الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

سورة التوبة

مدنية [إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان]

وآياتها ١٣٠ وقيل ١٢٩ [نزلت بعد المائدة]

لها عدة أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكلة ، المدمدمة ، سورة العذاب ، لأنّ فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق أى تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث (١) عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة رضى الله عنه : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه. فإن قلت : هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور؟ قلت : سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضى الله عنهما فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال : اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا ، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، (٢) فلذلك قرنت بينهما ، وكانتا تدعيان القرينتين (٣). وعن أبى كعب : إنما توهموا ذلك ، لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود. وسئل ابن عيينة رضى الله عنه فقال : اسم الله سلام وأمان ، فلا يكتب في النبذ والمحاربة ، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) قيل : فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب : بسم الله الرحمن الرحيم. قال : إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم ، ألا تراه يقول (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤) فمن دعى إلى الله عزّ وجلّ فأجاب ودعى (٥) إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى ، وأمّا النبذ فإنما هو البراءة

__________________

(١) قوله «تبحث» لعله أى تبحث. (ع)

(٢) قوله «شبيهة بقصتها» هذا الضمير للأنفال ، بدليل التشبيه ، وإن لم يجر لها ذكر هنا. وعبارة الخازن ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت التوبة من آخر ما نزل من القرآن ، وكانت قصتها ... الخ. (ع)

(٣) أخرجه أصحاب السنن ، وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار. من طريق يوسف بن مهران. ويزيد الفارسي. عن ابن عباس. قال «سألت عثمان بن عفان ، ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما فذكر الحديث بطوله سوى قوله وكانتا تدعيان القرينتين ، فلم يذكرها إلا إسحاق

(٤) هو في حديث ابن عباس الطويل عن أبى سفيان. وهو متفق عليه. وفيه فقرأ الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هر قل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. الحديث.

(٥) قوله «ودعى» لعله : أو دعى. (ع)

٢٤١

واللعنة ، وأهل الحرب لا يسلم عليهم ، ولا يقال : لا تفرق ولا تخف ، ومترس (١) ولا بأس : هذا أمان كله. وقيل : سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة ، كلتاهما نزلت في القتال ، تعدّان السابعة من الطول (٢) وهي سبع وما بعدها المئون ، وهذا قول ظاهر ، لأنهما معاً مائتان وست ، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم : هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال : هما سورتان ، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال : هما سورة واحدة.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ)(٢)

(بَراءَةٌ) خبر مبتدإ محذوف أى هذه براءة و (مِنَ) لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وليس بصلة ، كما في قولك : برئت من الدين. والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون (بَراءَةٌ) مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) كما تقول : رجل من بنى تميم في الدار. وقرئ «براءة» بالنصب ، على : اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون ، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه (٣) منبوذ إليهم. فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلا فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون

__________________

(١) قوله «ومترس» بفتح الميم والتاء وسكون الراء : فارسى ، معناه : أمان. (ع)

(٢) قوله «من الطول» الطول ـ بكسر ففتح ـ بمعنى الطويلة. أفاده الصحاح. وعبارة غيره : الطوال.

(٣) قال محمود معناه : «أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ... الخ» قال أحمد : ورواه ما ذكره سر آخر هو المرعي ، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين ، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم : وإذا نزلت بحصن فطلبوا التزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك ، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع ، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث ، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر ، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه ، والله أعلم»

٢٤٢

بما نجدّد من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرّض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها ، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً رضى الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبى بكر رضى الله عنه؟ فقال : لا يؤدى عنى إلا رجل منى ، فلما دنا علىّ سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور. وروى أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك ، فأرسل علياً ، فرجع أبو بكر رضى الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أشىء نزل من السماء قال : نعم ، فسر وأنت على الموسم ، وعلىّ ينادى بالآى. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه وحدثهم عن مناسكهم ، وقام على رضى الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إنى رسول رسول الله إليكم. فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية (١). وعن مجاهد رضى الله عنه ثلاث عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل

__________________

(١) «قلت» هذا ملفق من مواضع. فصدره مذكور في مغازي ابن إسحاق. وقوله «وهم بنو ضمرة وبنو كنانة أى الذين نكثوا إلا من استثنى منهم كما يفهم من ظاهره. وسيأتى بيان ذلك قريبا بعد أحاديث. وذلك أن العهد كان في سنة ست والنكث ونزولها والفتح في سنة ثمان كما سيأتى بعد قليل : أن المدة التي بلا نكث كانت ثمانية عشر شهرا. فعلى هذا كان أول النكث. في شهر ربيع الآخر سنة ثمان هذا هو التحقيق في النقل ، وأما قوله «وكان الأمير بها أى في سنة ثمان على مكة وعلى الحج. فهذا ذكره الواقدي في المغازي. وأما قوله «فأمر أبو بكر على موسم سنة تسع إلى آخره» فهو في الصحيح من حديث أبى هريرة بمعناه. وأما قوله وأتبعه عليا فرواه أحمد ، وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن يزيد بن منيع عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة. فذكر الحديث وفيه فسار ثلاثا ثم قال لعلى الحقه ورد على أبا بكر وبلغها قال ففعل ، فلما قدم أبو بكر بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء؟ قال : ما حدث فيك إلا خير. لكنني أمرت أن لا يبلغ إلا أنا أو رجل منى» وفي المستدرك من طريق جميع بن عمير «أتيت ابن عمر فسألته عن على فانتهرنى ثم قال ، ألا أحدثك عن على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة فانطلقا فإذا هما براكب فقالا من هذا؟ فقال : أنا على بن أبى طالب فقال : يا أبا بكر هات الكتاب ، الحديث ، وروى. «كذا بأحد الأصلين بياض قدر أسطر. وفي الأصل الآخر سقط الكلام ولم يترك بياضاً. اه مصححه»

٢٤٣

نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذى عهد عهده : فقالوا عند ذلك يا على ، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل : إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه ، لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ، فلو تولاه أبو بكر رضى الله عنه لجاز أن يقولوا : هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود ، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضى الله عنه. فإن قلت : الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت : عن الزهري رضى الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال ، فهي أربعة أشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وقيل هي عشرون من ذى الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من شهر ربيع الآخر. وكانت حرما ، لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم. أو على التغليب ، لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها. وقيل : لعشر من ذى القعدة إلى عشر من ربيع الأول ، لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية من ذى الحجة. فإن قلت : ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت : قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها (غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه وإن أمهلكم ، وهو مخزيكم : أى مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٣)

(وَأَذانٌ) ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد ، في قولك : زيد قائم ، وعمرو قاعد ، والأذان : بمعنى الإيذان وهو الإعلام ، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة. وقيل : يوم النحر ، لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، من الطواف. والنحر ، والحلق ، والرمي. وعن على رضى الله عنه : أن رجلا أخذ

٢٤٤

بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا. خل عن دابتي (١). وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر (٢)» ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته ، لأنه إذا فات فات الحج ، وكذلك إن أريد به يوم النحر ، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج ـ فهو الحج الأكبر. وعن الحسن رضى الله عنه : سمى يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً. وقرئ «إن الله» بالكسر ، لأنّ الأذان في معنى القول (وَرَسُولِهِ) عطف على المنوي في (بَرِيءٌ) أو على محل «إن» المكسورة واسمها : وقرئ بالنصب ، عطفاً على اسم «إن» أو لأنّ الواو بمعنى مع : أى بريء معه منهم ، وبالجرّ على الجوار. وقيل : على القسم ، كقوله : لعمرك. ويحكى أن أعرابياً سمع رجلا يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابى قراءته ، فعندها أمر عمر رضى الله عنه بتعلم العربية (٣) (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر والغدر (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة ، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤)

فإن قلت : مم استثنى قوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) (٤)؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من

__________________

(١) أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية شعبة عن الحاكم عن يحيى بن الجزار عن على «أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر فقال : هو يومك هذا خل سبيلها

(٢) أخرجه البخاري تعليقا وأبو داود والحاكم من رواية هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر مطولا ورواه الطبراني والطبري وأبو نعيم في الحل؟؟؟؟ ببة وابن أبى حاتم مختصراً من طريق سعيد بن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر. وقال : هذا يوم الحج الأكبر» وفي الباب عن على رضى الله عنه ، أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا. وعن ابن أبى أو في عند الطبراني. وعن ابن مسعود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم في ترجمة عمر بن هارون.

(٣) لم أجده بإسناده وذكره القرطبي في التذكرة عن ابن أبى مليكة قال «قدم أعرابى في زمن عمر فذكره أتم منه ، وزاد في آخره : وأمر بأبى الأسود ، فوضع النحو اه والمشهور أن الذي أمر أبا الأسود بوضع النحو على بن أبى طالب رضى الله عنه.

(٤) قال محمود : «إن قلت مم هذا الاستثناء قلت وجهه أن يكون مستثنى ... الخ» قال أحمد : ويجوز أن يكون

٢٤٥

قوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك ، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا عليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفىَّ كالغادر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك (لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط (وَلَمْ يُظاهِرُوا) ولم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) عدوّا ، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:

لَاهُمَّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدَا

حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا

إن قُرَيْشا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا

هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا

وَقَتَلُونَا رُكَّعا وَسُجَّدَا (١)

__________________

ـ قوله فسيحوا خطابا من الله تعالى المشركين غير مضمر قبله القول ، ويكون الاستثناء على هذا من قوله إلى الذين عاهدتم ، كأنه قيل براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد ، فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم ، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في قوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في قوله (فَسِيحُوا) ثم التفات من التكلم إلى الغيبة بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) وأن الله وأصله واعلموا أنكم غير معجزي وأنى ، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى خطاب المسلمين بقوله : إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا ، وكل هذا من حسنات الفصاحة وإنما بعث الزمخشري على تقدير القول قبل (فَسِيحُوا) مراعاة أن يطابق قوله فأتموا ، إذا المخاطب على هذا التقدير المسلمون أولا وثانيا ولا يكون فيه شيء من الالتفاتات المبنية على التأويل الذي ذكرناه ، وكلا الوجهين ممتاز بنوع من البلاغة وطرف من الفصاحة ، والله أعلم.

(١) إن قريشا أخلفوك الموعدا

وتقضوا ذمامك المؤكدا

وزعموا أن لست تنجي أحدا

وهم أذل وأقل عدداً

هم بيتونا في الحطيم هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

فانصر هداك الله نصراً اعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

في فيلق كالبحر يجرى مزيدا

أبيض مثل الشمس يسمو صعدا

إن شيم خطب وجهه تربدا

لعمرو بن سلام الخزاعي. لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أعانت قريش بنى بكر على حرب بنى خزاعة ، ففزع عمرو إليه بالمدينة وأنشده ذلك ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا نصرت إن لم أنصركم. و «لاهم» أصله اللهم ، خفف وأظهر في مقام الإضمار للدلالة على التعظيم والتهييج لما أراده. والحلف : العهد. والأتلد : الأقدم. والتفت إلى الخطاب للاستعطاف. وجعله كالأب لهم لمراعاته مصالحهم. وعطف بثمة للترتيب في الاخبار ونزع إليه كناية عن نقض العهد. و «الذمام» العهد. وقيل : مع ذمة بمعنى العهد أيضا. وروى «ميثاقك». وأذل ، وأقل ، بمعنى أذلاء قليلون ، فليس مفيدا للزيادة. ويجوز أنه على بابه بالنظر لزعمهم ، أى : أذل وأقل مما زعموا فيك وفي قومك. و «الحطيم» معروف ، كانوا في الجاهلية يحلفون فيه فيحطم الكاذب. ويروى «بالأتير»

٢٤٦

فقال عليه الصلاة والسلام : لا نصرت إن لم أنصركم» (١) وقرئ : لم ينقضوكم ، بالضاد معجمة أى لم ينقضوا عهدكم. ومعنى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ) فأدّوه إليهم تامّاً كاملا. قال ابن عباس رضى الله عنه : بقي لحىّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتمّ إليهم عهدهم.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

انسلخ الشهر ، كقولك انجرد الشهر ، وسنة جرداء. و (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) يعنى الذين نقضوكم وظاهروا عليكم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ أو حرم (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم. والأخيذ : الأسير (وَاحْصُرُوهُمْ) وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضى الله عنه : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام (كُلَّ مَرْصَدٍ) كلّ ممرّ ومجتاز (٢) ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف كقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ

__________________

ـ والأتير : الطريق ، وواحدة وتيرة. وهو هنا اسم ماء لخزاعة بأسفل مكة. و «الهجد» جمع هاجد ، وهو المتيقظ من النوم العبادة. و «العتيد» الحاضر ، يقال : عنده تعتيدا ، وأعتده إعتاداً : هيأه وأحضره ، فهو عتيد وأعتد.

وفيه جعل اسم التفضيل بمعنى المفعول ، فلعله من عند إذا حضر. والأصل أعده إعداداً فأبدلت الدال تاء ، و «هداك الله» جملة اعتراضية دعائية. و «المدد» الزيادة : أى يأتوا زيادة لنا تعيننا على أعدائنا. وفي الاضافة إلى الله تهييج لهم. و «الفيلق» الجيش المزدحم المتكاثف. كالبحر في الكثرة وسرعة السير. و «المزيد» المخرج للرغوة من شدة السير والغليان. «يسمو» يعلو «صعداً» أى صعوداً. «إن شيم» أى رئي. وروى بالمهملة : أى أحق ، «تريد» أى تغير وصار مغيراً كلون الرماد. والغضب عند نزول المكروه أمارة الشجاعة. وهذا كان سبب فتح مكة.

(١) أخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقة. قال حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا «كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فذكر القصة مطولة وفيها الشعر. وفيها فنكثوا في الهدنة نحو سبعة أو ثمانية عشر شهرا. وروى الطبراني من طريق على بن الحسين حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت «كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فذكرت القصة والشعر.

وأوردها الواقدي في المغازي مطولا من طرق ثم قال. حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبى أنس عن ابن عباس. قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر طرف ردائه ويقول «يا عمرو لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب مما أنصر منه نفسي».

(٢) قال محمود : «المرصد المجاز والممر ... الخ» قال أحمد : ويكون انتصابه دون جره من الاتساع ، لأن المرصد ظرف مختص ، والأصل قصور الفعل عن نصبه ، ويكون مثل قوله في الاتساع :

كما عسل الطريق الثعلب

ويحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون مرصد مصدراً ، لأن صيغة اسم الزمان والمكان والمصدر من فعلة واحدة ، فعلى هذا يكون منصوبا نصبا أصلياً ، لأن اقعدوا في معنى ارصدوا ، كأنه قيل : وارصدوهم كلّ مرصد ، إلا أن الظرفية يقويها قوله (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فيقتضيها قصد المطابقة بين ظرفى المكان ، والله أعلم.

٢٤٧

صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ). (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله :

خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ (١)

وعن ابن عباس رضى الله عنه : دعوهم وإتيان المسجد الحرام (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(٦)

(أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر ، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء ، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق ، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن ، وتبين (٢) ما بعثت له فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضى الله عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضى الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتى محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى يقول (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ...) الآية وعن السدّى والضحاك

__________________

(١) خل السبيل لمن يبنى المنار به

وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر

قد خفت يا ابن التي ماتت منافقة

من خبث بردة أن لا ينزل المطر

لجرير يهجو عمر بن لجأ التميمي. ويروى : خل الطريق. ومنار الطريق : حدوده. يقول له : اترك سبيل المعالي لمن يبنى الأعلام فيه ويقيم شعائره ويبين حدوده. شبه الخصال الحميدة بالطريق الجادة بجامع الوصول بكل إلى المراد وعدم الميل عن كل على سبيل التصريحية ، وبناء المنار ترشيح : والمراد به : إقامة الشعائر الجميلة وتحسين شأنها لتتبعها الناس. أو نصب دلائل على الكرم لتهتدى إليه العفاة. وبرزة هي أم عمر ، وقيل : الأرض الواسعة. وعليه فمنع صرفه ضرورة ، ولكن البيت الثاني يؤيد ما قلنا ، أى اخرج بأمك القبيحة إلى ما ألجأك إليه القدر الأزلى ، وهو ما انطبعت عليه من الخصال الخسيسة. والمراد بالأمر في الموضعين : بيان حاله التي هو عليها لا حقيقة الأمر. ويحتمل أن الأول أمر بترك التفاخر ، فتكون صورة الأمر الثاني للمشاكلة ، أو بمعنى طلب اعترافه بحال نفسه. وجعله النحويون من قبيل التحذير ومثلوا به لذكر عامل المحذر منه ، وهو يزيد على مجرد الأمر بالتخلية بأن بينه وبين ذلك السبيل منافرة حتى صح تحذيره منه. وخفت بضم التاء ، ولكن فتحها أبلغ في الهجو. وتكرير اسم برزة للتنكير والتعيير بها ، أى أنها شؤم على الناس يخاف منها الجدب.

(٢) قوله «وتبين» لعله و «يتبين» عطفاً على يسمع. (ع)

٢٤٨

رضى الله عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ). (ذلِكَ) أى ذلك الأمر ، يعنى الأمر بالإجارة في قوله (فَأَجِرْهُ). بسبب (بِأَنَّهُمْ) قوم جهلة (لا يَعْلَمُونَ) ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)(٨)

(كَيْفَ) استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد ، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أضداد وغرة صدورهم (١) ، يعنى : محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أى ولكن الذين عاهدتم منهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبنى ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) على العهد (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على مثله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين (كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد (٢) ، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال :

وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى

فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ (٣)

يريد : فكيف مات ، أى : كيف يكون لهم عهد (وَ) حالهم أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بعد

__________________

(١) قوله «وغرة صدورهم» أى ملتهبة من الغيظ. (ع)

(٢) قال محمود : «كيف تكرار لاستبعاد ثبات ... الخ» قال أحمد السر في تكرار كيف ـ والله أعلم ـ أنه لما ذكره أولا لاستبعاد ثبات عهدهم عند الله ولم يذكر إذ ذاك سبب البعد للغاية باستثناء الباقين على العهد وطال الكلام ، أعيدت «كيف» تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض ، فلم يقصد مجرد التكرار ، بل هذا السر الذي انطوى عليه ، وقد تقدمت له أمثال ، والله الموفق.

(٣) لعمر أبى إن البعيد الذي مضى

وإن الذي يأتى غداً لقريب

وخبرتمانى أنما الموت بالقرى

فكيف وهاتا هضبة وقليب

لكعب الغنوي في مرثية أخيه. و «الهضبة» الصخرة العظيمة. وجعل الخطاب لاثنين على عادة العرب ولو لم يوجدا. وإنما بالكسر على الحكاية ، أو بالفتح على المفعولية : أى وأخبرتمانى أن الموت والوباء في القرى فقط ، فكيف تدعيان ذلك وقد مات أخى في هذه البرية. أو كيف مات أخى فيها. والقليب : البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض إلى ظهرها. وهاتا : إشارة للبرية. ويجوز أنها للهضبة : أى وهذا قليب.

٢٤٩

ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) لا يراعوا حلفاً. وقيل : قرابة. وأنشد لحسان رضى الله عنه :

لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش

كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ (١)

وقيل (إِلًّا) إلها. وقرئ : إيلا ، بمعناه. وقيل : جبرئيل ، وجبرئيل ، من ذلك. وقيل : منه اشتق الآل بمعنى القرابة ، كما اشتقت الرحم من الرحمن ، والوجه أن اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف ، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الأول وهو الجؤار ، وله أليل : أى أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها : إذا ولولت (٢) ، ثم قيل لكل عهد وميثاق : إلّ. وسميت به القرابة ، لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق (يُرْضُونَكُمْ) كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان ، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم (٣) ، ولا شمائل مرضية تردعهم ، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة ، من التفادى عن الكذب والنكث ، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ)(١٠)

(اشْتَرَوْا) استبدلوا (بِآياتِ اللهِ) بالقرآن والإسلام (ثَمَناً قَلِيلاً) وهو اتباع الأهواء والشهوات (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(١١)

__________________

(١) لحسان بن ثابت. والال ـ بالكسر ـ الحلف والعهد والقرابة. والسقب : حوار الناقة. والرأل : ولد النعام. يقول : وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة ، كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. ويروى : كآل السيف. والوجه أنه تحريف.

(٢) قوله «ودعت اليها إذا ولولت» في الصحاح : وأما قول الكميت يمدح رجلا :

وأنت ما أنت في غبراء مظلمة

إذا دعت ألليها الكاعب الفضل

فيجوز أن يريد الألل ، ثم ثنى كأنه يريد صوتا بعد صوت. اه (ع)

(٣) قوله «لا مروءة تزعهم» أى تكفهم. اه صحاح (ع)

٢٥٠

(فَإِنْ تابُوا) عن الكفر ونقض العهد (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فهم إخوانكم على حذف المبتدإ ، كقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ). (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) ونبينها. وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)(١٢)

(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) وثلبوه وعابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم : إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغيانا وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدّم فيه ، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا : إذا طعن الدمى في دين الإسلام طعنا ظاهراً ، جاز قتله ، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) جمع يمين. وقرئ : لا إيمان لهم ، أى لا إسلام لهم. أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث ، ولا سبيل إليه. فإن قلت : كيف أثبت لهم الأيمان في قوله (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ثم نفاها عنهم؟ قلت : أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال : لا أيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يمينا. وعند الشافعي رحمه الله : يمينهم يمين. وقال : معناه أنهم لا يوفون بها ، بدليل أنه وصفها بالنكث (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أى ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت : كيف لفظ أئمة؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أى : بين مخرج الهمزة والياء (١). وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١٣)

__________________

(١) قوله «بين مخرج الهمزة والياء : لعله «مخرجي الهمزة والياء». (ع)

٢٥١

(أَلا تُقاتِلُونَ) دخلت الهمزة على (لا تُقاتِلُونَ) تقريراً بانتفاء المقاتلة. ومعناه : الحض عليها على سبيل المبالغة (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها في المعاهدة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة ، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة ، فخرج بنفسه (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب ، حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها (أَتَخْشَوْنَهُمْ) تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فتقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ، ولا يبالى بمن سواه ، كقوله تعالى (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ)

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)

لما وبخهم الله على ترك القتال ، جرّد لهم الأمر به فقال (قاتِلُوهُمْ) ووعدهم ـ ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم ـ أنه يعذبهم بأيديهم قتلا ، ويخزيهم أسراً ، ويوليهم النصر والغلبة عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ) طائفة (١) من المؤمنين ، وهم خزاعة ، قال ابن عباس رضى الله عنه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فيعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ، فقال : أبشروا فإن الفرج قريب (وَيُذْهِبْ غَيْظَ) قلوبكم (٢) لما لقيتم منهم من المكروه ، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ابتداء كلام ، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وكان ذلك أيضا ، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ :

__________________

(١) قوله «ويشف صدور طائفة» هذا لفظ التلاوة ، والأنسب ويشفى ، عطفاً على (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) لأنه من جملة الوعد. (ع)

(٢) قوله «ويذهب غيظ قلوبكم» التلاوة (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) ولعل بعض الناسخين فهم أنه من البشرى ، فغيره بلفظ الخطاب. والمتجه (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لما لقوا ، ثم قوله (وَيُذْهِبْ) بالرفع عطف على يعذبهم بأيديكم ، لأنه من جملة الوعد كما سيشير إليه. (ع)

٢٥٢

ويتوب بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم ما سيكون ، كما يعلم ما قد كان (حَكِيمٌ) لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

(أَمْ) منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، حتى يتبين الخلص منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة أى بطانة ، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم (وَلَمَّا) معناها التوقع ، وقد دلت على أن تبين ذلك ، وإيضاحه متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) معطوف على جاهدوا ، داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة : فعيلة من ولج ، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفى المعلوم ، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل فىّ ، يريد : ما وجد ذلك منى.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ)(١٧)

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صح لهم وما استقام (أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) يعنى المسجد الحرام ، لقوله (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان ، أحدهما : أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني : أن يراد جنس المساجد ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها ، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد ، لأنّ طريقته طريقة الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. و (شاهِدِينَ) حال من الواو في (يَعْمُرُوا) والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله ، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل : قد أقبل المهاجرون

٢٥٣

والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك ، فطفق علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول. فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجراً : إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ونفك العاني ، فنزلت (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال (١) الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله (شاهِدِينَ) حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)(١٨)

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) وقرئ بالتوحيد ، أى : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها ، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها ، وقمها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «يأتى في آخر الزمان ناس من أمتى يأتون المساجد فيقاعدون فيها حلقاً (٢) ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة (٣)» وفي الحديث «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش (٤)» وقال عليه السلام : «وقال الله تعالى : إن بيوتي في أرضى المساجد ، وإنّ زوّارى فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم (٥) زائره. وعنه

__________________

(١) قال محمود : «إذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال ... الخ» قال أحمد : كلام صحيح إلا قوله «إن الكبيرة تهدم الأعمال ، فانه تفريع على قاعدة المعتزلة ، والحق خلافها.

(٢) قوله «فيقاعدون فيها حلقا» في نسخة : فيعدون. وفي أخرى : فيغدون. وليحرر. (ع)

(٣) أخرجه الطبراني من رواية أبى وائل عن ابن مسعود رفعه «سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا ، مناهم الدنيا لا تجالسوهم. فليس لله فيهم حاجة» وفيه بديع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه.

وهو متروك وقال الدارقطني : إنه تفرد به ، وفيه نظر. فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة» وفي الباب عن أنس رفعه «يأتى على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم ، وليس همتهم إلا الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة» أخرجه الحاكم من طريق الثوري عن عوف عن الحسن عنه.

(٤) يأتى في لقمان.

(٥) لم أجده هكذا وفي الطبراني عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء.

٢٥٤

عليه السلام «من ألف المسجد ألفه الله (١)» وقال عليه السلام «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان (٢)» وعن أنس رضى الله عنه : من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه (٣)». فإن قلت : هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه ، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام. وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فان قلت : كيف قيل (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حق الله ، والآخر حق نفسه أن يخاف الله ، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفى تلك الخشية عنهم (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء (٤) وحسم لأطماعهم من الانتفاع (٥) بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى ، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل ، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(١٩)

__________________

ـ ثم أتى المسجد فهو زائر لله ، وحق على المزور أن يكرم زائره» وروى عبد الرزاق ومن طريقه الطبري عن معمر عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون. قال «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن بيوت الله في الأرض المساجد ، وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها» ومن هذا الوجه. أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد.

(١) أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن دراج بن الهيثم عن أبى سعيد به.

(٢) أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان. والحاكم من رواية أبى الهيثم عن أبى سعيد.

(٣) رواه الحارث بن أسامة من رواية الحكم بن سفلة العبدى. عن أنس رضى الله عنه. من أسرج في مسجد سراجا لم يزل مرفوعا ومن طريق الحارث أخرجه سليم الرازي في كتاب الترغيب وفي الطبراني في مسند الشاميين من حديث على بن أبى طالب رفعه «من علق قنديلا في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك ـ الحديث بمعناه».

(٤) قال محمود : «في هذه الآية تبعيد للمشركين ... الخ» قال أحمد : وأكثرهم يقول : إن «عسى» من الله واجبة بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين ، والحق فيما قال الزمخشري ، ولكن الخطاب مصروف إليهم أى فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة ، والعاقبة عند الله معلومة ، ولله عاقبة الأمور.

(٥) قوله «من الانتفاع» لعله «في» كعبارة النسفي. (ع)

٢٥٥

السقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر ، كالصيانة والوقاية. ولا بد من مضاف محذوف تقديره (أَجَعَلْتُمْ) أهل (سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي (١) ـ وكان من القراء ـ : سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين ، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروى أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام ، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل. وقيل : إن عليا رضي الله عنه قال للعباس : يا عمّ ألا تهاجرون ، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقى حاجّ بيت الله ، وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت قال العباس : ما أرانى إلا تارك سقايتنا. فقال عليه السلام «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً (٢)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)

هم (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من أهل السقاية والعمارة عندكم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم. قرئ : (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف والتثقيل. وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف. وعن ابن عباس رضى الله عنه : هي في المهاجرين خاصة (٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها

__________________

(١) قوله «وأبى وجزة السعدي» في الصحاح : أنه شاعر ومحدث. (ع)

(٢) ذكره الثعلبي عن الحسن بغير إسناد لكن سنده إليه في أول الكتاب في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن عمر ، وهو ابن عبيد عن الحسن قال «نزلت في على والعباس ، وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك. فقال العباس : ما أرانى إلا تاركا سقايتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكره.

(٣) أخرجه الثعلبي من رواية جويبر عن الضحاك عنه.

٢٥٦

وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢٤)

وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخرجت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت ، فهاجروا ، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة (١) فنهى الله تعالى عن موالاتهم. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله : حتى يحب في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» (٢). وقرئ : عشيرتكم ، وعشيراتكم. وقرأ الحسن : وعشائركم (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) وعيد. عن ابن عباس : هو فتح مكة. وعن الحسن : هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته ، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)

__________________

(١) ذكره الثعلبي أيضا عن مقاتل ، وسنده إليه في أول الكتاب.

(٢) لم أجده بهذا اللفظ وفي الطبراني عن عمرو بن الحمق أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يجد العبد صريح الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله ، وفي إسناده رشد بن سعد. وهو ضعيف ، وفي الباب عن أبى أمامة رواه أبو داود ، وعن معاذ بن أنس رواه أبو يعلى وغيره.

٢٥٧

مواطن الحرب : مقاماتها ومواقفها (١) قال :.

وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَاىَ طُحْتَ كَمَا هَوَي

بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِى (٢)

__________________

(١) قال محمود : «مواطن الحرب مقاماتها ومواقفها ... الخ» قال أحمد : لا مانع ـ والله أعلم ـ من عطف الظرفين المكاني والزمانى أحدهما على الآخر ، كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد ، إذ يجوز أن تقول ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة ، كما تقول : ضربت زيداً وعمرا ، ولا يحتاج إلى إضمار فعل جديد غير الأول ، هذا مع أنه لا بد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الحقيقة ، فإنك إذا قلت : أضرب زيدا اليوم وعمراً غداً ، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين ، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة. فعلى هذا يجوز في الآية ـ والله أعلم ـ بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول إلى الآخر ، على أن الزمخشري أوجب تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول. وإن كانا عنده جميعاً زمانين ، لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن. يريد : ولو ذهبت إلى اتحاد الناصب للزم ذلك ، وهذا غير لازم. ألا تراك لو قلت : أضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد ، لكان الناصب للظرفين واحداً وهما متغايران ، وإنما يمتنع عمل الفعل الواحد في ظرفى زمان مختلفين عند عدم العطف المتوسط بينهما ، والله أعلم.

(٢) تكاشرنى كرها كأنك ناصح

وعينك تبدى أن صدرك لي دوى

لسانك ماذي وعينك علقم

وشرك مبسوط وخيرك منطوى

فليت كفافاً كان خيرك كله

وشرك عنى ما ارتوى الماء مرتوى

وكم موطن لولاى طحت كما هوى

بأجرامه من قلة النيق منهوى

جمعت وفحشا غيبة ونميمة

ثلاث خصال لست عنها بمرعوى

ليزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى. والمكاشرة : المضاحكة ، واختارها في التعبير إشارة إلى أنها ليست مضاحكة حقيقة يوافقها القلب ، وإنما هي إظهار الأسنان فقط أمامه ليريه أنه ناصح الرجل كمرض فسد قلبه ، ودوى أى خالص المودة. ودوى صدر «أيضاً حقد ، فهو دوى بالتخفيف كعمي ، أو التشديد كغنى ، على فعل أو فعيل ، وعلى التشديد فتخفيفه للوزن. و «الماذي» عسل النحل لأنه يمذى منها ، وتسمى الخمرة ماذية لسهولتها. و «العلقم» الحنظل وكل شجر مر وكل شيء مر ، أى لسانك كالعسل في حلاوة الكلام. وعينك كالعلقم في كراهية النفس ونفرتها عن كل ، حيث تنظر لي نظر الحسود المغتاظ ، وشبه الشر والخير ببساطين على سبيل المكنية ، والبسط والطى تخييل. واسم ليت ضمير الشأن أو ضمير المخاطب محذوفا ، وخيرك اسم كان ، وكفافا خبرها. وشرك عطف على خيرك. ويجوز أنه من باب التنازع عن من أجازه في الحروف ، لأن «ليت» مقتضية للعمل في خيرك ، و «كان» مقتضية للعمل فيه ، فأعمل فيه الثاني وحذف ضميره من الأول ، لأنه وإن كان عمدة ، مشبهة للفضلة في نصبه ، وكما أجاز حذفه الكوفيون في باب كان وباب ظن ، نعلمه من مفسره ، أى : فليت الحال والشأن كان خيرك كله وشرك ، كفافا : بالفتح ، أى مغنيا كافياً لك عنى ، ولو كسر «كفافا» على أنه مفاعلة من الكف لجاز ، ويكون المصدر بمعنى اسم الفاعل ، مبالغة : أى كافا لك ، أو منكفا عنى ما دام «مرتو» يرتوى الماء ، أى : يستقيه ، يعنى دائما ، وكم : خبرية للتكثير ، أى كثير من مواطن الحرب لو لا وجودى لطحت بكسر الطاء وضمها من باب باع ، وقال :

أى هلكت فيها كما هوى منهو ، أى سقط ساقط من قلة النيق. ويروى : قنة النيق ، والمعنى واحد ، أى : من رأس الجبل العالي ، ومذهب سيبويه أن «لو لا» حرف جر إذا وليها ضمير نصب ، ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء ، وأنكر المبرد وروده ، وهو محجوج بهذا. وقال أبو على الفارسي : الفعل ومطاوعه قد يكونان لازمين معا ، كهوى وانهوى ، وغوى وانغوى ، بدليل نحو هذا البيت. وحمله الجمهور على الضرورة. والقياس : هاو وغاو. وبعضهم على أنهما مطاوعان لأهديته وأغويته ، لكن مطاوعه : انفعل لا فعل شاذة ،

٢٥٨

وامتناعه من الصرف لأنه جمع ، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد ، والمواطن الكثيرة : وقعات بدر ، وقريظة ، والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة. فإن قلت : كيف عطف الزمان والمكان وهو (يَوْمَ حُنَيْنٍ) على المواطن؟ قلت : معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين ، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. وموجب ذلك أنّ قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من يوم حنين ، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح ، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن (١) ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، فبقى أن يكون ناصبه فعلا خاصاً به ، إلا إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين : واد بين مكة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة ، منضما إليهم ألفان من الطلقاء ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكان الجمّ الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل قائلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقيل أبو بكر رضى الله عنه (٢) وذلك قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) فاقتتلوا قتالا شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل ، ليس معه إلا عمه العباس رضى الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه ، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهى

__________________

ولو قيل : انهوى مطاوع لهوى به لجاز. لكنه ليس قياسياً ، ثم قال له : جمعت غيبة ونميمة وفحشا ، فقدم المعطوف للضرورة. وجعله ابن جنى مفعولا معه ، وأجاز تقديمه على مصاحبه ممسكا بذلك ، ويمكن أن يكون ضرورة أيضاً. وفيه إشارة من أول وهلة إلى إرادة التعدد والتكثير وثلاث خصال بدل مما قبله ، ولست عنها : أى لست بمنزجر عنها ، فقدم المعمول للاهتمام ، والياء في القافية للإطلاق.

(١) قوله «لم تعجبهم في جميع تلك المواطن» إنما يلزم كون كثرتهم أعجبتهم في جميعها ، مع أنه خلاف الواقع لو جعل (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدلا من المواطن أيضاً ، فتدبر. (ع)

(٢) لم أجده بهذا السياق وقوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها : قد ورد أنه قال «لن تغلب اثنا عشر ألفا عن قلة» في حديث غير هذا. وأما هذا فان كان المصنف وقع على شيء من ذلك فما كان قوله «وأدركتهم كلمة الاعجاب بالكثرة ونزل عنهم إلى آخره بلائق. وأما قوله «وقيل قالها أبو بكر» فلم أقف عليه وقوله «ومن هوازن وثقيف وفي أربعة آلاف غلام مسح» والصواب أن هوازن وثقيفا كانوا من المشركين والذي في مسلم من حديث العباس «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ـ فذكرت القصة ، وفيها تغير ونقص عما ساقه المصنف وليس فيها «فخذا فخذا» وإنما فيه «أن عباسا نادى أصحاب السمرة ونادى أصحاب الشجرة. قال فعطوا عطف البقرة على أولادها ، وروى يونس بن بكر في زيادة المغازي عن أبى جعفر الرازي بن الربيع يعنى ابن أنس «أن رجلا قال يوم حنين : لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ـ وذكر الآية قال الربيع وكانوا اثنى عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة.

٢٥٩

شجاعته ورباطة جأشه (١) صلى الله عليه وسلم ، وما هي إلا من آيات النبوّة ، وقال : يا رب ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس ـ وكان صيتا : صيح بالناس ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب البقرة ، فكرّوا عنقاً واحداً (٢) وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمى الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا ، قال العباس : لكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته (بِما رَحُبَتْ) ما مصدرية ، والباء بمعنى مع ، أى مع رحبها (٣) وحقيقته ملتبسة برحبها ، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال ، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أى ملتبسا بها لم أحلها ، تعنى مع ثياب السفر. والمعنى : لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب ، فكأنها ضاقت عليكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ثم انهزمتم (سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وآمنوا (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا. وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) يعنى الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل خمسة آلاف ، وقيل ستة عشر ألفا (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر ، وسبى النساء والذراري (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) أى يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل : سى يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى ، فقال : إنّ عندي ما ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم. قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء جاءوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا : رضينا وسلمنا ، فقال : إنى لا أدرى لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا (٤).

__________________

(١) قوله «ورباطة جأشه» الجأش : رواع القلب عند الفزع. ورابط الجأش : من يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)

(٢) قوله «عنقا واحدا» ويقال هم عنق إليك أى مائلون إليك كذا في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «مع رحبها» في الصحاح «الرحب» بالضم : السعة. (ع)

(٤) ذكره الثعلبي بغير سند وهذه القصة قد ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بطوله ، وذكرها البخاري من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان ، ورواها الطبري وغيره من رواية زهير ابن حرد ، وفيه الشعر الذي أنشده زهير.

٢٦٠