الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

شيء ما. (عَلَى) في قوله (عَلَى الْكِبَرِ) بمعنى مع ، كقوله :

إنِّى عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِى

أَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ (١)

وهو في موضع الحال ، معناه : وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر. روى أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتى عشرة سنة ، وقد روى أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين. وإسحاق لتسعين. وعن سعيد بن جبير : لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، وإنما ذكر حال الكبر لأنّ المنة بهبة الولد فيها أعظم ، من حيث أنها حال وقوع اليأس من الولادة. والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر ، ولأنّ الولادة في تلك السنّ العالية كانت آية لإبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) كان قد دعا ربه وسأله الولد ، فقال : رب هب لي من الصالحين ، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته فإن قلت : الله تعالى يسمع كل دعاء ، أجابه أو لم يجبه. قلت : هو من قولك : سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله. ومنه : سمع الله لمن حمده. وفي الحديث (٢) «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن (٣)» فإن قلت : ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء؟ قلت : إضافة الصفة إلى مفعولها ، وأصله لسميع الدعاء. وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل ، كقولك : هذا ضروب زيداً ، وضراب أخاه ، ومنحار إبله ، وحذر أموراً ، ورحيم أباه ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازى. والمراد سماع الله.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١)

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وبعض ذرّيتى ، عطفا على المنصوب في اجعلنى ، وإنما بعض لأنه علم بإعلام الله أنه يكون في ذرّيته كفار ، وذلك قوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أى

__________________

(١) ترين : أصله ترأيين كتفعلين ، نقلت فتحة الهمزة إلى الراء ، ثم حذفت وحذفت الياء الأولى بعد قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. يقول. إنى مع ما تنظرينه من كبرى وهرمى الموجب للخرف عادة ، عارف بالأمور متيقظ لها. وكنى عن ذلك بقوله : أعرف من أين تؤكل الكتف ، أى : أعرف جواب هذا الاستفهام ، ويروى : من حيث ، فلعل من زائدة. قال بعضهم : تؤكل الكتف من أسفلها ويشق أكلها من أعلاها ، وهو مثل يضرب للجرب المتفطن للأمور.

(٢) متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

(٣) قوله «كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» في الصحاح : كاذنه لمن يتغنى ... الخ. (ع)

٥٦١

عبادتي (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في قراءة أبىّ : ولأبوىّ. وقرأ سعيد بن جبير : ولوالدي ، على الإفراد ، يعنى أباه. وقرأ الحسن بن على رضى الله عنهما : ولولدىّ ، يعنى إسماعيل وإسحاق. وقرئ : لولدي ، بضم الواو. والولد بمعنى الولد ، كالعدم والعدم. وقيل : جمع ولد ، كأسد في أسد. وفي بعض المصاحف : ولذرّيتى. فإن قلت : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : هو من مجوّزات العقل (١) لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف. وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء. وقيل : بشرط الإسلام. ويأباه قوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحا لا مقال فيه ، فكيف يستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أى يثبت ، وهو مستعار من قيام القائم على الرجل ، والدليل عليه قولهم : قامت الحرب على ساقها. ونحوه قولهم : ترجلت الشمس : إذا أشرقت وثبت ضوؤها ، كأنها قامت على رجل. ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازيا ، أو يكون مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وعن مجاهد : قد استجاب الله له فيما سأل ، فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته ، وجعل البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات. وجعله إماما ، وجعل في ذريته من يقيم الصلاة ، وأراه مناسكه ، وتاب عليه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) الآية ، رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)(٤٣)

فإن قلت : يتعالى الله عن السهو والغفلة ، فكيف يحسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس به غافلا حتى قيل (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً)؟ قلت : إن كان خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان. أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا ، كقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، كما جاء في الأمر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) والثاني : أنّ المراد بالنهى عن حسبانه غافلا ، الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون ، لا يخفى عليه منه شيء ، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) يريد الوعيد. ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه يعاملهم معاملة

__________________

(١) قوله «هو من مجوزات العقل» يعنى على مذهب المعتزلة أن العقل قد يدرك الحكم بدون شرع ، ومذهب أهل السنة أن لا حكم قبل الشرع حتى يدرك بدونه ، فافهم. (ع)

٥٦٢

الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، المحاسب على النقير والقطمير ، وإن كان خطابا لغيره ممن يجوز أن يحسبه غافلا ، لجهله بصفاته ، فلا سؤال فيه. وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له. من قال هذا؟ فغضب وقال : إنما قاله من علمه. وقرئ : يؤخرهم ، بالنون والياء (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أى أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي. وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم ، أى : لا يطرفون ، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم. الهواء : الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. ويقال للأحمق أيضا : قلبه هواء. قال زهير :

مِنَ الظُّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ (١)

لأنّ النعام مثل في الجبن والحمق. وقال حسان :

فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَوَاءُ (٢)

__________________

(١) كأن الرحل منها فوق صعل

من الظلمان جؤجؤه هواء

أصك مصلم الأذنين أجنى

له بالسن تنوم وآء

لزهير بن أبى سلمى يصف ناقته. والصعل : المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس. والظلمان : جمع ظليم وهو ولد النعام ، والجؤجؤ : الصدر. والهواء : الخالي الفارغ ، وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير إلى طعامه. والأصك : الذي تصطك ركبتاه عند المشي لطول رجليه. وصلمه : قطعه. والتصليم : مبالغة. ويقال : أجنى الثمر إذا أدرك ، وأجنت الأرض : كثر كلؤها وخصيها. والسن ، المكان المستوى واسم موضع بعينه. والتنوم ـ وزن تنور ـ : شجر تنفلق كمامه عن حب صغير تأكله أهل البادية ، يغلب على لونه السواد. قيل : وهو شجر الشهدانج. والآء : جنس من الشجر واحده آءة. وقيل : ثمر ذلك الشجر يطلق على نوع من الصوت : والتنوم : فاعل أجنى ، أى كثر له في ذلك المكان هذان النوعان.

(٢) ألا أبلغ أبا سفيان عنى

فأنت مجوف نخب هواء

بأن سيوفنا تركت عبيداً

وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمداً فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

فان أبى ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

لحسان يهجو أبا سفيان قبل إسلامه. وألا التنبيه ، والمأمور بالابلاغ غير معين ، وكان الظن أن يقول : فانه ، أى : أبا سفيان ، لكن خاطبه بالذم لأنه أغيظ. ويجوز أن المأمور أبو سفيان ، فهو منادى بحذف حرف النداء. والمجوف والنخب والهواء : خالي الجوف ، أو فارغ القلب من العقل والشجاعة. وروى بدل هذا الشطر «مغلغلة فقد برح الخفاء» والمغلغلة : الحارة من الغلة بالضم ، وهي شدة العطش والحرارة. وقيل. المنقولة من مكان لآخر ، ـ

٥٦٣

وعن ابن جريج (أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)(٤٧)

(يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) مفعول ثان لأنذر وهو يوم القيامة. ومعنى (أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب ، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة

__________________

ـ وبرح كسمع : ذهب وزال. وقيل : ظهر واتضح من براح الأرض وهو البارز منها ، فالخفا بمعنى التستر أو السر. وإسناد الترك للسيوف مجاز عقلى ، لأنها آلة للفعل. وعبيد بالتصغير قبيلة ، وكذلك عبد الدار ، وسادتها مبتدأ. والإماء خبره ، والجملة في محل المفعول الثاني لتركت ، أى صيرت عبيداً لا سادة لها إلا النساء ، وصيرت عبد الدار كذلك ، يعنى : أننا أفنينا رجالهما الرؤساء الأشراف ، فأشرافهما النساء لا غير ، بل يجوز أنهم سواء الحرائر أيضاً ، فلم يبق إلا الرقائق. وأتهجوه : استفهام توبيخي ، والواو بعده للحال ، أى : لا ينبغي ذلك شر وخير ، من قبيل أفعل التفضيل ، واختصا بحذف همزتهما تخفيفاً لكثرة استعمالهما ، لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان ، والجملة دعائية ، دعا عليه بأن يكون فداء الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام ، ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا : هذا نصف بيت قالته العرب ، فعليك بالانصاف وأمن يهجو : استفهام إنكارى ، أى ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين. ويحتمل أن الهمزة للتنبيه ، أو للنداء ، والمنادى محذوف ، أى : يا قوم أبى سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما وروى : فمن ، ولا بد من تقدير ، أى : من يهجوه ويخذله منكم ليقابل الخذلان النصر كالهجو والمدح ، ثم إن في هذا دليلا على جواز حذف الموصول ، وقد أجازه الكوفيون والأخفش ، وتبعهم أبو مالك ، وشرط كونه معطوفا على موصول آخر كما هنا. وقوله : ووالده ، أى والد أمى. ويروى : ووالدتي. والوقاء : ما يتوقى به المكروه ، كالترس وزن الحزام والرباط للمفعول به الفعل ، فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم الآلة ، ورأيت في كلام الزمخشري ما يفيد تسمية هذا الوزن باسم المفعول. وفي الهمع ما يفيد أنه جاء شاذا من أوزان الآلة ، كأراث لما تؤرث به النار ، أى تضرم به ، وسراد لما يسرد به ، أى يحزز به. ولما سمع صلى الله عليه وسلم قوله «وعند الله في ذلك الجزاء» قال : جزاك الله الجنة بإحسان. ولما سمع قوله «فان أبى» قال : وقال الله حر النار بإحسان. وتقريره صلى الله عليه وسلم على المكافأة بالذم ، يدل على الجواز.

٥٦٤

دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم : يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى ، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب ، كقوله (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ). (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) على إرادة القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا ، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه ، وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً. و (ما لَكُمْ) جواب القسم ، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله (أَقْسَمْتُمْ) ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا (مِنْ زَوالٍ) والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء. وقيل. لا تنتقلون إلى دار أخرى يعنى كفرهم بالبعث ، كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) يقال : سكن الدار وسكن فيها. ومنه قوله تعالى (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) لأنّ السكنى من السكون الذي هو اللبث ، والأصل تعدّيه بفي ، كقولك : قرّ في الدار وغنى فيها وأقام فيها ، ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل : تبوّأها وأوطنها. ويجوز أن يكون : سكنوا (١) ، من السكون ، أى : قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النفوس ، سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد ، لا يحدّثونها بما لقى الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم ، فيعتبروا ويرتدعوا (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بالإخبار والمشاهدة (كَيْفَ) أهلكناهم وانتقمنا منهم. وقرئ : ونبين لكم ، بالنون (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أى صفات ما فعلوا وما فعل بهم ، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أى مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) لا يخلوا إمّا أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأوّل ، على معنى : ومكتوب عند الله مكرهم ، فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه ، أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى : وعند الله مكرهم الذي يمكرهم (٢) به ، وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته ، أى : وإن كان مكرهم مسوى لإزالة الجبال. معداً لذلك ، وقد جعلت إن نافية واللام مؤكدة لها ، كقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أنّ الجبال مثل لآيات الله وشرائعه ، لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً. وتنصره قراءة ابن

__________________

(١) قوله «ويجوز أن يكون سكنوا» لعله : سكنتم. (ع)

(٢) قوله «وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به» الذي في الصحاح المكر : الاحتيال والخديعة ، وقد مكر به. والمكر أيضاً : المغرة ، وقد مكره فامتكر ، أي خضبه فاختضب اه ، وهو يفيد أن المكر بمعنى الاحتيال لا يتعدى بنفسه ، فتدبر. (ع

٥٦٥

مسعود : وما كان مكرهم. وقرئ : لتزول ، بلام الابتداء ، على : وإن كان مكرهم من الشدّة بحيث تزول منه الجبال ونتقلع من أماكنها. وقرأ على وعمر رضى الله عنهما : وإن كاد مكرهم (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) يعنى قوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) ، (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). فإن قلت : هلا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدم المفعول الثاني على الأوّل (١)؟ قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا ، كقوله (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ثم قال (رُسُلَهُ) ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ـ وليس من شأنه إخلاف المواعيد ـ كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ وقرئ : مخلف وعده رسله ، بجرّ الرسل ونصب الوعد. وهذه في الضعف كمن قرأ «قتل أولادهم شركائهم». (عَزِيزٌ) غالب لا يماكر (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٥١)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) انتصابه على البدل من يوم يأتيهم. أو على الظرف للانتقام. والمعنى : يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة ، وكذلك السموات. والتبديل : التغيير ، وقد يكون في الذوات كقولك : بدّلت الدراهم دنانير. ومنه (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) و (بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) وفي الأوصاف ، كقولك : بذلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً ، فنقلتها من شكل إلى شكل. ومنه قوله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) واختلف في تبديل الأرض والسموات ، فقيل : تبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها. وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت. وعن ابن عباس : هي تلك الأرض وإنما تغير ، وأنشد :

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت لم قدم المفعول الثاني على الأول ... الخ»؟ قال أحمد : وفيما قاله نظر ، لأن الفعل متى تقيد بمفعول انقطع إطلاقه ، فليس تقديم الوعد في الآية دليلا على إطلاق الفعل باعتبار الموعود ، حتى يكون ذكر الرسل بائناً كالأجنبى من الإطلاق الأول ، ولا فرق في المعنى الذي ذكره بين تقديم ذكر الرسل وتأخيره ولا يفيد تقديم المفعول الثاني إلا الإيذان بالعناية في مقصود المتكلم والأمر بهذه المثابة في الآية ، لأنها وردت في سياق الانذار والتهديد للظالمين بما توعدهم الله تعالى به على ألسنة الرسل ، فالمهم في التهديد ذكر الوعيد. وأما كونه على ألسنة الرسل فذلك أمر لا يقف التخويف عليه ولا بد ، حتى لو فرض التوعد من الله تعالى على غير لسان رسول ، لكان الخوف منه حسبياً كافياً ، والله أعلم.

٥٦٦

وَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الّذِينَ عَهِدْتَهُمْ

وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الّتِى كُنْتَ تَعْلَمُ (١)

وتبدّل السماء بانتثار كواكبها ، وكسوف شمسها ، وخسوف قمرها ، وانشقاقها ، وكونها أبوابا. وقيل : يخلق بدلها أرض وسموات أخر. وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطئ عليها أحد خطيئة. وعن على رضى الله عنه : تبدّل أرضا من فضة ، وسموات من ذهب. وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف. وقرئ : يوم نبدّل الأرض ، بالنون (٢). فإن قلت : كيف قال (الْواحِدِ الْقَهَّارِ)؟ قلت : هو كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) لأنّ الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب ولا يعازّ فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، كان الأمر في غاية الصعوبة والشدّة (مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض. أو مع الشياطين. أو قرنت أيديهم ألى أرجلهم مغللين. وقوله (فِي الْأَصْفادِ) إمّا أن يتعلق بمقرّنين ، أى : يقرنون في الأصفاد. وإمّا أن لا يتعلق به ، فيكون المعنى : مقرّنين مصفدين. والأصفاد : القيود : وقيل الأغلال ، وأنشد لسلامة بن جندل :

وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَدْ لَاقَى صِفَاداً

بَعَضُّ بِسَاعِدٍ وَبِعَظْمِ سَاقِ (٣)

القطران : فيه ثلاثة لغات : قطران ، وقطران ، وقطران : بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ، وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ، فتهنأ به الإبل الجربي ، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته ، والجلد ، وقد تبلغ حرارته الجوف ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به ، وهو أسود اللون منتن الريح ، فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ، لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران. وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين ، وكل ما وعده الله أو وعد به في الآخرة ، فبينه وبين ما نشاهد من جنسه من لا يقادر قدره ، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامى والمسميات ثمة ، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ، ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه. وقرئ : من قطران ، والقطر : النحاس أو الصفر المذاب. والآنى : المتناهي حرّه (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كقوله تعالى (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) ، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى

__________________

(١) يقول : ليس الناس اليوم هم الناس الذين عهدتهم سابقا ، لفناء الأحياء من بينهم ، وليست الدار اليوم هي الدار التي كنت تعلمها ، لتبدل أحوالها وتغير أوصافها.

(٢) قوله «وقرئ نبدل الأرض بالنون» لعله ونصب الأرض والسماوات ، فلتحرر. القراءة. (ع)

(٣) لسلامة بن جندل. وزيد الخيل : هو الذي سماء النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير. قد لاقى : أى نال من أعدائه صفادا ، أى قيدا وغلا. واستعار العض لقرص الصفاد اليابس الصلب على طريق التصريحية ، والباء للإلصاق ، وأقحم لفظ العظم للمبالغة في العض حتى وصل العظم.

٥٦٧

وُجُوهِهِمْ) لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ، ولذلك قال (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) وقرئ : وتغشى وجوههم ، بمعنى تتغشى : أى يفعل بالمجرمين ما يفعل (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ) مجرمة (ما كَسَبَتْ) أو كل نفس من مجرمة ومطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم على أنه يثيب المطيعين لطاعتهم.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) كفاية في التذكير والمواعظة ، يعنى بهذا ما وصفه من قوله (فَلا تَحْسَبَنَ) إلى قوله (سَرِيعُ الْحِسابِ). (وَلِيُنْذَرُوا) معطوف على محذوف ، أى لينصحوا ولينذروا (بِهِ) بهذا البلاغ. وقرئ : ولينذروا ، بفتح الياء ، من نذر به إذا علمه (١) واستعدّ له (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به ، دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد ، لأنّ الخشية أمّ الخير كله.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة إبراهيم أُعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» (٢)

__________________

(١) قوله «من نذر به إذا علمه» في الصحاح : نذر القوم بالعدو ـ بكسر الذال ـ إذا علموا. (ع)

(٢) يأتى إسناده في آخر الكتاب.

٥٦٨

سورة الحجر

مكية [إلا آية ٨٧ فمدنية]

وهي تسع وتسعون آية [نزلت بعد سورة يوسف]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)(١)

(تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات. والكتاب ، والقرآن المبين : السورة. وتنكير القرآن للتفخيم. والمعنى : تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأى قرآن مبين ، كأنه قيل : الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٣)

قرئ : ربما ، وربتما. بالتشديد. وربما ، وربما : بالضم والفتح مع التخفيف. فإن قلت : لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت : لأن المترقب في إخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : ربما ودّ. فإن قلت : متى تكون ودادتهم؟ قلت : عند الموت ، أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين. وقيل : إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار ، وهذا أيضاً باب من الودادة. فإن قلت : فما معنى التقليل؟ (١) قلت : هو وارد على

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت : ما معنى تقليل ودادتهم ... الخ»؟ قال أحمد : لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدى عكس مقصوده كثيراً ، ومنه قوله :

قد أترك القرآن مصفراً أنامله

وإنما يمتدح بالإكثار من ذلك ، وقد عبر بقد المفيدة للتقليل ، ومنه والله أعلم. (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) والمقصود توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم ، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك ، فمنهم من وجهه بما ذكره الزمخشري آنفا من التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد ، وذلك شأن كل ما انتهى لنهايته أن يعود إلى عكسه. وقد أفصح أبو الطيب ذلك بقوله :

٥٦٩

مذهب العرب في قولهم : لعلك ستندم على فعلك ، وربما ندم الإنسان على ما فعل ، ولا يشكون في تندمه ، ولا يقصدون تقليله ، ولكنهم أرادوا : لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل ، لأنّ العقلاء يتحرّزون من التعرّض للغم المظنون ، كما يتحرّزون من المتيقن ومن القليل منه ، كما من الكثير ، وكذلك المعنى في الآية : لو كانوا يودّون الإسلام مرة واحدة ، فبالحرى أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودّونه في كل ساعة (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) حكاية ودادتهم ، وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم ، كقولك : حلف بالله ليفعلنّ. ولو قيل : حلف بالله لأفعلنّ ، ولو كنا مسلمين ، لكان حسناً سديداً. وقيل : تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين ، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكوتهم تمنوا ، فلذلك قلل (ذَرْهُمْ) يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم عن النهى عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة ، وخلهم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم (١) وتنفيذ شهواتهم ، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال ، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم. والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك ، فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته ، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما في العاقبة. وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه. وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدّى إليه طول الأمل. وهذه هجيرى أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم : التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)(٥)

(وَلَها كِتابٌ) جملة واقعة صفة لقرية ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما يقال في الحال : جاءني زيد عليه ثوب ، وجاءني وعليه ثوب. كتاب (مَعْلُومٌ) مكتوب معلوم ،

__________________

 ـ ولجدت حتى كدت تنخل حائلا

للمنتهى ومن السرور بكاء

وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها ، والعمدة في ذلك على سياق الكلام ، لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيراً ، فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع بأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين ، والله أعلم.

(١) قوله «ويتمتعوا بدنياهم» في الصحاح : سميت الدنيا لدنوها ، والجمع دنى ، مثل الكبرى والكبر ، والصغرى والصغر. (ع)

٥٧٠

وهو أجلها الذي كتب في اللوح وبين ، ألا ترى إلى قوله (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) في موضع كتابها ، وأنث الأمّة أوّلا ثم ذكرها آخرا ، حملا على اللفظ والمعنى : وقال (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) بحذف «عنه» لأنه معلوم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٦)

قرأ الأعمش : يا أيها الذي ألقى عليه الذكر ، (١) وكأن هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء ، كما قال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وكيف يقرّون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون. والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم مذهب واسع. وقد جاء في كتاب الله في مواضع ، منها (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وقد يوجد كثيراً في كلام العجم ، والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أنّ الله نزل عليك الذكر.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٧)

«لو» ركبت مع «لا» و «ما» لمعنيين : معنى امتناع الشيء لوجود غيره ، ومعنى التحضيض ، وأما «هل» فلم تركب إلا مع «لا» وحدها للتحضيض : قال ابن مقبل :

لَوْ مَا الْحَيَاءُ وَلَوْ مَا الدّينُ عِبْتُكُمَا

بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِى (٢)

والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك ، كقوله تعالى (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أو : هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقا كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ)(٨)

قرئ : تنزل ، بمعنى تتنزل وتنزل على البناء للمفعول من نزل ، وننزل الملائكة : بالنون ونصب الملائكة (إِلَّا بِالْحَقِ) إلا تنزلا ملتبساً بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنكم حينئذ مصدّقون عن اضطرار. ومثله قوله تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) وقيل : الحق

__________________

(١) قوله «الذي ألقى عليه الذكر» لعله : إليه. (ع)

(٢) لابن مقبل ، ولو لا ولو ما : أصلهما «لو» التي تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره ، فركبت مع «لا» و «ما» النافيتين. فأفادت معهما امتناع الشيء لوجود غيره ، لأن نفى النفي إثبات ، فان لم يكن لها جواب أفادت معهما في المضارع التحضيض ، وفي غيره التنديم أو التوبيخ ، يقول : لو لا الحياء موجود ، ولو ما الدين موجود لعبتكما ببعض ما فيكما من العيوب ، لأنكما عبتمانى بعورى ، أو عدد تموه عيبا.

٥٧١

الوحى أو العذاب. و (إِذاً) جواب وجزاء ، لأنه جواب لهم وجزاء لشرط مقدر تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم واستهزائهم (١) في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه رصد ، حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل ، بخلاف الكتب المتقدمة ، فإنه لم يتول حفظها. وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فكان التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه. فإن قلت : فحين كان قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رداً لإنكارهم واستهزائهم ، فكيف اتصل به قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)؟ قلت : قد جعل ذلك دليلا على أنه منزل من عنده آية ، لأنه لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه. وقيل : الضمير في (لَهُ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١١)

(فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم وطوائفهم. والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة. ومعنى أرسلناه فيهم : نبأناه فيهم وجعلناه رسولا فيما بينهم (وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية ، لأنّ «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(١٣)

يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، وأسلكته إذا أدخلته فيها ونظمته. وقرئ : نسلكه ،

__________________

(١) قال محمود : «هذا رد لانكارهم واستهزائهم ... الخ» قال أحمد : ويحتمل أن يراد حفظه مما يشينه من تناقض واختلاف لا يخلو عنه الكلام المفترى ، وذلك أيضا من الدليل على أنه من عند الله ، كما قال تعالى في آية أخرى (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

٥٧٢

للذكر ، أى : مثل ذلك السلك ، ونحوه : نسلك الذكر في (قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) على معنى أنه يلقيه في قلوبهم (١) مكذباً مستهزآً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام ، تعنى مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. ومحل قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) النصب على الحال ، أى غير مؤمن به. أو هو بيان لقوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ). (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)

قرئ (يَعْرُجُونَ) بالضم والكسر. و (سُكِّرَتْ) حيرت أو حبست من الإبصار ، من السكر أو السكر. وقرئ : سكرت بالتخفيف (٢) أى حبست كما يحبس النهر من الجري. وقرئ : سكرت من السكر ، أى حارت كما يحار السكران. والمعنى أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد : أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا : هو شيء نتخايله لا حقيقة له ، ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك. وقيل : الضمير للملائكة ، أى : لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك. وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال : إنما ، ليدل على أنهم يبتون القول بأنّ ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار.

__________________

(١) قال محمود : «معناه يلقيه في قلوبهم مكذبا به ... الخ» قال أحمد : والمراد والله أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين ، فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن ، فأعلمهم الله تعالى من الآن وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم. ولذلك عقبه الله تعالى بقوله (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) أى هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه ، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وشيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم أوضح السبيل وأدعاها إلى الايمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يفتح لهم بابا في السماء ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منه نهارا. وإلى ذلك الاشارة بقوله (فَظَلُّوا) لأن الظلول إنما يكون نهارا ، لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف : إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد ، وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها ، فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب ، وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كله حاصل لهم وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غير والله أعلم.

(٢) قوله : وقرئ (سُكِّرَتْ) بالتخفيف : لعل هذا من السكر بالفتح كما أن ما يأتى من السكر بالضم. (ع)

٥٧٣

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)(٢٠)

(مَنِ اسْتَرَقَ) في محل النصب على الاستثناء. وعن ابن عباس : أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات ، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد منعوا من السموات كلها (شِهابٌ مُبِينٌ) ظاهر للمبصرين (مَوْزُونٍ) وزن بميزان الحكمة ، وقدّر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل : ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها (مَعايِشَ) بياء صريحة ، بخلاف الشمائل والخبائث ونحوهما ، فإن تصريح الياء فيها خطأ ، والصواب الهمزة ، أو إخراج الياء بين بين. وقد قرئ : معايش ، بالهمزة على التشبيه (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على معايش ، أو على محل لكم ، كأنه قيل : وجعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم من لستم له برازقين ، أو : وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين. وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون ، فإنّ الله هو الرزاق ، يرزقهم وإياهم ، ويدخل فيه الأنعام والدواب وكل ما بتلك المثابة ، مما الله رازقه ، وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون. ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفاً على الضمير المجرور في (لَكُمْ) لأنه لا يعطف على الضمير المجرور.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٢١)

ذكر الخزائن تمثيل. والمعنى : وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له ، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ)(٢٢)

(لَواقِحَ) فيه قولان ، أحدهما : أنّ الريح لا قح إذا جاءت بخير ، من إنشاء سحاب ماطر كما قيل التي لا تأتى بخير : ريح عقيم. والثاني : أن اللواقح بمعنى الملاقح ، كما قال :

٥٧٤

وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ (١)

يريد المطاوح جمع مطيحة. وقرئ : وأرسلنا الريح ، على تأويل الجنس (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فجعلناه لكم سقيا (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) كأنه قال : نحن الخازنون للماء ، على معنى : نحن القادرون على خلقه في السماء وإنزاله منها ، وما أنتم عليه بقادرين : دلالة على عظيم قدرته وإظهاراً لعجزهم.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

(وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) أى الباقون بعد هلاك الخلق كله. وقيل للباقي «وارث» استعارة من وارث الميت ، لأنه يبقى بعد فنائه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه «واجعله الوارث منا» (٢) (وَلَقَدْ عَلِمْنَا) من استقدم ولادة وموتاً ، ومن تأخر من الأوّلين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة

__________________

(١) ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

لضرار بن نهشل يرثى أخاه يزيد بن نهشل. وقيل : غير ذلك. وليبك : مبنى للمفعول ، واللام للطلب ، ويزيد نائب الفاعل ، وضارع فاعل لفعل محذوف ، وفي الكلام سؤال مقدر ، كأنه قيل : من يبكيه؟ فقيل يبكيه ضارع وهو الدليل ، ومختبط وهو السائل ، كأنه يختبط أبواب المسئولين. وما مصدرية ، وتطيح تهلك. وقال الجوهري : طوحته الطوايح قذفته القواذف ، ولا يقال : المطوحات ، وهو من النوادر ، والقياس المطيحات من أطاح. أو المطوحات من طوح. وقال الأصمعى : هو جمع طائحة. يقال : ذهبت طائحة من العرب أى طائفة منها. أى : يبكيه المختبط من أجل إهلاك الطوائح ماله ، فما متعلق بمختبط. وقيل : يجوز تعلقه بالفعل المقدر ، كقوله الخصومة. ونقل العصام عن العارف الرومي : أن يزيد منادى ، وحرف النداء محذوف ، وضارع نائب الفاعل ، لأن الضارع والمختبط أحق بالبكاء عليهما بعد يزيد الذي كان يغيثهما. وروى ليبك يزيد بالبناء للفاعل ونصب يزيد ، فضارع فاعل للفعل المذكور ، ولو ضم يزيد على النداء لجاز هنا أيضا ، أى : ليبك عليك يا يزيد ضارع ومختبط.

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي والبزار. والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال «فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات : اللهم اقسم لنا من خشيتك ـ الحديث» وفيه «واجعله الوارث منا» قال الترمذي : حديث حسن وقال البزار : تفرد به عبد الله بن رواحة. وهو واهى الحديث ، وأخرج من رواية حبيب بن أبى ثابت عن عروة عن عائشة «أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم عافني في جسدي ، وعافني في بصرى ، واجعله الوارث منى» وأخرجه أبو يعلى أيضا ، وفي الترمذي والحاكم من حديث أبى هريرة قال «كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم متعني بسمعي وبصرى واجعلهما الوارث منى» وفي الطبراني والأوسط عن على رضى الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ـ فذكر مثله.

٥٧٥

ومن تأخر. وقيل : المستقدمين في صفوف الجماعة والمستأخرين. وروى أن امرأة حسناء كانت في المصليات خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بعض القوم يستقدم لئلا ينظر إليها ، وبعض يستأخر ليبصرها فنزلت (١) (هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أى هو وحده القادر على حشرهم ، والعالم بحصرهم مع إفراط كثرتهم وتباعد أطراف عددهم (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) باهر الحكمة واسع العلم ، يفعل كل ما يفعل على مقتضى الحكمة والصواب ، وقد أحاط علماً بكل شيء.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)(٢٧)

الصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا : إذا توهمت في صوته مدّا فهو صليل ، وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة. وقيل : هو تضعيف «صل» إذا أنتن. والحمأ : الطين الأسود المتغير. والمسنون : المصوّر ، من سنة الوجه (٢) ، وقيل : المصبوب المفرغ ، أى : أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. وقيل : المنتن ، من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنين ، ولا يكون إلا منتنا (مِنْ حَمَإٍ) صفة لصلصال ، أى : خلقه من صلصال كائن من حمأ وحق (مَسْنُونٍ) بمعنى مصور ، أن يكون صفة لصلصال ، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر (وَالْجَانَ) للجن كآدم للناس. وقيل : هو إبليس. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : والجأن ، بالهمز (مِنْ نارِ السَّمُومِ) من نار الحرّ الشديد النافذ في المسام. قيل : هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجانّ.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ

__________________

(١) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأبو يعلى وأحمد والبزار والطبري وابن أبى حاتم من رواية أبى الجوزاء أوس بن عبد الله عن ابن عباس. قال «كانت امرأة حسناء من أحسن الناس تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لأن لا يراها أو يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف الآخر. فإذا ركع نظر من تحت إبطه. فأنزل الله هذه الآية. قال البزار : لا نعلم رواه ابن عباس ولا له طريق إلا هذه. وقال الترمذي : روى عن أبى الجوزاء مرسلا ، وهو أشبه اه.

(٢) قوله «من سنة الوجه» في الصحاح : سنة الوجه صورته. (ع)

٥٧٦

كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)(٤٤)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) واذكر وقت قوله (سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها. ومعنى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وأحييته ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ ، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. واستثنى إبليس من الملائكة ، لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً. و (أَبى) استئناف على تقدير قول قائل يقول : هلا سجد؟ فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه. وقيل : معناه ولكن إبليس أبى. حرف الجر مع «أن» محذوف. وتقديره «مالك» في (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) بمعنى أىّ غرض لك في إبائك السجود. وأى داع لك إليه. اللام في (لِأَسْجُدَ) لتأكيد النفي. ومعناه : لا يصحّ منى وينافي حالى. ويستحيل أن أسجد لبشر (رَجِيمٌ) شيطان من الذين يرجمون بالشهب ، أو مطرود من رحمة الله ، لأن من يطرد يرجم بالحجارة. ومعناه : ملعون ، لأن اللعن هو الطرد من الرحمة والإبعاد منها. والضمير في (مِنْها) راجع إلى الجنة أو السماء ، أو إلى جملة الملائكة. وضرب يوم الدين حداً للعنة ، إما لأنه غاية يضربها الناس في كلامهم ، كقوله (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) في التأبيد. وإما أن يراد أنك مذموم مدعوّ عليك باللعن في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن تعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت

٥٧٧

بما ينسى اللعن معه. و (يَوْمِ الدِّينِ) و (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) و (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) في معنى واحد ، ولكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريقة البلاغة. وقيل : إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت ، لأنه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك ، وأُنظر إلى آخر أيام التكليف (بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم. و «ما» مصدرية وجواب القسم (لَأُزَيِّنَنَ) المعنى : أقسم بإغوائك إياى لأزينن لهم. ومعنى إغوائه إياه : تسبيبه لغيه ، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام ، فأفضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيه (١) ومن إرادته والرضا به ، ونحو قوله (بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) : قوله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) في أنه إقسام ، إلا أن أحدهما إقسام بصفته والثاني إقسام بفعله ، وقد فرق الفقهاء بينهما. ويجوز أن لا يكون قسما ، ويقدر قسم محذوف ، ويكون المعنى : بسبب تسبيبك لإغوائى أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بى من التسبيب لإغوائهم ، بأن أزين لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم (فِي الْأَرْضِ) في الدنيا التي هي دار الغرور ، كقوله تعالى (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أو أراد أنى أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا علىّ التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد : لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأوقعن تزييني فيها ، أى : لأزيننها في أعينهم ولأحدّثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها ، حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها. ونحوه :

يَجْرَحْ فِى عَرَاقِيبِهَا نَصْلِى (٢)

__________________

(١) قوله «والله تعالى بريء من غيه» هذا على مذهب المعتزلة : أن الله لا يريد الشر ولا يخلقه. ومذهب أهل السنة : أن كل كائن فهو يخلقه تعالى وإرادته ، خيراً كان أو شرا ، وإن كان لا يرضى الشر من العبد ، وتفصيله في التوحيد. (ع)

(٢) وما لام من يوم أخ وهو صادق

إخالى ولا اعتلت على ضيفها إبلى

إذا كان فيها الرسل لم تأت دونه

فصالى ولو كانت عجافا ولا أهلى

وإن تعتذر بالمحل عن ذى ضروعها

إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلى

لذي الرمة يمدح نفسه ، والإخاء مصدر آخاه ، كالوفاق مصدر وافقه ، والصحاب مصدر صاحبه ، وزنا ومعنى. يقول : وما لام أخ من يوم أى في يوم. وعبر بمن لإشعارها بالاستغراق. أى : لم يلم ، والحال أنه صادق في لومه ، أو في أخوته مصاحبة لي معه ، وقصر الإخاء للوزن ، وضمن لام معنى عاب ، فعداه إليه. ويجوز أن إيقاع اللوم عليه مجاز عقلى ، لأن الإخاء كأنه محل اللوم ، ولا اعتلت أى أبدت لضيفها علة في التأخر عن قراه ، وإسناد الفعل للإبل وإضافة الضيف إليها لأنها محل قراه ، وذلك كناية عن غاية كرمه ، ويجوز أن إسناد الفعل إليها مجاز عقلى ، لأنها سبب في اعتلال صاحبها للضيف عنها إذا كان بخيلا ، وإضافة الضيف إليها ترشيح لذلك. ويحتمل أنه شبه الإبل بالكرماء على طريق المكنية ، فذلك تخييل ، وبين عدم الاعتلال ـ

٥٧٨

استثنى المخلصين ، لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. أى (هذا) طريق حق (عَلَيَ) أن أراعيه ، وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي ، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته : وقرئ علىّ ، وهو من علو الشرف والفضل (لَمَوْعِدُهُمْ) الضمير للغاوين. وقيل : أبواب النار أطباقها وأدراكها ، فأعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس رضى الله عنه : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين. وقرئ : جزء ، بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الزهري : جزّ ، بالتشديد ، كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاى ، كقولك : خبّ في خبء ، ثم وقف عليه بالتشديد ، كقولهم : الرجل ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)

المتقى على الإطلاق : من يتقى ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : اتقوا الكفر والفواحش ، ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها (ادْخُلُوها) على إرادة القول. وقرأ الحسن : أدخلوها (بِسَلامٍ) سالمين أو مسلما عليكم : تسلم عليكم الملائكة. الغل : الحقد الكامن في القلب ، من انغل في جوفه وتغلغل ، أى : إن كان لأحدهم في الدنيا غلّ على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم. وعن علىّ رضى الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم. وعن الحرث الأعور : كنت جالساً عنده إذ جاء ابن طلحة فقال له علىّ :

__________________

ـ بقوله «إذا كان فيها الرسل» وهو اللبن القليل ، ويطلق على الجمل السهل ، لم تأت دونه : أى قريبا من اللبن. فصالى : جمع فصيل ، وهو ولد الناقة. ونفى قربها كناية عن نفى ارتضاعها له ، ولو كانت عجافا : أى مهازيل ، ولا أهلى : ولا جياعا ، وإن تعتذر الإبل بالمحل والجدب ، عن ذى ضروعها : كناية عن اللبن ، لأنه ملازم للضروع يجرح نصلى : أى سيفي أو سهمي في عراقيبها ، وهي بمنزلة الركب للإنسان ، وإسناد الاعتذار إليها مجاز ، وكذلك إسناد الجرح للنصل ، لأنه آلته. ومعنى الجرح في العراقيب : أنه يجعلها مكانا معداً له ، ولو قال : يجرح عراقيبها ، لفات ذلك المعنى. وقيل : ضمنه معنى يعثو أى يفد ، وكانت عادة العرب أن يفصدوا الإبل ويجمعوا دماءها ويضعوها على النار فتصير كالكبد ، ويقرون بها الضيفان في الجدب ، فحرمه الله : ويجوز أنه كناية عن نحرها ، لأنهم كانوا يعقرون الجمل الصعب قبل نحره ليسهل عليهم ، وهذا هو الذي يقتضيه مقام المدح.

٥٧٩

مرحبا بك يا ابن أخى. أما والله إنى لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) فقال له قائل : كلا ، الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد ، فقال : فلمن هذه الآية لا أمّ لك (١)؟ وقيل : معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ، ونزع منها كل غل ، وألقى فيها التوادّ والتحاب. و (إِخْواناً) نصب على الحال. و (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) كذلك. وعن مجاهد. تدور بهم الأسرة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٥٠)

لما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه (نَبِّئْ عِبادِي) تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس. وعن ابن عباس رضى الله عنه : غفور لمن تاب ، وعذابه لمن لم يتب. وعطف (وَنَبِّئْهُمْ) على نبئ عبادي ، ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)(٥٦)

(سَلاماً) أى نسلم عليك سلاماً ، أو سلمت سلاماً (وَجِلُونَ) خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل. وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت. وقرأ الحسن : لا توجل ، بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه. وقرئ : لا تأجل. ولا تواجل ، من واجله بمعنى أوجله. وقرئ (نُبَشِّرُكَ) بفتح النون والتخفيف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى التعليل للنهى عن

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط والعقيلي وابن سعد من طريق الحارث الأعور قال : كنت عند على بن أبى طالب إذ جاءه عمران بن طلحة فذكره ـ وفيه «فقال الحرث ـ يعنى الراوي ـ : الله أجل وأعدل من ذلك وله طريق أخرى أخرجها الحاكم من طريق ربعي بن خراش قال «إنى لعند على جالس إذ جاءه ابن طلحة ، فسلم عليه فرحب به ، فقال : ترحب بى يا أمير المؤمنين ، وقد قلت والدي ، وأخذت مالى؟ قال : أما مالك فهو معزول في بيت المال ، أعد إليه فخذه. وأما أبوك فانى أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) الآية فقال رجل من همدان ، فذكره. ورواه الحاكم أيضا والطبري من طريق أبى حبيبة مولى طلحة قال : دخل عمران بن طلحة على على رضى الله عنه. وذكر نحوه.

٥٨٠