الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

فتقول هذا حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب الكذب بتصف ، وتجعل «ما» مصدرية ، وتعلق (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بلا تقولوا ، على : ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، أى : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم ، لا لأجل حجة وبينة ، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته ، كقولهم : ووجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر ، وقرئ «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية ، كأنه قيل : لوصفها الكذب ، بمعنى الكاذب ، كقوله تعالى (بِدَمٍ كَذِبٍ) والمراد بالوصف : وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرئ «الكذب» جمع كذوب بالرفع ، صفة للألسنة ، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى : الكلم الكواذب ، أو هو جمع الكذاب من قولك : كذب كذابا ، ذكره ابن جنى. واللام في (لِتَفْتَرُوا) من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١١٨)

(ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) يعنى في سورة الأنعام.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

(بِجَهالَةٍ) في موضع الحال ، أى : عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه ، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم (مِنْ بَعْدِها) من بعد التوبة.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين)(١٢٢)

(كانَ أُمَّةً) فيه وجهان ، أحدهما : أنه كان وحده أمّة من الأمم (١) لكماله في جميع صفات

__________________

(١) قال محمود : «في قوله أمة وجهان ، أحدهما : أنه كان وحده أمة من الأمم ... الخ» قال أحمد : ويقوى ـ

٦٤١

الخير ، كقوله :

وَلَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ

أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِى وَاحِدِ (١)

وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أى : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتم به كالرحلة (٢) والنخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول ، فيكون مثل قوله (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعى عن ابن مسعود أنه قال : إنّ معاذاً كان أمّة قانتاً لله ، فقلت : غلطت ، إنما هو إبراهيم. فقال : الأمّة : الذي يعلم الخير. والقانت المطيع لله ورسوله (٣) ، وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال ـ حين قيل له : ألا تستخلف؟ ـ : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته. ولو كان سالم حيا لاستخلفته فإنى سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول : «أبو عبيدة أمين هذه الأمّة ، ومعاذ أمّة قانت لله ، ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون ، وسالم شديد الحب لله ، لو كان لا يخاف الله لم يعصه (٤). وهو ذلك المعنى ، أى : كان إماما في الدين ، لأنّ الأئمة معلمو الخير.

__________________

ـ هذا الثاني قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أى كان أمة تؤمه الناس ليقتبسوا منه الخيرات ويقتفوا بآثاره المباركات ، حتى أنت على جلالة قدرك قد أوحينا إليك أن اتبع ملته ووافق سبرته ، والله أعلم.

(١) قولا لهارون إمام الهدى

عند احتفال المجلس الحاشد

أنت على ما بك من قدرة

فلست مثل الفضل بالواحد

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

لأبى نواس يعطف هرون الرشيد على الفضل البرمكي حين توعده بالقتل ، غيرة منه لما سمع من نهايته في الكرم ، وخاطب الاثنين تأسيا بعادة العرب ، والاحتفال : الاجتماع. والحاشد الجامع ، وعلى بمعنى مع ، أى : أنت مع كونك في غاية الاقتدار لست واجداً مثل الفضل في العالم كله ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما فيه خبره من رائحة الشرط ، أى : وإن كنت قادراً ، ودخلت الباء في خبر ليس لتوكيد النفي ، واستدل على ذلك بقوله : ليس مستنكراً على الله جمعه خصال العالم كلها في رجل واحد كالفضل ، هذا ما يتبادر منه ظاهر النظم ، لكنه خلاف مقتضى مقام الاستعطاف ، فالمعنى ولا يكن منك غيرة من الفضل ، فان كرمه بعض صفاتك ، فان الله قادر على جمع صفات العالم كلها فيك ، وقد فعل. ويروى : من الله بدل على الله. ويروى : بمستبدع ، بدل بمستنكر.

(٢) قوله «كالرحلة» في الصحاح «الرحلة» بالضم : الوجه الذي تريده ، وبالكسر : الارتحال. (ع)

(٣) أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية. من رواية علية عن منصور عن عبد الرحمن عن الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعى قال قال ابن مسعود. فذكره. لكن ليس فيه : فقلت له «غلطت» بل فيه فقيل له : إن ابراهيم. وفيه «وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير. وكان مطيعا لله ورسوله» ورواه الحاكم أيضاً من رواية شعبة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال «إن معاذا كان أمة قانتا لله» فقال رجل من أشجع يقال له : فروة ابن نوفل : إنما ذاك ابراهيم. فقال عبد الله : إنا كنا نشبهه بإبراهيم ـ الحديث» وأخرجه عبد الرزاق. ومن طريق الحاكم قال أخبرنا الثوري عن فراس نحوه.

(٤) لم أجده

٦٤٢

والقانت : القائم بما أمره الله. والحنيف : المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) روى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف ، فلم يجد ذات يوم ضيفاً ، فأخر غداءه ، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر ، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً؟ فقال : الآن وجبت مواكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم (اجْتَباهُ) اختصه واصطفاه للنبوّة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى ملة الإسلام (حَسَنَةً) عن قتادة : هي تنوبه الله بذكره ، حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل : الأموال والأولاد ، وقيل : قول المصلى منا : كما صليت على إبراهيم (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لمن أهل الجنة.

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣)

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله (١) صلى الله عليه وسلم ، وإجلال محله ، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة ، وأجلّ ما أولى من النعمة : اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته ، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٢٤)

(السَّبْتُ) مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى : إنما جعل وبال السبت وهو المسخ (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه. والمعنى في ذكر ذلك ، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا ، وغير ما ذكر ، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت : ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت : معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف

__________________

(١) عاد كلامه. قال محمود : «وفي ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم ... الخ» قال أحمد : وإنما تفيد ذلك ثم لأنها في أصل وضعها لتراخى المعطوف عليه في الزمان ، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه ، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى : وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً وأرفع رتبة وأبعد رفعة ، وهو أن النبي الأمى الذي هو سيد البشر متبع لملة إبراهيم ، مأمور باتباعه بالوحي ، متلو أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا ، لكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه ، والله الموفق للصواب.

٦٤٣

فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرّمين أخرى ووجه آخر : وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة وأن يكون يوم الجمعة ، فأبوا عليه وقالوا : نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت ، إلا شر ذمة منهم قد رضوا بالجمعة ، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختار عليه الجمعة ، فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه ، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة ، فكانوا لا يصيدون فيه ، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك ، وهو يحكم (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيجازى كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت : فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه. وقرئ : إنما جعل السبت ، على البناء للفاعل. وقرأ عبد الله : إنا أنزلنا السبت.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١٢٥)

(إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوز أن يريد القرآن ، أى : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين ، من غير فظاظة ولا تعنيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

سمى الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة. والمعنى : إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه ، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرئ : وإن عقبتم فعقبوا ، أى : وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم. روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد : بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به ، وروى :

٦٤٤

فرآه مبقور البطن فقال : «أما والذي أحلف به ، لئن أظفرنى الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك (١)» فنزلت ، فكفر عن يمينه وكفّ عما أراده ، ولا خلاف في تحريم المثلة. وقد وردت الأخبار بالنهى عنها (٢) حتى بالكلب العقور. إما أن رجع الضمير في (لَهُوَ) إلى صبرهم وهو مصدر صبرتم. ويراد بالصابرين : المخاطبون ، أى : ولئن صبرتم لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرون موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. أو وصفهم بالصفة التي تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة. وإما أن يرجع إلى جنس الصبر ـ وقد دل عليه صبرتم ـ ويراد بالصابرين جنسهم ، كأنه قيل : وللصبر خير للصابرين. ونحوه قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (وَاصْبِرْ) أنت فعزم عليه بالصبر (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أى بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أى على الكافرين ، كقوله (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أو على المؤمنين وما فعل بهم الكافرون (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) وقرئ : ولا تكن في ضيق ، أى : ولا يضيقن صدرك من مكرهم. والضيق : تخفيف الضيق ، أى في أمر ضيق. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، كالقيل والقول (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أى هو ولىّ الذين اجتنبوا المعاصي (وَ) ولى (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في أعمالهم. وعن هرم بن حيان أنه قيل له حين احتضر : أوص. فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته ، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» (٣)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي بغير سند. وقصة حمزة أخرجها البزار والطبراني من رواية سليمان التيمي عن ابن عثمان عن أبى هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوم أحد إلى حمزة وقد قتل ومثل به. فرأى منظراً لم يرقط أوجع لقلبه منه. وذكر باقى الحديث أتم مما ذكره هنا ورواية صالح فهو عن سليمان. وصالح ضعيف. وله طريق أخرى أخرجها الدارقطني من رواية إسماعيل بن عباس قال «لما انصرف المشركون عن قتلى أحد فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه حمزة منظراً أساءه ، وقد شق بطنه واصطلم أنفه ـ فذكر القصة «وفيها : لأمثلن مكانه بسبعين رجلا. وذكر الصلاة عليه وعلى القتلى. قال : فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ) الآية فصبر ولم يمثل بأحد» قال الدارقطني : تفرد به إسماعيل وهو ضعيف عن غير الشاميين ، قلت : وأما أول الكلام فذكره.

(٢) قلت روى ذلك عن جماعة من الصحابة.

(٣) رواه الثعلبي وابن مردويه. وقد تقدم سنده في آل عمران.

٦٤٥

سورة الإسراء

مكية [إلا الآيات ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ و ٥٧ ، ومن آية ٧٣ إلى غاية آية ٨٠ فمدنية] وآياتها ١١١ [نزلت بعد القصص]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١)

(سُبْحانَ) علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره ، تقديره : أسبح الله سبحان ، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه ، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله (١). و (أَسْرى) وسرى لغتان. و (لَيْلاً) نصب على الظرف. فإن قلت : الإسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل؟ (٢) قلت : أراد بقوله (لَيْلاً) بلفظ التنكير : تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله

__________________

(١) قوله «القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» يريد بهم أهل السنة القائلين بأنه تعالى هو الخالق لجميع الحوادث من أفعال العباد وغيرها ، خيراً كانت أو شراً ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إن العبد هو الخالق لفعل نفسه حتى يكون مقدوراً له ، فيصح تكليفه به ، ولكن استند أهل السنة لمثل قوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وهذا لا ينافي اختيار العباد في أفعالهم ، لأنهم أثبتوا لهم الكسب فيها ، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)

(٢) قال محمود : «فان قلت : الاسراء لا يكون إلا بالليل ، فما معنى ذكر الليل ... الخ»؟ قال أحمد وقد قرن الاسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا ، كقوله (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) وكقوله تعالى (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) فالظاهر ـ والله أعلم ـ أن الغرض من ذكر الليل وإن كان الاسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع ، وكأن الاسراء لما دل على أمرين ، أحدهما : السير ، والآخر : كونه ليلا. أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب ، وتنبيها على أنه مقصود بالذكر. ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموماً لغيره قوله تعالى (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية ، وكذلك المفرد ، فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مراد مقصود ، وكذلك أريد الإيقاظ ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ولو اقتصر على قوله (إِنَّما هُوَ إِلهٌ) لأوهم أن المهم إثبات الالهية له ، والغرض من الكلام ليس إلا الإثبات للوحدانية ، والله أعلم.

٦٤٦

وحذيفة : من الليل ، أى : بعض الليل ، كقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) يعنى الأمر بالقيام في بعض الليل. واختلف في المكان الذي أسرى منه فقيل : هو المسجد الحرام بعينه ، وهو الظاهر. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل عليه السلام بالبراق (١)» وقيل : أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام : الحرم ، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد. وروى أنه كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به (٢) ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانئ ، وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم ، قال : وإن كذبوني ، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء ، فقال أبو جهل : يا معشر بنى كعب بن لؤي ، هلم فحدّثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً. وارتد ناس ممن كان قد آمن به ، وسعى رجال إلى أبى بكر رضى الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إنى لأصدقه على أبعد من ذلك ، فسمى الصدّيق. وفيهم من سافر إلى ما ثمّ ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أمّا النعت فقد أصاب ، فقالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ، وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية ، فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين ، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة ، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقى الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه» (٣) وعن معاوية : إنما عرج بروحه. وعن الحسن ، كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر

__________________

(١) متفق عليه من حديث مالك بن صعصعة مطولا.

(٢) ذكره الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وكأنه من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه ، ثم رأيته من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. أخرجه الحاكم والبيهقي عنه. لكن لم يسبق لفظه ، وقد رواه النسائي باختصار عن هذا من رواية عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس. وأورده ابن سعد وأبو يعلى والطبراني من حديث أم هانئ مطولا.

(٣) قال ابن إسحاق في المغازي : حدثني بعض آل أبى بكر عن عائشة بهذا «لكن أسرى» بدل «عرج» قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة عن ابن معاوية قال : كانت رؤيا من الله صادقة.

٦٤٧

الأقاويل بخلاف ذلك. والمسجد الأقصى : بيت المقدس ، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد (بارَكْنا حَوْلَهُ) يريد بركات الدين والدنيا ، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحى ، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقرأ الحسن : ليريه بالياء ، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم «فقيل : أسرى ثم باركنا ثم ليريه ، على قراءة الحسن ، ثم من آياتنا ، ثم إنه هو ، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال محمد (الْبَصِيرُ) بأفعاله ، العالم بتهذبها وخلوصها ، فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)(٣)

(أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرئ بالياء على : لئلا يتخذوا ، وبالتاء على : أى لا تتخذوا ، كقولك : كتبت إليه أن أفعل كذا (وَكِيلاً) ربا تكلون إليه أموركم (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) نصب على الاختصاص. وقيل : على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهى ، يعنى : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا (مَعَ نُوحٍ) وقد يجعل (وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) مفعولي تتخذوا ، أى لا تجعلوهم أرباباً كقوله (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام. وقرئ (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا) بالرفع بدلا من واو (تَتَّخِذُوا) وقرأ زيد بن ثابت : ذرية ، بكسر الذال. وروى عنه أنه قد فسرها بولد الولد ، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق (إِنَّهُ) إن نوحاً (كانَ عَبْداً شَكُوراً) قيل : كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمنى ، ولو شاء أجاعنى. وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ، ولو شاء أظمأنى. وإذا اكتسى قال : الحمد لله الذي كسانى ، ولو شاء أعرانى. وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذانى ، ولو شاء أحفانى. وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عنى أذاه في عافية ، ولو شاء حبسه. وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجده محتاجاً آثره به. فإن قلت : قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت : كأنه قيل : لا تتخذوا من دوني وكيلا ، ولا تشركوا بى ، لأنّ نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا ، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه ، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح ، فهم متصلون به ، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد.

٦٤٨

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)(٦)

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وأوحينا إليهم وحيا مقضيا ، أى مقطوعا مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة ، ويعلون ، أى : يتعظمون ويبغون (فِي الْكِتابِ) في التوراة ، و (لَتُفْسِدُنَ) جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجرى القضاء المبتوت مجرى القسم ، فيكون (لَتُفْسِدُنَ) جوابا له ، كأنه قال : وأقسمنا لتفسدن. وقرئ : لتفسدنّ ، على البناء للمفعول. ولتفسدن ، بفتح التاء من فسد (مَرَّتَيْنِ) أولاهما : قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله ، والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم (عِباداً لَنا) وقرئ عبيداً لنا. وأكثر ما يقال : عباد الله وعبيد الناس : سنحاريب وجنوده (١) وقيل بخت نصر. وعن ابن عباس : جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة ، وخربوا المسجد ، وسبوا منهم سبعين ألفاً. فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة (٢) على ذلك ويسلطهم عليه (٣). قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه ، فهو كقوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء. وقرئ : فجوّسوا. وخلل الديار. فإن قلت : ما معنى (وَعْدُ أُولاهُما)؟ قلت : معناه وعد عقاب أولاهما (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) يعنى : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) أى الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل : هي قتل بخت نصر واستنقاذ بنى إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وقيل : هي قتل داود جالوت (أَكْثَرَ نَفِيراً) مما كنتم.

__________________

(١) قوله «سنحاريب وجنوده» كان ملك بابل ، وبخت نصر هو ابن ابنه ، وكان من كتابه. وكذا في الخازن. (ع)

(٢) قوله «فان قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك» مبنى على أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده ، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة كل كائن فهو فعله ومراده ولو شرا ، فلا سؤال. (ع)

(٣) قال محمود : «إن قلت كيف جاز أن يبعث الله الكفرة ... الخ» قال أحمد : هذا السؤال إنما يتوجه على قدرى يوجب على الله تعالى بزعمه رعاية ما يتوهمه بعقله مصلحة ، وأما السنى إذا سئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) والله الموفق.

٦٤٩

والنفير ، من ينفر مع الرجل من قومه ، وقيل : جمع نفر كالعبيد والمعيز.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) (٧)

أى الإحسان والإساءة : كلاهما مختص بأنفسكم ، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن علىّ رضى الله عنه : ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه ، وتلاها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) المرّة (الْآخِرَةِ) بعثناهم (١) (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها ، كقوله (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقرئ : ليسوء والضمير لله تعالى ، أو للوعد ، أو للبعث. ولنسوء : بالنون. وفي قراءة علىّ : لنسوأنّ : وليسوأنّ وقرئ لنسوأن ، بالنون الخفيفة. واللام في (لِيَدْخُلُوا) على هذا متعلق بمحذوف وهو : وبعثناهم ليدخلوا. ولنسوأن : جواب إذا جاء (ما عَلَوْا) مفعول ليتبروا ، أى ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى : مدة علوّهم.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد المرّة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي (وَإِنْ عُدْتُمْ) مرة ثالثة (عُدْنا) إلى عقوبتكم وقد عادوا ، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن : عادوا فبعث الله محمدا ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحىّ من العرب ، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة (حَصِيراً) محبسا يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن : بساطا كما يبسط الحصير المرمول (٢)

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

__________________

(١) قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) المرة (الْآخِرَةِ) بعثناهم : أى عبادنا وهم في هذه المرة ، الفرس والروم ، بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خروش. حتى دخل الشام بجنود فقتل وسبى ، حتى كاد يفنى بنى إسرائيل ، وبقي منهم بقايا حتى كثروا ، وكانت لهم الرياسة في بيت المقدس إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس بن أسبيانوس الرومي فخرب بلادهم وطردهم عنها ، وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب ، فعمره المسلمون بأمره. اه من الخازن. (ع)

(٢) قوله كما يبسط الحصير المرمول» أى المنسوج ، أفاده الصحاح. (ع)

٦٥٠

الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(١٠)

(لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرئ : ويبشر ، بالتخفيف ، فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقى ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة (١) بين المنزلتين بعد ذلك. فإن قلت : علام عطف (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)؟ قلت : على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) على معنى : أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين : بثوابهم ، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد : ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)(١١)

أى : ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، كما يدعوه لهم بالخير ، كقوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ). (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله ، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا ، فأقبل يئن بالليل ، فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم (٢) القدّ ، فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه ، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة ، وأن يقطع الله يديها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنى سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلى رحمة لأنى بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها (٣)» ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به ، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة. وكان

__________________

(١) قوله «وإنما حدث أصحاب المنزلة» يعنى الفسقة. وإثبات الواسطة مذهب المعتزلة دون أهل السنة ، فان الفسق لا يزيل الايمان عندهم. (ع)

(٢) قوله «فشكا ألم القد» في الصحاح «القد» بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع)

(٣) لم أجده من هذه الجهة. وقد أخرجه الواقدي في المغازي من رواية ذكوان عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير ، وقال لها : احتفظي به. قالت : فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر. فدخل يسأل عنه فقلت والله ما أدرى. فقال : قطع الله يدك ، فذكر نحو ما تقدم. ورويناه في الجزء التاسع من حديث المخلص تخريج البقال. قال : حدثنا ابن أبى داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن ابن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان بهذا.

٦٥١

الإنسان عجولا : يعنى أن العذاب آتيه لا محالة ، فما هذا الاستعجال ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هو النضر بن الحرث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ، فأجيب له ، فضربت عنقه صبرا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١٢)

فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود ، أى : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني : أن يراد : وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين ، يريد الشمس والقمر. فمحونا آية الليل : أى جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلما ، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ ، وجعلنا النهار مبصرا أى تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس ، فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم (وَلِتَعْلَمُوا) باختلاف الجديدين (عَدَدَ السِّنِينَ وَ) جنس (الْحِسابَ) وما تحتاجون إليه منه ولو لا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات ، ولتعطلت الأمور (وَكُلَّ شَيْءٍ) مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم (فَصَّلْناهُ) بيناه بيانا غير ملتبس ، فأزحنا عللكم ، وما تركنا لكم حجة علينا.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١٤)

(طائِرَهُ) عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة : هو من قولك : طار له سهم ، إذا خرج ، يعنى : ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه ، ومنه مثل العرب : تقلدها طوق الحمامة. وقولهم : الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. عن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك : وقرئ (فِي عُنُقِهِ) بسكون النون. وقرئ (نُخْرِجُ) بالنون. ويخرج ، بالياء ، والضمير لله عز وجل. ويخرج ، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج ، والضمير للطائر. أى : يخرج الطائر كتاباً ، وانتصاب (كِتاباً) على الحال. وقرئ : يلقاه ، بالتشديد مبنيا للمفعول. و (يَلْقاهُ مَنْشُوراً)

٦٥٢

صفتان للكتاب. أو (يَلْقاهُ) صفة و (مَنْشُوراً) حالٌ من يلقاه (اقْرَأْ) على إرادة القول. وعن قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. و (بِنَفْسِكَ) فاعل كفى. و (حَسِيباً) تمييز وهو بمعنى حاسب كضريب القداح بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم ذكرهما سيبويه. وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا. ويجوز أن يكون بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد فعدّى بعلى لأنّ الشاهد يكفى المدّعى ما أهمه. فإن قلت : لم ذكر حسيبا؟ قلت : لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير ، لأنّ الغالب أنّ هذه الأمور يتولاها الرجال ، فكأنه قيل : كفى بنفسك رجلا حسيبا. ويجوز أن يتأوّل النفس بالشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس. وكان الحسن إذا قرأها قال : يا ابن آدم ، أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١٥)

أى : كل نفس حاملة وزرا ، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب (١) قوما إلا بعد أن (نَبْعَثَ) إليهم (رَسُولاً) فتلزمهم الحجة. فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل ، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، وكفرهم لذلك ، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الايمان. قلت : بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة ، لئلا يقولوا : كنا غافلين فلو لا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١٦)

__________________

(١) قال محمود : «معناه وما صح مناصحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب قوما حتى تلزمهم الحجة ببعث الرسول ... الخ» قال أحمد : وهذا السؤال أيضاً إنما يتوجه على قدرى يزعم أن العقل يرشد إلى وجوب النظر وإلى كثير من أحكام الله تعالى ، وإن لم يبعث رسول فيكلف بعقله ويرتب على ترك امتثال التكليف استيجاب العذاب ، إذ العقل كاف عندهم في إيجاب المعرفة بل في جميع الأحكام ، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. وأما السنى فلا يتوجه عليه هذا السؤال ، فان العقل عنده شرط في وجوب عموم الأحكام ، ولا تكليف عنده قبل ورود الشرائع وبعث الأنبياء ، وحينئذ يثبت الحكم وتقوم الحجة ، كما أنبأت عنه هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه ، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، نعم العقل عمدة في حصول المعرفة لا في وجوبها ، وبين الحصول والوجوب بون بعيد ، والله الموفق.

٦٥٣

(وَإِذا أَرَدْنا) وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل ، أمرناهم (١) (فَفَسَقُوا) أى أمرناهم بالفسق ففعلوا ، والأمر مجاز ، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازاً (٢) ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشرّ ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت : هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه ، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه ، وهو كلام مستفيض. يقال : أمرته فقام ، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم على هذا قولهم : أمرته فعصاني ، أو فلم يمتثل أمرى. لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به ، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي ، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأموراً به ، وكأنه يقول : كان منى أمر فلم تكن منه طاعة ، كما أن من يقول : فلان يعطى ويمنع ، ويأمر وينهى ، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت : هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير ، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت : لا يصحّ ذلك ، لأن قوله (فَفَسَقُوا) يدافعه ، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعى إضمار خلافه ، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه ، ونظير «أمر» شاء : في أن مفعوله استفاض فيه الحذف ، لدلالة ما بعده عليه ، تقول : لو شاء لأحسن إليك ، ولو شاء لأساء إليك. تريد : لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة ، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ـ وقلت : قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة ، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة ـ لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم (أَمَرْنا) بكثرنا ، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته

__________________

(١) قوله «أمرناهم ففسقوا» في النسفي : أمرنا مترفيها : متنعميها وجبابرتها. (ع)

(٢) قال محمود : «حقيقة أمرهم أن يقول لهم : افسقوا. ولا يكون هذا ، فقى أن يكون مجازا ... الخ» قال أحمد : نص حسن إلا قوله أنهم خولوا النعم ليشكروا ، فانه فرعه ، على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر ، ففسقوا وكفروا على خلاف الأمر ، والأمر غير الارادة على قاعدة أهل الحق ، والله الموفق.

٦٥٤

ففعل. كثبرته فثبر. وفي الحديث : «خير المالك سكة (١) مأبورة ومهرة مأمورة (٢)» أى كثيرة النتاج. وروى أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنى أرى أمرك هذا حقيراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه سيأمر (٣). أى سيكثر وسيكبر.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

وقرئ : آمرنا من أمر وأمره غيره. وأمّرنا بمعنى أمرنا ، أو من أمر إمارة ، وأمره الله. أى: جعلناهم أمراء وسلطناهم (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم وتمييز له ، كما يميز العدد بالجنس ، يعنى عاد وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا. ونبه بقوله (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير ، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)(١٩)

من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة (٤) ، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيد الأمر تقييدين ، أحدهما : تقييد المعجل بمشيئته. والثاني : تقييد المعجل له بإرادته ، وهكذا الحال : ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه ، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة ، وأمّا

__________________

(١) قوله «كثبرته فثبر ، وفي الحديث خير المال سكة مأبورة» في الصحاح «ثبرته» أى حبسته. وفيه «السكة» الطريقة من النخل. وفيه «أبر نخله» أى لقحه وأصلحه. (ع)

(٢) أخرجه حميد وإسحاق وابن أبى شيبة والحرث والطبراني وأبو عبيد من رواية مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير مال المرء ميرة مأمورة أو سكة مأثورة. قال ابن إسحاق ومعه النضر بن شميل وغيره يرفعه.

(٣) لم أجده.

(٤) قال محمود : «أى من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة ... الخ» قال أحمد : ومثل ذلك التقييد ورد في الآية الأخرى ، وهو قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) فأدخل «من» المبعضة على حرث الدنيا ، ونحل الطالب حرث الآخرة مراده ، وزاد عليه.

٦٥٥

المؤمن التقى فقد اختار مراده وهو غنى الآخرة ، فما يبالى : أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت فإن أوتى فيها وإلا فربما كان الفقر خيرا له وأعون على مراده. وقوله (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من له ، وهو بدل البعض من الكل ، لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو في معنى الكثرة. وقرئ: يشاء. وقيل : الضمير لله تعالى ، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد ، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا ، وأن ذلك لواحد من الدهماء (١) يريد به الله ذلك. وقيل : هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة ، كالمنافق ، والمرائى ، والمهاجر للدنيا ، والمجاهد للغنيمة والذكر ، كما قال صلى الله عليه وسلم «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (٢)» (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله (سَعْيَها) حقها من السعى وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعى مشكورا : إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور ، والسعى فيما كلف من الفعل والترك ، والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين : من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ، ونية صادقة ، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله : الثواب على الطاعة.

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(٢٠)

(كُلًّا) كل واحد من الفريقين ، والتنوين عوض من المضاف إليه (نُمِدُّ) هم : نزيدهم من عطائنا ، ونجعل الآنف منه مددا للسالف لا نقطعه ، فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) وفضله (مَحْظُوراً) أى ممنوعا ، لا يمنعه من عاص لعصيانه

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)(٢١)

(انْظُرْ) بعين الاعتبار (كَيْفَ) جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر ، لأنها ثواب وأعواض وتفضل ، وكلها متفاوتة. وروى أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضى الله عنه ، فخرج الإذن لبلال وصهيب ، فشق على أبى سفيان ، فقال سهيل بن عمرو : إنما أُتينا من قبلنا ، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام ، فأسرعوا وأبطأنا ، وهذا باب عمر ، فكيف التفاوت في الآخرة ، ولئن حسدتموهم على باب عمر

__________________

(١) قوله «لواحد من الدهماء» في الصحاح «دهماء الناس» جماعتهم. (ع)

(٢) متفق عليه من حديث عمر.

٦٥٦

لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر. وقرئ : وأكثر تفضيلا. وعن بعضهم : أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا ، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)

(فَتَقْعُدَ) من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت ، كأنها حربة بمعنى صارت ، يعنى : فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك ، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٢٤)

(وَقَضى رَبُّكَ) وأمر أمراً مقطوعا به (أَلَّا تَعْبُدُوا) أن مفسرة ولا تعبدوا نهى. أو بأن لا تعبدوا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأحسنوا بالوالدين إحسانا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وقرئ : وأوصى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : ووصى. وعن بعض ولد معاذ بن جبل : وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان ، لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته (إِمَّا) هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها ، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها ، لا تقول : إن تكرمن زيداً يكرمك ، ولكن إما تكرمنه. و (أَحَدُهُما) فاعل يبلغنّ ، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين. و (كِلاهُما) عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت : لو قيل إما يبلغان كلاهما ، كان كلاهما توكيدا لا بد لا ، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين ، فانتظم في حكمه ، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلا ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية لقيل : كلاهما ، فحسب ، فلما قيل : أحدهما أو كلاهما ، علم أنّ التوكيد غير مراد ، فكان بدلا مثل الأول (أُفٍ) صوت يدل على تضجر. وقرئ : أف ، بالحركات الثلاث منوناً وغير منون : الكسر على أصل البناء ، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم ، والضم إتباع كمنذ. فإن قلت : ما معنى عندك؟ قلت : هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده في بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالا وصبرا ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلا عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية

٦٥٧

بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ، ونظمهما في سلك القضاء بهما معا ، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ، ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في استطاعة (وَلا تَنْهَرْهُما) ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. والنهى والنهر والنهم : أخوات (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) جميلا ، كما يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروءة. وقيل : هو أن يقول : يا أبتاه ، يا أماه ، كما قال إبراهيم لأبيه : يا أبت ، مع كفره ، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعار (١). قالوا : ولا بأس به في غير وجهه ، كما قالت عائشة رضى الله عنها : نحلنى أبو بكر كذا (٢). وقرئ : جناح الذل ، والذل : بالضم والكسر فإن قلت : ما معنى قوله (جَناحَ الذُّلِ)؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك كما قال (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) فأضافه إلى الذل أو الذلّ ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني : أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحا خفيضا ، كما جعل لبيد للشمال (٣) يداً ، وللقوّة زماما ، مبالغة في التذلل والتواضع لهما (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما ، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية ، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فان قلت : الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت : وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الايمان ، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد ، ومن الناس من قال : كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ، ولا شيء أنفع له من الاستغفار. ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «رضا الله في رضا الوالدين ، وسخطه في سخطهما (٤)» وروى «يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ، ويفعل

__________________

(١) قوله «وسوء الأدب وعادة الدعار» من الدعارة وهي الفسق والخبث والفساد. كذا في الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه في الموطأ عن الزهري عن عائشة قالت «إن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا من ماله بالعالية.

فلما حضرته الوفاة. قال : ما من الناس أحب إلى منك».

(٣) قوله «كما جعل لبيد الشمال يدا» في قوله :

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (ع)

(٤) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو قال : روى موقوفا. ورواه البزار وقال : لا نعلم أحداً أسنده إلا خالد بن الحرث. وفيه نظر ، لأن الحاكم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة مرفوعا وكذا أخرجه الطبراني والبيهقي من رواية القاسم بن سليم عن شعبة مرفوعا. وللبيهقي أيضا من رواية الحسين بن الوليد ـ

٦٥٨

العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة (١)» وروى سعيد بن المسيب : إنّ البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ أبوىّ بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا منى في الصغر ، فهل قضيتهما؟ قال : لا ، فإنهما كان يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما (٢). وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله ، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا ، فسأله فقال : إنه كان ضعيفاً وأنا قوى ، وفقيراً وأنا غنىّ ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالى ، واليوم أنا ضعيف وهو قوى ، وأنا فقير وهو غنىّ ، ويبخل علىّ بماله ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك ، أنت ومالك لأبيك (٣). وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال (٤) : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟ قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عاتقي. قال : ما جزيتها ولو طلقة (٥) وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمّه ويقول :

إنِّى لَهَا مَطِيَّةٌ لَا تُذْعَرُ

إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ

مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِى أَكْثَرُ

اللهُ رَبِّى ذُو الْجَلَالِ الأَكْبَرُ (٦)

__________________

ـ عن شعبة مرفوعا. قال : وروينا أيضا من رواية أبى إسحاق الفزاري وزيد بن أبى الرها وغيرهم مرفوعا. ورواية أبى إسحاق عند أبى يعلى. وقال البخاري. في الأدب المفرد : حدثنا آدم بن أبى إياس حدثنا شعبة فذكره موقوفا وفي الباب عن ابن عمر أخرجه البزار وقال : تفرد به عصمة بن محمد الأنصارى عن يحيى بن سعيد.

(١) أخرجه الثعلبي من طريق محمد بن السماك عن عابد بن شريح عن عطاء عن عائشة. وفيه أحمد بن محمد بن غالب غلام الخليل. وهو كذاب ، لكن رواه أبو نعيم في الحلية من وجه آخر عن سحنون السماك بلفظ «فانى سأغفر لك» وبلفظ «فانى لا أغفر لك».

(٢) لم أجده.

(٣) لم أجده. قلت أخرجه في معجم الصحابة من طريق.

(٤) لم أجده.

(٥) قوله «قال ما جزيتها ولو طلقة» في الصحاح الطلق وجع الولادة اه فالطلقة المرة منه. (ع)

(٦) أنشده ابن عمر عن رجل يحمل أمه في الحج : شبه نفسه بالمطية تشبيهاً بليغا ، و «إذا الركاب نفرت» صفة لها ، يعنى أنه خافض لها جناح الذل من الرحمة ، ولا يسأم منها كغيره ، فان حملها إياه وإرضاعها إياه أكثر من بره بها ، وذعر يذعر كتعب يتعب : خاف وفزع ، والمراد لازم الفزع والنفرة وهو الجزع والضجر وعدم إقراره على ظهره ، ثم كبر لأنه شعار الحج من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.

٦٥٩

تظننى جازيتها يا ابن عمر (١)؟ قال : لا ولو زفرة واحدة (٢). وعنه عليه الصلاة والسلام «إياكم وعقوق الوالدين ، فإنّ الجنة توجد ريحها من مسيرة ألف عام (٣) ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء ، إنّ الكبرياء لله رب العالمين» وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة (٤) ، وإذا بعث إليه منها ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر. ويأخذ الإناء منه إذا شربها. وعن أبى يوسف : إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد. وعن حذيفة أنه استأذن النبىّ صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين ، فقال : دعه يليه غيرك (٥). وسئل الفصيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال : أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال : أن لا ترفع صوتك عليهما ، ولا تنظر شرراً إليهما (٦) ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن ، وأن تترحم عليهما ما عاشا ، وتدعو لهما إذا ماتا ، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما. فعن النبىّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه (٧)».

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)(٢٥)

(بِما فِي نُفُوسِكُمْ) بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) قاصدين الصلاح والبر ، ثم فرطت منكم ـ في حال الغضب ، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر ، أو لحمية الإسلام ـ هنة تؤدّى إلى أذاهما ، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها ، فإن الله غفور (لِلْأَوَّابِينَ) للتوّابين. وعن سعيد بن جبير : هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب : الأوّاب الرجل

__________________

(١) قوله «تظننى جازيتها يا ابن عمر» لعله ثم قال تظننى. (ع)

(٢) أخرجه ابن المبارك في البر والصلة : أخبرنا سعيد بن سعيد بن أبى بردة عن أبيه قال كان ابن عمر يطوف بالبيت فرأى رجلا ـ فذكره. وهذا إسناد صحيح وأخرجه البيهقي في الشعب في الخامس والخمسين وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن آدم عن سعيد مختصرا.

(٣) أخرجه ابن عدى من رواية محمد بن الفرات عن أبى إسحاق عن الحرث عن على بهذا وأتم منه. وفيه مسيرة خمسمائة بدل ألف. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر بن عبد الله فذكره بلفظ «ألف عام» وجابر ومحمد بن الفرات متروكان.

(٤) قوله «لا يذهب بأبيه إلى البيعة» في الصحاح : البيعة بالكسر للنصارى. (ع)

(٥) لم أجده : ولا يصح عن والد حذيفة أنه كان في صف المشركين : فانه استشهد بأحد مع المسلمين بأبدى المسلمين خطأ. وهم يحسبونه من الكفار ، كما في صحيح البخاري لكن نحو القصة المذكورة وردت لأبى عبيدة ابن الجراح.

(٦) قوله «ولا تنظر شررا إليهما» هو نظر الغضبان بمؤخر العين ، كذا في الصحاح. (ع)

(٧) أخرجه مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا وفيه قصة.

٦٦٠