الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

أناجى ربى وقد علم حاجتي ، وكان عمر رضى الله عنه يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان ، فأمر أبا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض (١) قليلا. وقيل : معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار. وقيل (بِصَلاتِكَ) بدعائك. وذهب قوم إلى أنّ الآية منسوخة بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وابتغاء السبيل : مثل لانتحاء الوجه الوسط في القراءة (وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) ناصر من الذل ومانع له منه لاعتزازه به ، أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

فإن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد (٢)؟ قلت : لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة ، فهو الذي يستحق جنس الحمد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية (٣).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة بنى إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة ، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم.

__________________

(١) أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من رواية يحيى بن إسحاق السليحينى عن حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبى قتادة بمعناه. وليس فيه قوله «قد علم حاجتي» وفيه أن كلام كل منهما كان لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال الترمذي. رواه أكثر الناس فلم يذكروا أبا قتادة. وقال ابن أبى حاتم عن أبه لفظا فيه يحيى بن إسحاق والصواب مرسلا ، وفي الباب عن على أخرجه البيهقي في الشعب. وعن أبى هريرة أخرجه أبو داود من رواية محمد بن عمر. وعن أبى سلمة عنه مختصرا. وأخرجه الطبري من رواية محمد بن سيرين قال «نبئت أن أبا بكر فذكره» وقال فيه : أناجى ربى وقد علم حاجتي»

(٢) قال محمود : «إن قلت : كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك ... الخ» قال أحمد : وقد لاحظ الزمخشري هاهنا ما أغفله عند قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وقد رددت هذا الوجه فيما تقدم ، بأن هذه الجملة لا يليق اقترانها بكلمة التحميد ولا تناسبها ، فإنك لو قلت ابتداء : الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون ، لم يكن مناسبا ، والله أعلم.

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق. قالا أخبرنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

٧٠١

سورة الكهف

مكية [إلا آية ٣٨ ومن آية ٨٣ إلى غاية آية ١٠١ فمدنية]

وآياتها ١١٠ [نزلت بعد الغاشية]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٥)

لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام ، وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ولم يجعل له شيئا من العوج قط ، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن معانيه ، وخروج شيء منه من الحكمة والإصابة فيه. فإن قلت : بم انتصب (قَيِّماً)؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب ، لأنّ قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ) معطوف على أنزل ، فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذى الحال ببعض الصلة ، وتقديره : ولم يجعل له عوضا جعله قيما ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة ، وفي أحدهما غنى عن الاخر؟ قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السير والتصفح. وقيل : قيما على سائر الكتب مصدقا لها ، شاهدا بصحتها. وقيل : قيما بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع. وقرئ قيما. «أنذر» متعدّ إلى مفعولين ، كقوله (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) فاقتصر على أحدهما ، وأصله

٧٠٢

(لِيُنْذِرَ) الذين كفروا (بَأْساً شَدِيداً) والبأس من قوله (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل بأسا وبآسة (مِنْ لَدُنْهُ) صادرا من عنده. وقرئ : من لدنه ، بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون (وَيُبَشِّرَ) بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت : لم اقتصر على أحد مفعولي أنذر؟ قلت : قد جعل المنذر به هو الغرض المسبوق إليه ، فوجب الاقتصار عليه. والدليل عليه تكرير الإنذار في قوله (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) متعلقا بالمنذرين من غير ذكر المنذر به ، كما ذكر المبشر به في قوله (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) استغناء بتقدّم ذكره. والأجر الحسن : الجنة (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أى بالولد أو باتخاذه ، يعنى أنّ قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد للآباء ، وقد اشتملته (١) آباؤهم من الشيطان وتسويله. فإن قلت : اتخاذ الله ولدا في نفسه محال ، فكيف قيل : ما لهم به من علم (٢)؟ قلت : معناه ما لهم به من علم ، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته ، وانتفاء العلم بالشيء إمّا للجهل بالطريق الموصل إليه ، وإما لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به. قرئ : كبرت كلمة ، وكلمة : بالنصب على التمييز والرفع على الفاعلية ، والنصب أقوى وأبلغ. وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أكبرها كلمة. و (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) صفة للكلمة تفيد استعظاما لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم ، فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم ، بل يكظمون عليه تشوّرا (٣) من إظهاره ، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ كبرت بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت : إلى قولهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(٦)

شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم ، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا

__________________

(١) قوله «وقد اشتملته» لعله : استملته ، بإهمال السين وسكون الميم. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت اتخاذ الله ولدا في نفسه محال فكيف قيل لهم ... الخ» قال أحمد : قد مضى له في قوله تعالى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أن ذلك وارد على سبيل التهكم ، وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل. ونظيره :

ولا يرى الضب بها ينجحر

وقد قدمت حينئذ أن الكلام وارد على سبيل الحقيقة والأصل ، وأن نفى إنزال السلطان تارة يكون لاستحالة إنزاله ووجوده ، وتارة يكون ، لأنه لم يقع وإن كان ممكنا ، والله أعلم.

(٣) قوله «تشورا من إظهاره» أى تباعدا من إظهاره ، كأنه عورة. وفي الصحاح «الشوار» الفرج. ومنه قيل : شور به ، كأنه أبدى عورته. (ع)

٧٠٣

على فراقهم. وقرئ : باخع نفسك ، على الأصل ، وعلى الإضافة : أى قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ : إن لم يؤمنوا. وللمضى فيمن قرأ : أن لم يؤمنوا ، بمعنى : لأن لم يؤمنوا (بِهذَا الْحَدِيثِ) بالقرآن (أَسَفاً) مفعول له ، أى : لفرط الحزن. ويجوز أن يكون حالا. والأسف : المبالغة في الحزن والغضب. يقال : رجل أسف وأسيف.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)(١١)

(ما عَلَى الْأَرْضِ) يعنى ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وحسن العمل : الزهد فيها وترك الاغترار بها ، ثم زهد في الميل إليها بقوله (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من هذه الزينة (صَعِيداً جُرُزاً) يعنى مثل أرض بيضاء لا نبات فيها ، بعد أن كانت خضراء معشبة ، في إزالة بهجته ، وإماطة حسنه ، وإبطال ما به كان زينة : من إماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار ، ونحو ذلك ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض مما خلق (١) فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ، ثم قال (أَمْ حَسِبْتَ) يعنى أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدّة طويلة. والكهف : الغار الواسع في الجبل (وَالرَّقِيمِ) اسم كلهم. قال أمية ابن أبى الصلت :

وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا

وصيدهم والقوم في الكهف همّد (٢)

وقيل : هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. وقيل : إن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل : الجبل. وقيل :

__________________

(١) قوله «مما خلق» لعله بما «خلق». (ع)

(٢) لأمية بن أبى الصلت ، والرقيم : كلب أصحاب الكهف. والوصيد : فناء البيت وبابه وعتبته ، والبيت يحتملها. والهمد : جمع هامد ، أى : راقد. والقوم : عطف على الرقيم. ويقول : ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حال كونه مجاورا لفناء غارهم ، وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف : أى الغار.

٧٠٤

قريتهم. وقيل : مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين (كانُوا) آية (عَجَباً) من آياتنا وصفا بالمصدر ، أو على : ذات عجب (مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أى رحمة من خزائن رحمتك ، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن عليه من مفارقة الكفار (رَشَداً) حتى تكون بسببه راشدين مهتدين ، أو اجعل أمرنا رشدا كله ، كقولك : رأيت منك أسدا (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أى ضربنا عليها حجابا من أن تسمع ، يعنى : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات ، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه ، فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال : بنى على امرأته ، يريدون : بنى عليها القبة (سِنِينَ عَدَداً) ذوات عدد ، فيحتمل أن يريد الكثرة وأن يريد القلة ، لأن الكثير قليل عنده ، كقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ). وقال الزجاج : إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ ، وإذا كثر احتاج إلى أن يعد

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١٢)

(أَيُ) يتضمن معنى الاستفهام ، فعلق عنه (لِنَعْلَمَ) فلم يعمل فيه. وقرئ ، ليعلم ، وهو معلق عنه أيضا ، لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد «يعلم» إليه ، وفاعل «يعلم» مضمون الجملة ، كما أنه مفعول «نعلم» (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم في مدّة لبثهم ، لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك ، وذلك قوله (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم : هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول. أو أى الحزبين المختلفين من غيرهم ، و (أَحْصى) فعل ماض أى أيهم ضبط (١) (أَمَداً) لأوقات لبثهم. فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت : ليس بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ، ونحو «أعدى من الجرب» ، و «أفلس من ابن المذلق» شاذ. والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع ، فكيف به؟ ولأن (أَمَداً) لا يخلو : إما أن ينتصب بأفعل (٢) فأفعل لا يعمل. وإما أن ينصب بلبثوا ، فلا يسدّ عليه المعنى. فإن زعمت أنى

__________________

(١) قال محمود «أحصى فعل ماض ، أى : لنعلم أيهم ضبط أمدا ... الخ» قال أحمد : وقد جعل بعض النحاة بناء افعل من المزيد فيه الهمز قياسا ، وادعى ذلك مذهبا لسيبويه ، وعلله يأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة ، وإنما هو تعويض همزة بهمزة.

(٢) عاد كلامه. قال : وأيضا فلو كان للتفضيل لم يخل انتصاب أمدا إما بأفعل ... الخ» قال أحمد : ولقائل أن ينصبه على التمييز ، كانتصاب العدد تمييزا في قوله تعالى (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ويعضد حمله على أفعل التفضيل وروده في نظير الواقعة واختلاف الأحزاب في مقدار اللبث ، وذلك في قوله تعالى (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) فأمثلهم طريقة : هو أحصاهم لما لبثوا عددا. وكلا الوجهين جائز ، والله أعلم.

٧٠٥

أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى ، كما أضمر في قوله :

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (١)

على : نضرب القوانس ، فقد أبعدت المتناول وهو قريب ، حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره. فإن قلت : كيف جعل الله تعالى العلم بإحصائهم المدّة غرضا في الضرب على آذانهم؟ قلت : الله عز وجل لم يزل عالما بذلك ، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ، ليزدادوا إيمانا واعتبارا ، ويكون لطفا لمؤمنى زمانهم ، وآية بينة لكفارة.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)(١٥)

__________________

(١) فلم أر مثل الحي حيا مصبحا

ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا

أكر وأحمي للحقيقة منهم

وأضرب منا بالسيوف القوانسا

إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا

صدور المذاكي والرماح المداعسا

إذا الخيل حالت عن صريع نكرها

عليهم فما يرجعن إلا عوابسا

للعباس بن مرداس السلمى ، والحي بنو زبيد من اليمن. وأكر : أشد كرا. وأحمى : أشد حماية. والحقيقة :

ما يستحق الذب عنه من عرض ومال. والقوانس : جمع قونس ، وهو أعلى بيضة الفارس وأعلى رأس الفرس. والمذاكي : الخيل العناق العتاق التي أتى عليها بعد قروحها سنة ، جمع المذاكي اسم مفعول. والمداعس : الرماح الصم التي يطعن بها. والدعس بالتحريك الأثر ، والمداعسة المطاعنة. والمدعس : الرمح الأصم الذي يطعن به. ويروى : جالت ، بدل حالت أى : مالت إلى جول بالجيم أى ناحية. وأما الحول بالحاء فهو التحول. والصريع : الطريح على الأرض ، ونكرها : نرجعها ، والعوابس : كالحات الوجوه من الجري في الغبار. وحيا مصبحا ، أى : مأتيا في الصباح مفعول. ومثل الحي : حال ، على أن رأى بصرية. أو مفعول ثان ، على أنها علمية ، وأكر : بدل من حيا ، ولا يصح جعله صفة أو مفعول ثان ، لأنك لو قلت : ما رأيت مثل زيد رجلا أفضل منه لم يستقم المعنى إلا على البدلية ، لأن المماثلة تنافى المفاضلة ، إلا أن تكون المماثلة في صفة والمفاضلة في أخرى ، فلا مانع منه حينئذ. وأضرب : أفعل تفضيل ، بدل من فوارس على ما تقدم ، فهو لف ونشر مرتب. وأفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به ، بل حكى الإجماع على ذلك ، فالقوانس نصب بمحذوف ، أى : يضرب القوانس أى الرؤوس ، لكن قال محمد بن مسعود في كتابه البديع : غلط من قال : إن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، واستشهد بهذا البيت وغيره. وبين مدح الفريقين بقوله : إذا شددنا عليهم مرة قابلونا بالخيل العتاق والرماح الجيدة ، فهم شجعان. وبقوله : إذا مالت خيلنا أو تحولت عن قتيل منا ، نرجعها عليهم لأجل الثأر ، فما ترجع إلا كوالح ، فنحن أشجع منهم.

٧٠٦

(وَزِدْناهُمْ هُدىً) بالتوفيق والتثبيت (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) وقويناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم ، والفرار بالدين إلى بعض الغيران ، وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام (إِذْ قامُوا) بين يدي الجبار وهو دقيانوس ، من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... (شَطَطاً) قولا ذا شطط ، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه ، من شط : إذا بعد. ومنه : أشط. في السوم وفي غيره (هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (قَوْمُنَا) عطف بيان و (اتَّخَذُوا) خبر وهو إخبار في معنى إنكار (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) هلا يأتون على عبادتهم ، فحذف المضاف (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) وهو تبكيت ، لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال ، وهو دليل على فساد التقليد ، وأنه لا بد في الدين من الحجة حتى يصح ويثبت (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب من بعضهم لبعض ، حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم (وَما يَعْبُدُونَ) نصب ، عطف على الضمير ، يعنى : وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم (إِلَّا اللهَ) يجوز أن يكون استثناء متصلا ، على ما روى : أنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه كما أهل مكة. وأن يكون منقطعا. وقيل : هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله (مِرْفَقاً) قرئ بفتح الميم وكسرها ، وهو ما يرتفق به : أى ينتفع. إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوّة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم. وإما أن يخبرهم به نبىّ في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبيا.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)(١٧)

(تَزاوَرُ) أى تمايل ، أصله : تتزاور ، فخفف بإدغام التاء في الزاى أو حذفها. وقد قرئ بهما. وقرئ : تزورّ. وتزوارّ : بوزن تحمرّ وتحمارّ ، وكلها من الزور وهو الميل. ومنه زاره إذا مال إليه. والزور : الميل عن الصدق (ذاتَ الْيَمِينِ) جهة اليمين. وحقيقتها. الجهة المسماة باليمين (تَقْرِضُهُمْ) تقطعهم لا تقربهم من معنى القطيعة والصرم. قال ذو الرمة :

٧٠٧

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف

شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس (١)

(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) وهم في متسع من الكهف. والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها ، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس لو لا أنّ الله يحجبها عنهم. وقيل : في متفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسبون كرب الغار (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أى ما صنعه الله بهم ـ من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة ـ آية من آياته ، يعنى : أنّ ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم ، اختصاصا لهم بالكرامة. وقيل : باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش ، فهم في مقنأة (٢) أبدا. ومعنى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أنّ شأنهم وحديثهم من آيات الله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم ، فلطف بهم وأعانهم ، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة ، وأن كل من سلك طريقة المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح ، واهتدى إلى السعادة ، ومن تعرّض للخذلان ، فلن يجد من يليه ويرشده بعد خذلان الله.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)

(وَتَحْسَبُهُمْ) بكسر السين وفتحها : خطاب لكل أحد. والأيقاظ : جمع يقظ ، كأنكاد في نكد. قيل : عيونهم مفتحة وهم نيام ، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقيل : لكثرة تقلبهم

__________________

(١) نظرت بجرعاء السبية نظرة

ضحى وسواد العين في الماء شامس

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف

شمالا وعن أيمانهن الفوارس

لذي الرمة. وجرعاء السبية : اسم موضع ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الفاعل. وضحى : ظرف ، وسواد العين ... الخ. جملة حالية ، في الماء ، أى : الدمع شامس ، أى كثير الحركة والاضطراب. يقال : شمس الفرس والرجل شموسا ، إذا ساء خلقه ، والظعينة : المرأة في الهودج أو المطية عليها امرأة أولا ، أو الهودج فيه امرأة أولا. والجمع ظعن وظعن وأظعان وظعانى ويقرضن أى يقطعن. وأقواز مشرف : أعالى جبل مشرف. ويروى أجواز جمع جوز بمعنى المجاز والطريق ، أى : يفصلناه عنهن ، وشمالا : جهة الشمال ، والفوارس : اسم موضع ، وجعله جمع فارس ، كما قيل : تبعده المقابلة.

(٢) قوله «فهم في مقنأة» في الصحاح : قال أبو عمرو «المقنأة ، والمقنؤة» الذي لا تطلع عليه الشمس. وقال : غير مقناة. ومقنوة. بغير همز : نقيض المضحاة. (ع)

٧٠٨

وقيل : لهم تقلبتان في السنة. وقيل : تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وقرئ : ويقلبهم. بالياء والضمير لله تعالى. وقرئ : وتقلبهم ، على المصدر منصوبا ، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) كأنه قيل : وترى وتشاهد تقلبهم. وقرأ جعفر الصادق : وكالبهم أى وصاحب كلبهم (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) حكاية حال ماضية ، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي ، وإضافته إذا أضيف حقيقية معرفة ، كغلام زيد ، إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية. والوصيد : الفناء ، وقيل : العتبة. وقيل : الباب. وأنشد :

بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها

علىّ ومعروفى بها غير منكر (١)

وقرئ : ولملئت ، بتشديد اللام للمبالغة. وقرئ بتخفيف الهمزة وقلبها ياء. و (رُعْباً) بالتخفيف والتثقيل ، وهو الخوف الذي يرعب الصدر أى يملؤه ، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة. وقيل : لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم. وقيل : لوحشة مكانهم. وعن معاوية أنه غزا الروم فمرّ بالكهف فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال له ابن عباس رضى الله عنه : ليس لك ذلك ، قد منع الله تعالى منه من هو خير منك فقال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) فقال معاوية ، لا أنتهى حتى أعلم علمهم ، فبعث ناسا وقال لهم : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم (٢). وقرئ : لو اطلعت ، بضم الواو.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) وكما أنمناهم تلك النومة كذلك بعثناهم ، إذكارا بقدرته على الإنامة والبعث

__________________

(١) لزهير. والوصيد : الفناء والباب والعتبة. يقول : نزلت في أرض خالية من البناء ، تصلني فيها الضيفان والقفاة ، ليس فيها بناء له وصيد. فيسد على فتنحجب عنى الضيفان كأهل الحضر ، فنفى السد كناية عن نفى الوصيد من أصله ، وإحسانى بها معروف لا ينكره أحد من الناس.

(٢) أخرجه ابن أبى حاتم وعبيد بن محمد وأبو بكر بن أبى شيبة من رواية يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وإسناده صحيح.

٧٠٩

جميعا ، ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ويزدادوا يقينا ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) جواب مبنى على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب ، وأنه لا يكون كذبا وإن جاز أن يكون خطأ (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) إنكار عليهم من بعضهم ، وأن الله أعلم بمدّة لبثهم ، كأنّ هؤلاء قد علموا بالأدلة أو بإلهام من الله أنّ المدة متطاولة ، وأنّ مقدارها مبهم لا يعلمه إلا الله. وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال ، فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك. فإن قلت : كيف وصلوا قولهم (فَابْعَثُوا) بتذاكر حديث المدة؟ قلت : كأنهم قالوا : ربكم أعلم بذلك ، لا طريق لكم إلى علمه ، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. والورق : الفضة ، مضروبة كانت أو غير مضروبة. ومنه الحديث أنّ عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب (١) فاتخذ أنفا من ورق فأنتن ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب (٢). وقرئ : بورقكم ، بسكون الراء والواو مفتوحة أو مكسورة. وقرأ ابن كثير : بورقكم ، بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف. وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم ، وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين لا على حده. وقيل : المدينة طرسوس. قالوا : وتزوّدهم ما كان معهم من الورق عند فرارهم : دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأى المتوكلين على الله ، دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضى الله عنها ـ لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه ـ : أوثق عليك نفقتك (٣). وما حكى عن بعض صعاليك العلماء (٤) أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله ، وتعولم منه ذلك ، فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على حج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به وألحوا عليه ، فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم ، فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده : ما لهذا السفر إلا شيئان : شدّ الهميان ، والتوكل على الرحمن (أَيُّها) أىّ أهلها ، فحذف الأهل كما في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، (أَزْكى طَعاماً) أحلّ وأطيب وأكثر وأرخص (وَلْيَتَلَطَّفْ) وليتكلف اللطف والنيقة (٥) فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن. أو في أمر التخفي حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً)

__________________

(١) قوله «يوم الكلاب» في وقعة الكلاب ، وهو بالضم : اسم ماء كانت عنده الوقعة ، أفاده الصحاح ، (ع)

(٢) أخرجه أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن طرفة. عن عرفجة. وفي رواية بعضهم «أن عرفجة».

(٣) أخرجه ابن أبى شيبة بسند صحيح عنها بذلك.

(٤) قوله «عن بعض صعاليك العلماء» أى فقرائهم. (ع)

(٥) قوله «والنيقة» أى : الإتقان. (ع)

٧١٠

يعنى : ولا يفعلنّ ما يؤدى من غير قصد منه إلى الشعور بنا ، فسمى ذلك إشعارا منه بهم ، لأنه سبب فيه الضمير في (إِنَّهُمْ) راجع إلى الأهل المقدر في (أَيُّها). (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم أخبث القتلة وهي الرجم ، وكانت عادتهم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ) أو يدخلوكم (فِي مِلَّتِهِمْ) بالإكراه العنيف ويصيروكم إليها. والعود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم ، يقولون : ما عدت أفعل كذا. يريدون ابتداء الفعل (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) إن دخلتم في دينهم.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(٢١)

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) وكما أنمناهم وبعثناهم ، لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم ، ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وهو البعث ، لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث. و (إِذْ يَتَنازَعُونَ) متعلق بأعثرنا. أى : أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث ، فكان بعضهم يقول : تبعث الأرواح دون الأجساد. وبعضهم يقول : تبعث الأجساد مع الأرواح ، ليرتفع الخلاف ، وليتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت (فَقالُوا) حين توفى الله أصحاب الكهف (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أى على يأب كهفهم. لئلا يتطرّق إليهم الناس ضنا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَ) على باب الكهف (مَسْجِداً) يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم. وقيل : إذ يتنازعون بينهم أمرهم أى : يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ، ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله من الآية فيهم. أو يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا ، كيف يخفون مكانهم؟ وكيف يسدّون الطريق إليهم ، فقالوا : ابنوا على باب كهفهم بنيانا. روى أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها ، وممن شدد في ذلك دقيانوس ، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل ، فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه ، ثم هربوا إلى الكهف ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه ، فأنطقه الله فقال : ما تريدون منى ، أنا أحبّ أحباء الله ، فناموا وأنا أحرسكم. وقيل : مرّوا براع معه كلب فتبعهم (١)

__________________

(١) قوله «وقيل : مروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم» لعل بعده سقطا تقديره : وتبعهم الكلب ، كما في الخازن. (ع)

٧١١

على دينهم ، ودخلوا الكهف فكانوا يعبدون الله فيه ، ثم ضرب الله على آذانهم ، وقيل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن. وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين ، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يبين لهم الحق ، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سدّ به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه ، ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس : اتهموه بأنه وجد كنزا ، فذهبوا به إلى الملك فقصّ عليه القصة ، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم ، وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ، ثم قالت الفتية للملك : نستودعك الله ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم ، فألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجدا. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من كلام المتنازعين ، كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم ، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا : ربهم أعلم بهم. أو هو من كلام الله عز وجل ردّ لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢٢)

(سَيَقُولُونَ) الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم ، فنزلت إخبارا بما سيجرى بينهم من اختلافهم في عددهم ، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم. قال ابن عباس رضى الله عنه : أنا من أولئك القليل. وروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيد وكان يعقوبيا : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقب وكان نسطوريا : كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، فحقق الله قول المسلمين. وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبريل عليه السلام. وعن علىّ رضى الله عنه : هم سبعة نفر أسماؤهم : يمليخا ، ومكشليتيا ، ومشلينيا : هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ، ودبرنوش ، وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره.

٧١٢

والسابع : الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس. واسم مدينتهم : أفسوس. واسم كلبهم : قطمير. فإن قلت : لم جاء بسين الاستقبال في الأوّل دون الآخرين؟ قلت : فيه وجهان : أن تدخل الآخرين في حكم السين ، كما تقول : قد أكرم وأنعم ، تريد معنى التوقع في الفعلين جميعا ، وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميا بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) أى يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ ، فكأنه قيل : ظنا بالغيب ، لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظنّ مكان قولهم ظنّ ، حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. ألا ترى إلى قول زهير :

وما هو عنها بالحديث المرجّم (١)

أى المظنون. وقرئ : ثلاتّ رابعهم ، بإدغام الثاء في تاء التأنيث. و (ثَلاثَةٌ) خبر مبتدإ محذوف ، أى : هم ثلاثة. وكذلك (خَمْسَةٌ) و (سَبْعَةٌ) و (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) جملة من مبتدإ وخبر واقعة صفة لثلاثة ، وكذلك (سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ، ولم دخلت عليها دون الأوّلين (٢)؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الواقعة حال عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر. ومررت بزيد وفي يده سيف. ومنه قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت

__________________

(١) وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

لزهير من معلقته ، ينهى عبسا وذبيان عن القتال. يقول : ليست الحرب إلا التي علمتموها وجربتموها ، وشبهها بمطعوم مكروه على طريق الكناية والذوق تخييل ، وما هو : أى الحديث عن الحرب ، ولما كان الضمير عائدا على المصدر في المعنى صح تعلق المجرور به ، ويبعد تعلقه بما بعده. والترجيم : الرمي بالرجام وهي الحجارة الصغار ، استعير لالقاء الكلام بلا روية ولا فكر على طريق التصريحية.

(٢) قال محمود : إن قلت «لم دخلت الواو في الجملة الأخيرة ... الخ»؟ قال أحمد : وهو الصواب ، لا كمن يقول : إنها واو الثمانية فان ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ، ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) بخلاف أبواب النار ، فانه قال فيها (فُتِحَتْ أَبْوابُها) قالوا : لأن أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة. وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها ، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهى إلى الثامن فتصحبه الواو ، وربما عدوا من ذلك (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو الثامن من قوله (التَّائِبُونَ) وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة ، لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف ، لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما ، كقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وكقوله (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وربما عد بعضهم من ذلك الواو في قوله (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) لأنه وجدها مع الثامن ، وهذا غلط فاحش ، فان هذه واو التقسيم ، ولو ذهبت تحذفها فتقول : ثيبات أبكارا ، لم يسند الكلام ، فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة واردة لغير ما زعمه هؤلاء ، والله الموفق.

٧١٣

مستقر ، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا : سبعة وثامنهم كلبهم ، قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم. والدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) وأتبع القول الثالث قوله (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال ابن عباس رضى الله عنه : حين وقعت الواو انقطعت العدّة ، أى : لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها. وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. وقيل : إلا قليل من أهل الكتاب. والضمير في (سَيَقُولُونَ) على هذا لأهل الكتاب خاصة ، أى : سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ، ولا علم بذلك إلا في قليل منهم ، وأكثرهم على ظنّ وتخمين (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه ، وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد ، من غير تجهيل لهم ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم ، كما قال (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). (وَلا تَسْتَفْتِ) ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له ، حتى يقول شيئا فتردّه عليه وتزيف ما عنده ، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة ، ولا سؤال مسترشد ، لأن الله قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)(٢٤)

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) أى فيما يستقبل من الزمان ، ولم يرد الغد خاصة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) متعلق بالنهى لا بقوله : إنى فاعل ، لأنه لو قال : إنى فاعل كذا إلا أنّ يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون (١) فعله ، وذلك مما لا مدخل فيه للنهى ، وتعلقه بالنهى على وجهين ، أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله ، بأن يأذن لك فيه. والثاني : ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله ، أى : إلا بمشيئة الله ، وهو في موضع الحال ، يعنى : إلا ملتبسا بمشيئة الله قائلا :

__________________

(١) قال محمود : «كان معناه إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ... الخ» قال أحمد : ولا بد من حمل الكلام على أحد الوجهين المذكورين ، ولو لا ذلك لكان المعنى على الظاهر ببادئ الرأى : ولا تقولون لشيء إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول ، وليس الغرض ذلك ، وإنما الغرض النهى عن هذا القول إلا مقرونا بقول المشيئة ، وليت شعري ما معنى قول الزمخشري في تفسير الآية ، كأن المعنى : إلا أن تعترض المشيئة دونه ، معتقدا أن مشيئة الله تعالى لا تعترض على فعل أحد ، فكم شاء من الأفعال فتركت ، وكم شاء من التروك ففعلت على زعم القدرية ، فلا معنى على أصلهم الفاسد لتعليق الفعل بالمشيئة قولا وهو غير متعلق بها وقوعا ، حتى أن قول القائل : لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أن أفعله : كذب وخلف بتقدير فعله إذا كان من قبيل المباح ، لأن الله تعالى لا يشاؤه على زعمهم الفاسد ، فما أبعد عقدهم من قواعد الشرع : فسحقا سحقا.

٧١٤

إن شاء الله وفيه وجه ثالث ، وهو : أن يكون (أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) في معنى كلمة تأبيد ، كأنه قيل ولا تقولنه أبدا. ونحوه قوله (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) لأن عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله. وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وذى القرنين. فسألوه فقال : ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أى مشيئة ربك وقل : إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك. والمعنى : إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر (٢). وعن ابن عباس رضى الله عنه : ولو بعد سنة ما لم تحنث. وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة. وعن طاوس : هو على ثنياه (٣) ما دام في مجلسه. وعن الحسن نحوه. وعن عطاء : يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضى الله عنه في الاستثناء المنفصل ، فاستحضره لينكر عليه : فقال أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ، إنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه ورضى عنه. ويجوز أن يكون المعنى : واذكر (٤) ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، تشديدا في البعث على الاهتمام بها. وقيل : واذكر ربك إذا تركت بعض ما أمرك به. وقيل : واذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسى ، وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. و (هذا) إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف. ومعناه : لعل الله يؤتينى من البينات والحجج على أنى نبىّ صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأدلّ ، والظاهر أن يكون المعنى : إذا نسيت شيئا فاذكر ربك. وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربى أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسى أقرب منه (رَشَداً) وأدنى خيرا ومنفعة. ولعل النسيان كان خيرة ، كقوله (أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها).

__________________

(١) قوله «إن شاء الله» لعله أن يشاء الله. (ع)

(٢) عاد كلامه. قال : «وقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أى كلمة الاستثناء ثم تنبهت لها ، فتداركها بالذكر. وعن ابن عباس : ولو بعد سنة ما لم تحنث إلى قوله : وعند عامة الفقهاء ... الخ» قال أحمد : أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها ، والله أعلم

(٣) قوله «هو على ثنياه» في الصحاح «الثنيا» بالضم : الاسم من الاستثناء. (ع)

(٤) قال محمود : «ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح ... الخ» قال أحمد : ويؤيد هذا التأويل بقوله تعالى أول القصة (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) فافتتح ذكر القصة بتقليل شأنها وإنكار عده من عجائب آيات الله ، ثم ختمها بأمره عليه الصلاة والسلام بطلب ما هو أرشد وأدخل في الآية والله أعلم.

٧١٥

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦)

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) يريد لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة ، وهو بيان لما أجمل في قوله (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ومعنى قوله (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدّة لبثهم ، والحق ما أخبرك الله به. وعن قتادة : أنه حكاية لكلام أهل الكتاب. و (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ) رد عليهم. وقال في حرف عبد الله : وقالوا لبثوا. وسنين : عطف بيان لثلثمائة. وقرئ : ثلاثمائة سنين ، بالإضافة ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) وفي قراءة أبىّ : ثلاثمائة سنة. (تِسْعاً) تسع سنين ، لأن ما قبله يدل عليه. وقرأ الحسن : تسعا بالفتح ، ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السموات والأرض وخفى فيها من أحوال أهلها ومن غيرها وأنه هو وحده العالم به. وجاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات ، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها ، كما يذرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السموات والأرض (مِنْ وَلِيٍ) من متول لأمورهم (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه (أَحَداً) منهم. وقرأ الحسن : ولا تشرك ، بالتاء والجزم على النهى.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(٢٧)

كانوا يقولون له : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، فقيل له (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل ، فلا مبدل لكلمات ربك ، أى : لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها ، إنما يقدر على ذلك هو وحده (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ). (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(٢٨)

٧١٦

وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نحّ هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن ، وهم : صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين ، حتى نجالسك كما قال قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) فنزلت : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) واحبسها معهم وثبتها. قال أبو ذؤيب :

فصبرت عارفة لذلك حرّة

ترسو إذا نفس الجبان تطلّع (١)

(بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) دائبين على الدعاء في كل وقت. وقيل : المراد صلاة الفجر والعصر. وقرئ : بالغدوة ، وبالغداة أجود ، لأن غدوة علم في أكثر الاستعمال ، وإدخال اللام على تأويل التنكير كما قال :

...... والزّيد زيد المعارك (٢)

ونحوه قليل في كلامهم. يقال : عداه إذا جاوزه ومنه قولهم. عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيدا. وإنما عدى بعن ، لتضمين عدا معنى نبا وعلا ، في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه : إذا اقتحمته ولم تعلق به. فإن قلت : أى غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل : ولا تعدهم عيناك ، أو لا تعل عيناك عنهم؟ قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ. ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم؟ ونحوه قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أى ولا تضموها إليها أكلين لها. وقرئ : ولا تعد عينيك ، ولا تعدّ عينيك ، من أعداه وعدّاه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو. ومنه قوله :

فعد عمّا ترى إذ لا ارتجاع له (٣)

__________________

(١) لأبى ذؤيب في مرثية بنيه ، وصبرت : أى حبست نفسا عارفة لذلك البلاء ، وضمن عارفة معنى صابرة فعداه باللام ، جسرة : أى قوية صلبة. ويروى : حرة ، بضم الحاء ، أى جيدة. ترسو : تطمئن وتسكن ، إذا تطلع نفس الجيان وتجزع كأنها تريد الفرار وأصله تتطلع ، حذف منه إحدى التاءين تخفيفا.

(٢) وقد كان منهم حاجب وابن أمه

أبو جندل والزيد زيد المعارك

دخلت «أل» المعرفة على «زيد» وهو علم لتأويله بالمسمى بزيد ، ولذلك أضافه للمعارك ، أى أمكنة الحروب. يقول : وقد كان من هؤلاء القوم حاجب بن لقيط بن زرارة وابن أمه ، أى أخوه أبو جندل والمسمى يزيد ، المعد للحروب. وفيه إشارة إلى أنه يعرف بذلك فيما بين الناس.

(٣) فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له

وأتم القتود على عيرانة أحد

للنابغة الذبياني. ونما ينمى نميا : زاد وارتفع. ونماه ينميه نميا : رفعه وزاده. ونما ينمو نموا من باب دخل. ونماه ينموه نموا أيضا ، لكن الواوي قليل. والقتود : جمع أقتاد ، جمع قتد : وهي عيدان الرحل بلا أداة. والعيرانة : الشبيهة بالعير في سرعة السير. والأجد : الصلبة الموثقة الخلق. يقول : انصرف عما ترى من آثار الديار ، أو عما تظن رجوعه ، لأنه لا تدارك له أو لا رجوع له ، وارفع عيدان الرحل على ناقة سريعة صلبة ، كناية عن أمره بالسفر ، لأن شد الرحال لا يكون إلا له.

٧١٧

لأن معناه : فعد همك عما ترى. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدرى بفقراء المؤمنين ، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى زىّ الأغنياء وحسن شارتهم (١) (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في مرضع الحال (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا (٢) عن الذكر بالخذلان (٣). أو وجدناه غافلا عنه ، كقولك : أجبنته وأفحمته (٤) وأبخلته ، إذا وجدته كذلك. أو من أغفل إبله إذا تركها (٥) بغير سمة ، أى : لم نسمه بالذكر ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان وقد أبطل الله توهم المجبرة (٦) بقوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) وقرئ : أغفلنا قلبه ، بإسناد الفعل إلى القلب على معنى : حسبنا قلبه غافلين ، من أغفلته إذا وجدته غافلا (فُرُطاً) متقدّما للحق والصواب (٧) نابذا له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط» متقدّم للخيل.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(٢٩)

__________________

(١) قوله «وحسن شارتهم» في الصحاح : الشوار والشارة : اللباس والهيئة. (ع)

(٢) قال محمود : «معناه جعلنا قلبه غافلا عن الذكر ... الخ» قال أحمد : هو يشمر للهرب من الحق ، وهو أن المراد خلقنا له ، وجدير به أن يشمر في اتباع هواه ، فان حمل «أغفل» على بابه صرفه إلى الخذلان ، وإلا أخرجه بالكلية عن بابه إلى باب أفعل للمصادفة ، ولا يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله إلى ذاته بالمصادفة إلى تفهيم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم.

(٣) قوله «غافلا عن الذكر بالخذلان» يتحاشى بذلك عن خلق الغفلة في قلبه ، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة ، وأهل السنة على خلاف ذلك كما أشار إليه بقوله : توهم المجبرة. ثم إن اتباعه هواه لا ينافي خلق الله الغفلة في قلبه ، لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن الغفلة. (ع)

(٤) قوله «كقولك أجبنته وأفحمته» في الصحاح «أفحمته» وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)

(٥) عاد كلامه. قال : «ويجوز أن يكون المعنى من أغفل إبله إذا ... الخ» قال أحمد : وهذا التأويل فيه رقة حاشية ولطافة معنى ، وغرضه منه الخلاص مما قدمناه ، لأنه وإن أبى خلق الله الغفلة في القلب فلا يأبى عدم كتب الايمان ، وإنما غرضنا التنبيه على أن مقصد الزمخشري الحيد عن القاعدة المتقدمة ، والتأويل إنما يصار إليه إذا اعتاص الظاهر وهو عندنا ممكن ، فوجب الاعتصام به ، والله الموفق.

(٦) عاد كلامه. قال : «وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله : واتبع هواه» قال أحمد : قد تقدم في غير ما موضع أن أهل السنة يضيفون فعل العبد إلى الله تعالى من حيث كونه مخلوقا له ، وإلى العبد من حيث كونه مقرونا بقدرته واختياره ، ولا تنافى بين الاضافتين ، فبراهين السنة تتبعه أينما سلك وأية توجه ، فلا محيص له عنها بوجه.

(٧) قوله «متقدما للحق والصواب» أى سابق له ومجاوز له ، وفي الصحاح : أمر فرط ، أى مجاوز فيه الحد. ومنه قوله تعالى (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

٧١٨

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الحق خبر مبتدأ محذوف. والمعنى : جاء الحق وزاحت العلل (١) فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير ، لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء ، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين. شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق ، وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، وبيت مسردق : ذو سرادق وقيل : هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار. وقيل : حائط من نار يطيف بهم (٢) (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كقوله :

...... فأعتبوا بالصّيلم (٣)

وفيه تهكم. والمهل : ما أذيب من جواهر الأرض. وقيل : دردىّ الزيت (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم : هو كعكر الزيت (٤) ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه (بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) متكا من المرفق ، وهذا لمشاكلة قوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء ، إلا أن يكون من قوله :

إنىّ أرقت فبتّ اللّيل مرتفقا

كأنّ عينى فيها الصّاب مذبوح (٥)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ

__________________

(١) قوله «والمعنى جاء الحق وزاحت العلل» في الصحاح «زاح الشيء» بعد وذهب. وأزحت علته فزاحت. (ع)

(٢) قوله «يطيف بهم» الذي يفيده الصحاح : طاف يطوف حول الشيء : دار حوله ، وطاف يطيف بالشيء : جاءه وأ لم به ، فتدبر. (ع)

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ١٠٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٤) أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد. عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبى الهيثم عن أبى سعيد. واستغربه. وقال : لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد وتعقب قوله : بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج ، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث.

(٥) لأبى ذؤيب الهذلي. ويروى بدل الشطر الأول : مقام الخلى وبت الليل مشتجرا. والارتفاق : الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد. والاشتجار : وضع اليد تحت الشجر وهو ما بين اللحيين والاتكاء عليها ، وهي هيئة المتحزن المتحسر. والأرق ، السهر. والصاب : نبت مر كالحنظل. والمذبوح : المشقوق. وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع.

٧١٩

ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)

(أُولئِكَ) خبر إن و (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراض ، ولك أن تجعل (إِنَّا لا نُضِيعُ) و (أُولئِكَ) خبرين معا. أو تجعل (أُولئِكَ) كلاما مستأنفا بيانا للأجر المبهم. فإن قلت : إذا جعلت (إِنَّا لا نُضِيعُ) خبرا ، فأين الضمير الراجع منه إلى المبتدأ؟ قلت : (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) و (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ينتظمهما معنى واحد ، فقام (مَنْ أَحْسَنَ) مقام الضمير. أو أردت : من أحسن عملا منهم ، فكان كقولك : السمن منوان بدرهم. من الأولى للابتداء ، والثانية للتبيين. وتنكير (أَساوِرَ) لإبهام أمرها في الحسن. وجمع بين السندس : وهو ما رقّ من الديباج ، وبين الإستبرق : وهو الغليظ منه ، جمعا بين النوعين. وخص الاتكاء ، لأنه هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)(٣٤)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أى ومثل حال الكافرين والمؤمنين ، بحال رجلين وكانا أخوين في بنى إسرائيل : أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا. وقيل : هما المذكوران في سورة والصافات في قوله (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فتشاطراها. فاشترى الكافر أرضا بألف ، فقال المؤمن : اللهم إن أخى اشترى أرضا بألف دينار ، وأنا أشترى منك أرضا في الجنة بألف ، فتصدّق به. ثم بنى أخوه دارا بألف ، فقال : اللهم إنى أشترى منك دارا في الجنة بألف فتصدّق به. ثم تزوّج أخوه امرأة بألف ، فقال : اللهم إنى جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف ، فقال : اللهم إنى اشتريت منك الولدان المخلدين بألف ، فتصدّق به ثم أصابته حاجة ، فجلس لأخيه على طريقه فمرّ به في حشمه ، فتعرّض له ، فطرده ووبخه على التصدّق بماله. وقيل : هما مثل لأخوين من بنى مخزوم : مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد ، وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد (جَنَّتَيْنِ مِنْ

٧٢٠