الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

الوجل : أرادوا أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. يعنى (أَبَشَّرْتُمُونِي) مع مس الكبر ، بأن يولد لي. أى : أن الولادة أمر عجيب مستنكر في العادة مع الكبر (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) هي ما الاستفهامية ، دخلها معنى التعجب ، كأنه قال : فبأى أعجوبة تبشروني. أو أراد : أنكم تبشروننى بما هو غير متصوّر في العادة ، فبأى شيء تبشرون ، يعنى : لا تبشروننى في الحقيقة بشيء ، لأنّ البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا يكون صلة لبشر ، ويكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعنى : بأى طريقة تبشروننى بالولد ، والبشارة به لا طريقة لها في العادة. وقوله (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) يحتمل أن تكون الباء فيه صلة ، أى : بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده ، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر. وقرئ : تبشرون ، بفتح النون وبكسرها على حذف نون الجمع ، والأصل تبشرونن ، وتبشرونِ (١) بإدغام نون الجمع في نون العماد. وقرئ : من القنطين ، من قنط يقنط. وقرئ : ومن يقنط ، بالحركات الثلاث في النون ، أراد : ومن يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون ، كقوله (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) يعنى : لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ، ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)(٦٠)

فإن قلت قوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء متصل أو منقطع؟ (٢). قلت ، لا يخلو من من أن يكون استثناء من قوم ، فيكون منقطعاً ، لأنّ القوم موصوفون بالإجرام ، فاختلف لذلك الجنسان وأن يكون استثناء من الضمير في مجرمين ، فيكون متصلا ، كأنه قيل : إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم ، كما قال (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). فإن قلت : فهل يختلف المعنى لاختلاف الاستثناءين؟ قلت : نعم ، وذلك أنّ آل لوط مخرجون في المنقطع من حكم الإرسال ، وعلى أنهم أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة ، ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا. ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين ، كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمىّ. في أنه في معنى التعذيب

__________________

(١) قوله «وتبشرون» بكسر النون والتشديد. قاله النسفي. (ع)

(٢) قال محمود : «إن قلت هل الاستثناء الأول متصل ... الخ» قال أحمد : وجعله الأول منقطعاً أولى وأمكن ، وذلك أن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعداً ، من حيث أن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول ، وهذا الدخول متعذر من التنكير ، ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفى ، لأنها حينئذ أعم ، فيتحقق الدخول لو لا الاستثناء ، ومن ثم لم يحسن رأيت قوماً إلا زيداً وحسن ما رأيت أحداً إلا زيداً ، والله أعلم.

٥٨١

والإهلاك ، كأنه قيل : إنا أهلكنا قوما مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصا (١) بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل. فإن قلت : فقوله (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) بم يتعلق على الوجهين؟ قلت : إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكنّ» في الاتصال بآل لوط ، لأنّ المعنى. لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاما مستأنفاً ، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم : فما حال آل لوط ، فقالوا : إنا لمنجوهم. فإن قلت : فقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ممّ استثنى ، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله (لَمُنَجُّوهُمْ) وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء ، لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط ، إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً ، إلا اثنتين ، إلا واحدة. وفي قول المقرّ : لفلان علىّ عشرة دراهم ، إلا ثلاثة ، إلا درهما. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ (إِلَّا آلَ لُوطٍ) متعلق بأرسلنا ، أو بمجرمين. و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٢) والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم. فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير ـ وهو لله وحده ـ إلى أنفسهم ، ولم يقولوا : قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم ، كما

__________________

(١) قوله «فلا يكون الإرسال مخلصا» لعله : مختصا. (ع)

(٢) عاد كلامه. قال محمود : «فان قلت لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الخ» قال أحمد : وهذه أيضاً من دفائنه الاعتزالية في جحد القضاء والقدر ، واعتقاد أن الأمر أنف ، لأنهم لا يعتقدون أن الله تعالى مريد لأكثر أفعال عبيده من معصية ومباح ونحوهما ولا مقدر لها على العبيد ، بمعنى أنه مريد ولكنه عالم بما سيفعلونه على خلاف مشيئته وإرادته. فالتقدير عندهم هو العلم لا الارادة ، ثم استدل على أن التقدير هو العلم بتقدير فعله عن العمل ، وذلك من خواص فعل العلم وأخواته ، فانظر إلى بعد غوره ودقة فطنته في ابتغاء آية يلفقها ويعاند بها البراهين الواضح فلقها ، وفي كلامه شاهد على رده ، فان التقدير عنده مضمن معنى العلم ، ومن شأن الفعل المضمن معنى آخر : أن يبقى على معناه الأصلى ، مضافا إليه المعنى الطارئ فيفيدهما جميعاً ، فالتقدير إذاً كما أفاد العلم الطارئ يفيد الارادة أصلا ووضعاً. والله أعلم ، على أن من الناس من جعل قوله تعالى (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة ، وهو الظاهر ، فان الذي يجعله من قول الملائكة يحتاج في نسبتهم التقدير إلى أنفسهم إلى تأويل ، ويجعله من باب قول خواص الملك : دبرنا كذا ، وأمرنا بكذا ، وإنما يعنون دبر الملك وأمر ، وبذلك أولة الزمخشري. وإن كان أصله لا يحتاج معه إلى التأويل ، لأنه إذا جعل قدرنا بمعنى علمنا إنها لمن الغابرين ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك باخبار الله تعالى إياهم به ، وإنما يحتاج إلى التأويل : من جعل قدرنا بمعنى أردنا وقضينا وجعله من قول الملائكة ، والله أعلم.

٥٨٢

يقول خاصة الملك : دبرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبر والآمر هو الملك لا هم ، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنهم لا يتميزون عنه. وقرئ : قدرنا ، بالتخفيف.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(٦٦)

(مُنْكَرُونَ) أى تنكركم نفسي وتنفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشرّ ، بدليل قوله (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوّك ، وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله ، فيمترون فيه ويكذبونك (بِالْحَقِ) باليقين من عذابهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الإخبار بنزوله بهم. وقرئ : فأسر ، بقطع الهمزة ووصلها ، من أسرى وسرى. وروى صاحب الإقليد : فسر ، من السير والقطع في آخر الليل. قال :

افْتَحِى الْبَابَ وَانْظُرِى فِى النُّجُومِ

كَمْ عَلَيْنَا مِن قِطعِ لَيْلٍ بَهِيمِ (١)

وقيل : هو بعد ما يمضى شيء صالح من الليل. فإن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم (٢) ونهيهم عن الالتفات؟ قلت قد بعث الله الهلاك على قومه ، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم ، وخرج مهاجراً فلم يكن له بدّ من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك ، فأمر بأن يقدّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه ، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم ، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاماً منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ، ولئلا يتخلف منهم

__________________

(١) يقول لصاحبته وكان يحب طول الليل ويدعيه : افتحي باب البيت وانظري وتأملى في النجوم ، أمالت جهة الغرب أم لا؟ وكم : يحتمل أنها خبرية التكثير ، ويحتمل أنها استفهامية ، ثم يحتمل أنها مستأنفة ، ويحتمل أن الفعل قبلها معلق عن العمل في لفظها لأن لها الصدارة. والمراد من هذا الأمر طلب إخباره بما تعلمه بعد النظر من جواب الاستفهام المذكور. وقطع الليل : ظلمته. وقال في الصحاح : ظلمة آخره ، والمراد به هنا جزء الليل. والبهيم : شديد الظلام لانبهام الأشياء فيه ، ووصفه بذلك ملائم للمقام.

(٢) قال محمود : «إن قلت : ما معنى أمره باتباع أدبارهم ... الخ» قال أحمد : ولبعض هذه المقاصد عاتب الله تعالى نبيه موسى عليه السلام حيث تقدم قومه فقال (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) والله أعلم.

٥٨٣

أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدّم سربه ويفوت به ، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب (١) فيرقوا لهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة (٢) ويطيبوها عن مساكنهم ، ويمضوا قدماً (٣) غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوى إليه أخادعه ، كما قال :

تَلَفَّتُّ نَحْوَ الحَىّ حَتّي وَجَدتُنِى

وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا (٤)

أو جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف ، لأنّ من يلتفت لا بدّ له في ذلك من أدنى وقفة (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قيل : هو مصر ، وعدّى (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) تعديته إلى الظرف المبهم ، لأن (حَيْثُ) مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في (تُؤْمَرُونَ) وعدى (قَضَيْنا) بإلى لأنه ضمن معنى : أوحينا ، كأنه قيل : وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً. وفسر (ذلِكَ الْأَمْرَ) بقوله (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له. وقرأ الأعمش : إن ، بالكسر على الاستئناف ، كأن قائلا قال : أخبرنا عن ذلك

__________________

(١) عاد كلامه. قال : «وإنما نهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب ... الخ» قال أحمد : ولقد شملت هذه الآية على وجازتها آداب المسافرين لمهم دينى أو دنيوى ، من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ).

(٢) قوله «وليوطنوا نفوسهم عل المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم» لعل فيه تقديما ، والأصل : على المهاجرة عن مساكنهم ويطيبوها ، فليحرر. (ع)

(٣) قوله «ويمضوا قدما» في الصحاح «مضى قدماء بضم الدال : لم يعرج ولم ينثن. (ع)

(٤) ولما رأيت البشر أعرض دوننا

وحالت بنات الشوق يحنن نزعا

بكت عينى اليسرى فلما زجرتها

عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

تلفت نحو الحي حتى وجدتني

وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

للصمة بن عبد الله بن طفيل بن الحرث ، والبشر : السرور وما به السرور ، وأعرض : ظهر أمامنا ، وحالت ـ بالمهملة ـ أى صارت حائلا بيننا وبين البشر ومنعتنا عنه ، وبكت : جواب لما ، وخص اليسرى أولا ، لأنه كان أعور. ويروى : جالت ، بالجيم أى حامت خواطر القلب الناشئة من الشوق في قلبي ، حال كونها نحن إلى المحبوبة ، نازعات شائقات إليها ، يقال : نزع نزوعا إذا مال قلبه واشتاق إلى حبه. والنزع : جمع نازع ، فشبه الخواطر بالبنات على طريق التصريحية ، لتولدها من الشوق وإثبات الجولان والحنين ، والنزوع ترشيح ، لأن الأول خاص بالمحسوس ، والأخيران بالمدرك. وإسناد الحنين والنزوع إليها مجاز عقلى ، لأنهما في الحقيقة لمحلها وهو القلب ، بل الشخص وهو سببها. والجهل ضد الحلم. أسبلتا : سالت دموعهما ، وإسناد البكاء للعين مجازاً ، ومعناه دمعت عينى ، فيجوز تشبيهها بالإنسان على طريق المكنية ، وزجرها ترشيح ، وجهلها وحلمها تخييل ، وتلفت : أى أكثرت الالتفات جهة الحي ، حتى وجع ليتى وأخدعى. يقال : وجع وجعا كتعب تعبا. والليت ـ بالكسر ـ : صفحة العنق. والأخدع : عرق فيها ، وهما تمييزان محولان عن الفاعل ، وذلك مبالغة في كثرة التلفت.

٥٨٤

الأمر ، فقال : إنّ دابر هؤلاء. وفي قراءة ابن مسعود : وقلنا إنّ دابر هؤلاء. ودابرهم : آخرهم ، يعنى : يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧)

(أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أهل سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور ، مستبشرين بالملائكة (فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي ، لأنّ من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه ، كما أن من أُكرم من يتصل به فقد أُكرم (وَلا تُخْزُونِ) ولا تذلونِ بإذلال ضيفي ، من الخزي وهو الهوان. أو ولا تشوّروا (١) بى ، من الخزاية وهي الحياء (عَنِ الْعالَمِينَ) عن أن تجير منهم أحداً ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرّضون لكل أحد ، وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهى عن المنكر ، والحجر بينهم وبين المتعرّض له ، فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين. وقيل : عن ضيافة الناس وإنزالهم ، وكانوا نهوه أن يضيف أحداً قط (هؤُلاءِ بَناتِي) إشارة إلى النساء ، لأنّ كل أمّة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته ، فكأنه قال لهم : هؤلاء بناتي فانكحوهنّ ، وخلوا بنىّ فلا تتعرضوا لهم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) شك في قبولهم لقوله ، كأنه قال : إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون. وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرّم (لَعَمْرُكَ) على إرادة القول ، أى قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أى غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم ، من ترك البنين إلى البنات (يَعْمَهُونَ)

__________________

(١) قوله «ولا تشوروا بى» في الصحاح «الشوار» فرج المرأة والرجل. ومنه قيل : شور به ، أى كأنه أبدى عورته (ع)

٥٨٥

يتحيرون ، فكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك. وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له ، والعمرو العمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه ، وذلك لأن الحلف كثير الدور على ألسنتهم ، ولذلك حذفوا الخبر ، وتقديره : لعمرك مما أقسم به ، كما حذفوا الفعل في قولك : بالله. وقرئ : في سكرهم وفي سكراتهم (الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل عليه السلام (مُشْرِقِينَ) داخلين في الشروق وهو بزوع الشمس (مِنْ سِجِّيلٍ) قيل : من طين ، عليه كتاب من السجل. ودليله قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) أى معلمة بكتاب (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرّسين المتأملين. وحقيقة المتوسمين النظار المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال : توسمت في فلان كذا ، أى عرفت وسمه فيه. والضمير في (عالِيَها سافِلَها) لقرى قوم لوط (وَإِنَّها) وإنّ هذه القرى يعنى آثارها (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار ، وهو تنبيه لقريش كقوله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ).

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩)

(أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قوم شعيب (وَإِنَّهُما) يعنى قرى قوم لوط والأيكة. وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح ، والامام اسم لما يؤتم به ، فسمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه ، لأنها مما يؤتم به.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٨٤)

(أَصْحابُ الْحِجْرِ) ثمود ، والحجر واديهم ، وهو بين المدينة والشأم (الْمُرْسَلِينَ) يعنى بتكذيبهم صالحاً ، لأنّ من كذب واحداً منهم فكأنهما كذبهم جميعاً ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين ، كما قيل : الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر : مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم (١) على الحجر

__________________

(١) لم أجده من حديث جابر ، وهو في الصحيح من حديث ابن عمر بهذا اللفظ دون قوله «ناقته» وفي رواية : أن ذلك كان في غزوة تبوك.

٥٨٦

فقال لنا «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء» ثم زجر النبي صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها (آمِنِينَ) لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها ، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة والأموال والعدد.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)(٨٥)

(إِلَّا بِالْحَقِ) إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة ، لا باطلا وعبثاً. أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك ، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم ، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك (فَاصْفَحِ) فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلا بحلم وإغضاء. وقيل : هو منسوخ بآية السيف. ويجوز أن يراد به المخالقة (١) فلا يكون منسوخاً.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)(٨٦)

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم ، وهو (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم ، فلا يخفى عليه ما يجرى بينكم وهو يحكم بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وفي مصحف أبىّ وعثمان : إن ربك هو الخالق وهو يصلح للقليل والكثير ، والخلاق للكثير لا غير ، كقولك : قطع الثياب ، وقطع الثوب والثياب.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(٨٧)

(سَبْعاً) سبع آيات وهي الفاتحة. أو سبع سور وهي الطوال ، واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة ، لأنهما في حكم سورة واحدة ، ولذلك لم يفصل بينهما بآية التسمية. وقيل سورة يونس. وقيل : هي آل حم ، أو سبع صحائف وهي الأسباع. و (الْمَثانِي) من التثنية وهي التكرير ، لأن الفاتحة مما تكرر قراءتها في الصلاة وغيرها ، أو من الثناء لاشتمالها على ما هو ثناء على الله ، الواحدة مثناة أو مثناة أو مثنية صفة للآية. وأمّا السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير

__________________

(١) قوله «يراد به المخالقة» أى المعاملة بحسن الخلق. وفي الصحاح : يقال خالص المؤمن ، وخالق الفاجر اه (ع)

٥٨٧

القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، ولما فيها من الثناء ، كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. و «من» إما للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إدا أردت الأسباع. ويجوز أن يكون كتب الله كلها مثاني ، لأنها تثنى عليه ، ولما فيها من المواعظ المكررة ، ويكون القرآن بعضها ، فإن قلت : كيف صح عطف القرآن العظيم على السبع ، وهل هو إلا عطف الشيء على نفسه؟ قلت : إذا عنى بالسبع للفاتحة أو الطوال ، فما وراءهنّ ينطلق عليه اسم القرآن ، لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. ألا ترى إلى قوله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) يعنى سورة يوسف ، وإذا عنيت الأسباع فالمعنى : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، أى : الجامع لهذين النعتين ، وهو الثناء أو التثنية والعظم.

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(٨٩)

أى : لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافاً من الكفار. فإن قلت : كيف وصل هذا بما قبله؟ (١) قلت : يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة ، وهي القرآن العظيم ، فعليك أن تستغني به ، ولا تمدّن عينيك إلى متاع الدنيا. ومنه الحديث «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن ، (٢) وحديث أبى بكر «من أوتى القرآن فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيما وعظم صغيراً (٣)» وقيل : وافت من بصرى وأذرعات : سبع قوافل ليهود

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كيف وصل هذا بما قبله ... الخ»؟ قال أحمد : وهذا هو الصواب في معنى الحديث ، وقد حمله كثير من العلماء على الغناء ، وادعى هؤلاء أن «تغنى» إنما يبنى من الغناء الممدود لا من الغنى المقصور ، وأن فعله استغنى خاصة ، وقد وجدت بناء تغنى من الغنى المقصور في الحديث الصحيح في الخيل. وأما التي هي ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ، وإنما هذا من الغنى المقصور قطعا واتفاقا ، وهو مصدر تعنى ، فدل ذلك على أنه مستعمل من البناءين جميعاً على خلاف دعوى المخالف ، والله الموفق.

(٢) أخرجه البخاري من طريق أبى سلمة عن أبى هريرة وفي الباب عن سعد وأبى لبابة عند أبى داود. قال المخرج ذهل النووي وقبله المذرى ، ثم الطيبي فعزوه لأبى داود ولم يعزوه للبخاري وأخطأ القرطبي فعزاه لمسلم لا للبخاري ، ولم يذكره صاحب جامع الأصول ، وعزاه الحاكم للشيخين والذي في الصحيحين حديث أبى هريرة «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» «فائدة» قال البيهقي في السنن في كتاب الشهادات ، أخبرنا الحاكم عن أبى الأصم سمعت الربيع يقول : سمعت الشافعي يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن. فقال له رحل : يستغن؟ قال : ليس هذا معناه ، أى معناه يقرأه تحزينا.

(٣) لم أجده عن أبى بكر ، وأخرجه ابن عدى في ترجمة حمزة النصيبي عن زيد بن رفيع عن أبى عبيدة عن ابن ـ

٥٨٨

بنى قريظة والنضير ، فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم الله عز وعلا : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أى لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء (وَقُلْ) لهم (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(٩١)

فإن قلت : بم تعلق قوله (كَما أَنْزَلْنا)؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أى أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل ، وعضوه (١). وقيل : كانوا يستهزؤن به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن : ما يقرءونه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذبت ببعض ، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم ، وقولهم سحر وشعر وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني أن يتعلق بقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أى : وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين ، يعنى اليهود ، وهو ما جرى على قريظة والنضير ، جعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز ، لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير ، أى : أنذر المعضين الذين يجزءون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير ، مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، فقعدوا في كل مدخل متفرّقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر. ويقول الآخر : كذاب ، والآخر : شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات ، كالوليد بن المغيرة ،

__________________

ـ مسعود رفعه «من تعلم القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد حقر عظيما وعظم صغيرا» وحمزة اتهموه بالوضع. وأخرجه إسحاق والطبري من حديث عبد الله بن عمر بلفظ «من أعطى القرآن فرأى أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد عظم ما صغر الله وصغر ما عظم الله ـ الحديث»

(١) قوله «وعضوه» في الصحاح : عضيت الشاة تعضية ، إذا جزأتها أعضاء. وعضيت الشيء تعضية ، إذا فرقته. (ع)

٥٨٩

والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب وغيرهم ، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً عليه السلام ، والاقتسام بمعنى التقاسم. فإن قلت : إذا علقت قوله : (كَما أَنْزَلْنا) بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) فما معنى توسط (لا تَمُدَّنَ) إلى آخره بينهما؟ قلت : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية. من النهى عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ، ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين (عِضِينَ) أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء. قال رؤبة :

وَلَيْسَ دِينُ اللهِ بِالْمَعْضِىِ

وقيل : هي فعلة ، من عضهته إذا بهته (١). وعن عكرمة : العضة السحر ، بلغة قريش ، يقولون للساحرة عاضهة. ولعن النبي صلى الله عليه وسلم العاضهة (٢) والمستعضهة ، نقصانها على الأوّل واو ، وعلى الثاني هاء.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٣)

(لَنَسْئَلَنَّهُمْ) عبارة عن الوعيد. وقيل. يسألهم سؤال تقريع. وعن أبى العالية : يسأل العباد عن خلتين : عما كانوا يعبدون ، وما ذا أجابوا المرسلين.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(٩٤)

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فاجهر به وأظهره. يقال : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً ، كقولك : صرح بها ، من الصديع وهو الفجر ، والصدع في الزجاجة : الإبانة. وقيل : (فَاصْدَعْ) فافرق بين الحق والباطل بما تؤمر ، والمعنى : بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجارّ ، كقوله :

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ (٣)

__________________

(١) قوله «إذا بهته» أى اتهمته. (ع)

(٢) أخرجه أبو يعلى وابن عدى من حديث ابن عباس. وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، وهما ضعيفان. وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية عن ابن جريج عن عطاء.

(٣) فقال لي قول ذى رأى ومقدرة

محرر نزه خال من الريب

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

لخفاف بن ندبة ، وقيل : لعباس بن مرداس. وقيل : لعمرو بن معديكرب. وقيل : لا ياس بن موسى ، والمقدرة : مثلث الدال : القوة ، والمحرر النزه ـ كحذر ـ : الخالص من الغش. والريب ، أى الشبه ، وهو نعت لذي رأى. ولو جعلته نعتا للرأى لكان فيه الفصل بين النعت والمنعوت بالعطف. ويجوز رفعه على أنه نعت مقطوع للقول.

٥٩٠

ويجوز أن تكون (بِما) مصدرية ، أى بأمرك مصدر من المبنى للمفعول.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٩٦)

عن عروة بن الزبير في المستهزئين : هم خمسة نفر ذوو أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس رضى الله عنه : ماتوا كلهم قبل بدر. قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظماً لأخذه ، فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أحمص العاص بن وائل ، فدخلت فيها شوكة ، فقال : لدغت لدغت وانتفخت رجله ، حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عينى الأسود بن المطلب ، فعمى وأشار إلى أنف الحرث بن قيس ، فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (١).

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

(بِما يَقُولُونَ) من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن (فَسَبِّحْ) فافزع فيما نابك إلى الله. والفزع إلى الله : هو الذكر الدائم وكثرة السجود ، يكفك ويكشف عنك الغم. ودم

__________________

ـ والنشب : المال الأصل صامتا أو ناطقا ، فهو من عطف الخاص على العام. ويروى : ذا نسب ، بالمهملة : أى نسب عظيم ، وأمر : يتعدى للثاني بالباء. ويقال : أمرتك الخير على التوسع ، أو تضمين التكليف ، وجمعهما الشاعر في البيت.

(١) لم أجده بهذا السياق. وأخرجه الطبراني في معجميه. وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل لهما. وابن مردويه كلهم من طريق جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس في قوله تعالى (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال : هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وأبو زمعة والحرث بن عيطل السهمي قال أتاه جبريل فشكاهم إليه. فأراه الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أكحله. فقال : ما صنعت؟ قال : كفيته. فساق الحديث. قال : فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود ابن المطلب فعمى. وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها ، وأما العاص بن وائل فركب إلى الطائف فربط به حماره على شبرقة يعنى شوكة. فدخلت في أخمص قدمه فقتلته. وأما الحرث بن عيطل فأخذه ألم الأصفر في بطنه حتى خرج خرءه من فيه فمات منها»

٥٩١

على عبادة ربك (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أى الموت ، أى ما دمت حياً فلا تخل بالعبادة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (١).

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار ، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم» (٢)

سورة النحل

مكية ، غير ثلاث آيات في آخرها

وتسمى سورة النعم ، وهي مائة وثمان وعشرون آية [نزلت بعد سورة الكهف]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١)

كانوا يستمجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر ، استهزاء وتكذيباً بالوعد ، فقيل لهم (أَتى أَمْرُ اللهِ) الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) روى أنه لما نزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن ، فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً ، فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به ، فنزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم ، فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا وقرئ : تستعجلوه ، بالتاء والياء (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك ، وأن تكون آلهتهم له شركاء. أو عن إشراكهم ، على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية. فإن قلت : كيف اتصل

__________________

(١) تقدم في البقرة.

(٢) رواه الثعلبي من طريق أبى الخليل عن على بن زيد عن زر بن حبيش عن أبى بن كعب. وقد تقدمت أسانيده في آخر آل عمران.

٥٩٢

هذا باستعجالهم؟ قلت : لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك. وقرئ : تشركون ، بالتاء والياء.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

قرئ (يُنَزِّلُ) بالتخفيف والتشديد. وقرئ (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أى تنزل (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد ، و (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من الروح ، أى ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره : بأنه أنذروا ، أى : بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن» مفسرة ، لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول. ومعنى أنذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أعلموا بأنّ الأمر ذلك ، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى : يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا (فَاتَّقُونِ).

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤)

ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر ، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه ، وما لا بدّ له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته ، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه ، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرئ : تشركون ، بالتاء والياء (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فيه معنيان ، أحدهما : فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة ، بعد ما كان نطفة من منىّ جماداً لا حس به ولا حركة ، دلالة على قدرته. والثاني : فإذا هو خصيم لربه ، منكر على خالقه ، قائل : من يحيى العظام وهي رميم ، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل ، والتمادي في كفران النعمة. وقيل نزلت في أبىّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ (١)(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ)(٥)

(الْأَنْعامَ) الأزواج الثمانية ، وأكثر ما تقع على الإبل ، وانتصابها بمضمر يفسره

__________________

(١) يأتى في صورة يس.

٥٩٣

الظاهر ، كقوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) ويجوز أن يعطف على الإنسان ، أى : خلق الإنسان والأنعام ، ثم قال (خَلَقَها لَكُمْ) أى ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. والدفء : اسم ما يدفأ به ، كما أنّ الملء اسم ما يملأ به ، وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. وقرئ : دفّ ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء (وَمَنافِعُ) هي نسلها ودرّها وغير ذلك. فإن قلت : تقديم الظرف في قوله (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها. قلت : الأكل منها هو الأصل (١) الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجارى مجرى التفكه. ويحتمل أن طعمتكم منها ، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)(٦)

منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها ، لأنه من أغراض أصحاب المواشي ، بل هو من معاظمها ، لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة ـ فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء (٢) ـ أنست أهلها وفرحت أربابها ، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها ، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، (يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً). فإن قلت : لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأنّ الجمال في الإراحة أظهر ، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة : حينا تريحون وحينا تسرحون ، على أن (تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) وصف للحين. والمعنى : تريحون فيه وتسرحون فيه ، كقوله تعالى (يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ).

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٧)

قرئ : بشق الأنفس ، بكسر الشين وفتحها. وقيل : هما لغتان في معنى المشقة ، وبينهما فرق : وهو أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا ، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع.

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت لم قدم المجرور وأجاب بأن الأكل منها هو الأصل ... الخ»؟ قال أحمد : ومدار هذا التقرير على أن تقديم معمول الفعل يوجب حصره فيه فكأنه قال وإنما تأكلون منها.

(٢) قوله «وتجاوب فيها الثغاء والرغاء» الثغاء صوت الشاء والمعز وما شاكلهما. والرغاء صوت ذوات الخف ، كذا في الصحاح.

٥٩٤

وأما الشق فالنصف ، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت : ما معنى قوله : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) كأنهم كانوا زمانا يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت : معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم ، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت : كيف طابق قوله : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) قوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه (١)؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه : وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة ، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل : أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة : البلد مكة (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) عطف على الأنعام ، أى : وخلق هؤلاء للركوب والزينة ، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة ، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت : لم انتصب (وَزِينَةً)؟ قلت : لأن مفعول له ، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد (٢)؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ : لتركبوها زينة ، بغير واو ، أى : وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها ، أى : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك ، وإن طوى عنا علمه لحكمة

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كيف طابق قوله لم تكونوا بالغيه قوله وتحمل أثقالكم ... الخ»؟ قال أحمد : ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغنى عن أثقال يستصحبها والمعنى الأول أعلى ، والله أعلم.

(٢) قال محمود : «إن قلت هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد ... الخ»؟ قال أحمد : يعنى فجاز أن ينتصب مجرداً من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول ، ويعينه اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين ، ومتى لم يتحد الفاعل تعين لحاق اللام ، وفي هذا الجواب نظر ، فان لقائل أن يقول : كان من الممكن مجيئهما معا باللام فيأتيان على سنن واحد. ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم ، والجواب العتيد عنه : أن المقصود المعتبر الأصلى في هذه الأصناف هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب «فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة التعليل ، تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب ، والله أعلم

٥٩٥

له في طيه ، وقد حمل على ما خلق في الجنة والنار ، مما لم يبلغه وهم أحد ، ولا خطر على قلبه.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩)

المراد بالسبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليها القصد وقال (وَمِنْها جائِرٌ). والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال : سبيل قصد وقاصد ، أى : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أنّ هداية الطريق الموصل (١) إلى الحق واجبة عليه ، (٢) كقوله (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). فإن قلت : لم غير أسلوب الكلام في قوله (وَمِنْها جائِرٌ)؟ قلت : ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز ، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة (٣) لقيل : وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله : ومنكم جائر ، يعنى : ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره ، والله بريء منه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) قسراً وإلجاء (٤).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)

__________________

(١) قال محمود : «ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة ... الخ» قال أحمد : أين يذهب به عن تتمة الآية. وذلك قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولو كان الأمر كما تزعم القدرية لكان الكلام : وقد هداكم أجمعين. وما كأنهم إلا يؤمنون ببعض الكتاب ويكافرون ببعض ، فان ذهبوا إلى تأويل الهداية بالقسر والإلجاء ، فما كأنهم إلا يحرفون الكلم من بعد مواضعه. وأما المخالفة بين الأسلوبين ، فلأن سياق الكلام لاقامة حجة الله تعالى على الخلق بأنه بين السبيل القاصد والجائر ، وهدى قوما اختاروا الهدى ، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. وقد تقدم في غير ما موضع أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران ، هو من حيث كونه موجوداً مخلوق لله تعالى ومضاف إليه بهذا الاعتبار ، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وبتأتيه له وتيسره عليه يضاف إلى العبد ، وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل ، فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها ، وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له ، والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ، ليناسب ذلك إقامة الحجة (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) والله الموفق للصواب.

(٢) قوله «الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه» هذا مذهب المعتزلة ولا وجوب عليه تعالى عند أهل السنة ، بل ذلك فضل منه تعالى ، لكن الكريم يبرز الوعد بالخير في صورة الواجب. (ع)

(٣) قوله «ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل : وعلى الله قصد السبيل» يعنى أهل السنة من أنه تعالى يخلق الشر كالخير. وقوله «لقيل» الخ : الملازمة ممنوعة لأن الكريم يحب الخير دون الشر ، وإن كان كل منهما من عنده (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ). (ع)

(٤) قوله «ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً وإلجاء» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فانه لو شاء لهدى الكل اختياراً ، وذلك أن المعتزلة أوجبوا على الله الصلاح ، وهداية الكل صلاح ، فظاهر الآية يخالف مذهبهم. ولذا قالوا : إنه أراد هداية الكل ، لكن إرادة لا تنافى تخيير العبد ، لئلا يبطل تكليفه. وهذه الارادة لا تستلزم وقوع المراد. وأهل السنة لم يوجبوا على الله تعالى شيئا ، وكل ما أراده الله لا بد من وقوعه. وهذه الارادة لا تنافى اختيار العبد عندهم لما تقرر له من الكسب ، كما بين في علم التوحيد. (ع)

٥٩٦

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١١)

(لَكُمْ) متعلق بأنزل ، أو بشراب ، خبراً له. والشراب ما يشرب (شَجَرٌ) يعنى الشجر الذي ترعاه المواشي. وفي حديث عكرمة : لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت (١). يعنى الكلأ (تُسِيمُونَ) من سامت الماشية إذا رعت ، فهي سائمة ، وأسامها صاحبها ، وهو من السومة وهي العلامة ، لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض. وقرئ : ينبت ، بالياء والنون. فإن قلت : لم قيل (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)؟ قلت : لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة ، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة (يَتَفَكَّرُونَ) ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته. والآية : الدلالة الواضحة. وعن بعضهم : ينبت ، بالتشديد. وقرأ أبىّ بن كعب : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ، بالرفع.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٢)

قرئت كلها بالنصب على : وجعل النجوم مسخرات. أو على أنّ معنى تسخيرها للناس : تصييرها نافعة لهم ، حيث يسكنون بالليل ، ويبتغون من فضله بالنهار ، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر ، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل : ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى : أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر ، بمعنى تسخير ، من قولك : سخره الله مسخراً ، كقولك : سرحه مسرحاً ، كأنه قيل : وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما ، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ : والنجوم مسخرات ، بالرفع. وما قبله بالنصب ، وقال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فجمع الآية. وذكر العقل ، لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)(١٣)

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في الأحوال عنه موقوفا. وزاد نحوه. وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن منبه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتقوا السحت قالوا : وما السحت؟ قال : بيع الشجر ، وثمن الخمر ، وإجارة الأمة المساحقة.

٥٩٧

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ) معطوف على الليل والنهار. يعنى : ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلف الهيئات والمناظر.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(١٤)

(لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك ، ووصفه بالطراءة ، (١) لأنّ الفساد يسرع إليه ، (٢) فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت : ما بال الفقهاء قالوا : إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً ، فأكل سمكا ، لم يحنث. والله تعالى سماء لحماً كما ترى؟ قلت : مبنى الإيمان على العادة ، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك ، وإذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك ، كان حقيقاً بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله : إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا ، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث. (حِلْيَةً) هي اللؤلؤ والمرجان (٣). والمراد بلبسهم : لبس نسائهم ، لأنهنّ من جملتهم ، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم ، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر : شق الماء بحيزومها. وعن الفراء : هو صوت جرى الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل : التجارة.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(١٦)

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب. والمائد : الذي يدار به إذا ركب البحر. قيل : خلق الله الأرض فجعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ أَحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ، لم تدر الملائكة ممّ خلقت (وَأَنْهاراً) وجعل فيها أنهاراً ، لأن (أَلْقى) فيه معنى : جعل. ألا ترى إلى قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً). (وَعَلاماتٍ)

__________________

(١) قوله «بالطراءة» في الصحاح : طرو اللحم. وطرى طراوة وطراء وطراة. (ع)

(٢) عاد كلامه. قال : «هو السمك ، ووصفه بالطراءة لأن الفساد يسرع إليه ... الخ» قال أحمد : فكأن ذلك تعليم لأكله وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا. والأطباء يقولون : إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون ، والله أعلم.

(٣) قال محمود : «الحلية هي اللؤلؤ والمرجان ... الخ» قال أحمد : ولله در مالك رضى الله عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها ، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل ، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن ، حتى جعل المرأة من مالها وزينتها حلية له ، فعبر عن حظه في لبسها بلبسه ، كما يعبر عن حظها سواء ، مؤيدا بالحديث المروي في الباب ، والله أعلم.

٥٩٨

هي معالم الطرق وكل ما تستدل به السابلة من جبل ومنهل وغير ذلك. والمراد بالنجم : الجنس ، كقولك. كثر الدرهم في أيدى الناس. وعن السدى : هو الثريا ، والفرقدان ، وبنات نعش ، والجدى. وقرأ الحسن : وبالنجم ، بضمتين ، وبضمة وسكون ، وهو جمع نجم ، كرهن ورهن ، والسكون تخفيف. وقيل حذف الواو من النجوم تخفيفاً. فإن قلت : قوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) مخرج عن سنن الخطاب ، مقدم فيه (بِالنَّجْمِ) ، مقحم فيه (هُمْ) ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فمن المراد ب (هُمْ)؟ قلت : كأنه أراد قريشاً : كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم ، فكان الشكر أوجب عليهم ، والاعتبار ألزم لهم ، فخصصوا.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(١٧)

فإن قلت : (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) أريد به الأصنام ، (١) فلم جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟ قلت : فيه أوجه ، أحدها : أنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى أولى العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) والثاني : المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث : أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم ، فكيف بما لا علم عنده ، كقوله (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) يعنى أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات ، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا. فإن قلت : هو إلزام للذين عبدوا الأوثان (٢) وسموها آلهة تشبيهاً بالله ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فكان حق الإلزام أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه ، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ)(١٩)

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت من لا يخلق أريد به الأصنام ... الخ» قال أحمد : هو تحوم على أن العباد يخلقون أفعالهم ، وأن المراد إظهار التفاوت بين من يخلق منهم ومن لا يخلق كالعاجزين والزمنى ، حتى يثبت التفاوت بين من يخلق منهم وبين الأصنام بطريق الأولى ، ولقد تمكن منه الطمع حتى اعتقد أنه يثبت خلق العبد لأفعاله بتنزيله الآية على هذه التأويل ، ويتمنى لو تم له ذلك.

وما كل ما يتمنى المرء يدركه

(٢) عاد كلامه. قال : «فان قلت هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله تعالى وكان من حق الإلزام ... الخ» قال أحمد : وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) فجدد بها عهدا.

٥٩٩

(لا تُحْصُوها) لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم ، فضلا أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر ، أتبع ذلك ما عدّد من نعمه تنبيهاً على أنّ وراءها ما لا ينحصر ولا ينعدّ (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) من أعمالكم ، وهو وعيد.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٢١)

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) والآلهة الذين يدعوهم الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) وقرئ بالتاء. وقرئ : يدعون ، على البناء للمفعول. نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث ، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب. ومعنى (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات ، أى غير جائز عليها الموت كالحىّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في (يُبْعَثُونَ) للداعين ، أى لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير ، وهم لا يقدرون على نحو ذلك ، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها ، غير أحياء يعنى أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة ، كالنطف التي ينشئها الله حيوانا ، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها ، لأنّ شعور الجماد محال ، (١) فكيف بشعور ما لا يعلمه حىّ إلا الحىّ القيوم سبحانه. ووجه ثالث : وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة ، وكان ناس منهم يعبدونهم ، وأنهم أموات : أى لا بدّ لهم من الموت ، غير أحياء : غير باقية حياتهم. وما يشعرون : ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرئ : إيان ، بكسر الهمزة.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ

__________________

(١) قوله «لأن شعور الجماد محال» أى شعوره بما يشعر به الحيوان محال ، فكيف بشعوره بما لا يعلمه حيوان وإنما يعلمه الحي القيوم ، وهو وقت البعث. ولعل في عبارة المصنف سقطاً تقديره : شعور الجماد بما يشعر به الحيوان. (ع)

٦٠٠