الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الأنعام

مكية [إلا الآيات ٢٠ و ٢٣ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ فمدنية] وعن ابن عباس : غير ست آيات ، وآياتها ١٦٥ [نزلت بعد الحجر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١)

(جَعَلَ) يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير ، كقوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق فيه معنى التقدير (١) وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً). فإن قلت : لم أفرد النور (٢)؟ قلت : للقصد إلى الجنس ،

__________________

(١) قال محمود : «الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير ... الخ» قال أحمد : وقد وردت «جعل» و «خلق» موردا واحدا فورد (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) وورد (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وذلك ظاهر في الترادف ، إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن «جعل» لم يصحب السموات والأرض ، وإنما لزمتها «خلق» وفي إضافة الخلق في هذه الآية إلى السموات والأرض ، والجعل إلى الظلمات والنور مصداق للمميز بينهما ، والله أعلم.

(٢) عاد كلامه. قال : فإن قلت : لم أفرد النور؟ قلت : للقصد ... الخ» قال أحمد : وقد سبق للزمخشري الاستدلال يجمع الجنس على التكثير ، واعتقاد أنه أدل على الكثرة من الافراد. وقد قدمنا ما في ذلك من النظر ، وأسلفنا الاستدلال بقول حبر الأمة : كتابه أكثر من كتبه ، على خلاف ذلك» وهو رأى الامام أبى المعالي.

٣

كقوله تعالى (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أو لأن الظلمات كثيرة ، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل ، وظله هو الظلمة ، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت : علام عطف قوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١)؟ قلت : إما على قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته ، وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)(٢)

(ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أجل الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أجل القيامة. وقيل : الأجل الأوّل :

ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل : الأوّل النوم. والثاني : الموت. فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره (٢) فلم جاز تقديمه

__________________

ـ ولو قال الزمخشري. إن جمع الظلمات لاختلافها بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام ، وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى ، والله أعلم.

(١) عاد كلامه. قال : «فان قلت علام عطف ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ... الخ»؟ قال أحمد : وفي هذا الوجه الثاني نظر من حيث أن عطفه على الصلة يوجب دخوله في حكمها. ولو قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي) ، (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) لم يسند ، لخلو الجملة من العائد. ويمكن أن يقال : وضع الظاهر الذي هو (بِرَبِّهِمْ) موضع المضمر تفخيما وتعظيما. وأصل الكلام : الذي يعدل به الذين كفروا ، أو الذي الذين كفروا يعدلون به ، باتساع وقوعها صلة ، رعاية لهذا الأصل ، فهذا نظر من حيث الاعراب. ونظيره قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) فيمن جعل «ما» موصولة لا شرطية ، فان دخول جاءكم وما بعده في حكم الصلة يستدعى ضميراً عائداً إلى الموصول ، وهو مفقود لفظاً ، لأن الظاهر وضع فيه موضع المضمر. والأصل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة ، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى على الاعراب المذكور ، وهو أنه يصير التقدير : الحمد لله الذي ، الذين كفروا يعدلون ، ووقوع هذا عقيب الحمد غير مناسب كما ترى. فالوجه ـ والله أعلم ـ عطفه على أول الكلام ، لا على الصلة ، والله الموفق.

(٢) قال محمود : «إن قلت المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب ... الخ» قال أحمد : وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم. وقد ورد (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) في سياق التعظيم لها ، وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قبله (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالظاهر ـ والله أعلم ـ أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر ، وكان الأصل ـ والله أعلم ـ ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ، إذ كلاهما مقضي. فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادى تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم والله أعلم.

٤

في قوله (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)؟ قلت : لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ). فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ، ولى عبد كيس ، وما أشبه ذلك ، فما أوجب التقديم؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأى أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة ، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)(٣)

(فِي السَّماواتِ) متعلق بمعنى اسم الله ، (١) ، كأنه قيل وهو المعبود فيما. ومنه قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالالهية فيها ، أو هو الذي (٢) يقال له ـ الله ـ فيها لا يشرك به في هذا الاسم. ويجوز أن يكون (اللهُ فِي السَّماواتِ) خبراً بعد خبر ، على معنى : أنه الله ـ وأنه في السموات والأرض ، بمعنى : أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء ، كأن ذاته فيهما. فإن قلت : كيف موقع قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)؟ قلت : إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريراً له ، لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو ـ الله ـ وحده ، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر ، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر ، ويثبت عليه ، ويعاقب.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥)

(مِنْ) في (مِنْ آيَةٍ) للاستغراق. وفي (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) للتبعيض. يعنى : وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار ، إلا كانوا عنه معرضين : تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً ، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب (فَقَدْ كَذَّبُوا) مردود على كلام محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات ، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها

__________________

(١) قال محمود : «في السموات متعلق بمعنى اسم الله ... الخ» قال أحمد : وما الآيتان الكريمتان إلا توأمتان ، فان التمدح في آية الزخرف وقع بما وقع التمدح به هاهنا ، من القدرة على الاعادة والاستنثار بعلم الساعة والتوحد في الألوهية ، وفي كونه تعالى المعبود في السموات والأرض.

(٢) عاد كلامه. قال : أو هو المعروف بالألوهية أو هو الذي يقال له ـ الله ـ فيهما ... الخ» قال أحمد : وهذه الوجوه كلها كأن التعبير وقع فيها بالملزوم عن لوازمه المشهورة به ، كما وقع ذلك في قوله :

أنا أبو النجم وشعري شعري

أى المعروف المشهور ، لأنه بنى على أنه متى ذكر شعره فهم السامع عند ذكره خواصه من الجودة والبلاغة وسلامة النسج ، لاشتهاره بذلك ، فاقتصر على قوله «شعري» اتكالا على فهم السامع.

٥

وهو الحق (لَمَّا جاءَهُمْ) يعني القرآن الذي تحدّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) الشيء الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن ، أى أخباره وأحواله ، بمعنى : سيعلمون بأى شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

مكن له في الأرض : جعل له مكانا فيها. ونحوه : أرّض له. ومنه قوله (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم ، من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة ، لأن الماء ينزل منها إلى السحاب ، أو السحاب أو المطر. والمدرار : المغزار. فإن قلت : أى فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت : الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده ، كقوله تعالى : (وَلا يَخافُ عُقْباها)

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٩)

(كِتاباً) مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) في ورق (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ولم يقتصر بهم على الرؤية ، لئلا يقولوا (١) سكرت أبصارنا ، ولا تبقى لهم علة. لقالوا (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعناداً

__________________

(١) قال محمود : «ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا ... الخ» قال أحمد : والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم تحقيق القراءة على قرب ، أى فقرءوه وهو في أيديهم لا بعيدا عنهم لما آمنوا ، وإلا فالحظ لا يدرك باللمس حتى يجعل فائدة زيادته إدراكه بوجهين ، كما يفهم من كلام الزمخشري.

٦

للحق بعد ظهوره (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لقضى أمر إهلاكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين (١). إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته (٢) وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) لم يكن بدّ من إهلاكهم ، كما أهلك أصحاب المائدة. وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة (٣) فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى (ثُمَ) بعد ما بين الأمرين : (٤) قضاء الأمر ، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر ، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لو لا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ، (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأرسلناه في صورة رجل ، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية (٥) لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم (وَلَلَبَسْنا

__________________

(١) قال محمود : «يعنى لا ينظرون بعد نزوله طرفة عين ... الخ» قال أحمد : لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك ، فانه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح ، وليس الأمر كذلك. فالوجه ـ والله أعلم ـ أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك ، وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا مالا يتوقف وجوب الايمان عليه ، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه ، المعجز من حيث كونه معجزاً ، لا المعجز الخاص. فإذا أجيبوا على وقف مقترحهم فلم ينجع فيهم ، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة ، والله أعلم.

(٢) متفق عليه من روآية مسروق عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته مرتين. وفي روآية لها : رأى جبريل له ستمائة جناح.

(٣) عاد كلامه. قال : «وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون» قال أحمد : ويقوى هذا الوجه قوله : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس : ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة صورته.

(٤) عاد كلامه. قال : «ومعنى ـ ثم ـ بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر ... الخ» قال أحمد : وهذه النكتة من محاسن ، تنبيهاته.

(٥) متفق عليه من روآية أبى عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال «نبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة ، فجعل يتحدث ، ثم قام فقال نبى الله لأم سلمة : من هذا؟ فقالت : دحية الكلبي ... الحديث» وللحاكم من روآية مسروق عن عائشة قالت : «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى في حجري رجلا شبهته بدحية الكلبي. فقال لي : هذا جبريل ، وهو يقرئك السلام» وللطبراني من روآية قتادة عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : يأتينى جبريل على صورة دحية الكلبي» قال أنس «وكان دحية رجلا جسيما جميلا أبيض» وفي إسناده عفير بن سعدان وهو ضعيف ولأبى نعيم في الدلائل من روآية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت جبرئيل في خلقه الذي خلق عليه ، وكنت أراه قبل ذلك في صور مختلفة وأكثر ما كنت أراه في صورة دحية الكلبي» رجاله ثقات ، إلا أنه مرسل وروى ابن سعد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عمر «كان جبريل يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي».

٧

عَلَيْهِمْ) ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون. إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإن قال لهم : الدليل على أنى ملك أنى جئت بالقرآن المعجز ، وهو ناطق بأنى ملك لا بشر ـ كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن ، فهو ليس الله عليهم. ويجوز أن يراد : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة : وقرأ ابن محيصن : ولبسنا عليهم ، بلام واحدة. وقرأ الزهري : وللبسنا عليهم ما يلبسون ، بالتشديد.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه (فَحاقَ) بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١١)

فإن قلت : أى فرق بين قوله (فَانْظُروا) وبين قوله (ثُمَّ انْظُرُوا) (١) قلت : جعل النظر (٢) مسبباً عن السير في قوله (فَانْظُروا) فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم ، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٢)

(لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال تبكيت ، و (قُلْ لِلَّهِ) تقرير لهم ، أى هو ـ الله ـ لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أى أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت أى فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا ... الخ» قال أحمد : وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحداً ، ليكون ذلك سبباً في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت «ثم» فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير. وشتان بين المقصود والوسيلة والله أعلم.

(٢) قوله «النظر» لعله «بالنظر». (ع)

٨

به من خلق السموات والأرض ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيجازيكم على إشراككم. وقوله (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) نصب على الذم ، أو رفع : أى أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم ، والأمر على العكس؟ قلت : معناه : الذين خسروا أنفسهم في علم الله : لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(١٣)

(وَلَهُ) عطف على الله (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى وتعديه بفي كما في قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ). (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)(١٦)

أوَلى (غَيْرَ اللهِ) همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو (أَتَّخِذُ) لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً ، لا في اتخاذ الولي ، فكان أولى بالتقديم. ونحوه (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ). وقرئ (فاطِرِ السَّماواتِ) بالجرّ صفة لله ، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري : فطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها (١) أى ابتدعتها (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) وهو يرزق ولا يرزق ، كقوله (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) والمعنى : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ : ولا يطعم ، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب : وهو يطعم ولا يطعم ، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير لغير الله. وقرأ الأشهب. وهو يطعم ولا يطعم ، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه : وهو يطعم ، ولا يستطعم. وحكى الأزهرى : أطعمت ، بمعنى استطعمت. ونحوه : أفدت. ويجوز أن يكون

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث ، وفي فضائل القرآن بإسناد حسن ، ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر وسيأتى في تفسير فاطر.

٩

المعنى : وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك : وهو يعطى ويمنع ، ويبسط ويقدر ، ويغنى ويفقر (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام ، كقوله (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) وكقول موسى (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(وَلا تَكُونَنَ) وقيل لي لا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومعناه : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. و (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) الله الرحمة العظمى وهي النجاة ، (١) كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد : فقد أتممت الإحسان إليه أو ، فقد أدخله الجنة ، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب. وقرئ : من يصرف عنه ، على البناء للفاعل ، والمعنى : من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه ، بمعنى : من يدفع الله عنه. ويحفظه ، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف ، لكونه معلوما أو مذكورا قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به ، أى من يصرف الله عنه ذلك اليوم : أى هو له ، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى الله عنه : من يصرف الله عنه ،

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٧)

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه ، فلا قادر على كشفه إلا هو (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من غنى أو صحة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان قادراً على ادامته أو إزالته.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)(١٨)

(فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة ، كقوله (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) الشيء

__________________

(١) قال محمود : «المراد الرحمة العظمى وهي النجاة من النار ... الخ» قال أحمد : وإنما يلجئ إلى تخصيص الرحمة ، إما بكونها العظمى ، وإما برحمة الثواب أنه لو بقيت على إطلاقها ، لما زاد الجزاء على الشرط إذ من المعلوم ضرورة أن صرف العذاب رحمة ما. والعجب أن الزمخشري يصحح تخصيصها برحمة الثواب بأن صرف العذاب يستلزم الثواب ولا بد ، وغيره يصحح هذا التخصيص بأنه لا يلزم من صرف العذاب حصول الثواب ، لجواز أن يصرف عنه العذاب ولا يثاب ، فأفاد الجزاء إذاً فائدة لم تفهم من الشرط. هكذا صححه القونوى. ولعمري إن قاعدة المعتزلة تلجئ إلى ما ذهب إليه الزمخشري ، لانقسام المكلفين عندهم إلى مستوجب للجنة فالثواب قطعا ، وإلى مستوجب للنار فالعذاب قطعا ، ويسندون ذلك إلى العقل لا إلى السمع.

١٠

أعم العام (١) لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم. ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ : شيء لا كالأشياء ، كأنك قلت : معلوم لا كسائر المعلومات ، ولا يصح : جسم لا كالأجسام

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(١٩)

وأراد : أى شهيد (أَكْبَرُ شَهادَةً) فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله (قُلِ اللهُ) بمعنى الله أكبر شهادة ، ثم ابتدئ (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أى هو شهيد بيني وبينكم ، وأن يكون (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب ، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم ، فأكبر شيء شهادة شهيد له (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أى : لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل : من الثقلين. وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) تقرير لهم مع إنكار واستبعاد (قُلْ لا أَشْهَدُ) شهادتكم

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢١)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعنى اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم ونعوتهم لا يخفون

__________________

(١) قال محمود : «الشيء أعم العام ، لوقوعه على كل ما يصح ... الخ» قال أحمد وتفسيره الشيء يخالف الفريقين الأشعرية ، فإنهم فسروه بالموجود ليس إلا ، والمعتزلة فإنهم قالوا : والمعلوم الذي يصح وجوده ، فاتفقوا على خروج المستحيل. وعلى الجملة فهذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما. وأما هذا البحث فلغوى والتحاكم فيه لأهل اللغة ، وظاهر قولهم غضبت من لا شيء ، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلا ـ أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو وجوداً أو ممكنا أو مستحيلا ، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء والأمر في ذلك قريب.

١١

عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته. ثم قال (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به ، جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح ، حيث قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا). وقالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) وقالوا : الملائكة بنات الله و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات ، وسموها سحراً ، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) ناصبه محذوف تقديره : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أى آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله. وقوله : (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) معناه تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان. وقرئ : يحشرهم ثم يقول ، بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ ، ويجوز أن يشاهدوهم ، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم ، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها ، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم (فِتْنَتُهُمْ) كفرهم. والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم (١) ـ الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا دين آبائنا ـ إلا جحوده والتبرؤ منه ، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة ، لأنه كذب. وقرئ : تكن ، بالتاء وفتنتهم ، بالنصب. وإنما أنث (أَنْ قالُوا) لوقوع الخبر مؤنثاً ، كقولك : من كانت أمّك؟ وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ : ربنا ، بالنصب على النداء

__________________

(١) قال محمود : «فتنتهم كفرهم ، والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم ... الخ» قال أحمد : وفي الآية دليل بين على أن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب ، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذبا مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون ، أى سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة ، فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم.

١٢

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أى يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً : ألا تراهم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه ، (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول : معناه : ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحملُ قوله (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عىّ وإقحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه ، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) بعد قوله (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٢٦)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ، ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته ـ يعنى الكعبة ـ ما أدرى ما يقول ، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان : إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل : كلا ، فنزلت. والأكنة على القلوب ، والوقر في الآذان : مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله (١) واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله

__________________

(١) قال محمود : «الأكنة على القلوب والوقر في الآذان ، مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ... الخ» قال أحمد رحمه الله : وهذه الآية حسبنا في رد معتقد القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى أراد من هؤلاء المستمعين أن يعوا القرآن ويفقهوه ، وأنه لم يمنعهم من ذلك ، ومحال على زعمهم أن يمنعهم من ذلك ويريد أن لا يفقهوه ، لأن ذلك عندهم قبيح. فانظر كيف تكافحهم هذه الآية بالرد وتنادى عليهم بالخطإ ، إذ قوله (أَنْ يَفْقَهُوهُ) معناه كراهة أن يفقهوه ، وبين الارادة على زعمهم ، والكراهة على ما أنبأت عنه الآية. بون بعيد ، والله الموفق.

١٣

(وَجَعَلْنا) للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) وقرأ طلحة : وقرا بكسر الواو (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله (إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) و (يُجادِلُونَكَ) موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، وقوله : يقول الذين كفروا. تفسير له. والمعنى : أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث ، خرافات وأكاذيب ، وهي الغاية في التكذيب (وَهُمْ يَنْهَوْنَ) الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه ، ويثبطونهم عن الإيمان به (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) بأنفسهم فيضلون ويضلون (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم ، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل : هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به. وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً. فقال : (١)

وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم

حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ

وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا

ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ

وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا

وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْ لَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ

لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا (٢) فنزلت.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتيبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا قالت لأبى طالب هذه المقالة فذكر القصة» قال ابن إسحاق : ثم قال : فذكر هذا الشعر.

(٢) لأبى طالب ، لما اجتمع عنده قريش وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. «فاصدع» أى اجهر بأمرك حتى تؤثر في القلوب ، كصدع الزجاج ، أى شقه وكسره. وغض منه يغض ـ بالضم ـ غضاضة : وضع ونقص من قدره. وغضغضت الماء وتغضغض هو : نقصته وانتقص. أى ما عليك مذلة ومنقصة من أمرك. وبشر يبشر ـ بالضم ـ سر وفرح. وأبشر إبشارا : سر واستبشر. وبشرته وأبشرته أفرحته. أى : افرح وانسر بذلك. وقرت عينه. بردت سرورا ، أى افرح بذلك وانسر. فهو توكيد لأبشر ، إلا أنه بطريق الكناية المفيدة للمبالغة. وعيونا تمييز محول عن الفاعل ، أى لتقر عيونك. والمراد بالجمع ما فوق الواحد ، أو المبالغة ، أو عيونه هو أو عيونه هو والمؤمنين. ويروى «منه» أى من ذلك الأمر. و «لن» حرف لتوكيد النفي كما تشهد به مواضع الاستعمال. ونفى الوصول : كناية عن نفى المضرة على وجه أبلغ. والباء للملابسة. و «حتى أوسد» غاية مفيدة للتوكيد والتأييد ـ

١٤

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٢٨)

(وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعا هي تحتهم ، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك : وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته ، وقرئ : وقفوا ، على البناء للفاعل ، من وقف عليه وقوفا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) تم تمنيهم. ثم ابتدءوا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) واعدين الإيمان ، كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود ، بمعنى دعني وأنا لا أعود ، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفا على نردّ ، أو حالا على معنى : يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيدخل تحت حكم التمني. فإن قلت : يدفع ذلك قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأنّ المتمنى لا يكون كاذبا. قلت : هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة ، فجاز أن يتعلق به التكذيب ، كما يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالا فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمنّ في معنى الواعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالا كافأتك على الإحسان. وقرئ : ولا نكذب ونكون ، بالنصب بإضمار أن على جواب التمني (١) ومعناه : إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم ، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً ، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل : هو

__________________

ـ والتوسيد : كناية عن الموت ، فيجعل له وسادة تحت رأسه في رمسه. و «دفينا» أى مدفونا حال. ومجيء المضارع المنفي بلن جوابا للقسم لا يجوز إلا في الضرورة كما هنا. وزعمت : أى قلت عند من لا يصدقك ، ولقد صدقت في دعواك أنك ناصح للناس ، و «كنت ثم» أى عند قولك «أمينا» فيما ادعيت وعرضت علينا دينا صادقا أنه من خير أديان البرية دينا ، أى من جهة الديانة ، أو من جهة الجزاء. وقيل : قد يراد من التمييز مجرد التوكيد وهذا منه لا محالة في ذلك ، فقوله «لا محالة» جملة اعتراضية للتوكيد. والحذار : مصدر بمعنى الحذر من مسبتهم لي. ويروى أو حذارى سبة. والسب أبلغ من اللوم «لوجدتني» يا محمد راضياً بذاك الدين ، مظهراً له. وسمح سماحة فهو سمح ، كضخم ضخامة فهو ضخم : إذا جاد ولم يبخل.

(١) قال محمود : «وقرئ ولا نكذب ونكون بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ... الخ» قال أحمد : وكثيراً ما تتناوب صيغة التمني والخبر. ألا ترى : إلى قوله تعالى (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) إلى قوله (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وهذه المعاهدة إنما كانت تمنيا بصيغة الخبر ، والله أعلم. وأبين من ذلك قوله تعالى في آية أخرى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فهذا هو التمني بعينه ، ولكن بصيغة الوعد والخبر الصريحة ، والله الموفق.

١٥

في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل : هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والمعاصي (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(٢٩)

(وَقالُوا) عطف على لعادوا. أى ولو ردّوا لكفروا ولقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله : وإنهم لكاذبون ، على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين قالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلا على كذبهم

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٣١)

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل : وقفوا على جزاء ربهم. وقيل عرفوه حق التعريف (قالَ) مردود على قول قائل قال : ما ذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه فقيل : قال (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) وهذا تعيين من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم ـ لما كانوا يسماعون من حديث البعث والجزاء ـ : ما هو بحق وما هو إلا باطل (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر. و (حَتَّى) غاية لكذبوا لا لخسر ، لأن خسرانهم لا غاية له. أى ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت : أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت : لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدّماتها ، جعل من جنس الساعة وسمى باسمها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات فقد قامت قيامته (١)». أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة (بَغْتَةً) فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة ، أو على المصدر

__________________

(١) أخرجه أبو شجاع الديلمي في الفردوس عن أنس بلفظ «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» للطبري من حديث زياد من علاقة عن المغيرة بن شعبة قال «يقولون القيامة القيامة ، وإنما قيامة الرجل موته» ومن رواية سفيان عن أبى قيس قال «شهدت جنازة فيها علقمة. فما دفن قال : أما هذا فقد قامت قيامته.

١٦

كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة (فَرَّطْنا فِيها) الضمير للحياة الدنيا ، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو للساعة على معنى : قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها ، كما تقول : فرّطت في فلان. ومنه فرّطت في جنب الله (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) كقوله (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور ، كما ألف الكسب بالأيدى (ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يزرون وزرهم ، كقوله (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ).

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٣٢)

جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة ، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه : ولدار الآخرة. وقرئ : تعقلون بالتاء والياء.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)(٣٣)

(قَدْ) في (قَدْ نَعْلَمُ) بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته (١) ، كقوله:

أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ

وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ (٢)

__________________

(١) قال محمود : «قد في قد نعلم بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته كقوله : ولكنه قد يهلك المال نائله» قال أحمد : ومثلها في قوله (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) فانه يكثر علمهم برسالته ويؤكده بظهور آياته ، حتى يقيم عليهم الحجة في جمعهم بين متناقضين : أذيته ، ورسوخ علمهم برسالته ، والله أعلم. ومنه أيضا قوله :

قد أترك القرن مصفراً أنامله

والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه ، تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد. وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.

(٢) أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفه غير نفسه

لجاد بها فليتق الله سائله

فمن مثل حصن في الحروب ومثله

لانكار ضيم أو لخصم يحاوله

لزهير بن أبى سلمي يمدح حصن بن أبى حذيفة. والثقة من وثق ، كالعدة من وعد. وإن كان الفعل الأول مكسورا والثاني مفتوحا ، فأصلها «وثق» حذفت الواو وخلفتا التاء ، والمراد بها ما يتوثق به ، أو المصدر هو التوثق ، أى هو ملازم لما يتوثق به من مكارم الأخلاف ، لا ينفك عنه كأنه أخوه أو ملازم للتوثق به. وإسناد الإهلاك إلى الخمر مجاز عقلى ، لأنه سببه ، وكذلك إسناده إلى النائل ، أى العطاء. و «قد» هنا للتكثير ، وإلا لم يكن مدحا ، (٢ ـ كشاف ـ ٢)

١٧

والهاء في (إِنَّهُ) ضمير الشأن (لَيَحْزُنُكَ) قرئ بفتح الياء وضمها. و (الَّذِي يَقُولُونَ) هو قولهم ساحر كذاب (لا يُكَذِّبُونَكَ) قرئ بالتشديد والتخفيف ، من كذبه إذا جعله كاذبا في زعمه (١) وأكذبه إذا وجده كاذبا. والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله ، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته ، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه ـ إذا أهانه بعض الناس ـ : إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى. وفي هذه الطريقة قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) وقيل : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل : فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين (٢) فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول : ما نكذبك لأنك عندنا صادق ، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروى أنّ الأخنس بن شريق قال لأبى جهل : يا أبا الحكم ، أخبرنى عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق

__________________

ـ تراه متهللا مستبشر الوجه إذا جئته سائلا ، فكأنك تعطيه المال الذي أنت طالبه منه. وبالغ في وصفه بالكرم حتى أنه يجود بروحه إن لم يملك غيرها ، وبنى على ذلك أمر سائله بالتقوى من الله ، لئلا يأخذ روحه فيميته. فسائله الأول مضاف لمفعوله الثاني. والثاني مضاف للأول. وقوله «فمن» استفهام إنكارى ، أى ما مثله أحد في الحروب ، وما مثله أحد معد لانكار الظلم وإبائه والمحاولة والمعالجة والطلب. وضمير يحاوله للضيم ، أو لحصن ، أو لمن. ويروى الشعر برواية أخرى ، على أنه وصف لمعن بن زائدة وهي :

يقولون معن لا زكاة لماله

وكيف يزكى المال من هو باذله

إذا حال حول لم تجد في دياره

من المال إلا ذكره وجمائله

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت نائله

تعود بسط الكف حتى لو انه

أراد انقباضا لم تطعه أنامله

فلو لم يكن .........

 ......... البيت

ورفع جمائله ، ذهابا إلى المعنى ، لأن المعنى لم يبق إلا جمائله ونائله : آخذه منه. وبسط الكف : كناية عن كثرة الكرم. وأنامله : أجزاء أصابعه.

(١) عاد كلامه. قال : «وقرئ يكذبونك بالتشديد والتخفيف من كذبه إلى قوله (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) ... الخ» قال أحمد : وفي هذا النوع من إقامة الظاهر مقام المضمر فنان من نكت البيان ، إحداهما : الإسهاب في ذمهم وهذه النكتة يستقل بها الظاهر من حيث كونه ظاهرا ، حتى لو كان لقبا جامدا ، والأخرى زيادة منه تؤكد ذمهم ، تفهم من اشتقاق الظاهر.

(٢) لم أجده عنه وفي الطبقات من حديث يعلى بن أمية قال «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين» ورواه أيضا من حديث على ابن أبى طالب نحوه.

١٨

وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فما ذا يكون لسائر قريش ، فنزلت ، وقوله (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(٣٤)

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وهذا دليل على أن قوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ولكنهم أهانونى (عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) على تكذيبهم وإيذائهم (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لمواعيده من قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(٣٦)

كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) ، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ) منها (بِآيَةٍ) فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا

__________________

(١) عاد كلامه. قال : «وقوله ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية ... الخ» قال أحمد : ولا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفى التكذيب أيضا ، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين ، أى هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر عليهم ولا يحزنك أمرهم ، وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم ، فأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبره فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا ، ولكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب لما اختاره : وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد بالنظائر ، والله أعلم.

١٩

إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له : إن استطعت ذلك فافعل ، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات ، كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقى إلى السماء لفعلت ، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها. وحذف جواب «أن» كما تقول : إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بأن يأتيهم بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه (١) (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعنى أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون ، وإنما يستجيب من يسمع ، كقوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى * وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل معناه : وهؤلاء الموتى ـ يعنى الكفرة ـ يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون ، فحينئذ يسماعون. وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم (٢) وقرئ : يرجعون ، بفتح الياء.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣٧)

(لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) نزل بمعنى أنزل. وقرئ أن ينزل بالتشديد والتخفيف. وذكر الفعل والفاعل مؤنث ، لأن تأنيث آية غير حقيقى ، وحسن للفصل. وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) تضطرهم إلى الإيمان. كنتق الجبل على بنى إسرائيل ونحوه ، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ

__________________

(١) قال محمود : «بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه» قال أحمد : وهذه الآية أيضا كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو ، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها ، فامتناع اجتماعهم على الهدى إذاً إنما كان لامتناع المشيئة ، فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة لا يكون الايمان معها اختيارا ، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع ، وإن مشيئة اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ثابتة غير ممتنعة ولكن لم يقع متعلقها ، وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها ، والله الموفق.

(٢) قوله «إلى استماعهم» لعله : إسماعهم. (ع)

٢٠