الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

زيادة على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر : على الذي أحسن ، بالرفع ، أى على الذي هو أحسن ، بحذف المبتدإ كقراءة من قرأ (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) بالرفع أى على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماما ، أى تامّاً كاملا على أحسن ما تكون عليه الكتب ، أى على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي : أتمَّ له الكتاب على أحسنه

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)(١٥٧)

(أَنْ تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا (عَلى طائِفَتَيْنِ) يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل (وَإِنْ كُنَّا) هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين ، على أن الهاء ضمير الشأن (عَنْ دِراسَتِهِمْ) عن قراءتهم ، أى لم نعرف مثل دراستهم (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدّة أذهاننا ، وثقابة أفهامنا ، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها ، على أنا أمّيون. وقرئ : أن يقولوا : أو يقولوا ، بالياء (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تبكيت لهم ، وهو على قراءة من قرأ يقولوا على لفظ الغيبة أحسن ، لما فيه من الالتفات. والمعنى : إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم ، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) بعد ما عرف صحتها وصدقها ، أو تمكن من معرفة ذلك (وَصَدَفَ عَنْها) الناس فضلّ وأضلّ (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) كقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ).

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٥٨)

٨١

(الْمَلائِكَةُ) ملائكة الموت ، أو العذاب (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أو يأتى كل آيات ربك. بدليل قوله (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يريد آيات القيامة والهلاك الكلى ، وبعض الآيات. أشراط الساعة ، كطلوع الشمس من مغربها ، وغير ذلك. وعن البراء بن عازب : كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «ما تتذاكرون؟ فقلنا : نتذاكر الساعة قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفاً بالمغرب ، وخسفا بالمشرق ، وخسفاً بجزيرة العرب ، والدجال ، وطُلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، وناراً تخرج من عدن (١)» (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة لقوله نفساً. وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على آمنت. والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرّة ، ذهب أوان التكليف عندها ، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات ، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً ، فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت (٢) في غير وقت الإيمان ، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً ، ليعلم أنَّ قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جمع بين قرينتين ، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى ، حتى يفوز صاحبهما ويسعد ، وإلا فالشقوة والهلاك (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وعيد. وقرئ : أن يأتيهم الملائكة ، بالياء والتاء. وقرأ ابن سيرين : لا تنفع ، بالتاء ، لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك : ذهبت بعض أصابعه.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)(١٥٩)

(فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث : «افترقت اليهود

__________________

(١) لم أجده لكن في مسلم عن حذيفة نحوه.

(٢) قال محمود : «فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت ... الخ» قال أحمد رحمه الله ، هو يروم الاستدلال على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود بهذه الآية ، إذ سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات ، ولا يتم له ذلك ، فان هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف. وأصل الكلام. يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد ، ولا نفساً لم تكسب في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد ، إلا أنه لف الكلامين فجعلهما كلاما واحداً بلاغة واختصاراً وإعجازاً : أراد أن يثبت أن ذلك هو الأصل ، فهو غير مخالف لقواعد السنة ، فانا نقول : لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخبر وإن نفع الايمان المتقدم في السلامة من الخلود ، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال ، أجدر من أن يدل له. والله الموفق.

٨٢

على إحدى وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمّتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في الهاوية إلا واحدة (١)» وقيل : فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقرئ : فارقوا دينهم ، أى تركوه (وَكانُوا شِيَعاً) فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أى من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل : هي منسوخة بآية السيف.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٦٠)

(عَشْرُ أَمْثالِها) على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف ، تقديره عشر حسنات أمثالها ، وقرئ : عشر أمثالها ، برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الإضعاف. وقد وعد بالواحد سبعمائة ، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل ، ومكافأة السيئات عدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٦١)

(دِيناً) نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ) لأنّ معناه : هداني صراطاً ، بدليل قوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) والقيم : فيعل ، من قام ، كسيد من ساد ، وهو أبلغ من القائم.

__________________

(١) أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من رواية محمد بن عمرو عن أبى هريرة ، دون «كلها» إلى آخر ما في المواضع ، لكن عند أبى داود في الأخيرة «ثنتان وسبعون في النار. وواحدة في الجنة» وللترمذي «كلهم في النار ، إلا ملة واحدة. وهي الناجية ، وافترقت النصارى ثنتين وسبعين فرقة. كلها في الهاوية إلا واحدة. قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى ، وأخرجه ابن حبان والحاكم. ورواه الطبراني من حديث عوف بن مالك كذلك ، إلا أنه قال «فرقة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل : من هي؟ قال : الجماعة» ومن حديث أبى أمامة في الأوسط ، بلفظ «كلها في النار إلا السواد الأعظم» ولأبى نعيم وابن مردويه من حديث زيد بن أسلم عن أنس نحوه. والبزار والبيهقي في المدخل من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه. وأخرجه أسلم بن سهل الواسطي في تاريخه من حديث جابر مثله. وبين أن السائل عن ذلك عمر بن الخطاب ، وفي إسناده واو لم يسم ، وفي الباب عن سعد بن أبى وقاص عند ابن أبى شيبة ، وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ، وعن معاوية أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وإسناده حسن ، واتفقت هذه الطرق على العدد المذكور أولا : وخالفهم كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده لجعله قوم موسى سبعين فرقة وقوم عيسى إحدى وسبعين وهذه الأمة اثنين وسبعين. وغير في كل منها كلها فقال «إلا واحدة» وقال في الأخيرة «الإسلام وجماعة» أخرجه الطبراني والحاكم.

٨٣

وقرئ : قيما. والقيم : مصدر بمعنى القيام وصف به. و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان. و (حَنِيفاً) حال من إبراهيم.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(١٦٣)

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) وعبادتي وتقرّبى كله. وقيل : وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقيل : صلاتي وحجى من مناسك الحج (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) وما آتيه في حياتي ، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خالصة لوجهه (وَبِذلِكَ) من الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلام كل نبىّ متقدّم لإسلام أمّته.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(١٦٤)

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم ، والهمزة للإنكار ، أى منكر أن أبغى ربا غيره (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره ، كما قال (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) ، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) جواب عن قولهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٦٥)

(جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فحلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الشرف والرزق (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من نعمة المال والجاه ، كيف تشكرون تلك النعمة ، وكيف يصنع الشريف بالوضيع ، والحرّ بالعبد ، والغنى بالفقير (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمته (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن قام يشكرها. ووصف العقاب بالسرعة ، لأن ما هو آت قريب.

٨٤

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى الله عليه وسلم واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة (١).

سورة الأعراف

مكية ، غير ثمان آيات : واسئلهم عن القرية ، إلى : وإذ نتقنا الجبل

وهي مائتان وست آيات [نزلت بعد ص]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)(٢)

(كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أى هو كتاب. و (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة له. والمراد بالكتاب السورة (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أى شك منه (٢) ، كقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ

__________________

(١) سبقت طرقه في سورة آل عمران. وله طريق أخرى أخرجها الثعلبي من حديث أبى بن كعب بتمامه. وفيه أبو عصمة. وهو متهم بالكذب. وأوله عند الطبراني في الصغير في ترجمة إبراهيم بن نائلة من حديث ابن عمر إلى قوله «والتحميد» وفيه يوسف بن عطية ، وهو ضعيف ، وأخرجه عنه ابن مردويه في تفسيره وأبو نعيم في الحلية.

(٢) قال محمود : «الحرج : الشك ... الخ» قال أحمد : ويشهد له قوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولهذه النكتة ميز إمام الحرمين بين العلم والاعتقاد الصحيح ، بأن «العقد» ربط الفكر بمعتقد. و «الاعتقاد» افتعال منه ، والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والتبلج والثقة. وما أحسن تنبيه بقوله : والاعتقاد افتعال منه. يريد : إذا كان العقد مبايناً للعلم ، فما ظنك بالاعتقاد ، لأن صيغة الافتعال أبلغ معنى. ومنه الاعتماد والاحتمال. ومن ثم ورد في الخبر «كسب» وفي نقيضه «اكتسب» لأن النفوس في الشهوات والمخالفات واتباع الأهواء أجدر منها في الطاعات وقمع الأغراض ، وعلى ذلك جاء (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وإن كان «العلم» من «الأعلم» المأخوذ من «العلمة» بالتحريك ، وهي انشراح الشفة وانشقاقها ، فالذي ذكره الامام حينئذ نهاية في نوعه ، والله الموفق.

٨٥

مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وسمى الشك حرجاً ، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أى لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تحرج من تبليغه (١) لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّته الله ونهاه عن المبالاة بهم. فإن قلت : بم تعلق قوله (لِتُنْذِرَ)؟ قلت : بأنزل ، أى أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهى ، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار ، لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه ، متكل على عصمته. فإن قلت : فما محل ذكرى؟ قلت : يحتمل الحركات الثلاث. والنصب بإضمار فعلها. كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيرا لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفاً على كتاب ، أو بأنه خبر مبتدإ محذوف. والجر للعطف على محل أن تنذر ، أى للإنذار وللذكر. فإن قلت : النهى في قوله (فَلا يَكُنْ) متوجه (٢) إلى الحرج فما وجهه؟ قلت : هو من قولهم : لا أرينك هاهنا.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)(٣)

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن والسنة (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) من دون الله (أَوْلِياءَ) أى ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم ، وأمركم باتباعه. وعن الحسن : يا ابن آدم ، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها. وقرأ مالك بن دينار : ولا تبتغوا ، من الابتغاء (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً). ويجوز أن يكون الضمير في (مِنْ دُونِهِ) لما أنزل ، على : ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. وقرى : تذكرون ، بحذف التاء. ويتذكرون ، بالياء. و (قَلِيلاً) : نصب يتذكرون ، أى تذكرون تذكرا قليلا. و (ما) مزيدة لتوكيد القلة.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(٤)

__________________

(١) عاد كلامه. قال : «أو ولا تحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له ... الخ» قال أحمد : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) الآية.

(٢) عاد كلامه. قال : «فان قلت النهي في قوله فلا يكن متوجه إلى الحرج ، فما وجهه؟ قلت : هو من قولهم لا أرينك هاهنا» قال أحمد : بريد أن الحرج منهى في الآية ظاهراً والمراد النهى عنه ، والله أعلم.

٨٦

(فَجاءَها) فجاء أهلها (بَياتاً) مصدر واقع موقع الحال ، بمعنى بائتين. يقال : بات بياتاً حسناً ، وبيتة حسنة. وقوله (هُمْ قائِلُونَ) حال معطوفة (١) على بياتا ، كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين. فإن قلت : هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل (قَرْيَةٍ) أو قبل الضمير في (أَهْلَكْناها)؟ قلت : إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة ، فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها. وإنما قدّرناه قبل الضمير في (فَجاءَها) لقوله (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) فإن قلت : لا يقال : جاءني زيد هو فارس ، بغير واو ، فما بال قوله (هُمْ قائِلُونَ)؟ قلت : قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ، ورده الزجاج وقال : لو قلت جاءني زيد راجلا ، أو هو فارس. أو جاءني زيد هو فارس ، لم يحتج فيه إلى واو ، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا. لاجتماع حرفى عطف ، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : جاءني زيد راجلا أو هو فارس ، كلام فصيح وارد على حدّه. وأمّا جاءني زيد هو فارس ، فخبيث. فإن قلت : فما معنى قوله (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت : معناه أردنا إهلاكها كقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وإنما خصّ هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة ، لأنهما وقت الغفلة والدعة ، فيكون نزول

__________________

(١) عاد كلامه. قال : «وقوله (هُمْ قائِلُونَ) حال معطوفة على بياتا كأنه قيل ، لجاءهم ... الخ» قال : أحمد : الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا ضعيف. والأفصح دخول الواو كما اختاره الزمخشري. وأما الزجاج وغيره فيجعلون أحد الأمرين كافيا في الاسمية ، إما الواو وإما الضمير. وأما قول الزمخشري : إن الجملة المعطوفة إنما حذفت منها واو الحال كراهية لاجتماعها وهي واو عطف أيضا مع مثلها ، ففيه نظر. وذلك أن واو الحال لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية. ألا تراها تصحب الجملة الاسمية عقيب الفعلية في قولك جاءني زيد وهو راكب ، ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين وإن لم يكن قبيحا ، فالأصح خلافه ، فلما رأينها تتوسط بينهما والكلام حينئذ هو الأفصح أو المتعين ، علمت أنها ممتازة بمعنى وخاصية عن واو العطف ، وإذا ثبت امتيازها عن العاطفة ، فلا غرو في اجتماعها معها ، وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية ، فاما أن تسلبه حينئذ لاغناء العاطف عنها ، أو تستمر عليه ، كما تجتمع الواو. ولكن لما فيها من زيادة معنى الاستدراك في مثل قوله (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) فعلى هذا كان من الممكن أن تجتمع واو الحال مع العاطف بلا كراهية ، والذي يدل على ذلك أنك لو قلت : سبح الله وأنت راكع ، أو وأنت ساجد ، لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة فالتحقيق ـ والله أعلم ـ في الجملة المعطوفة على الحال : أن المصحح لوقوعها حالا من غير واو ، هو العاطف ، إذ يقتضى مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحال ، فيستغنى عن واو الحال ، كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو موقعة في مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) وفي مثل (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) ولو قلت في غير التلاوة : وبالليل إذا عسعس ، لجاز ، ولكن يستغنى عن تكرار حرف القسم لنيابة العاطف منابه. فهذا والله أعلم سبب استغناء الجملة المعطوفة على الحال عن الواو المصححة للحالية ، فالحاصل من هذا أنك إن أتيت بواو الحال مصاحباً للعاطف ، لم تخرج عن حد الفصاحة إلى الاستثقال ، بل أمدت تأكيداً. وإن لم تأت بها فكذلك في الفصاحة مع إفادة الاختصار ، والله الموفق للصواب.

٨٧

العذاب فيهما أشد وأفظع ، وقوم لوط أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب وقت القيلولة.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٥)

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فيما كنا عليه. ويجوز : فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا ، لأنه لا مستغاث من الله بغيره ، ومن قولهم دعواهم : يا لكعب. ويجوز ، فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم ، وأن لات حين دعاء ، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم ، (دَعْواهُمْ) نصب خبر لكان ، و (أَنْ قالُوا) رفع اسم له ، ويجوز العكس

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أُرْسِلَ) مسند إلى الجار والمجرور وهو (إِلَيْهِمْ) ومعناه : فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم ، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم ، كما قال : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ويسأل المرسلين عما أجيبوا به ، كما قال : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) ، (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ) عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم وعما وجد منهم ، فإن قلت : فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم ، فما معنى سؤالهم؟ قلت معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩)

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) يعنى وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. ورفعه على الابتداء. وخبره (يَوْمَئِذٍ). و (الْحَقُ) صفته أى : والوزن يوم يسأل الله الأمم (١) ورسلهم

__________________

(١) قوله «أى والوزن يوم يسأل الله الأمم» هذا إنما ينبنى على أن يومئذ متعلق بالوزن ، والحق خبر. أما على ما قاله ، فالتقدير : ويوم يسأل الخ ، ويمكن أن مراده : والوزن كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم ، أى الوزن الحق ، وكان الأقرب : أى والوزن الحق يوم يسأل ... الخ (ع)

٨٨

الوزن الحق ، أى العدل. وقرئ : القسط. واختلف في كيفية الوزن فقيل : توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ، تنظر إليه الخلائق ، تأكيداً للحجة ، وإظهاراً للنصفة ، وقطعاً للمعارة ، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم ، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم ، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ، وكما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب. وقيل : هي عبارة عن القضاء السوىّ والحكم العادل (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جمع ميزان أو موزون ، أى فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن : وحقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل. وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف. (بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) يكذبون بها ظلماً : كقوله (فَظَلَمُوا بِها).

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(١٠)

(مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء. وعن ابن عامر : أنه همز ، على التشبيه بصحائف.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)(١١)

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يعنى خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر ، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الآية (مِنَ السَّاجِدِينَ) ، ممن سجد لآدم.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١٢)

(أَلَّا تَسْجُدَ) «لا» في (أَلَّا تَسْجُدَ) صلة بدليل قوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. ومثلها (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) بمعنى ليعلم : فإن قلت : ما فائدة زيادتها؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ (إِذْ أَمَرْتُكَ) لان أمرى لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتما لا بدّ لك منه فإن قلت : لم سأله عن المانع من السجود ، وقد علم ما منعه؟ قلت :

٨٩

للتوبيخ ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم ، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه ، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب. فإن قلت : كيف يكون قوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواباً لما منعك ، وإنما الجواب أن يقول : منعني كذا؟ قلت : قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم ، وبعلة فضله عليه ، وهو أنّ أصله من نار وأصل آدم من طين ، فعلم منه الجواب وزيادة عليه ، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله ، كأنه يقول : من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

(فَاهْبِطْ مِنْها) من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة ، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين (فَما يَكُونُ لَكَ) فما يصح لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصى (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك ، كما تقول للرجل : قم صاغراً ، إذا أهنته. وفي ضدّه : قم راشداً. وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. وعن عمر رضى الله عنه : من تواضع لله رفع الله حكمته (١) وقال : انتعش أنعشك الله. ومن تكبر وعدا طوره وهصه (٢) الله إلى الأرض(٣).

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(١٥)

__________________

(١) قوله «رفع الله حكمته» في الصحاح : حكمة اللجام ما أحاط بالحنك. (ع)

(٢) قوله : «وهصه الله إلى الأرض» وهصه : أى غمزه إلى الأرض والوهص : كسر الشيء الرخو وشدة الوطء على الأرض ، كذا في الصحاح. (ع)

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه. حدثنا أبو خالد الأحمر وعبد الله بن إدريس وسفيان بن عتبة عن ابن عجلان عن بكير بن الأشج عن معمر بن أبى حية عن عبيد الله بن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال : قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : «إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال : انتعش أنعشك الله ، فهو في نفسه صغير ، وفي أنفس الناس كبير. وإن العبد إذا تعظم وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض. وقال : اخسأ خسأك الله ، فهو في نفسه كبير وفي أنفس الناس صغير ، لهو أحقر عندهم من خنزير ، وأخرجه البيهقي في الشعب من طريق على بن المديني عن سفيان. وقد روى بعضه مرفوعا ، أخرج الدارقطني في العلل من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من آدمى إلا وملك آخذ بحكمته. فإذا رفع نفسه قيل للملك : ضع حكمتك ـ وإذا وضع نفسه قيل للملك : ارفع حكمتك» قال : لا يثبت. فيه على بن زيد وهو ضعيف.

٩٠

فإن قلت : لم أجيب إلى استنظاره ، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم (١) قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد ، وفي مخالفته من أعظم الثواب ، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي ، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١٧)

(فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فبسبب إغوائك إياى لأقعدنّ لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغى ولم يثبت كما ثبتت الملائكة ، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب (٢). وعن الأصم : أمرتنى بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى : فبسبب وقوعى في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم (٣) حتى يفسدوا بسببي ، كما فسدت بسببهم. فإن قلت : بم تعلقت الباء ، فإن تعلقها

__________________

(١) قال محمود : «فان قلت : لم أجيب إلى استنظاره ، وإنما استنظر ليفسد عباده ... الخ» قال أحمد : وهذا السؤال إنما يورده ويلتزم الجواب عنه القدرية الذين يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح في أفعاله. وأما أهل السنة فقد أصغوا حق الإصغاء إلى قوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فلا يورد أحد منهم هذا السؤال ولا يجيب عنه من يورده ، والله الموفق.

(٢) قوله «ومن آدم أنفسا ومناصب» هذا عند المعتزلة ، أما عند أهل السنه فآدم أفضل منهم. (ع)

(٣) قال محمود : «والمعنى : فبسبب وقوعي في الغى لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي ... الخ» قال أحمد : تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان : إحداهما : تحريفه الإغواء إلى التكليف ، لأنه يعتقد أن الله تعالى لم يغوه ، أى لم يخلق له الغى بناء على قاعدة التحسين. والتقبيح والصلاح والأصلح ، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود ، لأنه كان سبباً في غيه. وكثيراً ما يؤول أفعال الله تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب ، ويجعل ذلك من مجاز السببية ، لأن الفعل له ملابسات بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب ، فاسناده إلى الفاعل حقيقة ، وإسناده إلى بقيتها مجاز ويجعل الفعل مسندا إلى الله تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله. وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيداً محبوسا في مال عليه ، هذه وضعت القيود في رجليك ، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون ، أى اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك. فعلى هذا يروم حمل هذه الآية ، يعنى بما كلفتنى من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغى لنفسي لأقعدن ، فيجعل إبليس هو الفاعل في الحقيقة. وأما إسناد الفعل إلى الله تعالى فمجاز. هذه إحدى النزغتين. والأخرى : جعله التكليف من جملة الأفعال ، لأنه يزعم أن كلام الله تعالى محدث من جملة أفعاله ، لا صفة من صفاته ، والتكليف من الكلام ، فهاتان زلتان جمع القدرية بينهما. وإبليس لعنه الله لم يرض واحدة منهما ، لأنه نسب الإغواء إلى الله تعالى ، إذ هو خالق كل شيء ، فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفى الشرك ما لم يسبق به إبليس؟ نعوذ بالله من التعرض لسخط الله.

٩١

بلأقعدنّ يصدّ عنه لام القسم ، لا تقول : والله بزيد لأمرّنّ؟ قلت : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتنى أقسم بالله لأقعدنّ ، أى فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم ، أى : فأقسم بإغوائك لأقعدنّ ، وإنما أقسم بالإغواء ، لأنه كان تكليفا ، والتكليف من أحسن أفعال الله ، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد ، فكان جديراً بأن يقسم به. ومن تكاذيب المجبرة (١) ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر ، فجلس إليه فقال له طاوس : تقوم أو تقام ، فقام الرجل ، فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه ، قال رب بما أغويتنى ، وهذا يقول : أنا أغوى نفسي ، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه ، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين (٢). وقيل «ما» للاستفهام ، كأنه قيل : بأى شيء أغويتنى ، ثم ابتدأ لأقعدنّ. وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» الاستفهامية ، قليل شاذ. وأصل الغىّ الفساد. ومنه : غوى الفصيل ، إذا بشم. والبشم : فساد في المعدة (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف ، كقوله :

... كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ (٣)

__________________

(١) قوله «ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه» يعنى أهل السنة ، وسماهم المعتزلة بذلك ، لقولهم : إن خالق أفعال العباد ولو قبيحة هو الله تعالى ، فيكون العبد مجبوراً فيها. فكيف يصح تكليفه ، ولكنهم أثبتوا للعبد الكسب في أفعاله ، ولذلك صح تكليفه. أما الجبر المنافى للتكليف ، فهو أن لا يكون للعبد دخل في فعله أصلا ، بحيث يكون كالريشة المعلقة في الهواء. وبه قالت المجبرة الحقيقية ، كما هو مذكور في أواخر المواقف. (ع)

(٢) عاد كلامه. قال : «ومن تكاذيب المجبرة : ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر ، فجلس إليه فقال له طاوس تقوم أو تقام؟ فقام الرجل. فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه ، قال رب بما أغويتنى. وهذا يقول : أنا أغوى نفسي. انتهي كلام طاوس على زعمهم. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه وتعالى أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين» انتهى كلامه. قال أحمد : وإنما أوردت مثل هذا من كلامه وإن كان غير محتاج إلى التنبيه على فساده وحيده عن العقائد الصحيحة لتبلج الحجة في وجوب الرد عليه وتعينه على مر هداه الله إليه. ولقد صدق طاوس رضى الله عنه. وأما قول الزمخشري في أهل السنة الذين سماهم مجبرة أنهم يتهالكون في نسبة القبائح إلى الله تعالى ، فحاصله : أنهم يخلصون التوحيد حتى لا يؤمنون بخالق غير الله ، ولكي يصدفوا قوله تعالى متمدحا (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا كالقدرية الذين هم يتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه ، فيؤولون الفاعل بالمسبب. فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ، والله الموفق للصواب.

(٣) لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

لساعدة بن جؤية ، يصف رمحاً بأنه لين يضطرب صلبه في الكف بسبب هزه ، فلا يلبس فيه ، كما عسل أى اضطرب الثعلب في الطريق ، فحذف الجار من الثاني الضرورة ، واغتفر لذكره في الأولى ، وفي عسل معنى الدخول بسرعة.

٩٢

وشبهه الزجاج بقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن ، أى على الظهر والبطن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة : قعد له بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك ، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرب ، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك ، فعصاه فقاتل (١)» (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ) من الجهات الأربع التي يأتى منها العدوّ في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه ، كقوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). فإن قلت : كيف قيل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بحرف الابتداء (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عدّى إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس. وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله ، قلنا : معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلى عليه. ومعنى «عن يمينه» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له. ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ، كما ذكرنا في «تعالى». ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس ، وعلى القوس ، ومن القول ، لأنّ السهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه ، لأنهما ظرفان للفعل. ومن بين يديه ومن خلفه : لأن الفعل يقع في بعض الجهتين ، كما تقول : جئته من الليل ، تريد بعض الليل ، وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يدىّ ، ومن خلفي ، وعن يمينى ، وعن شمالي : أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف ، فإن الله غفور رحيم ، فأقرأ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وأمّا من خلفي ، فيخوّفنى الضيعة على مخلفي فأقرأ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) وأمّا من قبل يمينى ، فيأتينى من قبل الثناء فأقرأ (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وأمّا من قبل شمالي فيأتينى من قبل الشهوات فأقرأ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ). (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) قاله تظنيناً ، بدليل قوله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) وقيل : سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)(١٨)

__________________

(١) أخرجه النسائي وأحمد وابن حبان وأبر يعلى والطبراني من حديث سمرة ابن الفاكه وابن أبى الفاكه به وأتم منه. «تنبيهان» أحدهما : قوله «بأطرقه» ضبطه ثابت في الدلائل بكسر الراء ، بمثناة وبضم الراء. وبهاء. ثانيهما : قوله «بأطرقه» : وقع عند الطيبي ، رواه النسائي من حديث سيرة بن معبد. وهو وهم.

٩٣

(مَذْؤُماً) من ذأمه إذا ذمّه. وقرأ الزهري : مذوما بالتخفيف ، مثل مسول في مسؤل. واللام في (لَمَنْ تَبِعَكَ) موطئة للقسم. و (لَأَمْلَأَنَ) جوابه ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط (مِنْكُمْ) منك ومنهم ، نغلب ضمير المخاطب ، كما في قوله (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). وروى عصمة عن عاصم : لمن تبعك ، بكسر اللام ، بمعنى : لمن تبعك منهم هذا الوعيد ، وهو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) ، على أن (لَأَمْلَأَنَ) في محل الابتداء ، و (لَمَنْ تَبِعَكَ) خبره.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٢٢)

(وَيا آدَمُ) وقلنا يا آدم. وقرئ : هذى الشجرة ، والأصل الياء ، والهاء بدل منها. ويقال : وسوس ، إذا تكلم كلاماً خفيا يكرره. ومنه وسوس الحلىّ ، وهو فعل غير متعدّ ، كولولت المرأة ووعوع الذئب ، ورجل موسوس ـ بكسر الواو ـ ولا يقال موسوس بالفتح ، ولكن موسوس له ، وموسوس إليه ، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له : فعل الوسوسة لأجله ، ووسوس إليه : ألقاها إليه (لِيُبْدِيَ) جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور (١) وأنه

__________________

(١) قال محمود : «فيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ... الخ» قال أحمد : وفي هذه الكلمات أيضا جنوح إلى قاعدة الاعتزال في أمرين ، أحدهما : قوله إن كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول ، فانه ينشأ عن اعتقاده أن القبح والتحسين بالعقل وإن جاز أن يصدر هذا الكلام من المعتقد لعقيدة السنة ، إلا أنه لا يريد به ظاهره ، إذ التحسين والتقبيح إنما يدركان بالشرع والسمع لا بالعقل. ومعنى هذا الإطلاق ولو صدر من سنى : أن العقل يدرك المعنى الذي لأجله حسن الشرع الستر وقبح الكشف. الأمر الثاني : استدلاله على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقد مضى أن ذلك معتقد المعتزلة وإن كان بعض أهل السنة قد مال إليه والجواب ممن يعتقد تفضيل الأنبياء أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل أن يكون الأمر كذلك في علم الله تعالى. ألا ترى إبليس لعنه الله قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخالدا أولا يكونا ملكين؟ وهو في ذلك ـ

٩٤

لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول. فإن قلت : ما للواو المضمومة في «وروى» لم تقلب همزة كما قلت في أو يصل؟ قلت : لأن الثانية مدّة كألف وارى. وقد جاء في قراءة عبد الله أورى ، بالقلب (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) إلا كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى ، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا. وقرئ : ملكين ، بكسر اللام ، كقوله (وَمُلْكٍ لا يَبْلى). (مِنَ الْخالِدِينَ) من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ : من سوأتهما ، بالتوحيد. وسوّاتهما ، بالواو المشدّدة (وَقاسَمَهُما) وأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ). فإن قلت : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك (١) تقول : قاسمت فلاناً حالفته ، وتقاسما تحالفا. ومنه قوله تعالى (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ). قلت : كأنه قال لهما : أقسم لكما إنى لمن الناصحين ، وقالا له : أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ، فجعل ذلك مقاسمة بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها (٢). أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة ، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم (فَدَلَّاهُما) فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة (بِغُرُورٍ) بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة : وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضى الله عنه : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه ، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق ، فقيل له : إنهم يخدعونك ، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له (٣) (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل : الشجرة هي السنبلة. وقيل : شجرة الكرم (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أى تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضى الله عنها : ما رأيت منه ولا رأى منى (٤). وعن سعيد بن جبير : كان لباسهما من جنس الأظفار.

__________________

ـ كاذب مبطل ، فلا دليل فيه ، إذ ليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لا بليس على ذلك ولا تصديقه فيه ، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما ، إذ قال الله تعالى عنه (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) فلعل تفضيله الملكية على النبوة من جملة غروره ، والله أعلم.

(١) عاد كلامه. قال : «فان قلت المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك ... الخ» قال أحمد : ويكون في الكلام حينئذ لف ، لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان له بلفظ المتكلم ، ولكن بالخطاب ، فجعل القسم من الجانبين كلاما واحداً مضافا لا بليس.

(٢) عاد كلامه. قال : «أو أقسم لهما على النصيحة وأقسما له على قبولها» قال أحمد ، وهذا التأويل يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه. وأما حيث جعل المقسم عليه هو النصيحة لا غير ، فيبعد التأويل المذكور ، إلا أن يحمل الأمر على أنه سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة ، كما قيل في قوله تعالى (وَواعَدْنا مُوسى) أنه سمى التزام موسى للوفاء والحضور للميعاد ، ميعادا ، فأسند التعبير بالمفاعلة ، والله أعلم.

(٣) أخرجه ابن سعد من رواية نافع قال «كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه ـ وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه. فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد. فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه : ـ فذكره. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه.

(٤) أخرجه أبو يعلى من رواية كامل أبى العلاء عن أبى صالح ـ رواه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : ـ

٩٥

وعن وهب : كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر. ويقال : طفق بفعل كذا ، بمعنى جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السمال : وطفقا بالفتح (يَخْصِفانِ) ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها ، كما يخصف النعل ، بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. وقرأ الحسن : يخصفان ، بكسر الخاء وتشديد الصاد ، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري : يخصفان ، من أخصف ، وهو منقول من خصف أى يخصفان أنفسهما وقرئ : يخصفان ، من خصف بالتشديد (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل : كان ورق التين (أَلَمْ أَنْهَكُما) عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروى : أنه قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى وعزتك ، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا. فأهبط وعلم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢٣)

وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلما لأنفسهما (١) وقالا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات ، واستصغارهم العظيم من الحسنات.

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)(٢٥)

__________________

ـ قالت عائشة «ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلا متقنعا مرخى الثوب على رأسه ، وما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه منى ـ تعنى الفرج» إسناده ضعيف. وروى الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة من رواية عبد الله بن بزيد عن مولى عائشة قالت «ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط» وروى الدارقطني في غرائب مالك عن الزهري ورواه الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة مثله ـ وزاد «ولا نظر إلى فرجي قط» وفي إسناده زيد بن الحسن عن مالك. وهو ضعيف ، وقال لا يصح هذا عن مالك ولا عن الزهري. وروى الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة نحوه. وفي إسناده بركة بن محمد الحلبي ، وهو متروك.

(١) قال محمود : «سميا ذنبهما ظلما وإن كان صغيراً مغفوراً ... الخ» قال أحمد : وهذا أيضا اعتزال خفى ، لأنهم يزعمون أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها. فهذا معنى قول الزمخشري : وإن كان صغيرا مغفوراً. وإنما وسمت هذا الاعتزال بالخفاء ، لأن هذا الكلام يستقيم وروده عن أهل السنة ، لكنهم يعنون بكونه مغفوراً : أن الله تعالى تفضل بغفرانه ، ولو شاء لآخذ به وإن كان الأنبياء معصومين من الكبائر ، لا كما بزعمه المعتزلة من وجوب مغفرته ، والله الموفق.

٩٦

(اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس. و (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال ، أى متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه (مُسْتَقَرٌّ) استقرار ، أو موضع استقرار (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة ، فجعلت حواء تدور حولهم ، فقال لها : خلى ملائكة ربى فإنما أصابنى الذي أصابنى فيك ، فلما توفى غسلته الملائكة بماء وسدر وترا ، وحنطته وكفنته في وتر من الثياب ، وحفروا له ولحدوا ، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند ، وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٢٦)

جعل ما في الأرض منزلا من السماء ، لأنه قضى ثم وكتب. ومنه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) والريش لباس الزينة ، استعير من ريش الطير ، لأنه لباسه وزينته ، أى أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوءاتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح ، كما قال (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً). (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) وقرأ عثمان رضى الله عنه. ورياشاً ، جمع ريش ، كشعب وشعاب (وَلِباسُ التَّقْوى) ولباس الورع والخشية من الله تعالى ، وارتفاعه على الابتداء وخبره إمّا الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ) كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وأمّا المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدإ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى ، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة ، لأنّ مواراة السوأة من التقوى ، تفضيلا له على لباس الزينة. وقيل : لباس التقوى خبر مبتدإ محذوف ، أى وهو لباس التقوى ، ثم قيل : ذلك خير. وفي قراءة عبد الله وأبىّ : ولباس التقوى خير. وقيل : المراد بلباس التقوى : ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر (١) وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرئ : ولباس التقوى ، بالنصب عطفاً على لباساً وريشاً (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على فضله ورحمته على عباده. يعنى إنزال اللباس (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها ، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى.

__________________

(١) قوله «الجواشن والمغافر» الجواشن : هي ما ينسج من الدروع على قدر الصدر. والمغافر : ما ينسج منها على قدر الرأس ، يلبس تحت القلنسوة. (ع)

٩٧

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٧)

(لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة ، كما محن أبويكم بأنّ أخرجهما منها (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) حال ، أى أخرجهما نازعاً لباسهما ، بأنه كان سبباً في أن نزع عنهما (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ) تعليل للنهى وتحذير من فتنته ، بأنه بمنزلة العدوّ المداجى (١) يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار. إنّ عدواً يراك ولا تراه ، لشديد المؤنة إلا من عصم الله (وَقَبِيلُهُ) وجنوده من الشياطين ، وفيه دليل بين أن الجنّ لا يرون (٢) ولا يظهرون للإنس ، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وأن زعم من يدّعى رؤيتهم زور ومخرقة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى خلينا بينهم وبينهم (٣) لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي ، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت : علام عطف وقبيله؟ قلت : على الضمير في يراكم المؤكد بهو ، والضمير في أنه للشأن والحديث ، وقرأ اليزيدي (وَقَبِيلُهُ) بالنصب وفيه وجهان : أن يعطفه على اسم إن ، وأن تكون الواو بمعنى مع ، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في أنه ، كان راجعاً إلى إبليس.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢٨)

__________________

(١) قوله «العدو المداجى» في الصحاح «المداجاة» المداراة. يقال : داجيته ، إذا ، داريته ، كأنك ساترته العداوة. (ع)

(٢) قال محمود : «وفيه دليل بين أنهم لا يرون ... الخ» قال أحمد : أين يذهب به هما ورد في الحديث الصحيح ، من اعتراض إبليس رأسهم ومقدمهم للنبي صلى الله عليه وسلم يروم أن يشغله عن صلاته ، حتى أمكنه الله منه فأخذه عليه الصلاة والسلام فدغنه وأراد أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد يلعب به الصبيان ، حتى ذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. وإذا جاز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام كان جائزا لأولياء الله والمتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة ، لكن الزمخشري يصده عن ذلك جحده لكرامة الأولياء ، لأنه عقيدة إخوانه ، إذ الكرامة إنما يؤتاها الولي الصادق ، فكيف ينالها من يشك في إسلامه ، فإنهم لفي عذر من جحدها والتكذيب بها. رزقنا الله الايمان بالكرامات إن لم نكن لها أهلا ، والله الموفق.

(٣) قوله «أى خلينا بينهم وبينهم» فسر الجعل بذلك ، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة. وعند أهل السنة يخلقة كالخير. (ع)

٩٨

الفاحشة : ما تبالغ في قبحه من الذنوب ، أى : إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم وبأنّ الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها. وكلاهما باطل من العذر (١) لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني افتراء على الله وإلحاد في صفاته ، كانوا يقولون : لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه. وعن الحسن : إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة (٢) يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه (٣) لعدم الداعي ووجود الصارف ، فكيف يأمر بفعله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط. وقيل : المراد بالفاحشة : طوافهم بالبيت عراة.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(٢٩)

(بِالْقِسْطِ) بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل : بالتوحيد (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ) وقل : أقيموا وجوهكم أى اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) في كل وقت سجود ، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة (وَادْعُوهُ) واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أى الطاعة ، مبتغين بها وجه الله خالصاً (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى : أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم ، فأخلصوا له العبادة.

(فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(٣٠)

__________________

(١) قال محمود : «وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما ... الخ» قال أحمد : وهذا أيضا من الاعتزال الخفي ، وغرضه أن يمهد قاعدة التحسين والتقبيح ، ومراعاة الصلاح والأصلح ، واستحالة مخالفة ذلك على الله تعالى «ولا يتم من ذلك غرض ، لأن المنكر عليهم : دعواهم أن الله تعالى أمرهم بالفحشاء ، وهم كاذبون في هذه الدعوى ، ولا يلزم من سلب الأمر الارادة ، لأن الله تعالى يأمر بما لا يريد ، ويريد ما لا يأمر به.

(٢) قوله «وهم قدرية مجبرة» أى كالمجبرة يعنى أهل السنة ، لقولهم : إن الله يريد الشر كالخير ، والارادة هي الأمر عند المعتزلة ، لكنها غيره عند أهل السنة ، فالفحشاء بإرادته تعالى ، لكنه لا يأمر بها. وتحقيقه في التوحيد.

(٣) قوله «فعل القبيح مستحيل عليه» يريد أن الله لا يريد فعل القبيح وهي عقيدة المعتزلة. أما عند أهل السنة فالله يريد القبيح والحسن «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (ع)

٩٩

(فَرِيقاً هَدى) وهم الذين أسلموا ، أى وفقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أى كلمة الضلالة ، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله (وَفَرِيقاً) بفعل مضمر يفسره ما بعده ، كأنه قيل : وخذل فريقا حق عليهم الضلالة (إِنَّهُمُ) إنّ الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أى تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به ، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم ، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٣١)

(خُذُوا زِينَتَكُمْ) أى ريشكم ولباس زينتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلما صليتم أو طفتم ، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس ، لم يأمرهم بالحرير والديباج ، وإنما كان أحدكم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد ، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه ، لأنهم قالوا : لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها : وقيل : تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقيل : الزينة المشط. وقيل : الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة ، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون : فإنا أحق أن نفعل ، فقيل لهم : كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضى الله عنه : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة (١) ويحكى أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني (٢) حاذق ، فقال لعلى بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان ، علم الأبدان وعلم الأديان ، فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال : وما هي؟ قال : قوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) فقال النصراني : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب؟ فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال : وما هي؟ قال قوله «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء (٣) وأعط

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عطاء وطاوس عنه بهذا ، لكن قال «خلتان». وروى النسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم تخالطوا إسرافا ولا مخيلة».

(٢) لم أجد لها ـ أى حكاية الرشيد ـ إسنادا.

(٣) لم أجده ، وروى العقيلي في الضعفاء من رواية إبراهيم بن جريج الرهاوي عن زيد ابن أبى أنيسة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة ـ رفعه «المعدة حوض البدن. والعروق إليها واردة : فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم» وقال : حديث باطل لا أصل له. وقال الدارقطني لا يصح ولا يعرف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لسند إبراهيم بن جريج غير هذا وكان طبيبا ، فجعل له إسنادا.

١٠٠