الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

رضى الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، أى كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم ، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضى الله عنه (١) : ولا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه. اقرموا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين. فهل فيها من رخصة؟ (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أمروا بأن يصحبوه على البأساء. والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعزُ نفس عند الله وأكرمها عليه ، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدّة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت (٢) فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا ، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربئوا (٣) بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهى بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله: ما كان لهم أن يتخلفوا ، من وجوب مشايعته ، كأنه قيل ذلك الوجوب «ب» سبب (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) شيء من عطش ، ولا تعب. ولا مجاعة في طريق الجهاد ، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم ، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) ولا يرزءونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله ، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر ، كقوله عليه السلام (٤) : «آخر وطأة وطئها الله بوج (٥)» والموطئ إمّا مصدر كالمورد ، وإمّا مكان. فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطؤه. والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ، وأن يكون بمعنى المنيل. ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه ، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكيهم ويلحق بهم ضرراً. وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من رواية وهب بن جرير عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن أبيه ، موقوفا وكذا أخرجه إسحاق في مسنده عن وهب ورواه البيهقي في الشعب مختصراً. ورواه الحاكم مرفوعا بما من رواية أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه «لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجزه».

(٢) قوله «تتهافت» أى تتساقط. (ع)

(٣) قوله «يربئوا» أى يرتفعوا. اه من الصحاح. (ع)

(٤) أخرجه أحمد وابن سعد والطبراني والبيهقي في الأسماء من حديث يعلى بن مرة الثقفي في أثناء حديث وأخرجه إسحاق والبيهقي أيضاً والطبراني من رواية عمر بن عبد العزيز قال : زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم.

(٥) قوله «بوج» هي بلد بالطائف اه صحاح. (ع)

٣٢١

ومشى وكلام وغير ذلك ، وكذلك الشر. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة ، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم ، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضى الحرب (١) ، وأمدّ أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه المهاجر بن أبى أمية وزياد بن أبى لبيد بعكرمة بن أبى جهل مع خمسمائة نفس ، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم (٢). عند الشافعي : لا يشارك المدد الغانمين. وقرأ عبيد ابن عمير : ظماء بالمدّ. يقال : ظمئ ظماءة وظماء (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة ولو علاقة سوط (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أى أرضاً في ذهابهم ومجيئهم ، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال. ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. يقولون : لا تصلّ في وادى غيرك (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك من الإنفاق وقطع الوادي : ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله (لِيَجْزِيَهُمُ) متعلق بكتب أى أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)

اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن (٣).

__________________

(١) لم أره هكذا. وقد عزاه الطيبي لأبى داود والترمذي. وفي الصحيحين عن أبى موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي. أنا أصغرهم ـ الحديث قال : فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا أصحاب سفينتنا».

(٢) أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب «أن أبا بكر بعث عكرمة بن أبى جهل ممدا للمهاجر بن أبى أمية ، وزياد بن أسد. فانتهوا إلى القوم وقد فتح عليهم. قال : فأشركهم في الغنيمة» رواه الواقدي في المغازي : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عقبة عن الحرث بن فضيل قال : لما جاء كتاب زياد بن لبيد ـ فذكر نحوه.

(٣) قال محمود : «معناه أن نفير الكافة لطلب العلم غير ممكن ... الخ». قال أحمد : قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) على التفسير الأول : أمر لا نهى. وعلى الثاني : خبر والمراد به النهى ، لأنه في الأول راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه ، وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزاً أو واجبا ، وإن لم يمكن وجب على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية. وأما في الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد أجمعين وكان ذلك ممكنا بل واقعا ، فنهوا عن إطراح التفقه بالكلية وأمروا به أمر كفاية والله أعلم. قال أحمد : ولا أجد في تأخرى عن حضور الغزاة عذراً إلا صرف الهمة لتحذير هذا المصنف ، فانى تفقهت في أصل الدين وقواعد العقائد مؤيداً بآيات الكتاب العزيز مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء ، وأنا مع ذلك أرجو من الله حسن التوجه بلغنا الله الخير ، ووفقنا لما يرضيه ، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.

٣٢٢

وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب ، لوجوب التفقه على الكافة ، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة (فَلَوْ لا نَفَرَ) فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة ، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّداء الضرائر بينهم ، وانقلاب حماليق أحدهم (١) إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شر ذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم ، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً). (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً. ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثا ـ بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد ـ استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحى والتفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله (لِيَتَفَقَّهُوا) الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف ، النافرة من بينهم ، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)

(يَلُونَكُمْ) يقربون منكم ، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم (٢) ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم غزا الشأم. وقيل : هم قريظة والنضير وفدك

__________________

(١) قوله «وانقلاب حماليق أحدهم» الحماليق : هي ما يسوده الكحل من باطن الجفن. وقيل : ما غطته الأجفان من بياض المقلة. اه من الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ... الخ» قال أحمد : يتعين القتال على أحد فريقين : إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه ، ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا. وإما من عينهم الامام لذلك وإن بعدت بهم الدار. وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره ، فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.

٣٢٣

وخيبر. وقيل : الروم ، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى. وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال : عليك بالروم. وقرئ (غِلْظَةً) بالحركات الثلاث ، فالغلظة كالشدّة ، والغلظة كالضغطه ، والغاظة كالسخطة ونحوه (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ* وَلا تَهِنُوا) وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر ، ومنه (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ). (مَعَ الْمُتَّقِينَ) ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ)(١٢٥)

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به. وأيكم : مرفوع بالابتداء. وقرأ عبيد بن عمير : أيكم ، بالفتح على إضمار فعل يفسره (زادَتْهُ) تقديره : أيكم زادت زادته هذه إيمانا (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفراً مضموما إلى كفرهم ، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحى كفراً ونفاقا ، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

قرئ : ولا يرون ، بالياء والتاء (يُفْتَنُونَ) يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم ، ولا يذكرون ، ولا يعتبرون ، ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى (١)

__________________

(١) قال محمود : «معناه تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى ... الخ» قال أحمد : يحتمل الدعاء كما فسره. ويحتمل

٣٢٤

وسخرية به قائلين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون : هل يراكم من أحد. وقيل : معناه : إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يتدبرون حتى يفقهوا.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

(مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم ومن نسبكم عربى قرشي مثلكم ، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أى شديد عليه شاق ـ لكونه بعضاً منكم ـ عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وقرئ : من أنفسكم ، أى من أشرفكم وأفضلكم. وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضى الله عنهما. وقيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه ، فهو كافيك معرّتهم (١) ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم. وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن ابن عباس رضى الله عنه : العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبىّ ابن كعب : آخر آية نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نزل علىّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً ، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا علىّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» (٢)

__________________

ـ الاخبار بأن الله صرف قلوبهم أى منعها من تلقى الحق بالقبول ، ولكن الزمخشري يفر من جعله خبرا لأن صرف القلوب عن الحق لا يجوز على الله تعالى عنده ، بناء على قاعدة الصلاح والأصلح ، ولا يزال يؤول الظاهر إذا اقتضى ذلك كما مر له في قوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلما احتملت هذه الآية الدعاء والخبر على حد سواء ، تعين عنده جعلها دعاء ، ثم في هذا الدعاء مناسبة الفعل الصادر منهم وهو الانصراف ، كقوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وكقوله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ).

(١) قوله «فهو كافيك معرتهم» المعرة : الإثم ، كذا في الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الثعلبي من حديث عائشة بإسناد واه.

٣٢٥

سورة يونس

مكية ، [إلا الآيات ٤٠ و ٩٤ و ٩٥ و ٩٦ فمدنية]

وهي مائة وتسع آيات [نزلت بعد الإسراء]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

(الر) تعديد للحروف على طريق التحدي. و (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة. و (الْحَكِيمِ) ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها. أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى :

وَغَرِيبَةٍ تَأْتِى المُلُوكَ حَكِيمَة

قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا (١)

الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه. و (أَنْ أَوْحَيْنا) اسم كان ، وعجباً : خبرها. وقرأ ابن مسعود : عجب ، فجعله اسماء وهو نكرة و (أَنْ أَوْحَيْنا) خبراً وهو معرفة ، كقوله :

يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاء (٢)

__________________

(١) للأعشى. أى : ورب قصيدة غريبة حكيمة ناطقة بالحكمة دالة عليها ، أو حكيم قائلها ، فهو من الاسناد للسبب ، لأنها سبب في وصف قائلها بالحكمة. قد قلتها ليتعجب الناس ويقولوا من هذا الشاعر البليغ الذي قالها. وذا : اسم إشارة في لغة الحجاز ، واسم موصول في لغة طيئ ، وهي أقرب هنا ، فجملة «قالها» صلة الموصول.

(٢) كأن سلافة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

على أنيابها أو طعم غصن

من التفاح هصره اجتناء

لحسان بن ثابت قبل تحريم الخمر. والسلافة : أول ما يسيل من ماء العنب. ويروى «سبيئة» أى مشتراة. يقال : سبأ الخمر كنصر ، إذا اشتراها. ويروى خبيئة : أى مصونة في الخابية. وبيت رأس : قرية بالشام. وقيل :

٣٢٦

والأجود أن تكون «كان» تامّة ، وأن أوحينا بدلا من عجب. فإن قلت : فما معنى اللام في قوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً)؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك : أكان عند الناس عجباً؟ قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ، وليس في عند الناس هذا المعنى ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر ، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم (١) دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب ، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم. وقال الله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً ، لأنّ الله تعالى إنما يختار من استحق الاختيار ، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة. والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى ، فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن هي المفسرة ، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى : أن الشأن قولنا أنذر الناس. و (أَنَّ لَهُمْ) الباء معه محذوف (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة (٢). فإن قلت : لم سميت السابقة

__________________

ـ المراد بالرأس الرئيس ، وشرابها أطيب من غيره ، و «مزاجها» خبر يكون مع أنه معرفة. و «عسل» اسمها مع أنه نكرة ، وكان القياس العكس فقلب للضرورة. وجوزه ابن مالك في معمول «كان» و «إن» فلا قلب. وقال الفارسي : إن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية. وروى برفع الكلمات الثلاث ، على أن اسم كان ضمير الشأن. وقول ابن السيد : بزيادة «كان» هنا : غير مرضى ، لأن زيادة المضارع لا ترتكب إلا عند الضرورة ، ويروى بنصب العسل فقط ، فهو خبر ورفع ماء. بتقدير : وخالطها ماء. وجملة الكون صفة سلافة. وعلى أنيابها : خبر «كأن» الشدة. والمزاج : ما يمزج به غيره. والمراد بالأنياب : الثغر كله. والغض : الطري الرطب. والهصر : عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجنى ثمره. والتهصير : مبالغة فيه. وروى «الجناء» بدل «الاجتناء». وهو بالقصر مصدر. لكن مد هنا ضرورة. وإسناد التهصير إلى ذلك مجاز عقلى ، من باب الاسناد للسبب. وإيقاعه على التفاح على تقدير مضاف ، أى : هصر غصنه. ويروى : أو طعم غصن ، فلا تجوز في تهصيره. لكن إضافة طعم إليه على تقدير مضاف. أى طعم ثمر غصن ، شبه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصته الجاني ليجتنيه ، إشارة إلى أنه مجنى الآن لم يمض عليه شيء من الزمان ، وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرفة واللين والميلان.

(١) قوله «من أفناء رجالهم» في الصحاح : يقال هو من أفناء الناس ، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)

(٢) قال محمود : «أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ... الخ» قال أحمد : ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدما ، إما لأن المجاز لا يطرد ، وإما أن يكون مطردا ولكن غلب العرف على قصرها كما يغلب في الحقيقة ، والله أعلم.

٣٢٧

قدما؟ قلت : لما كان السعى والسبق بالقدم ، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما ، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها ، فقيل : لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة وقيل : مقام صدق (إِنَّ هذا) إن هذا الكتاب وما جاء به محمد (لَساحِرٌ) ومن قرأ : لساحر ، فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً. وفي قراءة أبىّ : ما هذا إلا سحر.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤)

(يُدَبِّرُ) يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، لئلا يلقاه ما يكره آخراً. و (الْأَمْرَ) أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض ، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير ، وبالاستواء على العرش ، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره ، وكذلك قوله (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) دليل على العزة والكبرياء ، كقوله (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) و (ذلِكُمُ) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أى ذلك العظيم (١) الموصوف بما وصف به هو ربكم ، وهو الذي يستحق منكم العبادة (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أى لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لقوله (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) و (حَقًّا) مصدر مؤكد لقوله (وَعْدَ اللهِ). (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وقرئ : أنه يبدؤ

__________________

(١) قوله «ذلك العظيم» لعله ذلكم. (ع)

٣٢٨

الخلق ، بمعنى لأنه. أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله : أى وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته. والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه. وقرئ : وعد الله ، على لفظ الفعل. ويبدئ ، من أبدأ. ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقا ، أى حقّ حقا بدأ الخلق ، كقوله:

أَحَقَّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ جَائِياً

وَلَا ذَاهِباً إلّا عَلَىَّ رَقِيبُ (١)

وقرئ : حق أنه يبدؤ الخلق ، كقولك : حق أنّ زيداً منطلق (بِالْقِسْطِ) بالعدل ، وهو متعلق بيجزى. والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم. أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً ، لأنّ الشرك ظلم. قال الله تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والعصاة ظلام أنفسهم ، وهذا أوجه ، لمقابلة قوله (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٥)

الياء في (ضِياءً) منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها. وقرئ : ضئاء بهمزتين بينهما ألف على القلب ، بتقديم اللام على العين ، كما قيل في عاق : عقا. والضياء أقوى من النور (وَقَدَّرَهُ) وقدّر القمر. والمعنى وقدّر مسيره (مَنازِلَ) أو قدّره ذا منازل ، كقوله تعالى (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ). (وَالْحِسابَ) وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي (ذلِكَ) إشارة إلى المذكور أى ما خلقه إلا ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً. وقرئ : يفصل ، بالياء.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)(٦)

خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.

__________________

(١) أحقا عباد الله أن لست جائياً

ولا ذاهبا إلا على رقيب

ولا زائراً فرداً ولا في جماعة

من الناس إلا قيل أنت مريب

لعبد الله بن الدمينة الخثعمي. وقيل : لقيس بن الملوح. قال المرزوقي : أحقاً انتصب عند سيبويه على الظرفية ، كأنه قال : أفى الحق ذلك ، لأنهم كثيراً ما يقولون : أفى الحق كذا. وعند المبرد على المفعولية المطلقة ، أى أحق ذلك حقاً ، لأنه مصدر. وعباد الله : منادى. وروى : أن لست وارداً ولا صادراً. والمعنى واحد. والرقيب : المانع من لقاء الحبيب. ويجوز أن يراد به ما في قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أى مناظر حاضر. أو قوله تعالى (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ).

٣٢٩

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨)

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يتوقعونه أصلا ، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم ، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) من الآخرة ، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي ، كقوله تعالى (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ). (وَاطْمَأَنُّوا بِها) وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها ، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١٠)

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة (١) على سلوك السبيل المؤدّى إلى الثواب ، ولذلك جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) بيانا له وتفسيرا ، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. ويجوز أن يريد : يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، كقوله تعالى (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ومنه الحديث : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول له : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار (٢)» فإن قلت : فلقد دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة ، هو إيمان مقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح.

__________________

(١) قال محمود : «معناه يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة ... الخ» قال أحمد : هو يقرر بذلك زعمه في أن شرط دخول الجنة العمل الصالح ، وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر ، وأنى له ذلك وقد جعل الله سبب الهداية إلى الجنة مطلق الايمان ، فقال (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) وقول الزمخشري «أن المراد إضافة العمل» لا ينتهض عن حيز الدعوى ، فان الله لم يعلل بغير الايمان وإن جرى لغيره ذكر أولا فلا يلزم إجراؤه ثانياً ولا محوج إليه. وشبهته أن الايمان المجهول سبباً مضاف إلى ضمير الصالحين ، فيلزم أخذ الصلاح قيداً في التسبب ، وهو ممنوع ، فان الضمير إنما يعود على الذوات لا باعتبار الصفات وقد تقدمت لهذه المباحثة أمثال وأشكال ، والله الموفق.

(٢) أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن المؤمن إذا خرج من قبره ـ فذكره» وروى ابن أبى شيبة من طريق عمرو بن قيس عن عطية عن ابن عمر قال «يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره عمله في أحسن صورة. فذكر نحوه بتمامه.

٣٣٠

والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. قلت : الأمر كذلك. ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل ، كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ثم قال : بإيمانهم ، أى بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه (دَعْواهُمْ) دعاؤهم ، لأن «اللهمّ» نداء لله ومعناه : اللهمّ إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : اللهمّ إياك نعبد ولك نصلى ونسجد. ويجوز أن يراد بالدعاء : العبادة (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) على معنى أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة ، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ، وذلك ليس بعبادة ، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة ، كقوله تعالى (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً). (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح (أَنِ) يقولوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ومعنى (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أنّ بعضهم يحيى بعضا بالسلام. وقيل : هي تحية الملائكة إياهم ، إضافة للمصدر إلى المفعول. وقيل : تحية الله لهم. وأن هي المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه الحمد لله ، على أن الضمير للشأن ، كقوله :

أَنْ هالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ (١)

وقرئ : أنّ الحمد لله ، بالتشديد ونصب الحمد.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١١)

أصله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) تعجيله لهم الخير ، فوضع (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) موضع تعجيله لهم الخير (٢) إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير

__________________

(١) وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني

شاو مشل شلول شلشل شول

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

للأعشى ميمون بن قيس. والحانوت : محل البيع والشراء. والمراد : محل بيع الطعام والشراب. يتبعني شاو : أى غلام يشوى اللحم. مشل : أى مسرع. شلول : خفيف في العمل : شلشل : بالضم ، أى ماض في الخدمة وقضاء الحوائج : شول ـ ككتف ـ خفيف في العمل. وقيل : مخرج للحم من القدر. في فتية : أى حال كوني مع فتيان كسيوف الهند في إنفاذ العزائم في المكارم. أو في بياض الوجوه وتهللها. والأول أنسب بقوله : قد علموا أنه ، أى الحال والشأن. هالك وفان كل حاف : غير لابس للنعل ، ومنتعل : لابس له ، وهما كناية عن الفقير والغنى ، وإذا استويا في الغنى فلا معنى للبخل الذي لا يوجب البقاء. ويجوز أنهما كناية عن جميع الناس مبالغة في التعميم.

(٢) قال محمود : «فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير ... الخ» قال أحمد : وهذا أيضاً من تنبيهات الزمخشري الحسنة التي تقوم على دقة نظره شاهدة وبينة ، ولا يكاد وضع المصدر مؤكداً أو مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من مثل هذه الفائدة الجليلة. والنحاة غايتهم أن يقولوا في قوله تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أنه اجرى المصدر على الفعل مقدراً عدم الزيادة. أو هذا المصدر لفعل دل عليه المذكور تقديره : نبتم نباتا ،

٣٣١

تعجيل لهم ، والمراد أهل مكة. وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء ، يعنى : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأميتوا وأهلكوا. وقرئ : لقضى إليهم أجلهم ، على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل ، وتنصره قراءة عبد الله : لقضينا إليهم أجلهم فإن قلت ، فكيف اتصل به قوله (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) وما معناه؟ قلت : قوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ) متضمن معنى نفى التعجيل ، كأنه قيل : ولا نعجل لهم الشر ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم (فِي طُغْيانِهِمْ) أى فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ، إلزاما للحجة عليهم.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢)

(لِجَنْبِهِ) في موضع الحال ، بدليل عطف الحالين عليه أى دعانا مضطجعاً (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً). فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر ، فهو يدعونا في حالاته كلها ـ إن كان منبطحاً عاجز النهض (١) متخاذل النوء (٢) أو كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب ـ إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة (٣) بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأنّ الإنسان للجنس (مَرَّ) أى مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ، ونسى حال الجهد. أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) ، كأنه لم يدعنا ، فخفف وحذف ضمير الشأن قال :

__________________

ـ ولا يزيدون على ذلك ، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فسكرته ، هل قرن المصدر في كتاب الله بغير فعله لفائدة أو لا ـ تسور بلطف النظر على مثل هذه الفوائد العلية مراتبها ، فالفائدة ـ والله أعلم ـ في اقتران قوله (نَباتاً) بقوله (أَنْبَتَكُمْ) التنبيه على تحتم نفوذ القدرة في المقدور ، وسرعة إمضاء حكمها حتى كان إنبات الله لهم نفس نباتهم أى إذا وجد من الله الانبات وجد لهم النبات حتما فكان أحد الأمرين عين الآخر فقرن به والله أعلم.

(١) قوله «عاجز النهض» نهض نهضاً ونهوضاً : قام. (ع)

(٢) قوله «متخاذل النوء» في الصحاح : ناء ينوء نوآ إذا نهض يجهد ومشقة. (ع)

(٣) قوله «والمسحة» في الصحاح : وعلى فلان مسحة من جمال. (ع)

٣٣٢

كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ (١)

(كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٤)

(لَمَّا) ظرف لأهلكنا : والواو في (وَجاءَتْهُمْ) للحال ، أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا ، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، يعنى : وما كانوا يؤمنون حقاً ، تأكيداً لنفى إيمانهم ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل (كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء يعنى الإهلاك (نَجْزِي) كل مجرم ، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ. يجزى ، بالياء (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أى استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا (لِنَنْظُرَ) أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. و (كَيْفَ) في محل النصب بتعملون لا ينتظر ، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة (٢)

__________________

(١) ونحر مشرق اللون

كأن ثدياه حقان

أى : ورب نحر ويروى بالرفع عطفا على شيء تقدم ، أى ولها. والنحر : موضع القلادة من الصدر. ويروى : وصدر مشرق ، أى أبيض مضيء. ويروى : وصدر مشرق النحر. ويروى : ووجه مشرق اللون ، وكأن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن. وقال أبو حيان : لا حاجة للاضمار عند الإهمال. وروى : كأن ثدييه بالأعمال مع التخفيف وهو قليل. وإضافة الثديين لضمير النحر للملابسة ولضمير الوجه على تقدير مضاف ، أى : ثديا صاحبته. والحقان : تثنية حق وهو ما يعمل من العاج ونحوه ، يوضع فيه أعز الأشياء. وقيل تثنية حقة ، وحذفت منه التاء.

(٢) قال محمود : «إن قلت كيف جاز النظر على الله تعالى ... الخ» قال أحمد : وكنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى ، فضم إلى ذلك إنكار رؤية الله ، والجمع بين هذين النزغتين عقيدة طائفة من القدرية ، يقولون : إن الله لا يرى ولا يرى ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا. وتقدم إبطال دعواهم أن النظر يستلزم المقابلة والجسمية فلا نعيده ، والله الموفق.

٣٣٣

قلت : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥)

غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين ، فقالوا (ائْتِ بِقُرْآنٍ) آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها ، فأمر بأن يجيب عن التبديل ، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان ، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل ، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر ، فغير مقدور عليه للإنسان (ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي وما يحل ، كقوله تعالى (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ). (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي. وقرئ بفتح التاء : من غير (١) أن يأمرنى بذلك ربى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) لا آتى ولا أذر شيئاً من نحو ذلك ، إلا متبعاً لوحى الله وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل والنسخ من عند نفسي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). فإن قلت : أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا)؟ قلت: بلى ، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ، وكانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون : افترى على الله كذبا ، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله. مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه ، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت : لعلهم أرادوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ، من جهة الوحى كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله : (ما يَكُونُ لِي) ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت : يردّه قوله (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي). فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت : الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير ، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل ، فإمّا أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.

__________________

(١) قوله «من غير» لعله «أى من غير». (ع)

٣٣٤

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦)

(لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجا عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أُمىّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم (١) أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ الحسن : ولا أدراتكم به ، على لغة من يقول : أعطاته وأرضاته ، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس : ولا أنذرتكم به. ورواه الفراء : ولا أدرأتكم به ، وبالهمز. وفيه وجهان ، أحدهما : أن تقلب الألف همزة ، كما قيل : لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت (٢) السويق ، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد. ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني : أن يكون من درأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارئا. والمعنى : ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤوننى بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير : ولأدراكم به ، بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه : لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) وقرئ (عُمُراً) بالسكون. يعنى : فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا ، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعلموا أنه ليس إلا من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١٧)

__________________

(١) قوله «ظهرانيكم» في الصحاح : ظهرانيهم ـ بفتح النون. (ع)

(٢) قوله «وحلأت» أى جعلته حلوا. (ع)

٣٣٥

(مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم : إنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٨)

(ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل : إن عبدوها لم تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة (وَ) كانوا (يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) وعن النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات ، لم يكن شيأ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ : أتنبئون ، بالتخفيف. وقوله (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم (يُشْرِكُونَ) قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية ، أى عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢٠)

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل : بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا فيما اختلفوا فيه ، ولميز المحق من المبطل ، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب. وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

٣٣٦

أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات ، وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنه لم ينزل عليه آية قط ، حتى قالوا : لو لا أنزل عليه آية واحدة من ربه ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغىّ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أى هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به ، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١)

سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ، ثم رحمهم بالحيا ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ، و «إذا» الأولى للشرط ، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة ، والمكر : إخفاء الكيد وطيه ، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى (مَسَّتْهُمْ) خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت : ما وصفهم بسرعة المكر ، فكيف صح قوله (أَسْرَعُ مَكْراً)؟ قلت : بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة ، كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم ، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤسهم من مس الضراء ، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى : أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ) إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله ، وهو منتقم منكم. وقرئ : يمكرون ، بالتاء والياء. وقيل : مكرهم قولهم سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة : إنّ الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها ، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا (١).

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ

__________________

(١) أخرجه إسحاق والطبري : والثعلبي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم اليمنى عن أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى ليصبح عباده بالنعمة أو ليمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرون ، يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا» قال محمد فذكرت الحديث لسعيد بن المسيب فقال : ونحن سمعناه من أبى هريرة. ولمسلم من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا «قال الله تعالى : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين ، يقولون : الكوكب وبالكوكب مطرنا».

٣٣٧

بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣)

قرأ زيد بن ثابت : ينشركم. ومثله قوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ). فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر (١) ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيزها ، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك (٢) والدعاء بالإنجاء. فإن قلت : ما جواب «إذا»؟ قلت : جاءتها. فإن قلت : فدعوا؟ قلت : بدل من ظنوا ، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء : في الفلكي ، بزيادة ياء النسب؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية ... الخ» قال أحمد : وهذه أيضا من نكتة التي لا يكتنه حسنها ، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينه في توأمتها ، وذلك عند قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وقد استدل الزمخشري بها لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه ، خلافا لمالك ، فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ قال الزمخشري : ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء ، فيلزم وقوع الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز «حتى» من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد ، وهذا المجموع هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء ، ولا يلزم من ذلك أن يقع كل واحد من مفرديه بعد الابتلاء ، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد ، فلا يحصل المجموع إلا بعد الابتلاء. ويوضح ذلك هذه الآية ، فانه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها ، مضافا إلى ما ذكر معه. ونحن نعلم أن كونهم في الفلك ـ وذلك أحد ما جعل غاية ـ متقدم على التسيير وإن كان المجموع واقعا ، كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم. وإنما بسطت القول هاهنا لفواته ثم ، فجدد بما مضى عهدا.

(٢) قوله «والظن للهلاك» عبارة النسفي : بالهلاك. (ع)

٣٣٨

والضمير في (جَرَيْنَ) للفلك ، لأنه جمع فلك كالأسد ، في فعل أخى فعل (١). وفي قراءة أمّ الدرداء : للفلك ، أيضاً ، لأنّ الفلكي يدلّ عليه (جاءَتْها) جاءت الريح الطيبة ، أى تلقتها. وقيل : الضمير للفلك (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جميع أمكنة الموج (أُحِيطَ بِهِمْ) أى أهلكوا جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك به ، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) على إرادة القول. أو لأن (دَعَوُا) من جملة القول (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك ، ممعنين فيه ، من قولك : بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت : فما معنى قوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) والبغي لا يكون بحق؟ قلت : بلى ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم (٢) كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قرئ : متاع الحياة الدنيا ، بالنصب. فإن قلت : ما الفرق بين القراءتين؟ قلت : إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو (بَغْيُكُمْ) و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلته ، كقوله (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم ، يعنى : بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبر غير صلة ، معناه. إنما بغيكم وبال على أنفسكم ، و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على : هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تمكر ولا تعن ماكرا ، ولا تبغ ولا تعن باغياً ، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً» (٣) وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة» (٤) وروى : «ثنتان يعجلهما الله

__________________

(١) قوله «كالأسد في فعل» أى كما جاء «فعل» بالضم في «فعل» بفتحتين ، كأسد في أسد ، جاز مجيء «فعل» بالضم في فعل «بالضم» كفلك في فلك ، وذلك لأن «فعلا» بفتحتين و «فعلا» بالضم أخوان ، لأنهما يشتركان في الشيء الواحد ، كالعرب والعرب والعجم والعجم ، والرهب والرهب. فما جاز في أحدهما لا يمنع في الآخر ، وقد جاز «فعل» بالضم في «فعل» بالفتح ، فليجز «فعل» بالضم في «فعل» بالضم ، لأنهما أخوات. كذا في الصحاح ، فتأمله. (ع)

(٢) متفق على معناه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

(٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد : أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري : قال «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تمكر ولا تعن ماكرا ، فان الله تعالى يقول (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ولا تبغ ولا تعن باغيا ، فان الله تعالى يقول (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) «ولا تنكث ولا تعن ناكثا» فان الله تعالى يقول (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وفي مستدرك الحاكم بعضه من حديث أبى بكرة مرفوعا «لا تبغ ولا تعن باغيا فان الله تعالى يقول (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).

(٤) أخرجه إسحاق في مسنده عن جرير عن برد بن يسار عن مكحول رفعه «أعجل الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة ، تدع الديار بلاقع» ولأبى يعلى من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رفعته «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم. وأسرع الشر عقوبة البغي».

٣٣٩

تعالى في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين» (١) وعن ابن عباس رضى الله عنه : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي (٢). وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :

يَا صَاحِبَ الْبَغْىِ إنَّ الْبَغْىَ مَصْرَعَةٌ

فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ

فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَلٍ

لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ (٣)

وعن محمد بن كعب : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢٤)

هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف ونكائف ، وزين الأرض بخضرته ورفيفه (٤) (فَاخْتَلَطَ بِهِ) فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً (أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) كلام فصيح : جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس ، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل (ازَّيَّنَتْ) تزينت ،

__________________

(١) أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني من حديث عبد الله بن أبى بكرة عن أبيه. والبخاري في الأدب المفرد من رواية بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن جده رفعه «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين ، فانه يعجل لصاحبه في الدنيا قبل الموت».

(٢) أخرجه البخاري في الأدب حدثنا أبو نعيم حدثنا قطر بن خليفة عن أبى يحيى القتات سمعت مجاهدا عن ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا. ورواه ابن المبارك في الزهد عن قطر عن يحيى عن مجاهد مرسلا. ورواه البيهقي في الشعب من طريق الأعمش عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس. ورواه ابن مردويه عن أنس رضى الله عنه أخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة أحمد بن الفضل. وقال : إنه كان يضع الحديث.

(٣) كان المأمون بن الرشيد يتمثل بهما في بغى أخيه عليه ، وكرر لفظ البغي تنفيرا عنه ، وشبهه بالمصرعة لأن صاحبه يرتبك فيه في العاقبة وربما هلك. وربع يربع ، إذا لم يتجاوز قدر نفسه. فاربع : أى الزم قدرك واعدل في فعلك. والفعال ـ بالفتح ـ : غالب في فعل الخير. والمراد هنا مطلق الفعل ، أى : فخير عمل المرء أقومه ، فلو بغى جبل على جبل يوما من الأيام لعوقب واندك منه أعاليه. ويلزم منه اندكاك أسافله. وهذا عقد قول ابن عباس رضى الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.

(٤) قوله «ورفيفه» أى يرفقه وتلألؤه. وشجر رفيف : إذا تندت أوراقه ، كذا في الصحاح. (ع)

٣٤٠