الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا ، على معنى : دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن : الحق هو الله ، وكلّ دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبله (١)؟ قلت. أما على قصة أربد فظاهر ، لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صاحبه بقوله : اللهمّ اخسفهما بما شئت ، فأجيب فيهما (٢) ، فكانت الدعوة دعوة حق. وأما على الأوّل فوعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله بحلول محاله بهم ، وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دعا عليهم فيهم (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) والآلهة الذين يدعوهم الكفار (مِنْ) دون الله (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) من طلباتهم (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ) إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه ، أى كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه ، فبسطهما ناشراً أصابعه ، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه. وقرئ : تدعون ، بالتاء. كباسط كفيه ، بالتنوين (إِلَّا فِي ضَلالٍ) إلا في ضياع لا منفعة فيه ، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١٥)

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) أى ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله ، شاءوا أو أبوا. لا يقدرون أن يمتنعوا عليه ، وتنقاد له (ظِلالُهُمْ) أيضاً ، حيث تتصرف على مشيئته في الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال. وقرئ : بالغدوّ والإيصال ، من آصلوا : إذا دخلوا في الأصيل.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(١٦)

__________________

(١) قوله «اتصال هذين الوصفين بما قبله» عبارة النسفي : واتصال (شَدِيدُ الْمِحالِ) و (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) بما قبله. (ع)

(٢) ذكره الواحدي في الأسباب عن ابن عباس في القصة المذكورة. ولم أره فيها في الطريقين المتقدمين من رواية الكلبي وغيره.

٥٢١

(قُلِ اللهُ) حكاية لاعترافهم وتأكيد لم عليهم ، لأنه إذا قال لهم : من رب السموات والأرض ، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك ، فإذا قال : هذا قولي قال : هذا قولك ، فيحكى إقراره تقريراً له عليه واستيثاقا منه ، ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً ، أى : إن كعوا عن الجواب (١) فلقنهم ، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء ، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضررا ، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب ، فما أبين ضلالتكم! (أَمْ جَعَلُوا) بل اجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار (٢) و (خَلَقُوا) صفة لشركاء ، يعنى أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله (فَتَشابَهَ) عليهم خلق الله وخلقهم ، حتى يقولوا : قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه ، فاستحقوا العبادة ، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ، إذ لا فرق بين خالق وخالق ، ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلا أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا خالق غير الله ، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق ، فلا يكون له شريك في العبادة (وَهُوَ الْواحِدُ) المتوحد بالربوبية (الْقَهَّارُ) لا يغالب ، وما عداه مربوب ومقهور.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا

__________________

(١) قوله «أى إن كعوا عن الجواب» أى امتنعوا جبناً أو احتبسوا. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «أم مقدرة ببل والهمزة ومعناها هاهنا الإنكار ... الخ» قال أحمد : وفي قوله تعالى (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) في سياق الإنكار تهكم بهم ، لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة ، لا بطريق المشابهة والمساواة لله ـ تقدس عن التشبيه ـ ولا بطريق الانحطاط والقصور ، فقد كان يكفى في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا ، ولكن جاء في قوله تعالى (كَخَلْقِهِ) تهكم يزيد الإنكار تأكيداً. والزمخشري لا يطيق التنبيه على هذه النكتة مع كونه أفطن من أن تستتر عنه ، لأن معتقده أن غير الله يخلق وهم العبيد يخلقون أفعالهم على زعمه ، ولكن لا يخلقون كخلق الله ، لأن الله تعالى يخلق الجواهر والأعراض ، والعبيد لا يخلقون سوى أفعالهم لا غير. وفي قوله عز من قائل (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إلقام لأفواه المشركين الأولين ، ثم لأفواه التابعة لهم في هذه الضلالة كالقدرية ، فان الله تعالى بت هذه البتة أن كل شيء يصدق عليه أنه مخلوق جوهراً كان أو عرضا ، فعلا لعبيده أو غيره ، فالله خالقه ، فلا يبقى بقية يحتمل معها الاشتراك إلا عند كل أثيم أفاك ، يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ، فلأمر ما تقاصر لسان الزمخشري عند هذه الآية وقرن شقاشقه ، والله الموفق.

٥٢٢

يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)(١٧)

هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه ، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما ، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع ، وبالفلز الذي ينتفعون به (١) في صوغ الحلىّ منه واتخاذ الأوانى والآلات المختلفة ، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به ، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً ، يثبت الماء في منافعه. وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب ، والثمار التي تنبت به مما يدّخر ويكنز ، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة ، بزيد السيل الذي يرمى به ، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. فإن قلت : لم نكرت الأودية؟ قلت: لأن المطر لا يأتى إلا على طريق المناوبة بين البقاع ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. فإن قلت : فما معنى قوله (بِقَدَرِها)؟ قلت : بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ. ألا ترى إلى قوله (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) لأنه ضرب المطر مثلا للحق ، فوجب أن يكون مطراً خالصاً للنفع خالياً من المضرة ، ولا يكون كبعض الأمطار والسيول الجواحف (٢). فإن قلت : فما فائدة قوله (ابْتِغاءَ) حلية أو متاع؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله (بِقَدَرِها) لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) لأنّ المعنى : وأما ما ينفعهم من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع مما يوقد عليه منه ويذاب ، وهو الحلية والمتاع. وقوله (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) عبارة جامعة لأنواع الفلز ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به كما هو هجيرى الملوك ، نحو ما جاء في ذكر الآجر (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) و «من» لابتداء الغاية. أى : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبداً رابياً منفخاً مرتفعاً على وجه السيل ، أى يرمى به. وجفأت القدر بزبدها ، وأجفأ السيل وأجفل. وفي قراءة رؤبة ابن العجاج : جفالا. وعن أبى حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر. وقرئ: يوقدون ، بالياء : أى يوقد الناس.

__________________

(١) قوله «وبالفلز الذي ينتفعون به» في الصحاح «الفلز» بالكسر وتشديد الزاى : ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض اه فليحرر ، ولعله ما يبقيه الكير ... الخ. (ع)

(٢) قوله «السيول الجواحف» في الصحاح «سيل جحاف» بالضم : إذا جرف كل شيء وذهب به. (ع)

٥٢٣

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) اللام متعلقة بيضرب ، أى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، أى : هما مثلا الفريقين. و (الْحُسْنى) صفة لمصدر استجابوا ، أى : استجابوا الاستجابة الحسنى. وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين. وقيل : قد تم الكلام عند قوله (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) وما بعده كلام مستأنف. والحسنى : مبتدأ ، خبره (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) والمعنى : لهم المثوبة الحسنى ، وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) مبتدأ خبره. «لو» مع ما في حيزه و (سُوءُ الْحِسابِ) المناقشة فيه. وعن النخعي : أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١٩)

دخلت همزة الإنكار على الفاء في قوله (أَفَمَنْ يَعْلَمُ) لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم (أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب : كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أى الذين عملوا على قضيات عقولهم ، فنظروا واستبصروا.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٢٤)

٥٢٤

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) مبتدأ. و (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) خبره كقوله : والذين ينقضون عهد الله أولئك لهم اللعنة. ويجوز أن يكون صفة لأولى الألباب ، والأوّل أوجه. وعهد الله : ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى). (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه : من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، تعميم بعد تخصيص (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الأرحام والقرابات ، ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ، ونصرتهم ، والذب عنهم ، والشفقة عليهم ، والنصيحة لهم ، وطرح التفرقة بين أنفسهم وبينهم ، وإفشاء السلام عليهم ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم. ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر ، وكل ما تعلق منهم بسبب ، حتى الهرة والدجاجة. وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من أهل خراسان. قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أنّ العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أى يخشون وعيده كله (وَيَخافُونَ) خصوصاً (سُوءَ الْحِسابِ) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا (صَبَرُوا) مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف (ابْتِغاءَ وَجْهِ) الله ، لا ليقال : ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا يشمت به الأعداء كقوله :

وَتَجَلُّدِى لِلشّامِتِينَ أُرِيهِمُ (١)

ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا مردّ فيه للفائت ، كقوله :

مَا إنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلَعْ

تُ وَلَا يَرُدُّ بُكَاىَ زَنْدَا (٢)

__________________

(١) وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم

أنى لريب الدهر لا أتضعضع

لأبى ذؤيب خويلد بن خالد المخزومي ، يرثى بنيه. روى أن معاوية مرض ، فعاده الحسن بن على رضى الله عنهما فقال : كحلونى وألبسونى عمامتي ، وأظهر القوة وأنشد له البيت الثاني ، فأجابه الحسن بغتة بالأول. وشبه المنية بالسبع على طريق المكنية. وإنشاب الأظفار : تخييل. ومنى له : قدر له. والمنية : الموت لأنه مقدر. والانشاب : الغرز والتعليق. ألفيت : أى وجدت كل تميمة لا تنفع ، وهي ما يعلق على الولدان خوف الجن والحسد. وتجلدي : أى تصبرى وتصلبي. مبتدأ. وأريهم : خبره ، أى أظهر لهم به أنى لا أتضعضع وأتخشع وأضعف لأجل ريب الدهر ، أى حدثانه الطارئ من حيث لا أشعر.

(٢) ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت برداً

إن الجمال معادن

ومناقب أورثن مجداً

٥٢٥

وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسناً عند الله ، وإلا لم يستحق به ثواباً ، وكان فعل كلا فعل (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقا (١) ولا يسند إلى الله (٢) (سِرًّا وَعَلانِيَةً) يتناول النوافل ، لأنها في السر أفضل ـ والفرائض ، لوجوب المجاهرة بها نفياً للتهمة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعونها. عن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم. وعن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن كيسان : إذا أذنبوا تابوا. وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره (عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وهي الجنة ، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها (٣). و (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار. وقرئ : فنعم ، بفتح النون.

__________________

أعددن للحدثان سا

بقة وعداء علندى

نهداً وذا شطب يقد

البيض والأبدان قدا

كم من أخ لي صالح

بوأته بيدي لحدا

ما إن هلعت ولا جز

عت ولا يرد بكاى زندا

لعمرو بن معد يكرب. يقول : ليس الجمال بفاخر الثياب. وفاعلم : اعتراض. والخطاب لغير معين ، أى ليس كذلك وإن ألبستها والبرد ، ثوب سابغ يرتدى به إن الجمال خصال حميدة أكسبت أصحابها الشرف. والحدثان : مكروه الدهر المنقلب. والسابغة الدرع ، وكانت له درع من ذهب. والعداء : الفرس الكثير العدو. والعلندى ـ بالفتح ـ : الغليظ الشديد السريع. وشيء علند : صلب ـ واعلندى البعير : اشتد. والنهد : الضخم الطويل. والشطب ـ بالضم ـ : طرائق السيف. والأبدان : الدروع القصيرة ، وإذا قطع البيضة والبدن مع أنهما من الحديد ، قطع غيرهما بالأولى : مدح نفسه بالشجاعة ، ثم بالصبر فقال : كثير من إخوانى أنزلتهم اللحود بيدي ، ومع ذلك ما جزعت لا قليلا ولا كثيراً فان زائدة. والهلع : شدة الجزع. وفي الحديث «من شر ما أوتى العبد : شح هالع ، وجبن خالع» أى يهلع فيه وكأنه يخلع فؤاده. وتزند فلان. ضاق بالجواب وغضب. والمزند : مثل في الشيء. ويقال للحقير : زندان في مرقعة ، فالزند : الشيء الحقير. ويروى : زيدا : بالياء ، على أنه زيد بن الخطاب أخو عمر رضى الله عنه ، كان صديقا له في الجاهلية. ويروى : وهل يرد بكائي؟ أى : لم أجزع ، لعلمي أنه لا ينفع.

(١) قوله «لأن الحرام لا يكون رزقا» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيكون رزقا كالحلال. (ع)

(٢) قال محمود : «المراد مما رزقناهم من الحلال ، لأن الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى الله تعالى» قال أحمد : الحق أن لا رازق إلا الله (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) كما أنه لا خالق إلا الله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) فإذا اقتضى العقل والسمع جميعاً أن لا رازق إلا الله فأى مقال بعد ذلك يبقى للقدرى الزاعم أن أكثر العبيد يرزقون أنفسهم لأن الغالب الحرام وهو مع ذلك مصمم على معتقده الفاسد لا يدعه ولا تكفه القوارع السمعية والعقلية ولا تردعه فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون.

(٣) قال محمود : «المراد عاقبة الدنيا ومرجع أهلها ... الخ» قال أحمد : قد تكرر مجيء العاقبة المطلقة مثل (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) ، (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ). (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والمراد في جميع ذلك : عقبى الخير والسعادة ، والزمخشري يستنبط من تكرار مجيء العاقبة المطلقة والمراد عاقبة الخير أنها هي التي أرادها الله فهي الأصل والعاقبة الأخرى لما لم تكن مرادة بل عارضة على خلاف المراد والأصل لم يكن من حقها أن يعبر عنها إلا بتقييد يفهمها كقوله (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) كل ذلك من الزمخشري تهالك على أن ينسب إلى الله إرادة ما لم يقع ـ

٥٢٦

والأصل : نعم. فمن كسر النون فلنقل كسرة العين إليها ، ومن فتح فقد سكن العين ولم ينقل وقرى : (يَدْخُلُونَها) على البناء للمفعول. وقرأ ابن أبى عبلة (صَلَحَ) بضم اللام ، والفتح أفصح ، أعلم أنّ الأنساب لا تنفع إذا تجردت من الأعمال الصالحة. وآباؤهم جمع أبوى كل واحد منهم ، فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في موضع الحال ، لأنّ المعنى : قائلين سلام عليكم ، أو مسلمين. فإن قلت : بم تعلق قوله (بِما صَبَرْتُمْ)؟ قلت : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، يعنون هذا الثواب بسبب صبركم ، أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه هذه الملاذ والنعم. والمعنى : لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة ، كقوله :

بِمَا قَدْ أرَى فِيهَا أوَانِسَ بُدَّنَا (١)

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول «السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» (٢) ويجوز أن يتعلق بسلام ، أى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٢٥)

(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول (سُوءُ الدَّارِ) يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا ، لأنه في مقابلة عقبى الدار ،. ويجوز أن يراد بالدار جهنم ، وبسوئها عذابها.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ)(٢٦)

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أى الله وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره ، وهو الذي بسط

__________________

ـ ومشيئة ما لم يكن مصادمة لما أنطق الله به ألسنة حملة الشريعة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وليس في مجيء ذلك على الإطلاق ما يعين أنه الأصل باعتبار الارادة ، ففعله الأصل باعتبار الأمر ، ونحن نقول : إن المؤدى إلى حمد العاقبة مأمور به ، والمؤدى إلى سوئها منهى عنه ، فمن ثم كانت عاقبة الخير هي الأصل ، والله الموفق.

(١) أرى الوحش ترعي اليوم في ساحة الحما

بما قد أرى فيها أوانس بدنا

يقول : أرى الوحش ترعى في ساحة الحما في هذا الزمان ، بدل ما كنت أرى فيها الأحبة ، فقد أرى : حكاية حال ماضية ، وقد لتقريبها. والأوانس : جمع آنسة. والبدن : جمع بادنة ، أى سمينة البدن.

(٢) أخرجه عبد الرزاق والطبري من رواية سهيل بن أبى صالح عن محمد بن إبراهيم التيمي قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ فذكره» وزاد «كان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك».

٥٢٧

رزق أهل مكة ووسعه عليهم (وَفَرِحُوا) بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة ، وخفى عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو نحو ذلك.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

فإن قلت : كيف طابق قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قوله (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ)؟ قلت : هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم ، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبىّ قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ، فإذا جحدوها ولم يعتدّوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه فط ، كان موضعاً للتعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم : إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدّة الشكيمة في الكفر ، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ) كان على خلاف صفتكم (أَنابَ) أقبل إلى الحق ، وحقيقته دخل في نوبة الخير ، و (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (مَنْ أَنابَ). (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته ، كقوله (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أو تطمئن بذكر دلائله الدالة على وحدانيته ، أو تطمئن بالقرآن لأنه معجزة بينة تسكن القلوب وتثبت اليقين فيها (الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، و (طُوبى لَهُمْ) خبره. ويجوز أن يكون بدلا من القلوب ، على تقدير حذف المضاف ، أى : تطمئن القلوب قلوب الذين آمنوا ، وطوبى مصدر من طاب ، كبشرى وزلفى. ومعنى «طوبى لك» أصبت خيراً وطيبا ، ومحلها النصب أو الرفع ، كقولك : طيبا لك ، وطيب لك ، وسلاما لك ، وسلام لك. والقراءة في قوله (وَحُسْنُ مَآبٍ) بالرفع والنصب ، تدلك على محليها. واللام في (لَهُمْ) للبيان مثلها في سقيا لك ، والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها ، كموقن وموسر. وقرأ مكوزة الأعرابى : طيبي لهم ، فكسر الطاء لتسلم الياء ، كما قيل : بيض ومعيشة.

٥٢٨

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)(٣٠)

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) مثل ذلك الإرسال أرسلناك ، يعنى : أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ، ثم فسر كيف أرسله فقال (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أى أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك (وَهُمْ يَكْفُرُونَ) وحال هؤلاء أنهم يكافرون (بِالرَّحْمنِ) بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء ، وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم (قُلْ هُوَ رَبِّي) الواحد المتعالي عن الشركاء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم (وَإِلَيْهِ مَتابِ) فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١)

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) جوابه محذوف ، كما تقول لغلامك : لو أنى قمت إليك ، وتترك الجواب والمعنى : ولو أن قرآنا (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن مقارّها ، وزعزعت عن مضاجعها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) حتى تتصدع وتتزايل قطعاً (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ، كما قال (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) هذا يعضد ما فسرت به قوله (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من إرادة تعظيم ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن. وقيل : معناه ولو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى وتنبيههم ، لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) الآية. وقيل : إن أبا جهل بن هشام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها البساتين والقطائع ،

٥٢٩

كما سخرت لداود عليه السلام إن كنت نبياً كما تزعم ، فلست بأهون على الله من داود. وسخر لنا به الريح لنركبها ونتجر إلى الشام ثم نرجع في يومنا ، فقد شق علينا قطع المسافة البعيدة كما سخرت لسليمان عليه السلام. أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا : منهم قصى بن كلاب (١) فنزلت. ومعنى تقطيع الأرض على هذا : قطعها بالسير ومجاوزتها. وعن الفراء : هو متعلق بما قبله. والمعنى : وهم يكافرون بالرحمن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) وما بينهما اعتراض ، وليس ببعيد من السداد. وقيل (قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) شققت فجعلت أنهارا وعيونا (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) على معنيين ، أحدهما : بل لله القدرة على كل شيء ، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها ، إلا أنّ علمه بأنّ إظهارها مفسدة يصرفه. والثاني : بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان ، وهو قادر على الإلجاء لو لا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار. ويعضده قوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) يعنى مشيئة الإلجاء والقسر (٢) (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ومعنى (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أفلم يعلم. قيل : هي لغة قوم من النخع. وقيل : إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه ، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمن ذلك. قال سحيم بن وثيل الرياحي :

أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى

أَلَمْ تَيْأَسُوا أنِّى ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ (٣)

ويدل عليه أن علياً وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا : أفلم يتبين ، وهو تفسير (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) وقيل : إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوى السينات ، وهذا ونحوه مما لا يصدق

__________________

(١) لم أجده بهذا السياق ، وقد روى ابن ربيعة عن أبى أسامة عن مجالد عن الشعبي قال قالت قريش النبي صلى الله عليه وسلم «إن كنت نبياً كما تزعم فباعد بين جبلي مكة ـ أحسبها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة حتى تزرع فيها ونرعى ، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرون أنك نبى ، أو احملنا إلى الشام ، أو إلى اليمن ، أو إلى الحيرة ، حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلت. فأنزل الله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) ـ الآية وروى ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق عطية بن أبى سعيد قال قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : «لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه الريح» وروى أبو يعلى من حديث الزبير بن العوام يقول «لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا آل قريش ، فجاءته قريش. فحذرهم وأنذرهم فقالوا : تزعم أنك نبى وأن سليمان سخر له الريح والجبال ، وأن موسى سخر له البحر ، وأن عيسى كان يحيى الموتى. فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال وتنفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذها محارث فنزرع ونأكل أو ادع الله أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا أو ادع الله أن يصبر هذه الصخرة التي بجنبك ذهبا فننحت منها ويغنينا قال : فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحى. فلما سرى عنه قال : والذي نفسي بيده ، لقد أعطانى ما سألتم ولو شئت كان ولكن أخبرنى أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم. فنزلت».

(٢) قوله «أن لو يشاء الله يعنى مشيئة الإلجاء» هذا عند المعتزلة دون أهل السنة. (ع)

(٣) مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٦١ فراجعه إن شئت اه مصححه.

٥٣٠

في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام. وكان متقلبا في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع ، والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية. ويجوز أن يتعلق (أَنْ لَوْ يَشاءُ) بآمنوا ، على : أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولهداهم (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من كفرهم وسوء أعمالهم (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُ) القارعة (قَرِيباً) منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ، ويتعدى إليهم شرورها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) وهو موتهم ، أو القيامة. وقيل : ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من العداوة والتكذيب قارعة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يبعث السرايا (١) فتغير حول مكة وتختطف منهم ، وتصيب من مواشيهم. أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك ، كما حل بالحديبية ، حتى يأتى وعد الله وهو فتح مكة ، وكان الله قد وعده ذلك

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢)

الإملاء : الإمهال ، وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن ، كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم. استهزاء به وتسلية له.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)(٣٤)

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) احتجاج عليهم في إشراكهم بالله ، يعنى أفا الله الذي هو قائم رقيب (عَلى كُلِّ نَفْسٍ) صالحة أو طالحة (بِما كَسَبَتْ) يعلم خيره وشره ، ويعدّ لكل جزاءه ،

__________________

(١) قلت : هو موجود في المغازي لابن اسحق. والواقدي ، وطبقات ابن سعد في عدة سرايا منها سرية زيد ابن حارثة ليلقى عير قريش ، وسرية على الحر بن سعد بن بكر وغيرهما.

٥٣١

كمن ليس كذلك. ويجوز أن يقدّر ما يقع خبراً للمبتدإ ويعطف عليه وجعلوا ، وتمثيله : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه (وَجَعَلُوا) له وهو الله الذي يستحق العبادة وحده (شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) أى جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ، ثم قال : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) على أم المنقطعة ، كقولك للرجل : قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف ، ومعناه : بل أتنبؤونه بشركاء (١) لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفى أن يكون له شركاء. ونحوه : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ، كقوله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ، (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة (٢) التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق : أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه ، فتبارك الله أحسن الخالقين. وقرئ «أتنبئونه» بالتخفيف (مَكْرُهُمْ) كيدهم للإسلام بشركهم (وَصُدُّوا) قرئ بالحركات الثلاث. وقرأ ابن أبى إسحاق : وصدّ بالتنوين (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذله لعلمه أنه لا يهتدى (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) فما له من أحد يقدر على هدايته (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما ينالهم من القتل والأسر وسائر المحن ، ولا يلحقهم إلا عقوبة لهم على الكفر ، ولذلك سماه عذابا (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف على مذهب سيبويه ، أى فيما قصصناه عليكم مثل الجنة. وقال غيره : الخبر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) كما تقول : صفة زيد أسمر. وقال الزجاج : معناه مثل الجنة تجرى من تحتها الأنهار ، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. وقرأ على رضى الله عنه : أمثال الجنة ، على

__________________

(١) قال محمود : «معناه بل أننبئونه بشركاء ... الخ» قال أحمد : وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء ، وأن الله لا يعلمهم كذلك ، لأنهم ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله ، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة ، ولكن مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع ، لا تكنه بلاغنه وبراعته ، ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان : وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء ، فلم يكن بهذا الموقع التي اقتضته التلاوة.

(٢) عاد كلامه. قال : «وهذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها ... الخ» قال أحمد : هذه الخاتمة كلمة حق أراد بها باطلا ، لأنه يعرض فيها بخلق القرآن فتنبه لها ، وما أسرع المطالع لهذا الفصل أن يمر على لسانه وقلبه ويستحسنه وهو غافل عما تحته ، لو لا هذا التنبيه والإيقاظ ، والله أعلم.

٥٣٢

الجمع ، أى صفاتها (أُكُلُها دائِمٌ) كقوله (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ)(وَظِلُّها) دائم لا ينسخ ، كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)(٣٦)

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد من أسلم من اليهود ، كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا : أربعون بنجران ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، وثمانية من أهل اليمن ، هؤلاء (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعنى ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه ، والسيد والعاقب أسقفى نجران وأشياعهما (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني هو ثابت في كتبهم غير محرف ، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع. فإن قلت : كيف اتصل قوله (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) بما قبله؟ قلت : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إلىّ بأن أعبد الله ولا أشرك به. فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ما ذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) وقرأ نافع في رواية أبى خليد : ولا أشرك بالرفع على الاستئناف كأنه قال : وأنا أشرك به ويجوز أن يكون في موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به. (إِلَيْهِ أَدْعُوا) خصوصاً لا أدعو إلى غيره (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره مرجعي ، وأنتم تقولون مثل ذلك ، فلا معنى لإنكاركم.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)(٣٧)

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه ، والإنذار بدار الجزاء (حُكْماً عَرَبِيًّا) حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصابه على الحال. كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها ، فقيل له : لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة ، خذلك الله فلا ينصرك ناصر ، وأهلكك

٥٣٣

فلا يقيك منه واق ، وهذا من باب الإلهاب والتهييج ، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه ، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة ، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٣٩)

كانوا يعيبونه بالزواج والولاد ، كما كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، وكانوا يقترحون عليه الآيات ، وينكرون النسخ. فقيل : كان الرسل قبله بشراً مثله ذوى أزواج وذرية. وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم ، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، فلكل وقت حكم يكتب على العباد ، أى : يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه ، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته ، أو يتركه غير منسوخ ، وقيل : يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل (وَيُثْبِتُ) عيره. وقيل. يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة ، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل : يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسى وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها ، والكلام في نحو هذا واسع المجال (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه. وقرئ : ويثبت.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٤٠)

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم. أو توفيناك قبل ذلك ، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب ، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم ، فلا يهمنك إعراضهم ، ولا تستعجل بعذابهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٤١)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفر (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما نفتح على

٥٣٤

المسلمين من بلادهم ، فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام ، وذلك من آيات النصرة والغلبة ونحوه (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) ، (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) والمعنى : عليك بالبلاغ الذي حملته ، ولا تبهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ، ولا يضجرك تأخره ، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. وقرئ : ننقصها ، بالتشديد (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه. والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله. وحقيقته : الذي يعقبه أى يقفيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحق : معقب ، لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد :

طَلَبُ الْمُعَقِّبِ حَقّهُ الْمَظْلُومُ (١)

والمعنى : أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا. فإن قلت : ما محل قوله لا معقب لحكمه؟ قلت : هو جملة محلها النصب على الحال ، كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه ، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة ، تريد حاسراً.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٤٢)

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وصفهم بالمكر ، ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) ثم فسر ذلك بقوله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) لأنّ من علم ما تكسب كل نفس ، وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله ، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون. وهم في غفلة مما يراد بهم. وقرئ : الكفار. والكافرون. والذين كفروا. والكفر : أى أهله ، والمراد بالكافر الجنس : وقرأ جناح بن حبيش ، وسيعلم الكافر ، من أعلمه أى سيخبر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

__________________

(١) حتى تهجر في الرواح وهاجها

طلب المعقب حقه المظلوم

للبيد بن ربيعة ، يصف حمار وحش خرج في الهاجرة وراء أنانه ، وهاجها : أى بعثها على السير ونشطها لسرعة سيره في طلبها ، كما يطلب المعقب المظلوم حقه ودينه ممن هو عليه ، فالمظلوم بالرفع صفة للمعقب ، لأنه فاعل في المعنى. ومعناه الذي رجع إلى حقه الذي كان أعطاه للدين ، فكأنه رجع على عقبه ، أو لأنه يعقب المدين ويتبعه.

٥٣٥

(كَفى بِاللهِ شَهِيداً) لما أظهر من الأدلة على رسالتي (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) والذي عنده علم القرآن (١) وما ألف عليه من النظم المعجز الفائت لقوى البشر. وقيل : ومن هو من علماء أهل الكتاب (٢) الذين أسلموا. لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم : وقيل هو الله عز وعلا (٣) والكتاب : اللوح المحفوظ. وعن الحسن : لا والله ما يعنى إلا الله. والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو ، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب ، على من الجارّة ، أى. ومن لدنه علم الكتاب ، لأن علم من علمه من فضله ولطفه. وقرئ : ومن عنده علم الكتاب على من الجارّة. وعلم ، على البناء للمفعول. وقرئ : وبمن عنده علم الكتاب. فإن قلت : بم ارتفع علم الكتاب؟ قلت : في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدّر في الظرف ، فيكون فاعلا ، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول ، فعمل عمل الفعل ، كقولك : مررت بالذي في الدار أخوه ، فأخوه فاعل ، كما تقول : بالذي استقرّ في الدار أخوه. وفي القراءة التي لم يقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالابتداء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الرعد أعطى من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله (٤)

__________________

(١) قال محمود : «المراد والذي عنده علم القرآن ... الخ» قال أحمد : فيكون المراد حينئذ : جنس المؤمنين.

(٢) قال محمود : «وقيل ومن هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم» قال أحمد : فالكتاب على التأويل الأول مراد به القرآن خاصة ، وعلى الثاني جنس الكتب المتقدمة عليه.

(٣) قال محمود : «وقيل هو الله عز وجل ، والكتاب ، اللوح المحفوظ. وعن الحسن : لا والله ما يعنى إلا الله والمعنى : كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح المحفوظ إلا هو ، شهيداً بيني وبينكم. وتعضده قراءة من قرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) على من الجارة» قال أحمد : وإنما قدر الزمخشري في المعطوف عليه اسم الله بالذي يستحق العبادة ، حذراً من عطف الصفة على الموصوف ، وعدولا إلى أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى تقديراً وإنما أخذ الحصر حيث يقول : ومن لا يعلم علم الكتاب إلا هو من أنه قدم الخبر الذي هو عنده على مبتدئه ، وشأن الزمخشري أخذ الحصر من التقديم ، والله الموفق للصواب.

(٤) تقدم إسناده في آل عمران.

٥٣٦

سورة إبراهيم

مكية ، [إلا آيتي ٢٨ و ٢٩ فمدنيتان]

وآياتها ٥٢ [نزلت بعد سورة نوح]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٣)

(كِتابٌ) هو كتاب ، يعنى السورة. وقرئ : ليخرج الناس. والظلمات والنور : استعارتان للضلال والهدى (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتسهيله وتيسيره ، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب ، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل ، كقوله (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف ، كأنه قيل : إلى أى نور؟ فقيل : إلى صراط العزيز الحميد. وقوله (اللهِ) عطف بيان للعزيز الحميد ، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على : هو الله. الويل : نقيض الوأل ، وهو النجاة اسم معنى ، كالهلاك ، إلا أنه لا يشتق منه فعل ، إنما يقال : ويلا له ، فينصب نصب المصادر ، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات ، فيقال : ويل له ، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت : ما وجه اتصال قوله (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) بالويل؟ قلت : لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد ، ويضجون منه ، ويقولون : يا ويلاه ، كقوله (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً)(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) مبتدأ خبره : أولئك في ضلال بعيد ويجوز أن يكون مجروراً صفة للكافرين ، ومنصوبا على الذمّ ، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب : الإيثار والاختيار ، وهو استفعال من المحبة ، لأنّ المؤثر

٥٣٧

للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن : ويصدّون ، بضم الياء وكسر الصاد. يقال : صدّه عن كذا ، وأصدّه. قال :

أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ (١)

والهمزة فيه داخلة على صدّ صدوداً ، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه ، فموضوع على التعدية كمنعه ، وليست بفصيحة كأوقفه ، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويطلبون لسبيل الله زيغاً واعوجاجاً ، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية ، والأصل : ويبغون لها ، فحذف الجار وأوصل الفعل (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أى ضلوا عن طريق الحق ، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت : فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت : هو من الإسناد المجازى ، والبعد في الحقيقة للضالّ ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق ، فوصف به فعله ، كما تقول : جدّ جدّه. ويجوز أن يراد : في ضلال ذى بعد. أو فيه بعد ، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

(إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله (٢)

__________________

(١) أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم

صدود السواني في أنوف الحوايم

لذي الرمة ، أنشده عنه الفراء ، يقال : صده عن كذا ، ولغة كلب : أصده عنه إذا منعه ، فوضع الصدود موضع الأصداد. والسيافى ـ بالفاء ـ : الرياح ، لأنها تسفو التراب. وقيل : هي بالقاف جمع ساق أو ساقية ، وهي فوق الجدول. والحوايم : الجمال العطاش ، لأنها تحوم حول الماء جمع حائم ، ويطلق على طير إذا اشتد عطشه حام حول الماء ، فإذا ناله سقط ريشه فيغرق فيه. وجمعه حوايم أيضا. ويجوز أن يراد هنا ، أو الجبال لأنها لارتفاعها تشرف من بعد كأنها حائمة ، أو لأن الطير يحوم فوقها فنسبة الفعل إليها مجاز لأنها محله ، يقول : قوم منعوا الناس عن أنفسهم بالسيف لمنع الرياح وضربها في أنوف. الجمال ، أو في أعالى الجبال ، أو كمنع السقاة إبل غيرهم عن إبلهم في السقي ، أو كمنع الأنهار لبعد مائها الإبل العطاش أو الطيور العطاش عن الشرب ، لأن الطيور تخاف الغرق فيه. ويروى : عن أنوف الحوايم. وفيه تشبيه الأعداء بالعطاش وأصحاب السيوف ، أو السيوف بالرياح ضمنا.

(٢) قال محمود : «أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه فلا يكون لهم حجة ... الخ» قال أحمد : جميع الفصل مرضى ، لكن في هذه الخاتمة نظر ، لأن فيها إشعاراً بأن إعجاز القرآن من حيث اللغة العربية خاصة يتقاصر عن إعجازه ، لو قدر منزلا بكل لسان ، حتى إنه لو ينزل بجميع اللغات لبلغ من الوضوح إلى حد يكاد أن يكون إلجاء إلى الايمان به ، وهذا فيه نظر ، والقول به غير متعين ، لأن المعجز يفيد العلم بصدق من ظهر على يده ، ومتى حصل العلم لم يكن بين علم وعلم تفاوت ولا ترجيح ، فلو نزل القرآن بجميع اللغات ، لكان العلم الحاصل منه وقد نزل بلغة واحدة ، هو العلم الحاصل منه ولو نزل بالجميع ، لا تفاوت ولا ترجيح بين العلمين ، هذا هو التحقيق ، والله أعلم. والزمخشري ـ

٥٣٨

ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به ، كما قال (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ). فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعاً (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) بل إلى الثقلين ، وهم على ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية ، لم تكن للعرب حجة أيضاً. قلت : لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقى أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ، لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأقطار المتنازحة ، (١) والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة ، على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها ـ مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربىّ كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً ـ لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى (بِلِسانِ قَوْمِهِ) بلغة قومه. وقرئ : بلسن قومه. واللسن واللسان : كالريش والرياش ، بمعنى اللغة. وقرئ : «بلسن قومه» بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة ، وهو جمع لسان ، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل : الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية ، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه ، وليس بصحيح ، لأنّ قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ضمير القوم وهم العرب ، فيؤدّى إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب ، وهذا معنى فاسد (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كقوله (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) لأنّ الله لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن. ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف (٢) ، وبالهداية : التوفيق واللطف ، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب على مشيئته (الْحَكِيمُ) فلا يخذل إلا أهل الخذلان ، ولا يلطف إلا بأهل اللطف

__________________

ـ يبنى في كثير من كلامه على أن العلوم تتفاوت وتنقسم إلى جلى وأجلى ، وهو من الحق بمعزل ، وإنما ظن ذلك طائفة ظاهرية ، والله الموفق.

(١) قوله «والأقطار المتنازحة» أى المتباعدة جداً. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «والمراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فخلق الضلال في القلب ، لأن الله لا يخلق الشر عند المعتزلة ، ويخلقه كالخير عند أهل السنة. (ع)

٥٣٩

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٥)

(أَنْ أَخْرِجْ) بمعنى أى أخرج ، لأنّ الإرسال فيه معنى القول ، كأنه قيل : أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل ، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر ، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر ، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل : قولهم أو عز إليه بأن افعل ، فأدخلوا عليها حرف الجر. وكذلك التقدير بأن أخرج قومك (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم : قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذى قار ، ويوم الفجار ، ويوم قضة وغيرها ، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : نعماؤه وبلاؤه. فإهلاك القرون (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه ، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر. وقيل : أراد لكل مؤمن ، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم ، تنبيهاً عليهم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٦)

(إِذْ أَنْجاكُمْ) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت : لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام ، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرّة عليكم عمل فيه ، ويتبين (١) الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها ، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون «إذ» بدلا من نعمة الله ، أى : اذكروا وقت إنجائكم ، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت : في سورة البقرة (يُذَبِّحُونَ) وفي الأعراف (يُقَتِّلُونَ) وهاهنا (وَيُذَبِّحُونَ) مع الواو ، فما الفرق؟ قلت : الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له ، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على

__________________

(١) قوله «ويتبين» لعله : وتبيين. (ع)

٥٤٠