الكشّاف - ج ٢

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٢

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٥٢

بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها ، كأن لم يبعث إليهم أحد (كَذلِكَ نَطْبَعُ) مثل ذلك الطبع المحكم نطبع (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ)(٧٨) (مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد الرسل (بِآياتِنا) بالآيات التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) كفاراً ذوى آثام عظام ، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) فلما عرفوا أنه هو الحق ، وأنه من عند الله ، لا من قبل موسى وهرون (قالُوا) لحبهم الشهوات (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا. فإن قلت : هم قطعوا بقولهم (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) على أنه سحر ، (١) فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلا يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ، ونحو القول : الذكر ، في قوله (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) ثم قال (أَسِحْرٌ هذا) فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه ، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) كأنه قيل. أتقولون ما تقولون ، يعنى قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا : أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) كما قال

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر ... الخ» قال أحمد : وفي الفرق بين الوجهين غموض ، وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب ، فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على أنه يطلب مفعولا والله أعلم.

٣٦١

موسى للسحرة : ما جئتم به السحر ، إنّ الله سيبطله (لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا. واللفت والفتل : أخوان ، ومطاوعهما الالتفات والانفتال (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنون عبادة الأصنام (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أى الملك ، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك : الجبار ، ووصف بالصيد والشوس ، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :

مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ

جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ (١)

ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا ، كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أى مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرئ : يطبع ، ويكون لكما ، بالياء.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨٢)

(ما جِئْتُمْ بِهِ) ما موصولة واقعة مبتدأ. و (السِّحْرُ) خبر ، أى الذي جئتم به هو السحر (٢)

__________________

(١) لعبد الله بن قيس الرقيات. وقيل : لقيس الرقيات يمدح مصعبا ، سمى قيس الرقيات لأنه اتفق له أنه تزوج عدة نسوة ، كل منهن تسمى رقية. وملك : وصف كحذر ، فلذلك نصب «ملك رأفة» على المصدر. وروى «ملكه ملك» على المبتدأ والخبر. وضمير «فيه» للمصدر ، أى : ليس في ملكه جبروت منه ، أى من مصعب. ويحتمل أن الضميرين له. والجبروت : مبالغة في الجبر والقهر ، أى : ليس فيه ذلك كغيره ، فهو أعظم الملوك.

(٢) قال محمود : «ما موصولة مبتدأ ، والسحر خبر أى الذي جئتم به ... الخ» قال أحمد : وليس المراد في القراءة الأولى الاخبار بأن ما جاءوا به سحر خاصة ، ولكن مع تنزيه ما جاء به عن كونه سحراً. وإنما يستفاد ذلك مما في هذا النظم المخصوص من إفادة الحصر ، ولو مرت بخاطر الامام أبى المعالي في مسألة تحريمة التكبير لم بعدل عن الاستشهاد بها على إفادة هذا النظم الحصر ، فانا نعلم أن موسى عليه السلام حيث أطلقه فإنما أراد إضافة السحر إلى ما جاءوا به محصوراً فيه ، حتى لا يتعدى إلى الحق الذي جاء به هو منه شيء. وأما القراءة الثانية ففيها ـ والله أعلم ـ إرشاد إلى أن قول موسى عليه السلام أولا (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) حكاية لقولهم ، ويكون (أَسِحْرٌ هذا) هو الذي قالوه ، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً : بدءوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً ، والاستهزاء بالحق إنكار له ، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الاخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله : أأنت أم سالم ، أبلغ في البت من قوله : مخبرا أنت أم سالم؟ ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة بيت الإنكار ودعوى أنه سحر فقالوا : إن هذا لسحر مبين ، فحكى الله تعالى عنهم هذا القول ـ

٣٦٢

لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ : آلسحر ، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية ، أى : أىّ شيء جئتم به ، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله : ما جئتم به سحر. وقرأ أبىّ : ما أتيتم به سحر. والمعنى : لا ما أتيت به (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة (لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) ويثبته (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه. وقرئ : بكلمته ، بأمره ومشيئته.

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)(٨٣)

(فَما آمَنَ لِمُوسى) في أوّل أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل ، كأنه قيل : إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل : الضمير في قومه لفرعون ، والذرية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه ، وماشطته. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله (وَمَلَائِهِمْ)؟ قلت : إلى فرعون ، بمعنى آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية ، أى على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يريد أن يعذبهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فيها قاهر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتوّ ، بادعائه الربوبية.

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

__________________

ـ الثاني ، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما أن لا يكونوا قالوا سوى (أَسِحْرٌ هذا) على سبيل الإنكار حسبما تقدم ، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله ، لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار وبت القول أنه سحر. وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه ، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية ، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني. وحاصل هذا البحث : أن قول موسى عليه السلام (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) إنما حكى فيه قولهم ، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما ، فقال : ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضاً بوفاء على السواء ، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد : أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) على الوجهين : الخبر والاستفهام ، على ما اقتضته القراءتان ، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب ، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكياً بالقول ، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين ، فشد بهذا الفصل عرى التمسك ، فانه من دقائق النكت. والله الموفق.

٣٦٣

مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) صدقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أى يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها ، لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه ، إن كانت بك قوّة (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) إنما قالوا ذلك ، لأنّ القوم كانوا مخلصين ، لا جرم أنّ الله سبحانه قبل توكلهم ، وأجاب دعاءهم ، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه ، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) موضع فتنة لهم ، أى : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٨٧)

تبوّأ المكان : اتخذه مباءة ، كقولك : توطنه ، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته (١) مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) تلك (قِبْلَةً) أى مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة ، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة. فإن قلت : كيف نوّع الخطاب ، فثنى أوّلا ، ثم جمع ، ثم وحد آخراً. قلت : خوطب موسى وهرون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا ، ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأنّ ذلك واجب على الجمهور ، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض ، تعظيما لها وللمبشر بها.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٨٨)

__________________

(١) قوله «بمصر بيوتا من بيوته» لعل الضمير لمصر. (ع)

٣٦٤

الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت : ما معنى قوله (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)؟ قلت : هو دعاء بلفظ الأمر (١) ، كقوله (رَبَّنَا اطْمِسْ) ، (وَاشْدُدْ) ، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكرّرا وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلا ، وحذرهم عذاب الله وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلا استكبارا ، وعن النصيحة (٢) إلا نبوّا ، ولم يبق له مطمع فيهم ، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغى والضلال ، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة ، أو علم ذلك بوحي من الله ـ اشتد غضبه عليهم ، وأفرط مقته وكراهته لحالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، كما تقول : لعن الله إبليس ، وأخزى الله الكفرة ، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك ، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون (٣) فيه ، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال. وليكونوا ضلالا ، (٤) وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علىّ منهم ، هم أحق بذلك وأحق ، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه ، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته ، وحرداً (٥) عليه ، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهى ، وقد

__________________

(١) قال محمود : «قلت هو دعاء بلفظ الأمر ... الخ» قال أحمد : وهذا من اعتزاله الخفي الذي هو أدق من دبيب النمل ، يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا. ووجه ذلك أنه علم أن الظاهر بل والباطن أن اللام التعليل ، وأن الفعل منصوب بها ، ومعنى ذلك إخبار موسى عليه السلام بأن الله إنما أمدهم بالزينة والأموال وما يتبعهما من النعم استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة ، كما أخبر تعالى عن أمثالهم بقوله (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وهذا المعنى منتظم على جعل اللام التعليل ، والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في استحالة ذلك على الله تعالى ، لاعتقاده أن من الجور أن يملى لهم في الضلالة ويعاقبهم عليها ، فهو متبتل لما يرد من الآيات بعمل الحيلة في تأويلها وردها إلى معتقده وجعلها تبعا له ، كما تقدم له في تأويل قوله (لِيَزْدادُوا إِثْماً) وكأين من آية غراء رام أن يسترغرتها ويطفئ نورها بأمثال هذه التأويلات الرديثة لفظاً وعقداً ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ثم لا يسعه إلا أن يحمل موسى عليه السلام على أمثال هذه المعتقدات ، ولقد برأه الله وكان عند الله وجيها.

(٢) قوله «وعن النصيحة» لعله وعلى (ع)

(٣) قوله «يتسكعون» في الصحاح : «التسكع» التمادي في الباطل. (ع)

(٤) قوله «وليكونوا ضلالا» هذا على قراءة «ليضلوا» بفتح الياء. والقراءة المشهورة (لِيُضِلُّوا) بضمها. وعبارة النسفي : ليضلوا الناس عن طاعتك اه (ع)

(٥) قوله «وحرداً عليه» في الصحاح : الحرد ـ بالتحريك : الغضب. (ع)

٣٦٥

حملت اللام في ليضلوا على التعليل ، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال ، فكأنهم أوتوها ليضلوا. وقوله (فَلا يُؤْمِنُوا) عطف على ليضلوا. وقوله (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي : أإنك آتيت؟ على الاستفهام ، واطمس بضم الميم.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

قرئ : دعواتكما. قيل : كان موسى يدعو وهرون يؤمّن. ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان. والمعنى : إنّ دعاء كما مستجاب ، وما طلبتما كائن ولكن في وقته (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة ، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا ولا تستعجلا. قال ابن جريج : فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أى لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح ، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح عليه السلام (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقرئ : ولا تتبعان ، بالنون الخفيفة ، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية ، وبتخفيف التاء من تبع.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٩٠)

قرأ الحسن : وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه ، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :

وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالَ قَبِيلَةٍ (١)

__________________

(١) وإذا تجوزنا حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالا

للأعشى. وشبه عهود الأمان التي يأخذها من القبيلة يتوثق ويتوصل بها إلى أخرى بالحبال ، يجامع التوثق بكل على طريق التصريحية. أى : وإذا تجشمنا مجاوزة عهود قبيلة وتكلفنا مجاوزة محل أمانها ، فايقاع التجوز على الحبال : مجاز عقلى ، أخذت ناقتي من القبيلة الأخرى حال كونها ذاهبة إليك حبالا ، أى عهوداً للتوصل القبيلة الأخرى ، وهكذا. وإسناد الأخذ لها مجاز عقلى ، ويكفى في الملابسة مجاورتها له حين الفعل. وإنما أسنده إليها للمبالغة ، وتخييل أنها تعرف الممدوح وفضله ، فهي المسافرة إليه بنفسها. وروى يجوزها. وجبال بالجيم ، فمعنى أخذت : قطعت من أرض القبيلة الأخرى بالسير إليك جبالا غير تلك. وعلى كل ، ففيه دليل على صعوبة الطريق.

٣٦٦

لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بنى إسرائيل في البحر كما قال :

كَمَا جَوَّزَ السَّكِّىَّ فِى الْبَابِ فَيْتَقُ (١)

(فَأَتْبَعَهُمْ) فلحقهم. يقال : تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن : وعدوّا (٢). وقرئ : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان ، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلا من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط ، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ)(٩٢)

(آلْآنَ) أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق (٣) وأيست من نفسك. قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعنى حين أوشك أن يغرق. وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه. والذي يحكى أنه حين قال (آمَنَتْ) أخذ جبريل من حال البحر (٤) فدسه في فيه ، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه. وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين (٥) لله وملائكته : وفيه جهالتان ، إحداهما : أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر

__________________

(١) ولا بد من جار يجيز سبيلها

كما جوز السكى في الباب فيتق

للأعشى يصف مفازة الغزل فيها المحلق عن بنى عكاظ كما يأتى قريباً. يقول : ولا بد لمريد قطعها من جار : أى قريب منها يعين المسافر على سلوك سبيلها. وجازه يجوزه : سلكه. وأجازه يجيزه : أسلكه. وكذا جوزه يجوزه بالتشديد فيهما. والسكى : المسمار ، نسبة السك ، وهو تضبيب الباب وتسميره. والفيتق : النجار ، لأنه يفتق الخشب بالمسمار. ويروى : كما سلك السكى ، أى : لا يعد من معين ، ينفذه فيها كما أنفذ النجار المسمار في الباب. وعبر بالماضي ليدل على أن المشبه به معهود للسامع.

(٢) قوله : «وقرأ الحسن وعدوا» في الصحاح : عدا عدوا وعدوا وعداء اه. وقد مر في قوله تعالى (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) (ع)

(٣) قال محمود : «معناه أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك حين أدركك الغرق ... الخ» قال أحمد : ولقد أنكر منكراً ، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم ، والله الموفق.

(٤) قوله «من حال البحر فدسه» أى طينه الأسود. أفاده الصحاح. وفي الحديث «قال جبريل يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه» كذا في الخازن. (ع)

(٥) قوله «الباهتين لله» في الصحاح «بهته» إذا قال عليه ما لم يفعله. (ع)

٣٦٧

لأن الرضا بالكفر كفر (١) (مِنَ الْمُفْسِدِينَ) من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) وروى أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه (نُنَجِّيكَ) بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ ننحيك ، بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال ، أى : في الحال التي لا روح فيك ، وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير. أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب :

__________________

(١) قوله «والذي يحكى» ... إلى قوله «لأن الرضا بالكفر» هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله. فان الحديث صحيح الزيادات ، وقد أخرجه الترمذي وصححه ، والنسائي وابن حبان والحاكم وإسحاق والبزار وأبو داود والطيالسي كلهم من رواية شعبة عن عدى بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن جبريل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله» لفظ الترمذي والباقين نحوه ، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق وعبد بن حميد والبزار والطبراني من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس ، بلفظ «لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل : يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ الطين من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ، وله طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحمائى في مسنده عن أبى خالد الأحمر عن عمرو بن يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم : وذكر فرعون «فلقد رأيتنى وأنا لأكبر فمه بالحمأة مخافة أن تدركه الرحمة ، وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب في السادس والخمسين وابن مردويه من طريق عتية بن سعيد عن كثير بن زاذان عن أبى حازم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل «لو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن يقول ربى الله ، فتدركه رحمة الله» وعن ابن عمر رضى الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال لي جبريل : يا محمد ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال : ما علمت لكم من إله غيرى. وإذ نادى فقال : أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت أحشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية محمد بن سليمان بن أبى ضمرة عن عبد الله بن أبى قيس عنه ، قلت : وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري ، فالحديث توجيه وجيه ، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري ، وذلك أن فرعون كان كافراً كفر عناد ، ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل ، وكيف توجه منفرداً وأظهر أنه مخلص ، فأجرى له النيل ، ثم تمادى على طغيانه وكفره فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا فيستمر على غيه وطغيانه فدس في فمه الطين ، ليمنعه التكلم بما يقتضى ذلك ، هذا وجه الحديث. ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد وأيضاً فايمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صدقا بقلبه لا يقبل لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب في الآية بقوله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) وفيه إشارة في قوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا).

٣٦٨

أَعَاذِلُ شكَّتِى بَدَنِى وَسَيْفِى

وَكُلُّ مُقَلّصٍ سَلِسُ الْقِيَادِ (١)

وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : بأبدانك وهو على وجهين : إما أن يكون مثل قولهم : هوى بأجرامه ، يعنى : ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد : بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها (لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) لمن وراءك من الناس علامة ، وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروى أنهم قالوا : ما مات فرعون ولا يموت أبداً. وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه ، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه ، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بنى إسرائيل حتى قيل : لمن خلفك. وقيل : (لِمَنْ خَلْفَكَ) لمن يأتى بعدك من القرون. ومعنى كونه آية : أن تظهر للناس عبوديته ومهانته ، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال ، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل ، فما الظنّ بغيره ، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك ، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ : لمن خلقك ، بالقاف : أى لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد : ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين ـ لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا ـ لادعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت ـ آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)

(مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلا صالحاً مرضيا وهو مصر والشام (فَمَا اخْتَلَفُوا) في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلا من بعد ما قرأُوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة ، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بنى إسرائيل ، وهم أهل الكتاب ، اختلافهم في صفته ونعته ، وأنه هو أم ليس به. بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

__________________

(١) لعمرو بن معديكرب ، وكانت له درع من ذهب تعرفه بها العرب. يقول : يا عاذلة ، إن سلاحي درعي وسيفي وفرسي المكتنز اللحم المدبج الخلق. وقيل : المقلص الطويل القوائم الهين القود. ويروى : سهل القياد. والمعنى واحد. وإطلاق البدن على الدرع في الأصل مجاز علاقته المجاورة أو المحلية ، وأتى بأداة العموم في الفرس لأنه الذي يكثر تغييره.

٣٦٩

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٩٥)

فإن قلت : كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) مع قوله في الكفرة (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١) قلت : فرق عظيم بين قوله (إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق ، وبين قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) بمعنى الفرض والتمثيل ، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خبالا منه تقديراً (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) والمعنى : أن الله عز وجل قدم ذكر بنى إسرائيل وهم قرأة الكتاب ، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم ، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه السلام ، ويبالغ في ذلك ، فقال : فإن وقع لك شك فرضا وتقديراً ـ وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها ، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته ، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق ـ فسل علماء أهل الكتاب ، يعنى : أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساآتهم فضلا عن غيرك ، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ، لا وصف رسول الله بالشك فيه ، ثم قال (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أى ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أى فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب ، كقوله (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) ولزيادة التثبيت والعصمة ، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق (٢)» وعن ابن عباس رضى الله عنه : لا والله ، ما شك طرفة عين ، ولا سأل

__________________

(١) قال محمود : «إن قلت كيف قال له عليه السلام : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) مع قوله في الكفرة (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ... الخ؟ قال أحمد : ولو قال هذا المفسر : إن نفى الشك عنه عليه الصلاة والسلام توطئة لأمره بالسؤال لتقوم حجته على المسئولين لا ليستفيد بسؤالهم علما لمزيد تعين الإبراء بقوله له (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) فأمر بالسؤال والجواب جميعا ـ لكان أقوم وأسلم ، والله أعلم.

(٢) أخرجه عبد الرزاق ، ومن طريقه الطبري عن معمر عن قتادة في هذه الآية ، قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا أشك ولا أسأل».

٣٧٠

أحداً منهم ، وقيل خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. ومعناه : فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم ، كقوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وقيل : الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك ، كقول العرب : إذا عز أخوك فهن. وقيل : «إن» للنفي ، أى : فما كنت في شك فاسأل ، يعنى : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ، ولكن لتزداد يقينا ، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى. وقرئ : فاسأل الذين يقرؤن الكتب.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٩٧)

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد (١) تعالى الله عن ذلك.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)(٩٨)

(فَلَوْ لا كانَتْ) فهلا كانت (قَرْيَةٌ) واحدة من القرى التي أهلكناها ، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف ، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبىّ. وعبد الله : فهلا كانت (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء من القرى ، لأنّ المراد أهاليها ، وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل ، هكذا روى عن الجرمي والكسائي. روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه ، فذهب عنهم مغاضباً ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب ، فلبسوا المسوح ، وعجوا (٢) أربعين ليلة. وقيل : قال لهم يونس : إن أجلكم أربعون ليلة ، فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى

__________________

(١) قوله «لا كتابة مقدر ومراد» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يريد الشر. وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى يريد كل كائن خيرا كان أو شرا. (ع)

(٢) قوله «وعجوا» أى رفعوا أصواتهم. أفاده الصحاح. (ع)

٣٧١

الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، وفرّقوا بين النساء والصبيان ، وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها على بعض ، وعلت الأصوات والعجيج ، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا ، فرحمهم الله وكشف عنهم ، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم ، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا «يا حىّ حين لا حىّ ، ويا حىّ محيى الموتى ، ويا حىّ لا إله إلا أنت» فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : قالوا : «اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله».

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(٩٩)

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر (١) والإلجاء (٢) (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ) على وجه الإحاطة والشمول (جَمِيعاً) مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يعنى إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام ، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه ، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان ، وذلك غير مستطاع للبشر.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٠)

__________________

(١) قوله «مشيئة القسر» هذا مذهب المعتزلة ، وذلك أنهم أوجبوا على الله الصلاح والأصلح ، وإيمان الكل أصلح ، لكن الآية تخالف مذهبهم فقالوا : إنه تعالى أراد إيمان الكل إرادة تخيير العباد ، فلم يلزم وقوع المراد ، ولو أراده إرادة إجبار لوقع ، وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا ، ولزوم وقوع المراد لا ينافي تخيير العباد ، لما لهم من الكسب في أفعالهم الاختيارية وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله ، كما تقرر في التوحيد. (ع)

(٢) قال محمود : «المراد مشيئة القسر والإلجاء» قال أحمد : وهذا من دسه الاعتزال مخلسا ، وخلط الباطل بالحق مدلسا. ولما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله تعالى لايمان الخلق بصيغة الكلية ، وأنه إنما شاء ذلك ممن آمن لا ممن كفر ـ إذ مقتضى «لو لا» امتناع ، وكان ذلك راد لمعتقده الفاسد ، إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الايمان من جميع أهل الأرض ، فلم يؤمن إلا بعضهم ـ أخذ يحرف مشيئة الايمان إلى مشيئة القسر والإلجاء ، ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع ، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلق ولا سلب اختيارهم ، بل أمرهم بالايمان وخلق لهم اختيارا له وقصداً ، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل. بل هو أجدر بالتعطيل ، فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله ، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله ، والله الموفق.

٣٧٢

(وَما كانَ لِنَفْسٍ) يعنى من النفوس التي علم أنها تؤمن (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أى بتسهيله وهو منح الألطاف (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان (١) ، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر ، كقوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ : الرجز ، بالزاي. وقرئ ونجعل ، بالنون.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠١)

(ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات والعبر (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) والرسل المنذرون ، أو الإنذارات (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) لا يتوقع إيمانهم ، وهم الذين لا يعقلون وقرئ : وما يغنى ، بالياء ، و «ما» نافية ، أو استفهامية.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

(أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) وقائع الله تعالى فيهم ، كما يقال «أيام العرب» لو قائعها (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ، على حكاية الأحوال الماضية (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ومن آمن معهم ، كذلك (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ، ونهلك المشركين. و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض ، يعنى : حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ : ننجّ ، بالتشديد.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٤)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وصحته وسداده ، فهذا دينى فاسمعوا وصفه ، واعرضوه على عقولكم ، وانظروا فيه بعين الإنصاف ، لتعلموا أنه دين

__________________

(١) قوله «وهو الخذلان» تأويل الرجس بالخذلان على مذهب المعتزلة ، وعلى مذهب أهل السنة لا حاجة إلى تأويله. (ع)

٣٧٣

لا مدخل فيه للشك ، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) وإنما وصفه بالتوفى ، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى ، فيعبد دون مالا يقدر على شيء (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى أنّ الله أمرنى بذلك ، بما ركب فىّ من العقل ، وبما أوحى إلىّ في كتابه. وقيل : معناه إن كنتم في شك من دينى ومما أنا عليه ـ أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم ـ فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمرى ، واقطعوا غنى أطماعكم ، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، ولا أختار الضلالة على الهدى ، كقوله (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أصله : بأن أكون ، فحذف الجار ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع «إن» و «أن». وأن يكون من الحذف غير المطرد ، وهو قوله : أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٥)

فإن قلت ، عطفُ قوله (وَأَنْ أَقِمْ) على (أَنْ أَكُونَ) فيه إشكال ، لأنّ «أن» لا تخلو من أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر ، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول ، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى ، لا يساعد عليه لفظ الأمر ، وهو (أَقِمْ) لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب. قلت : قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنهى ، وشبه ذلك بقولهم : أنت الذي تفعل ، على الخطاب ، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال (أَقِمْ وَجْهَكَ) استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا. و (حَنِيفاً) حال من الدين ، أو من الوجه.

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)(١٠٦)

(فَإِنْ فَعَلْتَ) معناه : فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك ، فكنى عنه بالفعل إيجازاً (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر ، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين ، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك ، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١٠٧)

٣٧٤

أتبع النهى عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع ، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد ، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه ، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها ، وهو أبلغ من قوله (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ). فان قلت : لم ذكر المس في أحدهما ، والإرادة في الثاني؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير ، وأنه لا رادّ لما يريده منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الآخر ، ليدلّ بما ذكر على ما ترك ، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) والمراد بالمشيئة : مشيئة المصلحة.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)(١٠٨)

(قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة ، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه ، واللام وعلى : دلا على معنى النفع والضر. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد ، إنما أنا بشير ونذير.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

(وَاصْبِرْ) على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) لك بالنصرة عليهم والغلبة. وروى أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال «إنكم ستجدون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني (١)» يعنى أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتنى الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة ، قال أنس : فلم نصبر. وروى أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار ، ثم دخل عليه من بعد ، فقال له : مالك لم تتلقنا؟ قال : لم تكن عندنا دواب. قال : فأين النواضح؟ قال : قطعناها

__________________

(١) ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند. والقصة المذكورة متفق عليها من حديث عبد الله بن زيد في أثناء حديث ، ومن حديث أسيد بن حضير ، ليس فيه كون الآية سبب ذلك ، بل سببه قسمة غنائم حنين.

٣٧٥

في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، إنكم ستلقون بعدي أثره. قال معاوية : فما ذا قال؟ قال : قال «فاصبروا حتى تلقوني» قال فاصبر. قال : إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان (١) :

أَلَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ

أمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلَامِى

بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُمْ

إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ (٢)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به ، وبعدد من غرق مع فرعون (٣)

__________________

(١) أخرجه إسحاق بن راهويه. ومن طريقه الحاكم والبيهقي عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصارى : فقال معاوية تلقانا الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما يمنعكم أن تلقوني؟ قال : لم تكن لنا دواب. فقال معاوية : فأين النواضح. قال أبو قتادة. عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. ثم قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما إنكم سترون بعدي أثرة. قال معاوية : فما أمركم؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى تلقاه. قال : فاصبروا حتى تلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك ـ فذكر البيتين. وقال : يا أمير المؤمنين.

(٢) لعبد الرحمن بن حسان ، حين دخل معاوية بن أبى سفيان بن حرب المدينة ، فتلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة ، ثم دخل عليه فقال له : مالك تخلفت؟ فقال : لم يكن عندنا دواب. قال : فأين النواضح؟ قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثرة. قال معاوية ، فما ذا قال؟ قال : فاصبروا حتى تلقوني. قال : فاصبروا. قال : إذا نصبر. والثناء يقال للخير ، وقد يقال الشر. والنثا : خاص بالشر. وروى «نثا كلامى» ومنظروكم : ممهلوكم. أى أنت وقومك. والتغابن : ظهور الغبن العمال في تجارات الأعمال. والخصام : المخاصمة والمجادلة ، أى إلى يوم القيامة.

(٣) تقدم إسناده في آل عمران. ويأتى في آخر القرآن.

٣٧٦

سورة هود عليه السلام

مكية [إلا الآيات ١٢ و ١٧ و ١١٤ فمدنية]

وهي مائة وثلاث وعشرون آية [نزلت بعد سورة يونس]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(١)

(أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقض ولا خلل ، كالبناء المحكم المرصف. ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة ، من «حكم» بضم الكاف ، إذا صار حكيما : أى جعلت حكيمة ، كقوله تعالى (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) وقيل : منعت من الفساد ، من قولهم : أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. قال جرير :

أبَنِى حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ

إنِّى أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا (١)

وعن قتادة : أُحكمت من الباطل (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد بالفرائد ، من دلائل التوحيد ، والأحكام ، والمواعظ ، والقصص. أو جعلت فصولا ، سورة سورة ، وآية آية. وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة. أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد : أى بين ولخص. وقرئ : أحكمت آياته ثم فصلت : أى أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك : ثم فصلت ، أى فرّقت بين الحق والباطل. فإن قلت : ما معنى ثم؟ قلت : ليس معناها التراخي في الوقت ، ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الأحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل ، ثم كريم الفعل. وكتاب : خبر مبتدإ محذوف. وأحكمت : صفة له. وقوله (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة ثانية. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت ، أى : من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن ، لأنَّ المعنى : أحكمها حكيم وفصلها : أى بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.

__________________

(١) لجرير ، يقول : يا بنى حنيفة «امنعوا سفهاءكم عنى كما تمنع الدابة بالحكمة ، فان غضبى عليكم شديد. وفيه ضرب من التهديد ، فخوفه عليهم كناية عن ذلك. وأن أغضب : مفعول أخاف ، أى أخاف عليكم غضبى.

٣٧٧

(أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤)

(أَلَّا تَعْبُدُوا) مفعول له على معنى : لئلا تعبدوا. أو تكون «أن» مفسرة ، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ، كأنه قيل : قال لا تعبدوا إلا الله ، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) أى أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) كأنه قال : ترك عبادة غير الله ، إننى لكم منه نذير ، كقوله تعالى (فَضَرْبَ الرِّقابِ) والضمير في (مِنْهُ) لله عز وجل ، أى : إننى لكم نذير وبشير من جهته ، كقوله (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أو هي صلة لندير ، أى : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. فإن قلت : ما معنى ثم في قوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)؟ قلت : معناه استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا ، والاستغفار توبة ، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها ، كقوله (ثُمَّ اسْتَقامُوا). (يُمَتِّعْكُمْ) يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة واسعة ، ونعمة متتابعة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن يتوفاكم ، كقوله (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه.أو فضله في الثواب ، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تتولوا (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة ، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء ، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ : وإن تولوا ، من ولى.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥)

(يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يزورّون عن الحق وينحرفون عنه ، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعنى :

٣٧٨

ويريدون ليستخفوا من الله ، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون ـ لقود المعنى (١) إلى إضماره ـ الإضمار في قوله تعالى (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) معناه فضرب فانفلق. ومعنى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) ويزيدون الاستخفاء (٢) حين يستغشون ثيابهم أيضاً ، كراهة لاستماع كلام الله تعالى ، كقول نوح عليه السلام (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) ثم قال (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعنى. أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء ، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ، ونفاقهم غير نافق عنده. روى أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث ، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته ، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل : نزلت في المنافقين. وقرئ : تثنونى صدورهم ، واثنونى «افعوعل» من الثني ، كاحلولى من الحلاوة ، وهو بناء مبالغة ، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنونى. وقرئ تثنونّ وأصله تثنونن «تفعوعل» من الثن (٣) وهو ما هش وضعف من الكلأ ، يريد : مطاوعة صدورهم للثنى ، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ : تثنئن ، من اثنأن «أفعال» منه ، ثم همز كما قيل : ابيأضت ، وأدهأمت وقرئ : تثنوى ، بوزن ترعوى.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

فإن قلت : كيف قال (عَلَى اللهِ رِزْقُها) بلفظ الوجوب (٤) وإنما هو تفضل؟ قلت : هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم ، رجع التفضل واجباً كنذور العباد. والمستقرّ : مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار ، من صلب ، أو رحم ،

__________________

(١) قوله «لقود المعنى» أى لتأدية المعنى. (ع)

(٢) قوله «ويزيدون الاستخفاء» الظاهر أن هذا هو الخبر عن قوله : ومعنى ألا حين الخ ، كما قال أولا ، يعنى ويريدون. (ع)

(٣) قوله «من الثن» في الصحاح «الثن» بالكسر : يبس الحشيش. (ع)

(٤) قال محمود «إن قلت كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب ... الخ» قال أحمد : كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة ، فذلك كله فضل ولا واجب على الله تعالى ، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على أن الله عز وجل لما وعدهم فضله ـ ووعده خبر ، وخبره صدق ـ وجب وقوع الموعود : أى يستحيل في العقل أن لا يقع ، للزوم الخلف في خبر الصادق ، فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف ، وبينهما هذا الفرق المذكور. هذه قاعدة أهل الحق. وقد مر الكلام عليها عند قوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) ، والله الموفق.

٣٧٩

أو بيضة (كُلٌ) كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح ، يعنى ذكرها مكتوب فيه مبين.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أى ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض. وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض.

وقيل : وكان الماء (١) على متن الريح ، والله أعلم بذلك ، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته ، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بخلق ، أى خلقهن لحكمة بالغة ، وهي أن يجعلها مساكن لعباده ، وينعم عليهم فيها بفنون النعم ، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم. يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون. فإن قلت : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت : لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق إليه فهو ملابس له ، كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتا ، لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت : كيف قيل : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت : الذين هم أحسن عملا هم المتقون ، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده ، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه ، وليكون ذلك لطفاً للسامعين ، وترغيباً في حيازة فضلهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله (٢)» قرئ : ولئن قلت إنكم مبعوثون ، بفتح الهمزة. ووجهه أن يكون من قولهم : ائت السوق عنك تشترى لنا لحماً ، وأنك تشترى بمعنى علك ، أى : ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون ، بمعنى : توقعوا بعثكم وظنوه ، ولا تبتوا القول بإنكاره ، لقالوا :

__________________

(١) قوله «وقيل : وكان الماء» لعله «كان» بدون واو. ويمكن أن المعنى كان عرشه على الماء وكان الماء. (ع)

(٢) أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحرث في مسنده عنه ، والطبري وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن زيد عن كليب بن وائل عن ابن عمر. وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضا من طريق محمد ابن أمرس عن سليمان بن عيسى عن الثوري عن كليب كذلك ، وإسناده أسقط من الأول.

٣٨٠