الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

جاهِلُونَ) لا تعلمون قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه ، يعنى : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح ، والاستقباح يجرّ إلى التوبة ، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين ، لا معاتبة وتثريباً ، إيثاراً لحق الله على حق نفسه ، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب ، وينفث المصدور ، (١) ويتشفى المغيظ المحنق ، ويدرك ثأره الموتور ، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها (٢) ولله حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها. وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم ، لأنهم كانوا علماء ، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل (٣) ، سماهم جاهلين. وقيل : معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر ، وتضرعوا إليه : ارفضت عيناه ، ثم قال هذا القول. وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، إلى عزيز مصر. أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء : أما جدّى ، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً ، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب ، فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به ، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق ، وأنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإن رددته علىّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره ، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت : ما فعلهم بأخيه؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل (٤) بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه ، وجفاؤهم به ، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز ، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ

__________________

(١) قوله «وينفث المصدور ... الخ» المصدور : الذي يشتكى صدره. والمحنق : المغيظ. والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) قوله «ما أوطأها وأسجحها» أى ما أسهلها وما أرفقها ، أفاده الصحاح. وفيه : فلان ذو حصاة ، أى ذو عقل ولب ، فحصا عقولهم : إضافة بيانية. (ع)

(٣) قوله «ولا يقدم عليه إلا جاهل» لعله عطف على المعنى لأن قوله «لم يفعلوا ... الخ» بمعنى فعلوا مالا يقتضيه العلم. (ع)

(٤) والثكل : فقدان المرأة ولدها ، كما في الصحاح. والمراد هنا الحزن. (ع)

٥٠١

مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩٣)

قرئ (أَإِنَّكَ) على الاستفهام. وأنك ، على الإيجاب. وفي قراءة أبىّ : أإنك أو أنت يوسف ، على معنى أإنك يوسف أو أنت يوسف ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت : كيف عرفوه؟ قلت : رأوا في روائه (١) وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم ، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل : تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل : ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها ، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت : قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلوماً لهم. قلت : لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه (مَنْ يَتَّقِ) من يخف الله وعقابه (وَيَصْبِرْ) عن المعاصي وعلى الطاعات (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ) أجرهم ، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أى فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم ، لم نتق ولم نصبر ، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه : إزالة الثرب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع (٢) ، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده ، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت : بم تعلق اليوم؟ (٣) قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في (عَلَيْكُمُ)

__________________

(١) قوله «قلت رأوا في روائه» بالضم ، أى منظره. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قوله «والقرع» في الصحاح «القرع» بالتحريك : بثر أبيض ، يخرج بالنصال. والتقريع : معالجة الفصيل من القرع ، وينزع ذلك منه. (ع)

(٣) قال : «فان قلت بم تعلق اليوم في قوله (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ... الخ»؟ قال أحمد : وهذا المعنى إنما يتوجه على الاعراب الأول وهو الأوجه. ألا ترى إلى قولهم بعد ذلك (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) وقوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) دل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب ، ولو كان متعلقا بيغفر للزم أن يقطعوا بغفران ذنبهم حينئذ باخبار النبي الصديق. ويحتمل أن يقال : إنما أراد مغفرة ما يرجع إلى حقه دون حق أبيه ، إذ الإثم كان مشتركا بينهما ، والله أعلم.

٥٠٢

من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى : لا أثر بكم اليوم ، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب ، فما ظنكم بغيره من الأيام ، ثم ابتدأ فقال (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال : غفر الله لك ، ويغفر الله لك ، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً. ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم» و (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) بشارة بعاجل غفران الله ، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، فقال لقريش : ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا : نظن خيراً ، أخ كريم وابن أخر كريم ، وقد قدرت. فقال : أقول ما قال أخى يوسف : لا تثريب عليكم اليوم (١). وروى أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت الرسول فاتل عليه (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك ولمن علمك (٢). ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه : إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك ، فقال يوسف : إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إلىّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتى ، وأنى من حفدة إبراهيم (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة ، أَمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي (يَأْتِ بَصِيراً) يصر بصيراً ، كقولك : جاء البناء محكما ، بمعنى صار. ويشهد له (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أو يأت إلىّ وهو بصير. وينصره قوله (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أى يأتنى أبى ، ويأتنى آله جميعاً وقيل : يهوذا هو الحامل ، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه ، فأفرّحه كما أحزنته. وقيل : حمله وهو حاف حاسر (٣) من مصر إلى كنعان ، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٩٦)

__________________

(١) أخرجه النسائي والبيهقي من رواية ثابت عن عبد الرحمن بن رباح عن أبى هريرة بمعناه وأتم منه. وأخرجه الثعلبي من رواية سمعان عن عطاء عن ابن عباس بهذا اللفظ وأتم منه. وكذا ذكره ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وقال فيه «قدرت فاسمح» وكذا أخرجه الواقدي في المغازي من حديث برة بنت تجراة. ورواه أبو عبيد في الأموال عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين.

(٢) لم أجده

(٣) قوله «وهو حاف حاسر» أى لا مغفر له ولا درع ، أفاده الصحاح. (ع)

٥٠٣

(فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر. يقال : فصل من البلد فصولا ، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس : فلما انفصل العير (قالَ) لولد ولده ومن حوله من قومه : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد : النسبة إلى الفند ، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال : شيخ مفند ، ولا يقال عجوز مفندة ، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى فتفند في كبرها. والمعنى : لو لا تفنيدكم إياى لصدقتمونى (لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ، ولهجك بذكره ، ورجائك للقائه ، وكان عندهم أنه قد مات (أَلْقاهُ) طرح البشير القميص على وجه يعقوب. أو ألقاه يعقوب (فَارْتَدَّ بَصِيراً) فرجع بصيراً. يقال : ردّه فارتد ، وارتده إذا ارتجعه (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) يعنى قوله (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أو قوله (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) وقوله (إِنِّي أَعْلَمُ) كلام مبتدأ لم يقع عليه القول ، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ورى : أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر : فقال : ما أصنع بالملك؟ على أن دين تركته؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) قيل : أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل : إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل : ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل : أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلما فرغ رفع يديه وقال : اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه ، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم ، فأوحى إليه : إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروى أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة : ما يغنى عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا ، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً ، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو ، وقام يوسف خلفه يؤمّن ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة ، وقد اختلف في استنبائهم.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا

٥٠٤

تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(١٠٠)

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فتلقوا يعقوب وهو يمشى يتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، أهذا فرعون مصر؟ قال لا ، هذا ولدك ، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقيل إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت ، بكيت علىّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك ، وقيل : إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ، ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى ، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبى إسحاق : كانت أمّه تحيى ، وقيل : هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين ، لأنّ الرابة تدعى أمّاً ، لقيامها مقام الأمّ ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) فإن قلت : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت : كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب (١) أو بيت ثم ، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ، ثم قال لهم (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه ، أكرم أبويه فرفعهما على السرير (وَخَرُّوا لَهُ) يعنى الإخوة الأحد عشر والأبوين (سُجَّداً) ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال ، فأمر أن يرفع إليه أبواه ، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه ، وقال بعد ذلك : ادخلوا مصر. فإن قلت : بم تعلقت المشيئة؟ قلت : بالدخول مكيفاً بالأمن ، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم ، فكأنه قيل لهم : اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازى : ارجع سالما غانما إن شاء الله. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقا ، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة ، مكيفا بهما. والتقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه ، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذى الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله

__________________

(١) قوله «في مضرب» عبارة النسفي : مضرب خيمة. (ع)

٥٠٥

(إِنْ شاءَ اللهُ) من باب التقديم والتأخير ، وأن موضعها ما بعد قوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في كلام يعقوب ، وما أدرى ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت : كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت : كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة ، كالقيام ، والمصافحة وتقبيل اليد. ونحوها مما جرت عليه عادة الناس ، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل : ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه ، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل : معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضا فيه نبوة. يقال : أحسن إليه وبه ، وكذلك أساء إليه وبه. قال :

أَسِيئِى بِنَا أَوْ أَحْسِنِى لَا مَلُومَةً (١)

(مِنَ الْبَدْوِ) من البادية ، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع (نَزَغَ) أفسد بيننا وأغرى ، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال ، نزغه ونسغه ، إذا نخسه (لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) لطيف التدبير لأجله ، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن الورق والذهب ، وخزائن الحلىّ ، وخزائن الثياب ، وخزائن السلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بنىّ ، ما أعقك : عندك هذه القراطيس وما كتبت إلىّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرنى جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه منى فسله. قال جبريل عليه السلام : الله تعالى أمرنى بذلك لقولك (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قال : فهلا خفتنى؟ وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة ، ثم عاد إلى مصر ، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له ، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد ، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل : ما تمناه نبىّ قبله ولا بعده ، فتوفاه الله طيبا طاهراً ، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه : كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأى أن عملوا له صندوقا من مر مر وجعلوه فيه ، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً (٢) ، وولد له : إفراثيم وميشا ، وولد لإفراثيم نون ، ولنون يوشع فتى موسى ، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.

__________________

(١) مر شرح هذا الشاهد صفحة ٢٧٩ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً» في الصحاح : الناس في هذا الأمر شرع ، أى سواء ، يحرك ويسكن. (ع)

٥٠٦

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١٠١)

«من» في (مِنَ الْمُلْكِ) و (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) للتبعيض ، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا ، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل (أَنْتَ وَلِيِّي) أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين ، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) طلب للوفاة على حال الإسلام ، ولأن يختم له بالخير والحسنى ، كما قال يعقوب لولده (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز : أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت ، فقال له : صنع الله على يديك خيراً كثيراً : أحييت سننا وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين ، فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال : توفني مسلماً وألحقنى بالصالحين. فإن قلت : علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله (رَبِ) كقولك أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١٠٢)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء. وقوله (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر إنّ. ويجوز أن يكون اسماً موصولا بمعنى الذي ، و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) صلته و (نُوحِيهِ) الخبر. والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحى ، لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر ، كقوله (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه ، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه ، ولا لقى فيها أحداً ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقصّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته ، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحى ، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم : قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية : ونحوه : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف ويبغون له الغوائل.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(١٠٤)

٥٠٧

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يريد العموم ، كقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) وعن ابن عباس رضى الله عنه. أراد أهل مكة ، أى وما هم بمؤمنين (وَلَوْ حَرَصْتَ) وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم (وَما تَسْئَلُهُمْ) على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى ، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة من الله (لِلْعالَمِينَ) عامة ، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)(١٠٥)

(مِنْ آيَةٍ) من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده (يَمُرُّونَ عَلَيْها) ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرئ «والأرض» بالرفع على الابتداء ، ويمرون عليها : خبره. وقرأ السدّى «والأرض» بالنصب على : ويطؤن الأرض يمرّون عليها.

وفي مصحف عبد الله : والأرض يمشون عليها ، برفع الأرض ، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١٠٦)

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض ، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن ، وعن الحسن : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : هم الذين يشبهون الله بخلقه.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٠٧)

(غاشِيَةٌ) نقمة تغشاهم. وقيل : ما يغمرهم من العذاب ويجللهم. وقيل : الصواعق.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

(هذِهِ سَبِيلِي) هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق : يذكران ويؤنثان ، ثم فسر سبيله بقوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أى أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء. و (أَنَا) تأكيد للمستتر في (أَدْعُوا). (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه. يريد : أدعو إليها أنا ، ويدعو إليها من اتبعنى. ويجوز أن يكون (أَنَا) مبتدأ ، و (عَلى بَصِيرَةٍ) خبرا مقدّما ، و (مَنِ اتَّبَعَنِي) عطفاً على (أَنَا) إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة

٥٠٨

وبرهان ، لا على هوى. ويجوز أن يكون (عَلى بَصِيرَةٍ) حالا من (أَدْعُوا) عاملة الرفع في (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، (وَسُبْحانَ اللهِ) وأنزهه من الشركاء (١).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠٩)

(إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة ، لأنهم كانوا يقولون (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : يريد ليست فيهم امرأة. وقيل : في سجاح المتنبئة

وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللهِ ذُكْرَانَا (٢)

وقرئ : نوحى إليهم ، بالنون (٣). (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنهم أعلم وأحلم ، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ولدار الساعة ، أو الحال الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ : أفلا تعقلون ، بالتاء والياء.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠)

__________________

(١) قوله «وأنزهه من الشركاء» لعله «عن». (ع)

(٢) أضحت نبيتنا أنثى نساء بها

ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والأقوام كلهم

على سجاح ومن بالإفك أغرانا.

أعنى مسيلمة الكذاب لا سقيت

أصداؤه ماء مزن حيثما كانا

لقيس بن عاصم. ويروى : نطيف بها ، بدل نساء بها. وطاف به يطوف : دار حوله. وطاف به يطيف : أتى عليه ونزل به. وهذا مبنى للمجهول منه ، عطف على أضحت. ويروى بدل الشطر الأول ، فما سمعت بأنثى قط أرسلها ، فالفاعل ضمير الله وإن لم يتقدم له مرجع لظهوره. ويروى بدل الثاني : وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا. وسجاح : علم امرأة من سجح إذا سمح وعفا ، وهي بنت المنذر ، كانت شريفة في قومها بنى حنيفة ، فادعت النبوة ، ثم تزوجت بمسيلمة الكذاب فاتبعه قومها ، ثم حاربه أبو بكر رضى الله عنه فقتل على يدي وحشى قاتل حمزة ، فأسلمت بعده وحسن إسلامها. ويروى «باللؤم» بدل الافك. ولا سقيت : جملة دعائية. والأصداء : جمع صدى ، وهو ذكر اليوم : كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة تزقو وتصيح : أدركونى أدركونى ، حتى يؤخذ بثأره ، وهي هنا مجاز عن جثته كلها. والمزن واحده مزنة وهو السحاب ، أى : اللهم اجعل قبره حارا عليه لا يناله غيث.

(٣) قوله «وقرئ (نُوحِي إِلَيْهِمْ) بالنون مبنيا للمعلوم ، فتكون القراءة الأصلية بالياء ، مبنيا للمجهول. (ع)

٥٠٩

(حَتَّى) متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) فتراخى نصرهم حتى استيأسوا عن النصر (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أى كذبتهم أنفسهم (١) حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو رجاؤهم لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب. والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر (٢) وقال : كانوا بشرا ، وتلا قوله (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) فإن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر ، فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد ، منزه عن كل قبيح؟ وقيل : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا ، أى : أخلفوا. أو : وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل ، أى : كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه. وقرئ : كذبوا ، بالتشديد على : وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد : كذبوا ، بالتخفيف ، على البناء للفاعل ، على : وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة ، إمّا على تأويل ابن عباس ، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم : إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا. ولو قرئ بهذا مشدّداً ، لكان معناه ، وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. قرئ : فننجي ، بالتخفيف والتشديد ، من أنجاه ونجاه. وفنجى ، على لفظ الماضي المبنى للمفعول. وقرأ ابن محيصن : فنجا. والمراد ب (مَنْ نَشاءُ) المؤمنون ، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

__________________

(١) قال محمود : «معناه يئسوا من النصر وظنوا أن أنفسهم كذبتهم ... الخ» قال أحمد : ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا ، بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن إخبار ووحى ،

(٢) عاد كلامه. قال : «ونقل عن ابن عباس أنه قال : فظنوا حين ضعفوا وغلبوا ... الخ» قال أحمد : وهذا أيضا تأويل حسن ينظم بين القراءتين ، لأن ظن الأمم كذب رسلهم تكذيب لهم ، فيؤدى مؤدى قراءة التشديد.

٥١٠

الضمير في (قَصَصِهِمْ) للرسل ، وينصره قراءة من قرأ (فِي قَصَصِهِمْ) بكسر القاف. وقيل : هو راجع إلى يوسف وإخوته. فإن قلت : فإلام يرجع الضمير في (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) فيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن ، أى : ما كان القرآن حديثاً يفترى (وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أى قبله من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين ، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد (لكِنْ) للعطف على خبر كان. وقرئ «ذلك» بالرفع على : ولكن هو تصديق الذي بين يديه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هؤن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً (١).

سورة الرعد

[مدنية ، وقيل] مختلف فيها

وهي ثلاث وأربعون آية [نزلت بعد سورة محمد]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١)

(تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة. والمراد بالكتاب السورة ، أى : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ، ثم قال (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن كله هو (الْحَقُ) الذي لا مزيد عليه ، لا هذه السورة وحدها ، وفي أسلوب هذا الكلام قول الأنمارية : هم كالحلقة (٢) المفرعة ، لا يدرى أين طرفاها؟ تريد الكملة.

__________________

(١) تقدم إسناده في تفسير آل عمران وهو في آخر آل عمران ، وفي آخر الكتاب أيضا.

(٢) قوله «الأنمارية هم كالحلقة» أى في أولادها. (ع)

٥١١

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٣)

(اللهُ) مبتدأ. و (الَّذِي) خبره ، بدليل قوله (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ويجوز أن يكون صفة. وقوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) خبر بعد خبر. وينصره ما تقدّمه من ذكر الآيات (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) كلام مستأنف استشهاد برؤيتهم لها كذلك. وقيل هي صفة لعمد. ويعضده قراءة أبىّ. ترونه. وقرئ : عمد ، بضمتين (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يدبر أمر ملكوته وربوبيته (يُفَصِّلُ) آياته في كتبه المنزلة (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه. وقرأ الحسن : ندبر ، بالنون (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدّها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت. وقيل : أراد بالزوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً. وقرئ : يغشى ، بالتشديد.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

(قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بقاع مختلفة ، مع كونها متجاورة متلاصقة : طيبة إلى سبخة ، وكريمة إلى زهيدة ، (١) وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على عكسها ، مع انتظامها جميعاً في جنس الأرضية. وذلك دليل على قادر مريد ، موقع لأفعاله على وجه دون وجه. وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع ، مختلفة الأجناس والأنواع ، وهي تسقى بماء واحد ، وتراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح ، متفاضلة فيها.

__________________

(١) قوله «زهيدة» في الصحاح : واد زهيد قليل الأخذ للماء ، وأرض زهاد : أى لا تسيل إلا عن مطر كثير. (ع)

٥١٢

وفي بعض المصاحف : قطعاً متجاورات على : وجعل. وقرئ : وجنات ، بالنصب للعطف على زوجين. أو بالجرّ على كل الثمرات. وقرئ : وزرع ونخيل ، بالجرّ عطفاً على أعناب أو جنات والصنوان : جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان ، وأصلهما واحد. وقرئ بالضم. والكسر : لغة أهل الحجاز ، والضم : لغة بنى تميم وقيس (يُسْقى) بالتاء والياء (وَنُفَضِّلُ) بالنون. وبالياء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً (فِي الْأُكُلِ) بضم الكاف وسكونها.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٥)

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من قولهم في إنكار البعث ، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه ، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعي بخلقهنّ ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب (أَإِذا كُنَّا) إلى آخر قولهم : يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، وأن يكون منصوباً بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وصف بالإصرار ، كقوله (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً). ونحوه :

لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ (١)

أو هو من جملة الوعيد

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)(٦)

(بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالنقمة قبل العافية ، والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أى عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا. والمثلة :

__________________

(١) ضلوا وإن سبيل الغى مقصدهم

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

سبيل الغى : مجاز عما هم عليه من الأحوال الخبيثة. والغل : ما تشد به اليد إلى العنق والقيد للرجلين «وهما مجاز عن الغفلة واتباع رأى النفس. يقول : سلكوا طريق الهوى وتركوا طريق الهدى.

٥١٣

العقوبة ، بوزن السمرة. والمثلة لما بين (١) العقاب والمعاقب عليه من المماثلة ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ويقال : أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه. والمثال : القصاص. وقرئ (الْمَثُلاتُ) بضمتين لإتباع الفاء العين. والمثلات ، بفتح الميم وسكون الثاء ، كما يقال : السمرة (٢). والمثلات بضم الميم وسكون الثاء ، تخفيف المثلات بضمتين. والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات (٣) (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أى مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب. ومحله الحال ، بمعنى ظالمين لأنفسهم (٤) وفيه أوجه. أن يريد السيئات المكفرة لمجتنب الكبائر. أو الكبائر بشرط التوبة. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. وروى أنها لما نزلت قال النبي عليه الصلاة والسلام «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولو لا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» (٥)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عناداً ، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى ، من انقلاب العصاحية ، وإحياء الموتى ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل أرسالات منذراً ومخوّفاً لهم من سوء العاقبة ، وناصحاً كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر ، وصحة ذلك حاصلة بأية آية كانت ، والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوة بها لا تفاوت بينها ، والذي عنده كل شيء بمقدار يعطى كل نبى آية على حسب ما اقتضاه علمه بالمصالح وتقديره لها (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأنبياء شرعاً واحداً (٦) في آيات مخصوصة. ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أنهم

__________________

(١) قوله «المثلة لما بين» عبارة النسفي «والمثلة العقوبة لما بين ... الخ. (ع)

(٢) قوله «كما يقال السمرة» لعله السمرة والسمرات. (ع)

(٣) قوله «كركبة وركبات» في الصحاح الركبة معروفة وجمع القلة ركبات وركبات وركبات. وفي هامشه عن مرتضى : أى بسكون الكاف وضمها وفتحها ، والراء مضمومة فيهن. (ع)

(٤) قال محمود : «ومحل على ظلمهم الحال بمعنى ظالمين لأنفسهم ... الخ» قال أحمد : والوجه الحق بقاء الوعد على إطلاقه إلا حيث دل الدليل على التقييد في غير الموحد ، فان ظلمه أعنى شركه لا يغفر وما عدا الشرك فغفرانه في المشيئة. والزمخشري يبنى على عقيدته التي وضح فسادها ، في استحالة الغفران لصاحب الكبائر وإن كان موحدا إلا بالتوبة ، فيقيد مطلقا ، ويحجر واسعا ، والله الموفق.

(٥) أخرجه ابن أبى حاتم والثعلبي من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن سعيد بن المسيب : لما نزلت (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.

(٦) قوله «ولم يجعل الأنبياء شرعا واحدا» أى سواء ، كذا في الصحاح. (ع)

٥١٤

يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك ، إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر لا أن تثبت الإيمان في صدورهم ، ولست بقادر عليه ، ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالإلجاء ، وهو الله تعالى. ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضاء حكمته أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره : أمر مدبر بالعلم النافذ مقدّر بالحكمة الربانية ، ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيراً ومصلحة ، لأجابهم إليه. وأما على الوجه الثاني ، فقد دل به على أن من هذه قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم ، العالم بأى طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ)(٩)

(اللهُ يَعْلَمُ) يحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً ، وأن يكون المعنى : هو الله ، تفسيراً لهاد على الوجه الأخير ، ثم ابتدئ فقيل (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) «وما» في (ما تَحْمِلُ) ، (وَما تَغِيضُ) ، (وَما تَزْدادُ). إما موصولة ، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة ، فالمعنى : أنه يعلم ما تحمله من الولد على أن حال هو. من ذكورة وأنوثة ، وتمام وخداج (١) ، وحسن وقبح ، وطول وقصر ، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة ، ويعلم ما تغيضه الأرحام : أى تنقصه. يقال : غاض الماء وغضته أنا. ومنه قوله تعالى (وَغِيضَ الْماءُ) وما تزداده : أى تأخذه زائداً ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا. ومنه قوله تعالى (وَازْدَادُوا تِسْعاً) ويقال : زدته فزاد بنفسه وازداد ، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد ، فإنها تشتمل على واحد ، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد ، فإنه يكون تاما ومخدجا. ومنه مدة ولادته ، فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبى حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك. وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمى هرما. ومنه الدم ، فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية ، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى ، ويعلم غيض الأرحام وازديادها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ومن أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته ، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها ، على أنّ الفعلين غير متعدّيين ، ويعضده قول الحسن : الغيضوضة أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك ، والازدياد أن تزيد

__________________

(١) قوله و «خداج» في الصحاح : خدجت الناقة خداجا : ألقت ولدها قبل تمام الأيام ، فهي خادج ، وهو خديج ، أو أخدجت : إذا جاءت به ناقص الخلق ، فهو مخدج ، وهو مخدج اه. (ع)

٥١٥

على تسعة أشهر. وعنه. الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام ، والازدياد ما ولد لتمام (بِمِقْدارٍ) بقدر وحدّ لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كقوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (الْكَبِيرُ) العظيم الشأن الذي كل شيء دونه (الْمُتَعالِ) المستعلى على كل شيء بقدرته ، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

(سارِبٌ) ذاهب في سربه ـ بالفتح ـ أى في طريقه ووجهه. يقال : سرب في الأرض سروبا. والمعنى : سواء عنده من استخفى : أى طلب الخفاء في مختبإ بالليل في ظلمته ، ومن يضطرب في الطرقات ظاهراً بالنهار يبصره كل أحد. فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار (١) ، حتى يتناول معنى الاستواء المستخفى والسارب ، وإلا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب. قلت : فيه وجهان : أحدهما أنّ قوله (وَسارِبٌ) عطف على من هو مستخف ، لا على مستخف ، والثاني أنه عطف على مستخف ، إلا أن (مَنْ) في معنى الاثنين ، كقوله :

نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَاذِئْبُ يصْطَحِبَانِ (٢)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كان من حق الكلام أن يقال : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ... الخ» قال أحمد : فمقتضى السؤال الذي أورده الزمخشري أن تكون الواو عاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى ، ومقتضى ما أجاب به أن يعطف أحد الموصوفين على الآخر ، وتحتمل الآية وجها آخر : وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية. والمعنى : ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار ، وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع ، وخصوصا وقد تكرر الموصول في الآية ثلاثا ، ومنه قوله تعالى (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) والأصل : ولا ما يفعل بكم ، وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه ، لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهى موقع ، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة. ومنه :

فمن بهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

أى ومن يمدحه وينصره ، والله أعلم.

(٢) فبت أقد الزاد بيني وبينه

على ضوء نار مرة ودخان

فقلت له لما تكشر ضاحكا

وقائم سيفي من يدي بمكان

تعال فان عاهدتني لا تخوننى

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

أأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما

أخيين كانا أرضعا بلبان

٥١٦

كأنه قيل : سواء منكم اثنان : مستخف بالليل ، وسارب بالنهار. والضمير في (لَهُ) مردود على (مِنْ) كأنه قيل : لمن أسرّ ومن جهر ، ومن استخفى ومن سرب (مُعَقِّباتٌ) جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته ، والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) بمعنى المعتذرون. ويجوز معقبات ، بكسر العين ولم يقرأ به. أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء على عقبه ، كما يقال : قفاء ، لأنّ بعضهم يعقب بعضاً. أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) هما صفتان جميعاً ، (١) وليس (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بصلة للحفظ ، كأنه قيل : له معقبات من أمر الله. أو يحفظونه من أجل أمر الله ، أى : من أجل أنّ الله أمرهم بحفظه. والدليل عليه قراءة على رضى الله عنه وابن عباس وزيد بن على وجعفر بن محمد وعكرمة : يحفظونه بأمر الله. أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب ، بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب ، كقوله (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) وقيل : المعقبات الحرس والجلاوزة (٢) حول السلطان ، يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله أى من قضاياه ونوازله ، أو على التهكم به ، وقرئ له معاقيب جمع معقب أو معقبة. والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الحال الجميلة بكثرة المعاصي (مِنْ والٍ) ممن يلي أمرهم ويدفعه عنهم.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)

__________________

ـ للفرزدق ، يصف ذئبا أتاه في مفازة فبات يقطع الزاد ويقسمه بينه وبينه ، حال كونهما مشرفين على ضوء نار تارة وعلى دخانها أخرى ، دلالة على تكرر إيقادها. وتكشر : أبدى أنيابه كالضاحك. وقائم سيفي : أى والحال أن مقبض سيفي بمكان عظيم من يدي ، دلالة على الحرص والجرأة. تعال : أى أقبل إلى نتعاهد. ويروى تعش أى كل العشاء ، فان عاهدتني بعد ذلك والتزمت أنك لا تخوننى : نكن مثل من يصطحبان يا ذئب. ومعنى «من» مثنى ، فعاد عليه الرابط كذلك. والنداء. اعتراض بين الصلة والموصول. وأ أنت : استفهام توبيخي. وتكرير النداء فيه نوع توبيخ أيضا. وأخيين : مصغر أخوين. واللبان : لبن المرأة خاصة. شبه الذئب والغدر بتوأمين نشئا معا من صغرهما ترضعهما أم واحدة ، دلالة على كمال التلازم والتآلف. وتسمية الذئب امرأ ، مبنية على تنزيله منزلة العاقل المصحح لخطابه. وشبههما بالأخوين من نوع الإنسان ، كما دل على ذلك لفظ اللبان ، لأن التآلف فيه أكمل وأظهر منه في غيره.

(١) عاد كلامه. قال : ومعنى قوله (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) هما صفتان جميعا وليس من أمر الله بصلة الحفظ كأنه قيل له ... الخ» قال أحمد : وحقيقة هذا الوجه أنهم يحفظونه من الأمر الذي علم الله أنه يدفعه عنه بسبب دعائهم. ولو لا هذا السبب لكان في علم الله أن النقمة تحل عليه ، لأن الله عز وجل يعلم ما لا يكون لو كان كيف كان يكون ، وسع ربنا كل شيء علما.

(٢) قوله «والجلاوزة» في الصحاح «الجلواز» الشرطي ، والجمع الجلاوزة. (ع)

٥١٧

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)(١٣)

(خَوْفاً وَطَمَعاً) لا يصح أن يكونا مفعولا لهما (١) لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف ، أى : إرادة خوف وطمع. أو على معنى إخافة وإطماعاً. ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق ، كأنه في نفسه خوف وطمع. أو على : ذا خوف وذا طمع. أو من المخاطبين ، أى : خائفين وطامعين. ومعنى الخوف والطمع : أنّ وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب :

فَتى كَالسَّحَابِ الْجُونِ تُخْشَى وَتُرْتَجَى

يُرْجَى الْحَيَا مِنْهَا وَيُخْشَى الصَّوَاعِقُ (٢)

وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر ، كالمسافر ، ومن له في جرينه التمر والزبيب ، ومن له بيت يكف (٣) ، ومن البلاد مالا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ، ويطمع فيه من له فيه نفع ، ويحيا به (السَّحابَ) اسم الجنس ، والواحدة سحابة. و (الثِّقالَ) جمع ثقيلة ، لأنك تقول سحابة ثقيلة ، وسحاب ثقال ، كما تقول : امرأة كريمة ونساء كرام ، وهي الثقال بالماء (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) ويسبح سامع الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له. أى يضجون بسبحان الله والحمد لله. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «سبحان من يسبح الرعد بحمده» (٤) وعن على رضى الله عنه : سبحان من سبحت له. وإذا اشتدّ الرعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك» (٥) وعن ابن عباس أنّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال : «ملك من

__________________

(١) قال محمود : «خوفا وطمعا لا يصح أن يكون مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل ... الخ» قال أحمد : أو مفعولا لهما ، على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى ، لأنه إذا أراهم فقد رأوا ، والأصل : وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً ، أى : ترقبونه وتتراءونه ، تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع ، والله أعلم.

(٢) يقول : هو فتى شجاع جواد ، يخشى شره ، ويرجى خيره ، فهو كالسحاب الأسود. والجون : الأسود : ويطلق على الأبيض. ورواه ابن جنى بالضم ليكون جمعا ، أى السود المظلمات ، لأن السحاب جمع في المعنى. يرتجى الحياء : أى المطر ، منها. ونخشى صواعقها ، وهي قطع النار التي تنزل منها.

(٣) قوله «ومن له بيت يكف» وكف البيت يكف : قطر يقطر ، كذا في الصحاح. (ع)

(٤) أخرجه الطبري من رواية إسرائيل عن ليث عن رجل عن أبى هريرة رفعه «أنه كان إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده» ورواه البخاري في الأدب المفرد ، موقوفا على كعب بن مالك.

(٥) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وأبو يعلى والحاكم من رواية الحجاج بن أرطاة عن أبى مضر عن سالم ابن عبد الله عن أبيه قال الترمذي : غريب.

٥١٨

الملائكة موكل بالسحاب ، معه مخاريق (١) من نار يسوق بها السحاب» (٢) وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك. ومن بدع المتصوّفة. الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله. ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده ، وما دلّ على قدرته الباهرة ووجدانيته ثم قال (وَهُمْ) يعنى الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته (يُجادِلُونَ فِي اللهِ) حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ويردّون الواحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد ، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم «الملائكة بنات الله» فهذا جدالهم بالباطل ، كقولهم (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) وقيل : الواو للحال. أى : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم. وذلك أنّ أربد أخا لبيد ابن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حين وفد عليه معه عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدّة كغدّة البعير (٣) وموت في بيت سلولية ، وأرسل على أربد صاعقة فقتلته ـ أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ (٤) (الْمِحالِ) المماحلة ، وهي شدّة المماكرة والمكايدة. ومنه : تمحل لكذا ، إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان. ومنه الحديث : «ولا تجعله علينا ماحلا (٥) مصدّقا» وقال الأعشى :

__________________

(١) قوله «معه مخاريق من نار» في الصحاح المخراق : منديل يلف ليضرب به. (ع)

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد من رواية بكر بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : أخبرنا يا أبا القاسم عن الرعد. فذكره ـ وزاد : قالوا : فما هذا الصوت قال : زجره للسحاب قالوا : صدقت» وفي الطبراني والأوسط من رواية أبى عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصارى «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد. فقال : هو ملك بيده مخراق إذا رفع برق وإذا زجر رعدت وإذا ضرب صعقت ،.

(٣) قوله «بغدة كغدة البعير» في الصحاح : غدة البعير : طاعونه. (ع)

(٤) أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبراني وابن مردويه عنه من رواية زيد بن أسلم عن عطاء عنه «أن أريد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة ـ فذكر الحديث مطولا» وأخرجه النسائي والطبري والعقيلي وأبو يعلى من رواية على بن أبى سارة عن ثابت عن أنس قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا إلى رجل من خزاعة العرب فقال : ادعه قال : يا رسول الله هو أخى من ذلك. قال : اذهب فادعه. فأتاه. فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. قال : وما الله؟ أمن ذهب هو أو من فضة ، أم من نحاس ـ الحديث. وفيه : فأنزل الله تعالى (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ ...) الآية قال العقيلي : لا مانع على حديثه إلا ممن هو دونه. وقد رواه البزار والبيهقي في الدلائل من رواية ديلم بن غزوان عن ثابت نحوه.

(٥) قلت : الذي في الحديث «القرآن شافع مشفع وما حل مصدق» أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر والحاكم من حديث معقل بن يسار ، والطبراني من حديث ابن مسعود عن أنس. أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن.

٥١٩

فَرْعُ نَبْعٍ يَهَشُّ فِى غُصُنِ الْمَجْ

دِ غَزِيرُ النّدَى شَدِيدُ الْمِحَالِ (١)

والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه ، يأتيهم بالهلكة من حيث. لا يحتسبون. وقرأ الأعرج بفتح الميم ، على أنه مفعل ، من حال يحول محالا إذا احتال. ومنه : أحول من ذئب ، أى أشدّ حيلة. ويجوز أن يكون المعنى : شديد الفقار (٢) ، ويكون مثلا في القوة والقدرة كما جاء : فساعد الله أشدّ ، وموساه أحدّ ، لأن الحيوان إذا اشتدّ محاله ، كان منعوتاً بشدّة القوّة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر؟ وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامه.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(١٤)

(دَعْوَةُ الْحَقِ) فيه وجهان ، أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق (٣) الذي هو نقيض الباطل ، كما تضاف الكلمة إليه في قولك : كلمة الحق ، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ، ويعطى الداعي سؤاله إن كان مصلحة له ، فكانت دعوة ملابسة للحق ، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء ، لما في دعوته من الجدوى والنفع ، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدى دعاؤه. والثاني : أن

__________________

(١) فرع كل شيء أعلاه. والنبع : شجر تتخذ منه القسي. والهش من كل شيء : ما فيه رخاوة وليونة. وهش إليه ، من باب تعب وضرب : ضحك وانبسط إليه ، أى هو كفرع النبع في العلو وللصلابة في الحروب. وشبه المجد بشجرة طيبة على طريق المكنية ، فاضافة الغصن إليه تخييل لذلك. ويحتمل أنه شبه قومه بأغصان الشجرة المثمرة على طريق التصريحية ، وإضافتها للمجد قرينة على ذلك. وفيها دلالة على أن المجد منهم كالثمر من الأغصان ، غزير الندى كثير العطاء شديد المحال ، أى المماحلة والمكايدة ، وهو كالتفسير التشبيه الأول ، وغزير الندى كالتفسير الثاني ، وهو من بديع الكلام.

(٢) قوله «ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار» في الصحاح : والمحالة أيضا : الفقارة ، وفيه «الفقارة» واحدة فقار الظهر. (ع)

(٣) قال محمود : «فيه وجهان : أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق ... الخ» قال أحمد : دس تحت تأويل الأول نبذة من الاعتزال على وجه الاختزال. فحجر واسعاً من لطف الله واستجابته أدعية عباده ، وحتم رعاية المصالح ، وجعل معنى إضافة الدعوة إلى الحق التباسها بالمصلحة ، وقد انكشف الغطاء وتبين أن الله تعالى لا تعلل أفعاله ولا تقف استجابته على الشرط المذكور ، وغرضنا إيقاظ المطالع لهذه المواضع من غفلة يتحيز بها إلى بدعة وضلالة ، والله الموفق.

٥٢٠