الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً. أو بدل من الإصلاح ، أى : المقدار الذي استطعته منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك : إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت. أو مفعول له كقوله :

ضَعِيفُ النِّكايِة أَعْدَاءَهُ (١)

أى ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتى وأذر ، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده. والمعنى : أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه ، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه ، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(٩٠)

«جرم» مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد ، وإلى مفعولين تقول : جرم ذنباً وكسبه ، وجرمته ذنباً وكسبته إياه ، قال :

جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا (٢)

ومنه قوله تعالى (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) أى لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب. وقرأ ابن كثير بضم الياء ، من أجرمته ذنباً ، إذا جعلته جار ما له ، أى كاسباً ، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد ، كما نقل : أكسبه المال ، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه ، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما ، إلا أن المشهورة أفصح لفظاً ، كما إن كسبته مالا أفصح من أكسبته.

__________________

(١) ضعيف النكاية أعداءه

يخال الفرار يراخى الأجل

نكأ القرح نكأ بالهمز : جرحه بعد اند ماله ، ونكى العدو نكاية : قتله وجرحه. وأعداءه : مفعول النكاية. وعمل المصدر المقرون بأل كما هنا نادر. يخال : أى يظن الهرب من العدو بطيل الأجل من جبنه.

(٢) ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

لزيادة بن أسماء. ويقال : جرم ذنبا إذا اكتسبه. وجرم النخل : قطعه. وجرمته كذا : إذا أكسبته إياه او حملنه عليه. يقول : طعنت ذلك الرجل الفزاري طعنة قتلته. «جرمت فزارة» أى حق لها بعدها الغضب ، أو اكتسبت فزارة بعدها الغضب فقط ، واشتهر الرفع عنهم ، لكن قال الجوهري «فزارة» مفعول أول ، أى : أحقتهم الغضب ، أو أكسبتهم إياه ، أو حملتهم على أن يغضبوا بعدها ، فهو على إسقاط الخافض.

٤٢١

والمراد بالفصاحة : أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور ، وهم له أكثر استعمالا. وقرأ أبو حيوة ، ورويت عن نافع : (مِثْلُ ما أَصابَ) ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله :

لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ (١)

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم ، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت : ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه (٢)؟ قلت : إما أن يراد : وما إهلاكهم ببعيد ، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد ، وقليل وكثير ، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما (رَحِيمٌ وَدُودٌ) عظيم الرحمة للتائبين ، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه ، من الإحسان والإجمال.

__________________

(١) ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا

فيها فصرت إلى وجناء شملال

تعطيك مشيا وإرقالا ودأدأة

إذا تسربلت الآكام بالآل

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة فوق غصن ذات أو قال

لأبى قيس بن رقاعة يصف ناقته. وقوله «فيها» أى في دار المحبوبة. وللوجناء : الشديدة الصلبة. والشملال : الخفيفة السريعة. والإرقال والدأدأة : نوعان من السير ، وقد شبه استتار الآكام وهي الجبال الصغيرة بالآل ، وهو السراب الذي يرى في الهاجرة أبيض يشبه الماء في جريانه على وجه الأرض ، بالتسربل وهو لبس السرابيل : أى الثياب على طريق التصريحية ، ثم وصفها بحدة الفؤاد وهو محمود عندهم ، أو بحنينها إلى وطنها ، وعطفها لما سمعت صوت الحمامة. والشرب ـ بالكسر : ـ النصيب من الماء. وبالضم المصدر. والأوقال : جمع وقل كجبل وهي الحجارة ، أو البقايا التي بقيت في جذع الشجرة بعد تقليم بعض أغصانها ، بارزة يمكن الارتقاء عليها. يقول : لم يمنع نصيبها من الماء عنها ، أو لم يمنعها من شربها الماء. ففيه قلب على الثاني وغير فاعل لأنه تضرع إليه العامل» وبنى على الفتح لاضافته إلى مبنى ، واستعار النطق لتغريد الحمامة على سبيل التصريحية ، وكأنها كانت داخل الغصون فسمعت الناقة صوتها ولم ترها ففزعت. أو كانت على غصن من الشجرة فكان تغريدها مطربا لذيذا ، فحنت الناقة إلى وطنها. وذات أو قال : وصف لغصن ، لأنه جمع غصن كما قيل في فلك ، المفرد والجمع باعتبار التغير التقديري. ويجوز أن يقرأ باضافة غصن إلى ذات ، والمعنى : غصن أرض أو شجرة ذات أو قال ، لكن الأول أحسن في الوزن. وقد روى : في غصون ذات أو قال ، أى : ذات قطع بارزة بعد التعليم ، فتكون مشوهة المنظر توجب النفرة والوحشة ، أو صاحبه أحجار ، فتكون أنضر حيث ترى مخضرة وسط أرض قفرة ، أو لتكون في غير محلها فتوجب حنين الناقة إلى محلها أو فزعها لغرابة ذلك. وقيل : إنه جمع «وقل» بالسكون ، وهو شجر المقل. وقيل : يجوز أنه من وقل كوعد إذا صعد ، أى ذات ارتفاعات.

(٢) قوله «على ما يقتضيه قوم من عمله» وذلك بأن بعامل معاملة المؤنث ، نحو (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) أو معاملة جمع الذكور ، نحو (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) لأن الأول مقتضى حمله على لفظه ، كما سيأتى في سورة الشعراء ، من أن القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة ، والثاني مقتضى حمله على معناه وهو ظاهر. (ع)

٤٢٢

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)(٩٥)

(ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له ، كقوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ). أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه ، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به ، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدرى ما تقول. أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً ، لا ينفعهم كثير منه ، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء ، وقيل : كان ألثغ (فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا عز فيما بيننا (١) ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن (ضَعِيفاً) مهيناً. وقيل (ضَعِيفاً) أعمى. وحمير تسمى المكفوف : ضعيفاً ، كما يسمى ضريراً ، وليس بسديد ، لأنّ (فِينا) يأباه. ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى ، لم يكن كلاما ، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم ، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطا. والرهط : من الثلاثة إلى العشرة. وقيل : إلى السبعة. وإنما قالوا : ولولاهم ، احتراما لهم واعتدادا بهم ، لأنهم كانوا على ملتهم ، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك شرّ قتلة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أى لا تعزّ علينا ولا تكرم ، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك ، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا ، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع

__________________

(١) قال محمود : «معنى قولهم ضعيفاً ، أى : لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ... الخ» قال أحمد : وهذا من محاسن نكتة الدالة على أنه كان مليا بالحذاقة في علم البيان والله المستعان.

٤٢٣

في الفاعل لا في الفعل ، كأنه قيل : وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزة علينا ، ولذلك قال في جوابهم (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ولو قيل : وما عززت علينا ، لم يصح هذا الجواب. فإن قلت : فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) قلت : تهاونهم به ـ وهو نبىّ الله ـ تهاون بالله ، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ، (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به ، والظهرىّ : منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس : أمسىّ (بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قد أحاط بأعمالكم علماً ، فلا يخفى عليه شيء منها (عَلى مَكانَتِكُمْ) لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى : اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها (إِنِّي عامِلٌ) على حسب ما يؤتينى الله من النصرة والتأييد ويمكنني (مَنْ يَأْتِيهِ) يجوز أن تكون (مَنْ) استفهامية ، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها ، كأنه قيل : سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه ، وأينا هو كاذب ، وأن تكون موصولة قد عمل فيها ، كأنه قيل : سوف تعلمون الشقىّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب. فإن قلت : أى فرق بين إدخال الفاء ونزعها في (سَوْفَ تَعْلَمُونَ)؟ قلت : إدخال الفاء : وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ، ونزعها : وصل خفى تقديرىّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : فما ذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال : سوف تعلمون ، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف ، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب ، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف ، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه (وَارْتَقِبُوا) وانتظروا العاقبة وما أقول لكم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أى منتظر. والرقيب بمعنى الراقب ، من رقبه ، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب ، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب ، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت : قد ذكر عملهم على مكانتهم (١) وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ،

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت قد ذكر عملهم على مكانتهم ... الخ» قال أحمد : والظاهر ـ والله أعلم ـ أن الكلامين جميعا لهم ، فالأول وهو قوله (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) مضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب ، ويكون من باب عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد ، كما تقول لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب ، وإنما يعنى المخاطب في الكلامين ، فإذا ثبت صرف الكلامين إليهم لم يخل ذلك من دلالة على ذكر عاقبته هو ، لأن أحد الفريقين إذا كان مبطلا فالآخر هو المحق قطعا ، فذكره لإحدى العاقبتين صريحا يفهم ذكر الأخرى تعريضا : ـ

٤٢٤

فكان القياس أن يقول : من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق ، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) يعنى في زعمكم ودعواكم ، تجهيلا لهم. فإن قلت : ما بال ساقتى قصة (١) عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت. قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد ، وذلك قوله (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) ، (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب ، كما تقول : وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين ، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. الجاثم : اللازم لمكانه لا يريم ، كاللابد ، (٢) يعنى أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا (٣) (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين متردّدين. البعد : بمعنى البعد وهو الهلاك ، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله (كَما بَعِدَتْ)؟ وقرأ السلمى : بعدت ، بضم العين ، والمعنى في البناءين واحد ، وهو نقيض القرب ، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره ، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد ، وقراءة السلمى جاءت على الأصل اعتباراً لمعنى البعد من غير تخصيص ، كما يقال : ذهب فلان ومضى ، في معنى الموت. وقيل : معناه بعداً لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ)(٩٩)

__________________

ـ والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح ، وهذا منه ، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر ، استغناء عنها بذكر عاقبتهم ، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة ، وهي قوله تعالى (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ، وكذلك قوله في سورة الأنعام (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين ، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير ، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك ، كقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) واستغنى عن ذكر مقابلتها ، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز ، وضم بعضها إلى بعض ، والله الموفق للصواب.

(١) قوله «ساقتى قصة» في الصحاح : ساقة الجيش مؤخره اه. ومثله ساقة القصة هنا. (ع)

(٢) قوله «كاللابد» أى المتلبد اللاصق بالأرض ، أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «بحيث هو قعصا» في الصحاح : يقال مات فلان قعصا ، إذا أصابته ضربة فمات مكانه. (ع)

٤٢٥

(بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) فيه وجهان : أن يراد أنّ هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوّته ، وأن يراد بالسلطان المبين : العصا ، لأنها أبهرها (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل ، وذلك أنه ادّعى الإلهية وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشر الذي لا يأتى إلا من شيطان مارد ، ومثله بمعزل من الإلهية ذاتاً وأفعالا ، فاتبعوه وسلموا له دعواه ، وتتابعوا على طاعته. والأمر الرشيد : الذي فيه رشد : أى : وما في أمره رشد إنما هو غىّ صريح وضلال ظاهر مكشوف ، وإنما يتبع العقلاء من يرشدهم ويهديهم ، لا من يضلهم ويغويهم. وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام ، وعلموا أن معه الرشد والحق ، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أى كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه. ويجوز أن يريد بقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) وما أمره بصالح حميد العاقبة. ويكون قوله (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) تفسيراً لذلك وإيضاحا. أى : كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. والرشد مستعمل في كل ما يحمد ويرتضى ، كما استعمل الغىّ في كل ما يذم ويتسخط. ويقال : قدمه بمنى تقدّمه. ومنه : قادمة الرجل ، كما يقال : قدمه بمعنى تقدّمه. ومنه مقدّمة الجيش. وأقدم بمعنى تقدّم. ومنه مقدّم العين. فإن قلت : هلا قيل : يقدم قومه فيوردهم؟ ولم جيء بلفظ الماضي؟ قلت : لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به ، فكأنه قيل : يقدّمهم فيوردهم النار لا محالة. و (الْوِرْدُ) المورود. و (الْمَوْرُودُ) الذي وردوه. شبه بالفارط الذي يتقدّم الواردة إلى الماء. وشبه أتباعه بالواردة ، ثم قيل : بئس الورد الذي يردونه النار ، لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنار ضدّه (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) في هذه الدنيا (لَعْنَةً) أى يلعنون في الدنيا ، ويلعنون في الآخرة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) رفدهم. أى : بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل : بئس العطاء المعطى.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)(١٠١)

(ذلِكَ) مبتدأ (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر ، أى : ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة مقصوص عليك (مِنْها) الضمير للقرى ، أى : بعضها باق وبعضها عافى الأثر ،

٤٢٦

كالزرع القائم على ساقه والذي حصد. فإن قلت : ما محل هذه الجملة؟ قلت : هي مستأنفة لا محل لها (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب ما به أهلكوا (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله (يَدْعُونَ) يعبدون وهي حكاية حال ماضية. و (لَمَّا) منصوب بما أغنت (أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه ونقمته (تَتْبِيبٍ) تخسير. يقال تبّ إذا خسر. وتببه غيره ، إذا أوقعه في الخسران.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

محل الكاف الرفع ، تقديره : ومثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ) والنصب فيمن قرأ : وكذلك أخذ ربك ، بلفظ الفعل. وقرئ : إذ أخذ القرى (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من القرى (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع صعب على المأخوذ. وهذا تحذير من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها ، بل لكل من ظلم غيره أو نفسه بذنب يقترفه. فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد ، فيبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(١٠٣)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما قص الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبهم (لَآيَةً لِمَنْ خافَ) لعبرة له ، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا ، وما هو إلا أنموذج مما أعدّ لهم في الآخرة ، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود ، فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى. ونحوه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى). (ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة ، لأنّ عذاب الآخرة دلّ عليه. و (النَّاسُ) رفع باسم المفعول (١) الذي هو مجموع كما يرفع بفعله إذا قلت يجمع له الناس. فإن قلت : لأى فائدة أوثر اسم المفعول على فعله؟ (٢) قلت : لما في اسم المفعول من دلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه يوم لا بدّ من أن يكون ميعاداً

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت لم عدل عن الفعل إلى اسم المفعول ... الخ» قال أحمد : ولهذا السر ورد قوله تعالى (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) فاستعمل الفعل حيث يليق به ، واسم المفعول حيث يحسن استعماله أيضا ... الخ.

(٢) قوله «من دلالة» عبارة النسفي : دلالته. (ع)

٤٢٧

مضروباً لجمع الناس له ، وأنه الموصوف بذلك صفة لازمة ، وهو أثبت أيضاً لإسناد الجمع إلى الناس ، وأنهم لا ينفكون منه ، ونظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك ، فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) تعثر على صحة ما قلت لك. ومعنى يجمعون له : يجمعون لما فيه من الحساب والثواب والعقاب (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) مشهود فيه ، فاتسع في الظرف (١) بإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله :

وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْما وَعَامِراً (٢)

أى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد. والمراد بالمشهود : الذي كثر شاهدوه. ومنه قولهم : لفلان مجلس مشهود ، وطعام محضور. قال :

فِى مَحْفِلٍ مِنْ نَوَاصِى النَّاسِ مَشْهُودِ (٣)

فإن قلت : فما منعك أن تجعل اليوم مشهوداً في نفسه دون أن تجعله مشهوداً فيه ، كما قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟ قلت : الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وتميزه من بين الأيام ، فإن جعلته مشهوداً في نفسه فسائر الأيام كذلك مشهودات كلها ، ولكن يجعل مشهوداً فيه حتى يحصل التميز كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها ، ولم يجز أن يكون مشهوداً في نفسه ، لأنّ سائر أيام الأسبوع مثله يشهدها كل من يشهده ، وكذلك قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الشهر منتصب ظرفاً لا مفعولا به ، وكذلك الضمير في (فَلْيَصُمْهُ) والمعنى : فمن شهد منكم في الشهر فليصم فيه ، يعنى : فمن كان منكم مقيما حاضراً لوطنه في شهر رمضان

__________________

(١) قال محمود : «المراد مشهود فيه فاتسع في الظرف ... الخ» قال أحمد : يكون المشهود الذي هو المفعول به مسكونا عنه مبهما ، ومن الإبهام ما يكون تفخيما ، وهذا مكانه.

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٤٠٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) من الخصوم إذا حد الضجاج بهم

بعد ابن سعد ومن الضمر القود

ومشهد قد كفيت الغائبين به

في محفل من نواصي القوم مشهود

فرجته بلسان غير ملتبس

عند الحفاظ وقلب غير مزؤد

لأم قيس الضبية. وضج ضجيجاً وضجاجا : صاح. وضج البعير من الحمل : تعب من ثقله ، والضمر بالتشديد : جمع ضامر. وفرس أقود : طويل العنق. ورجل أقود : يقبل بوجهه ولا ينثني. والقرد : جمعه. ومشهد : عطف على الخصوم. ويجوز جره برب ، أى مجلس كفيت فيه الغائبين عنه بالتكلم عنهم بين محفل من رؤساء الناس وأشرافهم ، فالنواصى : استعارة لهم. وفرجته ، فككت كربته ، وكشفت غمته بكلام واضح الدلالة صادر عن قلب مطمئن غير خائف عند الحفاظ ، أى غيرة الخصوم ومحافظة كل منهم على رأيه أو المغاضبة. ويقال : أحفظه إحفاظاً إذا أغضبه.

٤٢٨

فليصم فيه ، ولو نصبته مفعولا فالمسافر والمقيم كلاهما يشهدان الشهر ، لا يشهده المقيم ، ويغيب عنه المسافر :

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ)(١٠٤)

الأجل : يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها ، فيقولون : انتهى الأجل ، وبلغ الأجل آخره ، ويقولون : حل الأجل (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) يراد آخر مدة التأجيل ، والعدّ إنما هو للمدّة لا لغايتها ومنتهاها ، فمعنى قوله (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف. وقرئ : وما يؤخره بالياء.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(١٠٥)

قرئ (يَوْمَ يَأْتِ) بغير ياء. ونحوه قولهم : لا أدر ، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت : فاعل يأتى ما هو؟ قلت : الله عز وجل ، كقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) ، (وَجاءَ رَبُّكَ) وتعضده قراءة : وما يؤخره ، بالياء. وقوله (بِإِذْنِهِ) ويجوز أن يكون الفاعل ضمير اليوم ، كقوله تعالى (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ). فإن قلت : بما انتصب الظرف؟ قلت : إمّا أن ينتصب بلا تكلم. وإمّا بإضمار «اذكر» وإمّا بالانتهاء المحذوف في قوله (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أى ينتهى الأجل يوم يأتى ، فإن قلت : فإذا جعلت الفاعل ضمير اليوم ، فقد جعلت اليوم وقتاً لإتيان اليوم وحدّدت الشيء بنفسه قلت : المراد إتيان هو له وشدائده (لا تَكَلَّمُ) لا تتكلم ، وهو نظير قوله (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ). فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) وقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) ، قلت : ذلك يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها : يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم (فَمِنْهُمْ) الضمير لأهل الموقف ولم يذكروا ، لأنّ ذلك معلوم ، ولأنّ قوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يدل عليه ، وقد مرّ ذكر الناس في قوله (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) والشقي الذي وجبت له النار لإساءته ، والسعيد الذي وجبت له الجنة لإحسانه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٠٧)

٤٢٩

قراءة العامّة بفتح الشين. وعن الحسن (شَقُوا) بالضم ، كما قرئ (سُعِدُوا). والزفير : إخراج النفس. والشهيق : ردّه. قال الشماخ :

بَعِيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ

زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرَجُ (١)

(ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فيه وجهان ، أحدهما : أن تراد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد. والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وقوله. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم : إمّا سماء يخلقها الله ، أو يظلهم العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء. والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع ، كقول العرب : ما دام تعار ، وما أقام ثبير ، وما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد. فإن قلت : فما معنى الاستثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة : وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم ، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم ، وهو رضوان الله ، كما قال (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) ولهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء. والدليل عليه قوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ومعنى قوله في مقابلته (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ، كما يعطى أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمّله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضا ، ولا يخدعنك عنه قول المجبرة (٢). إنّ المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإنّ الاستثناء الثاني ينادى على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت (٣)

__________________

(١) للشماخ يصف حمار وحشى. والمدى : المسافة والغاية. والتطريب : ترديد الصوت وترخيمه. والزفير : إخراج النفس بشدة. والمحشرج اسم مفعول : الصوت الذي يردده في حلقه وصدره.

(٢) قوله «ولا يخدعنك عنه قول المجبرة» يريد أهل السنة. أما المعتزلة فيقولون : فاعل الكبيرة واسطة بين المؤمن والكافر وخلوده في النار أبدى ، وتحقيق بطلانه في علم التوحيد. (ع)

(٣) قوله «لما روى لهم بعض النوابت» في الصحاح : إن بنى فلان لنابتة شر. والنوابت من الأحداث الأعمار. (ع)

٤٣٠

عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد (١) ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً ، وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث ، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار ، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين ، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً على أن نعقل عنه ، ولئن صح هذا عن ابن العاص ، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها ، وأقول : ما كان لابن عمرو في سيفيه ، ومقاتلته بهما على بن أبى طالب رضى الله عنه ، ما يشغله عن عن تسيير هذا الحديث.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)(١٠٩)

(غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع ، ولكنه ممتدّ إلى غير نهاية ، كقوله (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). لما قصّ قصص عبدة الأوثان ، وذكر ما أحلّ بهم من نقمه ، وما أعدّ لهم من عذابه قال : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) أى : فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم وتعرّصهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين ، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلنّ بهم مثله ، وهو استئناف معناه تعليل النهى عن المرية. و «ما» في مما ، وكما : يجوز أن تكون مصدرية وموصولة ، أى : من عبادتهم ، وكعبادتهم. أو مما يعبدون من الأوثان ، ومثل ما يعبدون منها (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أى حظهم من العذاب (٢) كما وفينا آباءهم أنصباءهم. فإن قلت :

__________________

(١) الحديث أخرجه البزار قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبى بلج عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال «يأتى على النار زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، يعنى من الموحدين» كذا فيه ورجاله ثقات. والتفسير لا أدرى ممن هو ، وهو أولى من تفسير المصنف ، ويؤيده ما رواه ابن عدى عن أنس رضى الله عنه مرفوعا «ليأتين على جهنم يوم تصفق أبوابها ، ما فيها من أمة محمد أحد» وفي الباب عن أبى أمامة رفعه «يأتى على جهنم يوم ما فيها من بنى آدم أحد ، تخفق أبوابها ، يعنى من الموحدين» وأما الحديث الذي أخرجه الحارث بن أبى أمامة في مسنده من طريق الحسن عن عمرو رفعه «إن جهنم تخلو حتى ينبت فيها الجرجير ، فهو منقطع. ومراسيل الحسن عندهم واهية. لأنه كان يأخذ من كل أحد. فان كان محفوظا فعلى التأويل الأول ، والله أعلم.

(٢) قال محمود : «أى حظهم من العذاب ، وإنما نصب غير منقوص حالا من النصيب الموفى ، لأنه يجوز أن ـ

٤٣١

كيف نصب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حالا عن النصيب الموفى؟ قلت : يجوز أن يوفى وهو ناقص ، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول. وفيته شطر حقه ، وثلث حقه ، وحقه كاملا وناقصا ،

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(١١٠)

(فَاخْتُلِفَ فِيهِ) آمن به قوم وكفر به قوم ، كما اختلف في القرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) يعنى كلمة الإنظار إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين قوم موسى أو قومك. وهذه من جملة التسلية أيضاً.

(وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١١)

(وَإِنَّ كُلًّا) التنوين عوض من المضاف إليه ، يعنى : وإنّ كلهم ، وإنَّ جميع المختلفين فيه (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف. واللام في (لَمَّا) موطئة للقسم ، و «ما» مزيدة. والمعنى : وإن جميعهم والله ليوفينهم (رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) من حسن وقبيح وإيمان وجحود. وقرئ : وإن كلا بالتخفيف على إعمال المخففة عمل الثقيلة ، اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل. وقرأ أبىّ : وإن كل لما ليوفينهم ، على أنّ إن نافية. ولما بمعنى إلا. وقراءة عبد الله مفسرة لها. وإن كل إلا ليوفينهم ، وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : وإن كلا لما ليوفينهم ، بالتنوين ، كقوله (أَكْلاً لَمًّا) والمعنى : وإن كلا ملمومين ، بمعنى مجموعين ، كأنه قيل : وإنّ كلا جميعاً ، كقوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٢)

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق ، غير عادل عنها (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) معطوف على المستتر في استقم. وإنما جاز العطف عليه ولم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. والمعنى : فاستقم أنت وليستقم من تاب على الكفر وآمن معك (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عن حدود الله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم فهو مجازيكم به ، فاتقوه. وعن ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت

__________________

ـ يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول : وفيته شطر حقه وحقه كاملا» قال أحمد : وهم والله أعلم ، فان التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصاً ، فقولك : وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصانه ، فما وجه انتصابه حالا عنه؟ والأوجه أن يقال : استعملت التوفية بمعنى الإعطاء ، كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ. ومن قال : أعطيت فلانا حقه. كان جديراً أن يؤكده بقوله «غير منقوص» والله أعلم.

٤٣٢

أشدّ ولا أشقّ عليه من هذه الآية. ولهذا قال : شيبتني هود والواقعة وأخواتهما (١). وروى أنّ أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب. فقال : شيبتني هود. وعن بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : روى عنك أنك قلت : شيبتني هود. فقال : نعم. فقلت : ما الذي شيبك منها؟ أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ). وعن جعفر الصادق رضى الله عنه (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) قال : افتقرْ إلى الله بصحة العزم.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(١١٣)

قرئ : ولا تركنوا ، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبى عمرو : بكسر التاء وفتح الكاف ، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب علم يعلم. ونحوه قراءة من قرأ (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) بكسر التاء. وقرأ ابن أبى عبلة : ولا تركنوا ، على البناء للمفعول ، من أركنه إذا أماله ، والنهى متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومدّ العين إلى زهرتهم. وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله (وَلا تَرْكَنُوا) فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أى إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل إلى الظالمين. وحكى أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشى عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن إلى من ظلم ، فكيف بالظالم. وعن الحسن رحمه الله : جعل الله الدين بين لاءين : (وَلا تَطْغَوْا) ، (وَلا تَرْكَنُوا) ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك : أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، قال الله سبحانه (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخفّ

__________________

(١) وفي الترمذي من حديث شيبان عن أبى إسحاق عن عكرمه عن ابن عباس قال قال أبو بكر «يا رسول الله قد شبت ، قال : قد شيبتني هود والواقعة والمرسلات ، وعم يتساءلون. وإذا الشمس كورت» وقال حسن غريب.

وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال : اختلف فيه على أبى إسحاق ، فقال شيبان كذا. وقال على بن صالح : عن أبى إسحاق عن أبى حجية قال : وقال زكريا عن أبى إسحاق عن مسروق أن أبا بكر قال. وأطال الدارقطني في ذكر علله ـ واختلاف طرقه في أوائل كتاب العلل ـ ورواه البيهقي في الدلائل من رواية عطية بن سعيد قال قال عمر ابن الخطاب : يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب. فقال شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت» وأخرجه ابن سعد وابن عدى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس. وفيه «الواقعة والقارعة وسأل وإذا الشمس كورت».

٤٣٣

ما احتملت : أنك آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغى بدنوّك ممن لم يؤدّ حقاً ولم يترك باطلا ، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم ، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون الشكّ بك على العلماء ، ويقتادون بك قلو ، الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك (١) من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) فإنك تعامل من لا يجهل ، ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك فقد دخله سقم ، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ، والسلام. وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعى : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وعن محمد ابن مسلمة : الذباب على العذرة ، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه (٢)» ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا ، فقيل له : يموت؟ فقال : دعه يموت. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حال من قوله (فَتَمَسَّكُمُ) أى : فتمسكم النار وأنتم على هذه الحال. ومعناه : وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه ، لا يقدر على منعكم منه غيره (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ثم لا ينصركم هو ، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : معناها الاستبعاد ، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ)(١١٤)

(طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) وساعات من الليل وهي ساعاته القريبة من آخر النهار ، من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه ، وصلاة الغدوة : الفجر. وصلاة العشية : الظهر والعصر ، لأنّ ما بعد الزوال عشىّ. وصلاة الزلف : المغرب والعشاء. وانتصاب طرفى النهار على الظرف ، لأنهما مضافان إلى الوقت ، كقولك : أقمت عنده جميع النهار ، وأتيته نصف النهار

__________________

(١) قوله «وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك» لعل هنا سقطاً تقديره : في جنب ما أعطوك ، وما أقل ما أصلحوا لك في جنب ما أفسدوا ... الخ. (ع)

(٢) قد رواه البيهقي في السادس والستين من الشعب من رواية يونس بن عبد عن الحسن من قوله. وذكره أبو نعيم في الحلية من قول سفيان الثوري.

٤٣٤

وأوله وآخره ، تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. ونحوه (وَأَطْرافَ النَّهارِ) وقرئ : وزلفا ، بضمتين. وزلفا ، بسكون اللام. وزلفى : بوزن قربى. فالزلف : جمع زلفة ، كظلم في ظلمة. والزلف بالسكون : نحو بسرة وبسر. والزلف بضمتين نحو بسر في بسر. والزلفى بمعنى الزلفة ، كما أن القربى بمعنى القربة : وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل : وزلفا من الليل : وقربا من الليل ، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أى : أقم الصلاة طرفى النهار ، وأقم زلفا من الليل ، على معنى : وأقم صلاة تتقرّب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد تكفير الصغائر بالطاعات ، وفي الحديث : «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر (١)» والثاني : إن الحسنات يذهبن السيئات ، بأن يكن لطفاً في تركها ، كقوله (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) وقيل : نزلت في أبى اليسر عمرو بن غزية الأنصارى ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته ، فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل ، فقال صلى الله عليه وسلم : أنتظر أمر ربى ، فلما صلى صلاة العصر نزلت ، فقال : نعم ، اذهب فإنها كفارة لما عملت : وروى أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله ، فأتى عمر رضى الله عنه فقال له مثل ذلك ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فقال عمر : أهذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة. وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : توضأ وضوآ حسنا وصل ركعتين (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٢) (ذلِكَ) إشارة إلى قوله (فَاسْتَقِمْ) فما بعده (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين.

__________________

(١) أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة رفعه «الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر».

(٢) كان في الأصل أبو اليسر عمرو بن غزية وهو غلط. وإنما هو أبو اليسر كعب بن عمرو. وكذا هو في كتب أسماء الصحابة. وإنما تبع المصنف الثعلبي فانه قال كذلك نزلت في عمرو بن غزية الأنصارى. والحديث عند الترمذي والنسائي والبزار والطبراني والطبري من رواية عثمان بن عبد الله بن موهب عن موسى بن طلحة بن أبى اليسر ابن عمرو قال : أتتنى امرأة تبتاع تمرا ـ فقلت لها : في البيت تمر أطيب من هذا فدخلت معى في البيت. فأهويت إليها فقبلتها. فقالت : اتق الله. فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له : فقال استر على نفسك وتب. فأتيت عمر فقال مثل ذلك. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأطرق طويلا حتى أوحى إليه (أَقِمِ الصَّلاةَ ...) الآية قال ابن أبى اليسر : أتيته فقرأها على. فقال أصحابه : يا رسول الله ، ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة.

وفي رواية لأحمد فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، أله وحده أم للناس كافة؟» وللدارقطنى والحاكم والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ أنه كان قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يأتيه الرجل من امرأته إلا أصاب منها غير أنه لم يجامعها.

٤٣٥

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

ثم كرّ إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير ، وهذا الكرور لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله ، كأنه قال : وعليك بما هو أهمّ مما ذكرت به وأحق بالتوصية ، وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه ، فلا يتم شيء منه إلا به (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) جاء بما هو مشتمل على الاستقامة وإقامة الصلوات والانتهاء عن الطغيان والركون إلى الظالمين والصبر وغير ذلك من الحسنات.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ)(١١٦)

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) فهلا كان. وقد حكوا عن الخليل : كل «لو لا» في القرآن فمعناها «هلا» إلا التي في الصافات ، وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) ، (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) ، (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ). (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أو لو فضل وخير. وسمى الفضل والجودة بقية لأنّ الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله ، فصار مثلا في الجودة والفضل. ويقال : فلان من بقية القوم ، أى من خيارهم. وبه فسر بيت الحماسة :

إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِى بَقِيَّتُكُمْ (١)

__________________

ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وضوآً حسنا ثم صل. فأنزل الله تعالى الآية. فقال معاذ : أهى له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : بل للمسلمين عامة. وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن مسعود وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإنى أصبت منها دون أن أمسها وأنا هذا فاقض فىّ ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا. فدعاء فتلا عليه (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ...) الآية فقال رجل من القوم : يا رسول الله أله خاصة أم للناس؟ فقال : بل للناس كافة».

(١) يا أيها الراكب المزجى مطيته

سائل بنى أسد ما هذه الصوت

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرئكم إنى أنا الموت

إن تذنبوا ثم يأتينى بقيتكم

فما علىّ بذنب عندكم فوت

لروشيد بن كثير الطائي. وزجاه ـ بالتخفيف والتشديد ـ وأزجاه : ساقه. وأراد بالصوت : الصيحة أو القصة التي بلغته عنه ، وأخبر عن نفسه بالموت مبالغة. وبقية القوم : خيارهم ، وتأتى مصدراً بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى. والمعنى على الأول. إن تذنبوا ثم يأتينى أماثلكم يعتذرون عنكم فلا فوت ، ولا بأس علىّ بسبب ذنب غيركم. وعلى الثاني : ثم يأتينى منكم ذو الإبقاء على أنفسهم ، يقولون : لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، فكذلك. ويجوز أن المعنى : إن تجتمعوا على للمحاربة أو للاعتذار ، فلا تفوتني مؤاخذتكم بل لا بد منها. وإثبات الياء في «يأتينى» للإشباع ، لكن الأخير غير مناسب لقوله «بادروا بالعذر».

٤٣٦

ومنه قولهم : في الزوايا خبايا ، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى ، كالتقية بمعنى التقوى ، أى : فهلا كان منهم ذو وبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرئ : أولو بقية ، بوزن لقية ، من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره ومنه : «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (١)» والبقية المرّة من مصدره. والمعنى : فلو كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله ، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء منقطع ، معناه : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهم تاركون للنهى. و (مِنَ) في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) حقها أن تكون للبيان لا للتبعيض ، لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم ، بدليل قوله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا). فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت : إن جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام ، كان المعنى فاسداً ، لأنه يكون تحضيضاً لأولى البقية على النهى عن الفساد ، إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم ، تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهى عن الفساد معنى نفيه عنهم ، فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا ، كان استثناء متصلا ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابه على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أراد بالذين ظلموا : تاركي النهى عن المنكرات ، أى : لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين ، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعقدوا هممهم بالشهوات ، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف ، من حب الرياسة والثروة ، وطلب أسباب العيش الهنيء. ورفضوا ما وراء ذلك ونبذوه وراء ظهورهم. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، واتبع الذين ظلموا ، يعنى : واتبعوا جزاء ما أتوفوا فيه. ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة : أنهم اتبعوا جزاء إترافهم. وهذا معنى قوىّ لتقدم الإنجاء ، كأنه قيل : إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر. فإن قلت : علام عطف قوله (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟ قلت : إن كان معناه : واتبعوا الشهوات ، كان معطوفاً على مضمر ، لأنّ المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ، واتبع الذين ظلموا شهواتهم ، فهو عطف على نهوا. وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف ، فالواو للحال ، كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. فإن قلت : فقوله (وَكانُوا مُجْرِمِينَ)؟ قلت : على أترفوا أى : اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين ، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. أو أريد بالإجرام

__________________

(١) أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل قال «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة ، فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج ... الحديث».

٤٣٧

إغفالهم للشكر. أو على اتبعوا ، أى اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)(١١٧)

(كانَ) بمعنى صح واستقام. واللام لتأكيد النفي. و (بِظُلْمٍ) حال من الفاعل. والمعنى : واستحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها (وَأَهْلُها) قوم (مُصْلِحُونَ) تنزيها لذاته عن الظلم ، وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين من الظلم. وقيل : الظلم الشرك ، ومعناه أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فساداً آخر.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أى ملة واحدة وهي ملة الإسلام ، كقوله (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) وهذا الكلام يتضمن نفى الاضطرار ، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ، فلذلك قال (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم ، فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام الأوّل وتضمنه ، يعنى : ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان عنه الاختلاف خلقهم ، ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وهي قوله للملائكة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لعلمه بكثرة من يختار الباطل.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(١٢٢)

(وَكُلًّا) التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل. وكل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) و (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) بيان لكل. (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بدل من كلا. ويجوز أن يكون المعنى : كل واقتصاص

٤٣٨

نقصّ عليك ، على معنى : وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ، يعنى : على الأساليب المختلفة ، و (ما نُثَبِّتُ بِهِ) مفعول نقصّ. ومعنى تثبيت فؤاده : زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أى في هذه السورة. أو في هذه الأنباء المقتصة فيها ما هو حق (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من أهل مكة وغيرهم (اعْمَلُوا) على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها (إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه خافية مما يجرى فيهما ، فلا تخفى عليه أعمالكم (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك ، فينتقم لك منهم (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه كافيك وكافلك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وقرئ : تعملون ، بالتاء : أى أنت وهم على تغليب المخاطب.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به ، وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ذلك (١)

__________________

(١) تقدم إسناده في آل عمران ويأتى في آخر الكتاب.

٤٣٩

سورة يوسف

مكية [إلا الآيات ١ و ٢ و ٣ و ٧ فمدنية]

وهي مائة وإحدى عشرة آية [نزلت بعد سورة هود]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٣)

(تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة. و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) السورة ، أى تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم. أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روى أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف (أَنْزَلْناهُ) أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وسمى بعض القرآن قرآناً ، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ). (الْقَصَصِ) على وجهين : يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص ، تقول : قصّ الحديث يقصه قصصاً ، كقولك : شله يشله شللا ، إذا طرده. ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر : في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر ، كالخلق والصيد. وإن أريد المصدر ، فمعناه : نحن نقص عليك أحسن القصص (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أى بإيحائنا إليك هذه السورة ، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر ، لإضافته إليه ، ويكون المقصوص محذوفاً ، لأنّ قوله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) مغن عنه. ويجوز أن

٤٤٠