلت ويسألونك عن الأنفال ـ الآية. فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين.

(٢) أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى مكان كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا. فتسارع إليه الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات ـ الحديث» قلت : وأما قوله «حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين» فليس في هذا الحديث.

(٣) «قوله فقتلت به سعيد بن العاص» في حواشي البيضاوي : أنه العاص بن سعيد. (ع)

(٤) قوله «في القبض ـ كسبب ـ : المال المقبوض. (ع)

١٩٤

سورة الأنفال ، فقال : يا سعد ، إنك سألتنى السيف وليس لي ، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه (١) وعن عبادة بن الصامت : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين (٢). وقرأ ابن محيصن : يسألونك علنفال ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، وإدغام نون عن في اللام : وقرأ ابن مسعود : يسألونك الأنفال ، أى يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فان قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)؟ قلت : معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوّضا إلى رأى أحد ، والمراد : أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاختلاف والتخاصم ، وكونوا متحدين متآخين في الله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم. وعن عطاء : كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل ، فقالوا : قد أكلنا وأنفقنا ، فقال : ليردّ بعضكم على بعض. فان قلت : ما حقيقة قوله (ذاتَ بَيْنِكُمْ)؟ قلت : أحوال بينكم ، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، كقوله (بِذاتِ الصُّدُورِ) وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته ، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم كاملى الإيمان. واللام في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم. أى إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا). (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فزعت. وعن أمّ الدرداء : الوجل في القلب كاحتراق السعفة (٣) ، أما تجد له قشعريرة؟ قال. بلى ، قالت : فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه ، يعنى فزعت لذكره استعظاما له ، وتهيبا من جلاله وعزّة

__________________

(١) أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو شيبا وأبو عبيد في الأموال : وسعيد ابن منصور كلهم قال : حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد بن أبى عون عنه قال أبو عبيد : كذا يقول : سعيد بن العاصي. والصواب العاص بن سعيد. وفي روايتهم فقلت سعيد بن العاصي لم يقولوا به.

(٢) أخرجه أحمد وإسحاق والطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن الحارث عن سليمان بن مكحول ـ عن أبى أمامة عنه به.

(٣) قوله «كاحتراق السعفة» أى غصن النخلة ، كما في للصحاح. (ع)

١٩٥

سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه ، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فينزع. وقرئ : وجلت ، بالفتح ، وهي لغة نحو «وبق» في «وبق» (١). وفي قراءة عبد الله : فرقت (زادَتْهُمْ إِيماناً) ازدادوا بها يقينا وطمأنينة في نفس ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبى هريرة رضى الله عنه : الإيمان سبع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان (٢). وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه : إن للإيمان سننا وفرائض وشرائع ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم ، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة (حَقًّا) صفة للمصدر المحذوف ، أى أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كقولك : هو عبد الله حقا ، أى حق ذلك حقا. وعن الحسن أنّ رجلا سأله : أمؤمن أنت؟ قال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنسار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألنى عن قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) فو الله لا أدرى أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقا ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنه ، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه ، يعنى كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا ، فلا يقطع بأنه مؤمن حقا ، وبهذا تعلق من يستننى في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضى الله عنه ممن لا يستثنى فيه. وحكى عنه أنه قال لقتادة : لم تستثنى في إيمانك؟ قال : اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) فقال له : هلا اقتديت به في قوله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى)؟ (دَرَجاتٌ) شرف وكرامة وعلوّ منزلة (وَمَغْفِرَةٌ) وتجاوز لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) نعيم الجنة. يعنى لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم ، وهذا معنى الثواب.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ)(٥)

__________________

(١) قوله «نحو وبق في وبق ... الخ» وبق : أى هلك. وفرقت : خافت. (ع)

(٢) أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن حبان برواية أبى صالح عن أبى هريرة ، وهو في البخاري باختصار.

١٩٦

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) فيه وجهان (١) أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة ، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني : أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أى الأنفال استقرّت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. و (مِنْ بَيْتِكَ) يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهاجره ومسكنه ، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه (بِالْحَقِ) أى إخراجاً ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) في موضع الحال ، أى أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة (٢) معها أربعون راكبا ، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام ، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم ، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً ، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها : إنى رأيت عجبا رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس فقال أبو جهل : ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير. في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير ، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات والمعازف ببدر ، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وإن محمداً لم يصب العير ، وإنا قد أعضضناه (٣) ، فمضى

__________________

(١) قال محمود : «في «كما» وجهان ، أحدهما : أن يرتفع محل الكاف ... الخ» قال أحمد : وكان جدي أبو العباس أحمد الفقيه الوزير رحمه الله يذكر في معنى الآية وجها أوجه من هذين ، وهو أن المراد تشبيه اختصاصه عليه السلام بالأنفال ، وتفويض أمرها إلى حكمه من حيث الاثابة والجزاء ، بإخراجه من بيته مطيعا لله تعالى سامعا لأمره راضيا بحكمه على كراهة المؤمنين لذلك في الطاعة ، فشبه الله تعالى ثوابه بهذه المزية بطاعته المرضية ، فكما بلغت طاعته الغاية في نوع الطاعات ، فكذلك بلغت إثابة الله له الغاية في جنس المثوبات. وجماع هذا المعنى هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام «الأجر على قدر النصب» ولك على هذا المعنى أن تجعل الكاف مرفوعة ومنصوبة على حسب التقدير ، والله الموفق.

(٢) هذه القصة منتزعة من سيرة ابن هشام إلا قوله «إن في أهل العير عمرو بن هشام فان عمرو بن هشام هو أبو جهل ولم يكن في العير ، وإنما كان في النفير وأخرجه الطبري من قول ابن إسحاق ، وبعضه عن ابن عباس وعن عروة وعن السدى بتقديم وتأخير وزيادة ونقس وفي مغازي الواقدي عن محمود بن لبيد بعضه. وعن سعيد بن المسبب بعضه.

(٣) قوله «وإنا قد أعضضناه» في الصحاح : أعضضته الشيء فعضه. وفي الحديث «فأعضوه بهن أبيه» ويقال :

١٩٧

بهم إلى بدر ـ وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ـ فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين : إمّا العير ، وإمّا قريشا ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال : ما تقولون ، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول ، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم ردّد عليهم فقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدوّ ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض. فو الله لو سرت إلى عدن أبين (١) ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله ، امض لما أمرك الله ، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنما معكما مقاتلون ، ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا علىّ أيها الناس وهو يريد الأنصار ، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا ، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى (٢) عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : أجل ، قال : قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك ، فسر بنا على بركة الله ، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس

__________________

ـ أعضضته سيفي ، أى ضربته به. وأعض القوم. أكلت إيلهم العض ، وهو بالضم علف الأمصار ، وبالكسر الشوك الصغير. (ع).

(١) قوله «إلى عدن أبين» في الصحاح : أبين اسم رجل نسب إليه عدن ، فقيل : عدن أبين. (ع)

(٢) قوله «يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى» لعله «أن تكون» أو لعله «الأنصار ترى» وبالجملة فأحد الحرفين يغنى عن الآخر. (ع)

١٩٨

دونها شيء ، فناداه العباس وهو في وثاقه : لا يصلح (١) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك ، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٦)

والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلقى النفير ، لإيثارهم عليه تلقى العير (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم : قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة ، بحال من يعتل إلى القتل (٢) ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن ، وهو مشاهد لأسبابه ، ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل : كان خوفهم لقلة العدد ، وأنهم كانوا رجالة. وروى أنه ما كان فيهم إلا فارسان.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧)

(إِذْ) منصوب بإضمار اذكر. و (أَنَّها لَكُمْ) بدل من إحدى الطائفتين. والطائفتان : العير والنفير. (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) العير ، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم : والشوكة : الحدّة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال : شوك القنا لشباها (٣). ومنها قولهم : شائك السلاح ، أى تتمنون أن تكون لكم العير ، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة ، ولا تريدون الطائفة الأخرى (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أن يثبته ويعليه (بِكَلِماتِهِ) بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة ، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر : فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال ، يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف

__________________

(١) أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار وابن حيان والحاكم من رواية إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.

(٢) قوله «بحال من يعتل إلى القتل» أى يجذب جذبا عنيفا. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «شوك القنا لشباها» شباه كل شيء : حد طرفه ، والجمع شبا وشبوات ، كذا في الصحاح. مشياها جمع مضاف لضمير القنا. (ع)

١٩٩

الأمور (١) وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم (٢) والله عز وجلّ يريد معالى الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلوّ الكلمة ، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوّتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزّكم وأذلهم ، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ : بكلمته ، على التوحيد.

(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)

فإن قلت : بم يتعلق قوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ)؟ قلت : بمحذوف تقديره : ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك ، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ومحقه. فإن قلت : أليس هذا تكريراً؟ قلت : لا ، لأنّ المعنيين متباينان ، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها ، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى : وقيل : قد تعلق بيقطع.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(٩)

فإن قلت : بم يتعلق (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ)؟ قلت : هو بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ) وقيل بقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال ، طفقوا يدعون الله ويقولون : أى ربنا انصرنا على عدوّك ، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف ، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ـ فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه ، وقال : يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك (٣) (أَنِّي

__________________

(١) قال محمود : «يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور ... الخ» قال أحمد : والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكر الارادة فيه مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة ، كأنه قيل : وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق ، ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة ، فبين الكلامين عموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد. وفي ذلك مالا يخفى من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين : إطلاق ، وتقييد. والله أعلم.

(٢) قوله «وأحوالكم» لعله وأموالكم. (ع)

(٣) أخرجه مسلم من روآية ابن عباس عن عمر رضى الله عنه.

٢٠٠