رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

خلال صفحات الرحلة قد كانتا أيضا من الصفات المطلوبة في الأوساط المخزنية ، وأن ما اتصف به الرجل من ذكاء ولباقة سبق أن مكناه من إيجاد الطريق التي أدت به إلى فرنسا ، قد كانت كذلك من بين المزايا المطلوبة أيضا في حاشية البلاط السلطاني. لكن ، حتى يمكننا اكتشاف خصوصيات الرجل وتجربته الفريدة ، فإننا ملزمون بالعودة إلى الرحلة ذاتها. وكما أن الحديث عن فصول حياة محمد الصفار يعزز فهمنا لمضمون رحلته ، كذلك ستساهم قراءتنا لمتن الرحلة في تعميق معرفتنا بجوانب إضافية من حياته.

صدفة اللقاء مع الجديد

تكمن أهمية رحلة الصفار إلى فرنسا ودلالاتها العميقة ، في ما تتميز به من فرادة وطابع عالمي. وقد انبعث ، من خلال صفحات الرحلة ، صوت من الماضي حيا بكل ما في الكلمة من معنى ، ليتيح لنا فرصة الدخول إلى عالم يبدو اقتحامه أمرا عسيرا. وإذا كانت قيمة الكتابات الخاصة بالرحلات تكمن في حرفيتها وفي ما تتميز به من «إحالة مستمرة على الحاضر» (١) ، فإننا نجد أنفسنا هنا أمام ما هو واقعي.

إن الواقعة المشعة ، والانطباع القائم على أساس سذاجة مستبصرة يحتويان في داخلهما على جانب روائي إنساني. ونتيجة لمعرفتنا المحدودة بالعصر ، وفي غياب أصوات أخرى تتكلم بوضوح مماثل ، فإن خصوصيات الرحلة هي التي ستوسع درجات فهمنا.

غير أن الرحلة تضرب أيضا على أوتار تتجاوز ما هو واقعي ، وخاصة حينما يفحص النص بنظرات وعيون أخرى غير النظرة التاريخية الصرفة. وأقترح في هذا القسم ، تقديم بعض الطرق الهادفة إلى تأويل رحلة الصفار التي تنطوي على مستويات عميقة المعاني. وكانت لدى الأنثروبولوجيين تبصرات بطبيعة التجربة المكتسبة من خلال الرحلات ، كما أسهب النقاد الأدبيون في الحديث عن بنية

__________________

(١) Paul Fussell, Abroad : British Literary Traveling between the Wars) New York, ٠٨٩١ (, p. ٣٠٢.

ويبدو المدى الذي أثر به عمل فوسيل النقدي في قراءتي للصفار واضحا.

٨١

الرحلة وعما يتضمنه أسلوبها من تعبير حكائي ، فكانت استفادتي منهما معا لتذليل الصعاب وبلوغ الهدف المنشود.

وذكر الناقد بول فوسيل (Paul Fussell) أن أدب الرحلة فن أدبي يحتوي على نمطين إدراكيين متباينين ، أولهما هو الفعلي والبعيد عن الأوهام ، أي العالم المادي الملموس ؛ وثانيهما هو النمط الخيالي ، الذي يتحول فيه الخاص إلى ما هو عام ، والشيء الحقيقي إلى ما هو تصوري ، كما تتحول فيه الملاحظة إلى تهيؤات. «إن كتاب الرحلة شبيه بقصيدة شعرية في إعطائها دلالات عالمية لنسيج محلي صرف» (١). وكان موضوع اهتمامات فوسيل هو كتابات الرحلات البريطانية في فترة ما بين الحربين العالميتين. غير أن الملاحظات التي أبداها وكذا تعليقاته الصائبة تنطبق بقوة مماثلة على رحلة محمد الصفار. مما يوحي بان أجود نموذج لهذا الفن الأدبي ، وبغض النظر عن خصوصياته الثقافية ، غني بمزايا ذات طابع عالمي مماثل.

ويكتسي السفر إلى أماكن بعيدة للغاية منا ، طابعا سحريا ، بل ويكون بمثابة حدث كفيل بتغيير مجرى حياتنا. وقد أثار الأنثروبولوجيون الانتباه منذ مدة طويلة إلى مدى التأثير الذي يحدثه السفر في السلوك لبشري وعلى القدرات الإدراكية لبني الإنسان ، وخاصة قدرته العجيبة على نقلنا من مستوى ما هو عادي أو «دنيوي» ، إلى مستوى زمان ومكان ما يلبثان أن يصبحا مليئين بخصوصيات «القداسة» (٢). وسواء أكان السفر من أجل المتعة أم كان في إطار القيام بالواجب الذي تفرضه طبيعة العمل ، فإن السفر فترة فاصلة تفرض ذاتها على الحياة اليومية ، وهي فاصلة بين ما

__________________

(١) نفسه ، ص. ٢١٤.

(٢) يذكر نيلسون كرابورن (Nelson H.H.Graburn) كتابات كل من دوركهايم (Durkheim) ، وموس (Mauss) ، وليش (Leach) ، وفان جينيب (Van Gennep) ، معتبرا إياها ذات أهمية خاصة لصياغة المفاهيم المتعلقة بالقدسي والدنيوي في علاقاته مع الرحلة. انظر كتابه :

Nelson H. H. Graburn," Tourism : The Sacred Journey", in Valene Smith, ed., Hosts and Guests : the Anthropology of Tourism, ٢ nd؟ed.) Philadelphia, ٩٨٩١ (, pp. ٤٢, ٦٢.

وانظر أيضا :

V. Turner and E. Turner. Image and Pilgrimage in Christian Culture : Anthropological Perspectives) New York, ٨٧٩١ (, ch. I.

٨٢

تتميز به هذه الأخيرة من رتابة وما هو مثير للإعجاب. وبالفعل ، فإن مجرد التعاقب الحاصل بين حالتي العادي والخارق للعادة ، قد يصبح مقياسا لمرور الزمن ذاته. وقال نيلسون كرابورن (Nelson Graburn) في هذا الصدد ، بأن التعاقبات المتباينة بين ما هو قدسي ودنيوي ، هي إحدى السبل التي نسلكها لعد مراحل حياتنا وقياسها. إن السفر يساعدنا على تحديد الزمن بالنسبة لأنفسنا ، وذلك بتقسيم الحياة إلى أجزاء منفصلة ومطبوعة بما يمكن تسميته طقوس المغادرة والعودة (١).

إن هذين الحدثين ، أي مرحلة الذهاب أو المغادرة التي غالبا ما تتسم بكونها مؤلمة وموجعة ، ومرحلة العودة المليئة عكس ذلك بالفرح والانشراح ، هما اللذان يحتل السفر موقعا وسطا فيما بينهما ، ويسموان به إلى مستوى الشيء غير العادي. ويؤكد فوسيل على تلك البنية «الثلاثية» التي يتميز بها السرد الروائي للرحلة ؛ إذ يقوم الشخص المركزي ، كما هو حال البطل الرومانسي ، بمغادرة الأشياء المألوفة لديه ويرمي بنفسه نحو المجهول : «أولا ، بداية الرحلة بالانفصال عن المألوف ؛ وثانيا ، محاولات التأقلم والشروع في خوض المغامرة ؛ وثالثا ، عودة البطل واندماجه مجددا في المجتمع» (٢). إن الرحلة لشبيهة بنوع من «الحياة المصغرة ، ذات البداية المشرقة ، ثم وسطها ، فنهايتها ... المطبوعة بطقوس تزج بنا زجا وبلا رجعة نحو العدم» (٣).

ويبدو من خلال رحلة محمد الصفار ، أن الابتعاد عما هو مألوف ، والانتقال إلى حالة ذات مستوى شعوري وفكري أسمى ، أمر واضح لا غبار عليه. وعلى الرغم من كون العالم المغربي بعيدا تماما عن كونه من الوجوه البطولية المغامرة ، فقد كان مع ذلك مقبلا على خوض تجربة مثيرة. ويمكننا من خلال تعابيره معاينة مدى تأثره العميق ، إذ لم يتمالك نفسه حينما أشرف على مغادرة تطوان فجادت قريحته بالبيتين التاليين :

أتطواننا الغراء هل يسعد الدهر

بأوبتنا كيما يعود لنا الوصل؟

__________________

(١) Graburn ,"Tourism ",pp.٤٢ ـ ٥٢.

(٢) Fussell ,Abroad ,p.٨٠٢.

(٣) Graburn ,"Tourism ",p.٦٢.

٨٣

وهل يبدوا أو يدنوا محياك بعد ما

تلاطمت الأمواج ويجمع الشمل؟ (١)

وتضاعفت آلام الصفار من جراء الفراق بخوفه من هول البحر. فالرحلة عبر البحر تفوق كثيرا مستوى المجهول ، بل هي مغازلة صريحة للموت. وهنا أيضا ، فإن هذا الشعور نموذجي متبادل بين الناس ، لأنه غالبا ما يخشى المسافر في أعماقه أن يموت بعيدا عن موطنه الأصلي.

كما تكون مرحلة العودة مشحونة أيضا بالصعوبات. فعند الرجوع إلى الأمور المعتادة ، يجد المسافر نفسه مشدودا بين تناقضات مشاعره الوجدانية. إذ لا تعني العودة إلى البيت مجرد التمكن من تجديد الصلة بالأحبة لطول الشوق إليهم ، بل تعني أيضا الرجوع إلى القيود والالتزامات التي تفرضها عليه الحياة اليومية ، وأن يترك من ورائه ذلك الطابع السحري العجيب المميز للرحلة (٢). وإذا كانت رحلة الصفار لا تحتوي على أي وصف لظروف العودة إلى البلد ، فإنها تتضمن تعبيرا شعوريا عميقا بلغ ذروته القصوى من السمو. فقد جاء في الصفحة الأخيرة من مخطوط الرحلة ، عندما ودع الصفار فرنسا هذا القول : «وأستغفر الله مما جنت يداي ، وأبصرت هناك عيناي من المناكر الشنيعة ، وسمعته أذناي من الإشراك والكفريات الفظيعة» (٣). وكانت الملاحظة عبارة عن خاتمة : إذ تضمنت اعترافا منه بأهمية الأشياء العجيبة التي شاهدها ، وتنكرا في الوقت نفسه لمعايشته إياها مدة من الزمن. وبذلك يتحرر الصفار من افتتانه بالتجربة المقدسة ، ويشرع في العودة إلى المألوف والمعتاد ، وهو واع بما يفعل.

إن البنية الثلاثية للرحلة تجعلها ترتفع إلى مستوى «القصة الرمزية للحياة الإنسانية ذاتها» (٤). وكما هو الشأن في الحياة ، فقد تتخللها لحظات من البهجة والحبور ولحظات أخرى من التعاسة والأسى. وتعلقت بعض الأشياء التي شاهدها الصفار في فرنسا بأمور ذات صلة بالحياة المدنية. غير أنه كانت للكثير منها أيضا

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) Graburn ,"Tourism ",p.٧٢.

(٣) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٤) Fussell ,Abroad ,p.٩٠٢.

٨٤

علاقة بما صادفه من أشياء غريبة وأخرى عجيبة وشاذة ، بل ومعاينته لأشياء لم يكن ليتوقعها أبدا لأنها لم تدر في خلده من قبل. إن جدة الموضوع عليه كانت مصدرا لصعوبته ، كما كانت في الوقت نفسه مصدرا لإعجابه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأرضية الثقافية التي ينتمي إليها محمد الصفار ، أمكننا أن نفهم كيف أن الأشياء غير المعهودة التي لم يسبق له رؤية مثلها كانت موضوع شكه وريبته. وكيف أن الجديد لا يمكن أن يشكل في اعتقاده سوى الخطر المحدق لا محالة. وقد أشار فرانز روزنتال (Franz Rosenthal) ، قائلا إنه في عصر المخطوط يكون «النجاح النهائي للأفكار الجديدة التي لا تتماشى مع الأنماط الفكرية السائدة ... نجاحا غير مضمون. وإذا لم تحظ فكرة جديدة بموافقة مجموعة عريضة من العلماء خلال مدة زمنية وجيزة ، فالأحرى بها أن تدفن في رفوف إحدى المكتبات ، مع وجود آمال ضئيلة في اكتشافها من جديد في وقت لاحق» (١). وفيما يتعلق بشخص وجد نفسه ملزما بكتابة تقرير يتعلق بقضايا معقدة وبأمور غير معهودة ، فإن مسألة الثقة به تبدو غير كبيرة. وحتى يتسنى له ضمان القبول لأفكاره تلك ، كان عليه بالضرورة العمل على صبها في قوالب معروفة ، وتقديمها وفقا للأشكال المعترف بها وقتئذ ، والمقبولة من لدن سدنة الأعراف والتقاليد. وخوفا من أن يكون مآل تقريره هو أن يرفضه السلطان سيده العارف ببواطن الأمور ، فإنه كان على وعي تام بان أفضل وسيلة لبلوغ الهدف هي الالتزام باحترام الأعراف السائدة (٢).

وهنالك ضغوط أخرى كان لها تأثيرها الواضح على محمد الصفار. إذ لا بد من التذكير أن السلطان كان مهتما بالمشروع شخصيا ، مما جعله يرقى إلى مستوى عال من الجدية. ولا يستبعد أن يكون التقرير موضع اهتمام ومناقشة مستفيضة في البلاط السلطاني ، وربما قرأه السلطان مولاي عبد الرحمن شخصيا. وربما كان أيضا البعض من حاشية السلطان من أصدقائه أيام الدراسة ، والبعض الآخر من أفراد الأسرة أو

__________________

(١) Franz Rosenthal, The Technique and Approach of Muslim Scholarship, Analecta Orientalia ٤٢) Rome, ٧٤٩١ (, p. ٧٥.

وكان ذلك هو المصير الذي آلت إليه مخطوطة محمد الصفار. وربما اعتبر السلطان مضمون الرحلة ضمن القضايا السرية للمخزن وقتئذ ، انظر : ٥١٢.Laroui ,Origines ,p

(٢) انظر نماذج من عناوين الرحلات المغربية في ببليوغرافية هذا الكتاب.

٨٥

من أولئك الذين تربطهم به بعض العلاقات الزبونية ، وجميع هؤلاء ينتمون إلى طبقته الاجتماعية. وحتى لا يلحق الصفار بنفسه ولا بولي نعمته عبد القادر أشعاش أي خزي أو أذى ، كان عليه بذل قصارى جهده لتحقيق أفضل النتائج الممكنة. فكان لا بد له من أن يظهر عبر أسلوب كتابته وروايته لمختلف فصول الرحلة ، كل الخصال الحميدة التي كان يتصف بها كخاصية الوقار والاطلاع الواسع ، والحرص على سلامة الأفكار من العيوب الإيديولوجية ، حتى يضمن لها أوفر حظوظ القبول لدى العناصر المكونة للوسط المخزني في مستوياته المركزية. علاوة على ذلك ، كان عليه أن يحرر تقريره عن الرحلة بأسلوب أدبي رفيع يعكس مدى تمكنه من ناصية اللغة العربية وأسرارها.

فما هي عناصر الأسلوب التي منحته المزايا الرفيعة المطلوبة؟ أولا وقبل كل شيء ، هناك القرار الذي اتخذه الصفار لصياغة تقريره في قالب الرحلة ، وهي من الأجناس الأدبية ذات الأصول العريقة في التقاليد الكلاسيكية. وإذا كانت الكتابات المتعلقة بالرحلات معروفة منذ أزمنة بعيدة وفي أماكن عديدة ، فإن ذلك الجنس الأدبي قد عرف نموه بصورة زاهية في كل من الأندلس وبلدان المغارب.

وبفعل الإيمان العميق لسكان المغرب ، وبعدهم الجغرافي عن منابع الإسلام الأولى في شبه الجزيرة العربية ، كانوا حريصين أشد الحرص على أداء فريضة الحج. وكانت الروايات الخاصة بالرحلات الحجازية ، التي يشارك فيها الحاج مغامرته مع الآخرين ، نموذجا مثاليا للقصة ذات الطابع القدسي. ويتم المرور فيها بالمراحل التالية التي تعتبر أبرز المحطات المكونة للبنية السردية للحكاية : بداية من التوسل والتضرع إلى الله ، إلى مراحل الرحلة ، ثم المخاطر التي صودفت أثناء الرحلة ، وأخيرا بلوغ الهدف المنشود الذي كان يبدو بعيد المنال في البداية. وكان الوصول إلى الديار المقدسة من أكثر الأمور إثارة للمشاعر ، إذ تنضوي تحته كل وقائع الرحلة. ويعطي بلوغ ذلك الهدف شكلا ومغزى حقيقيا للرحلة ، فيجعلها تكتسي دلالات فعلية بشكل لا يمكن أن يتأتى تحقيقه في حالة الاقتصار على رواية ذات طابع كرونولوجي بسيط. وعلى مستوى الزمن ، فإن أدب الرحلة قد يمتد ليشمل روايات تتعلق برحلات مخصصة لأغراض أخرى ، كالتوجه بعيدا طلبا للعلم ، أو الذهاب في بعثة سفارية في إطار مهمة دبلوماسية. غير أن أفضل نموذج للرحلة وروايتها على الإطلاق هو الكتابات المتعلقة بالرحلات الحجازية نحو الديار المقدسة.

٨٦

وكان أدب الرحلة تقليدا مغربيا متأصلا جدا في خلفية محمد الصفار الثقافية ، مما يسّر الشكل المنطقي الذي صب فيه تجربته في ميدان الرحلات. والأهم من ذلك ، هو أن ذلك النهج كان معروفا عند قرائه ، لأن قراءة التوطئة التي افتتح بها رحلته والشبيهة جدا بالعبارات المعهودة في افتتاحيات نصوص الرحلات الحجازية ، كفيلة بمنح هؤلاء القراء مزيدا من الاطمئنان ، كما هو حال غالبية النصوص ذات الطابع التقديسي التي تفتتح دائما بديباجة مطولة من التعاويذ والأدعية المماثلة (١).

__________________

(١) عن أدبيات الرحلة عند العرب ، انظر :

M. Hadj ـ Sadok," Le genre Rihl", Bulletin des e؟tudes arabes ٨, ٠٤) ٨٤٩١ (: ٥٩١ ـ ٦٠٢; GALS ٣, index, s. v. rihla; EI ٢, s. vv." Djughrafiya"," Hadj".

وعن الأسفار والرحلات إلى الغرب ، انظر :

B. Lewis, The Muslim Discovery of Europe) New York, ٢٨٩١ (; I. Abu ـ Lughod, The Arab Rediscovery of Europe : a Study in Cultural Encounters) Princeton, ٣٦٩١ (; Henri Pe؟re؟s, L؟Espagne vue par les voyageurs musulmans de ٠١٦١ ٠٣٩١) Paris, ٧٣٩١ (.

وعن الرحلات الإسلامية ، انظر :

Dictionary of the Middle Ages, vol. ٢١, s. v." Travel and Transport, Islamic", by Richard Bulliet.

بالإضافة إلى العمل بالغ الأهمية الذي أنجزه أندري ميكيل تحت عنوان :

Andre؟Miquel, La ge؟ographie humaine du monde musulman jusqu\'au milieu du ١١ e sie؟cle, ٤ vols.) Paris, ٧٦٩١ ـ ٨٨٩١ (, vol ١, ch. ٤ et vol. ٢, ch. ٧.

وانظر أيضا الهامش ٢٥ سابق الذكر في الصفحات السابقة من هذا الكتاب.

أما عن الكتابات المغربية في موضوع أدب الرحلة ، فانظر ما يلي : عبد السلام ابن سودة ، دليل مؤرخ المغرب الأقصى ، في جزئين ، (الدار البيضاء ١٩٦٠ ـ ١٩٦٥) ، ٢ : ٣٣٣ ـ ٣٧٠. وقد أشار فيه المؤلف إلى حوالي ٢٤٠ عنوانا ، جلها رحلات حجازية غير منشورة. ومن المصادر الأخرى ، محمد الفاسي ، «الرحلة السفارية المغربية» ، في البينة ، ١ ، ٦ (أكتوبر ١٩٦٢) : ١١ ـ ٢٤ ؛ «الرحالة المغاربة ومآثرهم» ، في دعوة الحق ، ٢ ، ٤ (يناير ١٩٥٩) ٢٢ ـ ٢٥ ، وكتب هذا المؤلف نفسه تقديما لكتاب الإكسير في افتكاك الأسير ، لمحمد بن عثمان المكناسي ، نشره محمد الفاسي (الرباط ، ١٩٦٥). وانظر أيضا : M.Lakhdar ,La vie litte؟raire ، بالإضافة إلى محمد المنوني ، المصادر العربية لتاريخ المغرب ، الجزء ١ (الدار البيضاء ، ١٩٨٣) ، والجزء ٢ (المحمدية ١٩٨٩).

٨٧

وفي الحقيقة ، إننا نجد أنفسنا هنا أمام مشكلة. ذلك بأن أسمى أشكال الرحلات وأكثرها اتساما بالورع والتقوى هي التي تشد فيها الرحال إلى منابع الإسلام الأولى ومعاقل الإيمان المقدسة. أما أن تكون هذه الرحلة قاصدة بلاد الغرب ، ففي ذلك قلب للأمور رأسا على عقب : فهي رحلة في اتجاه اللامقدس بل إلى ما يعتبر مدنسا من وجهة النظر الإسلامية التقليدية. إذ يكون الرحالة المسلم المتوجه إلى بلاد الغرب عرضة للخضوع إلى المقاييس والإغراءات السائدة في مجتمع يعتبر فاسدا في جوهره. وهناك لا بد من مواجهة المسلم لصعوبات كبيرة للقيام بالشعائر والواجبات الدينية. كما أنه يكون مهددا في كل وقت وحين بما يلوث عقيدته أو يدنسها. وكان المشكل المطروح سواء على الصفار أم غيره من الرحالة المسلمين المتوجهين إلى أوربا ، هو كيفية التخلص من رائحة ذلك الدنس الملتصقة بهم ، وكيفية تبرير سلوكهم حتى يلقى القبول من إخوانهم في الدين والعقيدة.

وكان الصفار على وعي تام بهذا المشكل القائم ، فواجهه متسترا وراء عبارة لها وزنها ، ألا وهي : مصالح الأمة. وبناء على ذلك ، فإن الرحلة إلى بلاد الغرب تستحق أن تتمتع بموافقة جماعة المسلمين لأنها مطابقة للقيم الدينية الهادفة إلى حماية المؤمنين. وفي هذا السياق ، قال الصفار إن السلطان أرسل البعثة السفارية «جريا على عادته في الحرص على انتظام أمر الخاص والعام» ، وأضاف معززا كلامه بما يلي : «ولم يزل هذا دأب أئمة الأمة وحماة الملة. فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث لذلك كبراء أصحابه ، وفيه إسوة. وتابعه في ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون» (١). ليست هناك على الإطلاق سلطة أعلى من هذه السلطة ـ وهي سابقة سنها المسلمون الأوائل ـ يمكن أن يستند إليها محمد الصفار ليمنح مغامرته طابع المشروعية ويجعلها أمرا مقبولا ومستحسنا. وسبق لكرابورن القول إن إجماع الجماعة على رأي واحد في مسألة السفر أمر مهم لموضوع الرحلة. إذ هناك ما يبرر الوقت المستهلك والجهد المبذول اللذين كان من الممكن إنفاقهما لتحقيق أهداف اجتماعية أخرى (٢). وهكذا يكون الصفار ، بإيجاد رابطة لجهوده مع قداسة الحج ، وبحديثه عن النتائج الإيجابية المكتسبة في الماضي عبر الطرق الدبلوماسية ، قد بحث عن كل ما

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) Graburn ,"Tourism ",p.٨٢.

٨٨

من شأنه أن يبارك خطواته ، إذ وضع مشروعه في سياق تيار له تقاليد عريقة وموغلة في الزمن.

وبالرغم من افتقار الصفار إلى معرفة سابقة ومباشرة بالبلاد الفرنسية ، فمن الأكيد جدا أن يكون قد تمكن مسبقا من تكوين أفكار وتصور تصورات تتعلق بأوربا ، معتمدا في ذلك على غيره من الذين حلوا قبله بربوعها. وهذا فضلا عن معرفته الشخصية بخصائص النظام الاجتماعي بوجه عام. ولم يقتصر تكوينه على تزويده فقط بالنمط الأدبي للرحلة ، بل مكنه أيضا من اكتساب مفاهيم تتعلق بالطريقة التي تتكون بموجبها البنيات المجتمعية. وفي هذا المجال ، كان مصدره الأساسي هو كتابات ابن خلدون ، المؤرخ والفيلسوف والمنظر الاجتماعي المغاربي ، الذي عاش خلال القرن الرابع عشر الميلادي. وكانت المقدمة أهم وأغنى المصادر على الإطلاق التي استقى منها الصفار أفكاره ، سواء في مواضيع الجغرافيا والمجتمع ، أم حول طبيعة السلطة السياسية بكل مكوناتها (١).

وانصب اهتمام ابن خلدون على ظاهرة العمران وعلى الكيفية التي يعبر بها عن ذاتيته داخل المجتمع. وعنده أن أفضل طريقة يمكن لبني البشر سلوكها لضمان عيش سليم هي أن يعيشوا متكتلين ضمن مجموعات. وأن بقاء المجموعة وازدهارها يظل مرتبطا بدرجة التعاون والتآزر الموجودين بين العناصر المكونة لها. وحينما قال الصفار إن فرنسا مركز للحضارة ، كان يرى أمامه تجسيدا لأفكار ابن خلدون ، لما شاهد عددا

__________________

(١) كل الإحالات الواردة في هذا الكتاب على المقدمة مأخوذة عن النسخة الإنجليزية التي وضعها روزنتال :

F. Rosenthal, the Muqaddimah : An Introduction to History, ٣ vols.) Princeton, ٧٦٩١ (.

ويحتوي الجزء الجزء الأول منها على ترجمة لابن خلدون. بينما نجد تلخيصا مركزا لنظرية ابن خلدون في الدولة ضمن الفصل الرابع من كتاب روزنتال الذي يحمل العنوان التالي :

E. I. J. Rosenthal, Political Thought in Medieval Islam) Cambridge, ٨٦٩١ (.

وللاطلاع على وجهة نظر مغربية في الموضوع ، يمكن الرجوع إلى كتاب علي أومليل :

Ali Oumlil, L\'histoire et son discours) Rabat, ٢٨٩١ (.

(المعرب) : وعند تعريبنا أو تعاملنا مع الفقرات المتعلقة بابن خلدون اعتمدنا على الطبعة العربية الصادرة في بيروت سنة ١٩٧٨.

٨٩

هائلا من السكان وهم يشتغلون بحيوية كبيرة وبانسجام وتوافق تامين. كما تبنى محمد الصفار المفاهيم الخلدونية المتعلقة بالسلطة السياسية. وكان الفيلسوف المغاربي يؤمن بأن بني الإنسان أنانيون بطبعهم ، ولا بد من استعمال القوة لكبح جماحهم. ومن الخصائص المميزة للمجتمعات المحكمة التنظيم ، هي أن يكون على رأسها ملك قوي تحت إمرته جيش شديد البأس ، ولديه إمكانات مالية متينة يستند عليها لتدبير كل شؤونه. إن اهتمامات الصفار ـ كما تبدو من خلال صفحات الرحلة ـ بالقضايا العسكرية والمالية ، لم تكن مجرد انعكاس لمشاكل كانت قائمة وقتئذ في المغرب ، بل كانت في الوقت نفسه إسقاطا لاعتقاداته المكتسبة من قراءته لكتابات ابن خلدون ، والتي تعتبر المال والرجال دعامتين أساسيتين لا مناص منهما لضمان استمرار الدولة ووجودها.

إن نظريات ابن خلدون المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي قد زودت محمد الصفار بأفكار واضحة المعالم عن المجتمعات الفاعلة والمنتجة. وكل الأشياء التي شاهدها الصفار في فرنسا من دور وبنايات مشيدة ، وورشات عمل وحوانيت نابضة بالحيوية ، إلى جانب الحقول المزروعة والأراضي المحروثة وغيرها ، كانت دلائل ناطقة بدرجات التقدم الحضاري ، بشكل مماثل لما سبق له الاطلاع عليه في صفحات المقدمة. وحتى الخطبة التي ألقاها ملك فرنسا من أعلى عرشه يوم الاحتفال بمطلع السنة الجديدة ، كانت تعبيرا عن المفاهيم الخلدونية المدونة في المقدمة المتعلقة بمظاهر السلطة عند الملوك (١). وتعتبر كل هذه الأفكار جزء من الثقافة التقليدية المنقولة عبر الأجيال من العلماء المغاربة إلى الأجيال اللاحقة ، وفي وسط ضيق من المتعلمين في مستوياتهم العليا ، وهي معروفة لدى العناصر ذات التكوين الجيد. ومن الطبيعي أن تجد مثل تلك الأفكار صدى لها ، بل وأن تلقى الاستحسان في ذهن كل هؤلاء عند قراءتهم للرحلة. إن استحضار الصفار لابن خلدون واحتماءه بأفكاره قد فسحا له مجالا واسعا للتصرف بكامل الحرية. ذلك بأن تقديمه لتصوراته المتعلقة بفرنسا وفقا للنمط الخلدوني ، جعله قادرا على التعبير عن مدى إعجابه بالفرنسيين وبكل ما حققوه من منجزات ، مع إمكانية بقائه في الوقت نفسه في إطار الحدود الثقافية المسموح بها. وكان بوسعه القيام بذلك ، لأن المجتمع الفرنسي كان يبدو له ـ على الأقل من حيث

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

٩٠

مظاهره المادية الخارجية ـ منسجما مع فكرة الدولة الإسلامية محكمة التنظير والتسيير ، والسائدة إلى حدود القرن الرابع عشر الميلادي.

وإذا كان ابن خلدون قد ساهم في وضع اللبنات والأسس التي بنى عليها الصفار رحلته ، فإن الطهطاوي هو الذي زود الفقيه التطواني بمواد البناء. وإذا اكتفى الصفار بإشارة عابرة إلى اسم الرحالة والمفكر المصري المذكور ، فإن المقارنة بين متني الرحلتين تبين أن الصفار أخذ أشياء كثيرة عن الطهطاوي (١). ولا نستطيع الجزم بأن الصفار قد اطلع على كتاب الطهطاوي خلال مدة وجوده في فرنسا ، أو بأنه وجد نسخة من تخليص الإبريز في المغرب بعد عودته. غير أن ما يبدو واضحا ، هو أن كتاب الطهطاوي كان مفتوحا أمام الصفار في بعض النقط ، واستمد منه أشياء عديدة ، نظر الوجود أوجه تشابه كبيرة في الأسلوب والشكل وفي بعض التفاصيل. بل وهناك تصرف واضح في عبارات الطهطاوي من حيث أسلوبها الأصلي ، بشكل لا يمكن أن ينظر إليه من حيث الأعراف الغربية إلا بأنه من باب السرقة الأدبية. غير

__________________

(١) ولد رفاعة الطهطاوي في طهطا بمصر العليا سنة ١٨٠١ ، وتلقى دراسته بجامع الأزهر. وفي ١٨٢٦ أرسله الخديوي محمد علي إلى باريز ليؤم مجموعة من الطلبة في الصلاة. درس في باريز لمدة خمس سنوات ، فتعلم الفرنسية بطلاقة ، ولخص انطباعاته حول فرنسا في كتاب تحت عنوان : تخليص الإبريز في تلخيص باريز ، وقد نشر بمطبعة بولاق بعد مدة قصيرة من عودته إلى مصر. وحظي ذلك الكتاب بشعبية كبيرة ، فترجم إلى التركية ، كما كان معروفا أيضا عند المثقفين المغاربة. وقد صدرت له حديثا ترجمة إلى الفرنسية أنجزها أنور لوقا :

Anouar Louca, L\'or de Paris : Relation de voyage, ٦٢٨١ ـ ١٣٨١,) paris, ٨٨٩١ (.

وكانت وفاة الطهطاوي سنة ١٨٧٣. أما عن فصول حياته وأفكاره ، فانظر ما يلي :

ووردت إشارة الصفار العابرة للطهطاوي هكذا : «الرفعة أفندي» ، انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

٩١

أن ذلك ليس من عيوب الأعراف والتقاليد الإسلامية ، بل يعتبر على العكس من ذلك مؤشرا على مدى كفاءة الكتاب واعتماده على مصادر من الدرجة الأولى تستحق كامل الثقة بل والاقتداء بها.

ولما كان الطهطاوي رجلا عالما شأنه في ذلك شأن الصفار ، فقد كان عليه القيام بدور مماثل ، وهو تقديم الوعظ والنصائح الدينية إلى مجموعة من المسلمين غير المتبحرين في شؤون الدين ، أثناء إقامتهم في وسط تسود فيه ثقافة أجنبية عنهم. وقد كان مصدر المعرفة الذي نهل منه الرجلان واحدا ، كما كانت نظرتهما إلى العالم مماثلة ، هذا رغما عن عدم وقوع لقاء سابق بين شخصيهما. إذ كانت تجمع بينهما نوع من القرابة الروحية التي جعلت الصفار يطمئن إليه ، ويستمد منه كل ما كان في حاجة إليه بطريقة بسيطة. وكان الصفار يقدر الطهطاوي لسبب آخر ، هو أن العالم المصري سمحت له الظروف بالمكوث مدة قاربت خمس سنوات في باريز ، بينما لم يقم هو نفسه بالعاصمة الفرنسية سوى خمسين يوما. ويعترف الصفار بأنه لم يتردد في البحث عند الطهطاوي عن كل ما يعوزه في تجربته الشخصية وخاصة في كل ما يتصل بخصوصيات المجتمع الفرنسي.

غير أن هناك حدودا واضحة للتشابه الموجود بين الرحلتين ، لأن الظروف التي تمت فيها كل واحدة منهما تظل مختلفة. وحينما غادر الطهطاوي مصر متجها إلى فرنسا خلال سنة ١٨٢٦ ، كانت الحركة الإصلاحية في بلاده قد أخذت طريقها منذ مدة ، بفعل وجود إرادة حديدية لدى حاكم البلاد محمد علي باشا (١). وإن مظاهر التغيير وأنماطه التي بدأت تحدث على أرض الواقع في الديار المصرية لم تؤخذ بعد بعين الاعتبار في المغرب ، ولم تعرف بداياتها الأولى إلا بعد مرور عشرات السنين.

إذ كان العديد من المصريين يدرسون ويناقشون مواضيع في الفلسفة الفرنسية وعلوم السياسة ، والقوانين والأعراف الاجتماعية ، والمعرفة العلمية ، وكلها أشياء لا عهد للمغاربة وقتئذ بفهمها أو بتقديرها حق قدرها. والدليل على ذلك ، هو الغياب الكلي والمطلق عند محمد الصفار في رحلته لبعض المواضيع الوارد ذكرها في كتاب الطهطاوي. ولا بد من التذكير أيضا بأن الطهطاوي كان مبعوثا إلى فرنسا من لدن قائد

__________________

(١) عن حركة الإصلاح في مصر ، انظر الآتي :

A. L. as ـ Sayyid Marsot, A Short History of Modern Egypt) Cambridge, ٥٨٩١ (, pp. ٤٥ ـ ٦٦.

٩٢

سياسي كان يوجد يومئذ في وضعية المهاجم. هذا في حين كان الصفار قد أرسلته زعامة تعيش في فترة اتسمت بالتراجع. وكان هدف الطهطاوي هو أن يكون مدافعا عن الإصلاحات ، بينما لم تتجاوز نوايا الصفار مستوى القيام بالمشاهدة وتحرير وصف لها على هيئة تقرير. ومن جهة أخرى ، فإن رحلة الطهطاوي لقيت كل التشجيع ونالت إعجاب الخديوي بها ، بينما لم يقرأ رحلة الصفار إلا عدد محدود من الأشخاص الموجودين ضمن حاشية السلطان ، والذين كانت مواقفهم من التغيير مشكوكا في طبيعتها إلى حد كبير. ويمكن القول في نهاية التحليل إن كل هذه العوامل المتباينة قد حددت طبيعة كلتا الرحلتين وجعلت إحداهما تختلف عن الأخرى.

غير أن ما ينفرد به الصفار في رحلته ، هو أن ملاحظاته تأتي مباشرة فورية. فقد شاهد فرنسا بعيون الرجل الذي يفضل التوصل إلى معرفة الأشياء عبر التجربة المباشرة والمعيشة ، بدلا من المعرفة المكتسبة من الكتب. ومن ثم جاءت رحلته مليئة وغنية بالانطباعات الحية التي خالجته في حينها وعبر عنها بكامل الصدق والوفاء. إن مفهوم الملاحظة الشخصية أو المشاهدة ، يعني محاولة التعلم واكتساب المعرفة دونما حاجة إلى عنصر وسيط. إذ كان الرحالة الكلاسيكيون يعتبرون ذلك النهج طريقة مثلى وذات فعالية كبيرة لكسب المعرفة (١). وكانت إشارة الصفار إلى هذا المبدأ بصريح العبارة ، بل وذهب إلى حد تدعيمه بأمثلة ملموسة. ويقول في هذا الصدد : «وما حصلت جم الفوائد إلا من مخالطات البشر» (٢). وأتحفنا الصفار من خلال وصف مشاهداته بتفاصيل دقيقة ، وكأنه يريد إقناعنا بحضوره الفعلي وبمعاينته الحقيقية وقتئذ لتلك الأشياء الموصوفة. وعلى الرغم من عدم الاستيعاب الكلي لوظيفة الأشياء التي كلف نفسه عناء وصفها ، فإنه لا يتوانى عن التفصيل في الحديث واصفا جزئياتها الكبيرة والصغيرة ، لأن التدقيق في التفاصيل شيء ذو قيمة

__________________

(١) «ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم ، فالملكة الحاصلة عن الخبر على قدر جودة التعليم وملكة المتعلم [...] وحصوله ملكته». المقدمة ، انظر ، ص. ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، من الطبعة العربية. وعن المزيد من الإشارات المتعلقة بمدى أهمية الحقيقة المعيشة لدى رحالة العصر الوسيط ، انظر الآتي :

Eickelman," Art of Memory", p. ١٠٥ note ٠٢; A. Miquel, Ge؟ographie humaine ١ : ٥٣١.

(٢) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

٩٣

في حد ذاته ، وفيه إدراك للحقيقة. وفي ذلك الإطار قدم الصفار جاهدا شروحا دقيقة حول مجموعة من التجارب العلمية المليئة بالألغاز ، كما أحصى بالعد والعدد الشموع المضيئة لإحدى قاعات الأكل. بالإضافة إلى نقله الأمين لأشكال القناطر وبنياتها وتصاميمها الهندسية المعقدة.

وإذا كان الصفار حريصا على تصوير تلك الأشياء بكل تفصيلاتها ، فإن هدفه لم يكن مجرد الوصول إلى تقديم صورة عنها أقرب إلى الحقيقة ، بل هو أنه يؤكد لنا بالبراهين عمق وجوده الفعلي بين أحضان تلك الأشياء الموصوفة. وبالرغم من أن الوفاء والحرص على مسايرة التقليد ، كان جيل محمد الصفار لا يزال يعتبره مقياسا أساسيا للحقيقة ، فإن تأكيده على فردانيته ، وتقديمه لتجربته كعمل مستقل وقائم الذات ، هو بمثابة مؤشر على بداية ظهور الجديد ، وبأسلوب أدبي أكثر واقعية ، يجمع بين الحاكي والمحكي عنه بشكل أكثر حميمية وإيحاء بالألفة مما كان معهودا في الماضي. إنها ليست مجرد تفاصيل وتدقيقات لأشياء ورد الحديث عنها بطريقة اعتباطية حبا في ذكر التفاصيل لذاتها ، بل هي في واقع الأمر تأكيد للذات ، وتنبيه إلى أن الأمر يتعلق بصدفة لقاء حقيقية مع الجديد (١).

وعلاوة على ذلك ، فإن الصفار يفرق بطريقة متأنية بين ما شاهده بعينيه ، وبين ما قاله الآخرون له ، وفي هذا مزيد من الرفع لمقدار مصداقيته. إذ تكررت عنده عبارات من قبيل : «يزعمون أن» ، أو «يقولون إن» ، وما شابهها من المؤشرات المنبئة بأن الخبر الوارد قد أتاه من مصدر ثان ، ربما كان هو الترجمان المرافق لأعضاء البعثة ، مما يجعلنا ننظر إلى الخبر بعين الريبة والحذر على الفور. وتنبه الصفار إلى أن الفرنسيين كانوا يسلكون خطة مدروسة بإحكام من خلال برنامج الزيارات الذي حضروه لإطلاع أعضاء البعثة على مختلف مظاهر الحياة الفرنسية. فقد ظل المغاربة تحت المراقبة المباشرة لمضيفيهم الفرنسيين ، فنقلوهم من مواضع سياحية إلى أخرى ،

__________________

(١) انظر على سبيل المثال رحلة الغساني ، افتكاك ، التي لا توجد فيها سوى أوصاف مقتضبة للأشياء التي شاهدها الرحالة المغربي بالمقارنة مع ما قدمه محمد الصفار. وعن تنامي الواقعية في كتابه القصة في الأدب الإنجليزي خلال القرن الثامن عشر ، انظر :

Ian Watt, the Rise of the Novel : Studies in Defoe, Richardson and Fielding) Berkeley, ٧٥٩١ (, ch. ١.

٩٤

لخلق «أحسن الانطباعات لديهم بعظمة فرنسا وقوتها» (١). ولم يفت الصفار التعبير عن استيائه من التعريج المتعب بأعضاء البعثة السفارية إلى مدينة تولون (Toulon) لحملهم على مشاهدة بعض من وحدات الأسطول الفرنسي. كما امتلأ قلبه بالحسرة والأسى في أعقاب الاستعراض العسكري الذي جرت وقائعه في ساحة شان ـ دومارس (Champ ـ de Mars). ويحتوي متن الرحلة على تراتبية ضمنية للحقيقة ، مصحوبة بملاحظات مباشرة على أعلى المستويات. إذ لجأ الصفار إلى نقل المعلومات المستمدة من المصادر الإسلامية في الوسط ، بينما وضع الأخبار المستقاة من المسيحيين الذين كان ضيفا عليهم في المؤخرة. وكان بارعا بالفعل في إفصاحه عن القيمة الحقيقية لكل منهما.

وعلى الرغم من تحمس الصفار للحقيقة ، فإنه لم يستطع أن يقدم لنا سوى انطباعات جزئية حول فرنسا. وذلك لأنه ظل محصورا بين أشياء شاهدها وبعض الأمور التي استطاع إدراك كنهها. وقد ظن الصفار ، مثله في ذلك مثل الطهطاوي ، أن فرنسا هي باريز بمفهومها الواسع ، أي مدينة الصالونات ، والشوارع الفسيحة ، والمدينة الزاخرة بمختلف المظاهر الاستعراضية (٢).

إن الصفار لم يشاهد غير القليل من المظاهر القاتمة والسيئة لأعماق الحياة الباريزية : من انتشار للفقر والمرض وممارسة الدعارة ، وارتفاع لأعداد العاطلين عن العمل ، إلى جانب الفوارق الصارخة والمؤلمة الموجودة بين الأثرياء والبؤساء ؛ وكلها قضايا شغلت بال رجال الأدب المعاصرين من ذوي النزعة الاحتجاجية على الواقع

__________________

(١) العبارة مأخوذة من التعليمات الموجهة من كيزو (Guizot) إلى بورسي (Pourcet) وأورباين (Urbain) ، انظر : AAE / CPM ، ١٥ / ٢٣ نونبر ١٨٤٥. وعبر الملك لوي فليب عن الفكرة نفسها بصريح العبارة ، في رسالته إلى السلطان عبد الرحمن بن هشام في موضوع زيارة السفير المغربي بقوله : «وقد أمرنا وزراءنا أن يبالغوا في إكرامه وتبجيله لكي تطيب له بلادنا وأن يعرضو عليه كل ما فيها من عجائب الفنون والصنايع». من رسالة لويس فيليب إلى مولاي عبد الرحمن ، ١٣ فبراير ١٨٤٦ ، مسجلة ضمن محفوظات مديرية الوثائق الملكية تحت رقم ١٧٥٧٥ ، انظر : (الملحق رقم ٣).

(٢) سبق للمستشرق الفرنسي سيلفستر دو ساسي (Silvestre de Sacy) ، أن لاحظ كيف عمم الطهطاوي أحكامه على الفرنسيين انطلاقا «مما هو سائد لدى سكان باريز» Louca ,L\'or ,p.٨١٢.

٩٥

الاجتماعي المر السائد وقتئذ في فرنسا (١). وقد كانت باريز ، في نظر الصفار ، مدينة تقطنها نساء عفيفات ، ويعمرها رجال جادون مجدون في عملهم لا يبغون غير خدمة مصالح دولتهم العادلة والمحكمة التنظيم. وبذلك كانت باريز ، هي ذلك الموضع السحري الحافل بكل ما هو رمزي ، وهي أيضا المكان الطبيعي الذي تحققت على أرضيته أهداف الرحلة. إن الصفار حين نسب تلك المجموعة من الصفات المثالية إلى باريز ، قد ارتقى بها إلى درجة ما هو مقدس ، وكثف من درجة الحوار مع بلده تكثيفا أدى إلى وجود معنى تحتي متميز وقائم الذات لرحلته.

ولا بد من أن يخلق التعاقب الموجود بين المقدس وما هو دون ذلك في موضوع الرحلة ، توترا لا مفر منه في وعي الرحالة ، بين المكان الذي تمت زيارته والمكان الذي خلفه وراء ظهره. ورغم محاولتنا الهادفة إلى تناسي موطننا ، فإن هناك لحظات لا تعد ولا تحصى أثناء الرحلة لا بد أن تذكرنا (٢) به. وإن تجربة الرحلة أشبه ما تكون بمرآة ذات وجهين ، أحدهما يعكس ما هو جديد ، والآخر يحتفظ بصورة الأشياء المعروفة. وبصفة حتمية ، يجد المرء نفسه وقد بدأ يفكر وفقا لأسلوب المتناقضات ، سواء منها ما هو متلائم أم غير متلائم مع الأشياء الجاري بها العمل في الموطن الأصلي للرحالة المسافر. وقد أثارت السرعة والظروف المريحة التي كان يتم بها التنقل في أرجاء فرنسا لدى الصفار ما تعرفه أحوال السفر والتنقل في المغرب من صعوبات ؛ كما ذكرته المراعي الخصبة التي شاهدها عبر نوافذ العربة بحقول بلاده اليانعة الأكثر اخضرارا.

وعند نقط الاختلاف هذه ، ينقلنا الكاتب ليقربنا إلى حد بعيد من إدراك طبيعة تلك السيرورة الخيالية التي تقع فيها الرحلة. وتلك هي اللحظات التي يصبح فيها الإيقاع بين العالم الداخلي والخارجي منسجما بما فيه الكفاية وبالشكل الذي يسمح

__________________

(١) في سنة ١٨٤٢ كتب أوجين سو (Eugene Sue) سلسلة من المقالات في جريدة جورنال دي ديبا (Journal des de؟bats) ، تحت عنوان : "Les myste؟res de Paris " ، أطلع فيها القراء على «العالم السفلي المخيف لباريز نتيجة للفقر وسيادة العنف». انظر :

David Pinkney, Decisive Years in France, ٠٤٨١ ـ ٧٤٨١) Princeton, ٦٨٩١ (, p. ٧٩.

(٢) I. de Sola Pool," Effects of Cross ـ national Contact on National and International Image", in H. Kelman, ed., International Behavoir, a Social ـ psychological Analysis) New York, ٥٦٩١ (, p. ٢٢١.

٩٦

لنا بالاستماع إليه دون عناء. وسبق للفرنسي كلود ليفي – ستروس (Claude Le؟vi)) Strauss أن لاحظ في كتابه «المدارات الحزبية» (Tristes Tropiques) ، أن السفر يعني التمزق على ثلاثة مستويات ، هي : الزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية (١). وحسب أندري ميكيل (Andre؟Miquel) ، فإنه عندما يتعلق الأمر بالرحالة المسلمين خلال العصر الوسيط ، تسمح لهم الرحلة إلى بلدان غير إسلامية بكل ما تنطوي عليه من تنافرات عديدة ، بإتاحة الفرصة أمامهم بشكل لا مثيل له لتجاوز التفاهات المعهودة لديهم من جراء تجربتهم في الحياة اليومية وتحديهم للخيال (٢). وحتى يتسنى للمرء التوصل إلى فهم حقيقي للدينامية المحركة لصدفة اللقاء الثقافي ، يلزمه الولوج إلى داخل المجال الشعوري للرحلة ، حتى يبلغ نقطة الانحراف ، حيث تصبح القيم المتراكمة لديه عاجزة عن التعبير ، وأيضا حيث تكون صدفة اللقاء مع الجديد منعشة ومنشطة لقوة التفكير. وسبق أن قال ألان تراشتنبيرك (Alan Trachtenberg) ، في هذا الصدد : «إننا نبحث عن براهين ثقافية في تلك اللحظات الدقيقة التي يحدث فيها الاتصال بين الأشياء الجديدة ومثيلتها القديمة المعتادة لدينا ، ونعمل على إدخال قوة الأشياء ذاتها ، ضمن وعينا التاريخي ، لترسيخ رد فعل تجاهها ثم استحضاره داخل مجال شعورنا» (٣). وبذلك ، يمكن النظر إلى رحلة الصفار من منظور آخر ، فتصبح مجموعة من التداخلات المفعمة بالحيوية «بين أشياء جديدة وعادت قديمة» تمثل تلك القوة المميزة لردود فعله إزاء ظواهر معينة وهي في أوج الطراوة. وسنقوم فيما سيأتي بفحص لهذا التجاور بين المشاعر والأشياء ، وفقا للتصنيف الثلاثي الذي وضعه ليفي ـ ستروس والمتضمن للزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية ، بصفتها

__________________

(١) وردت تلك الملاحظة عند أندري ميكيل في كتابه : ١١٥ : ١Ge؟ographie humaine ، واعتمد فيها على قراءة أحد فصول كتاب ليفي ستروس ، انظر :

Claude Le؟vi ـ Struss, Tristes Tropiques, trans. J. Russell) New York, ٠٧٩١ (, chapter entitled" The Quest for Power", pp. ٨٣ ـ ٦٤.

(٢) Ge؟ographie humaine ١ : ٥١١ ,٠٢١.

(٣) وردت هذه العبارات ضمن مقدمة الكتاب التالي :

Wolfgang Schivelbusch, The Railway Journey : The Industrializatio n of Time and Space in the ٩١ th Century) Berkeley, ٦٨٩١ (, p. XV.

٩٧

عناصر أكد مدى قابليتها للتمزق خلال اللحظات التي تستغرقها الرحلة.

لقد وجد الصفار نفسه منذ وصوله إلى فرنسا أمام مشاهد وأشياء مثيرة كانت جميعها غير معهودة لديه. وشكلت العلاقة بين الزمان والمكان عنصر ارتباك فوري وآني لدى محمد الصفار ، بفعل التباين التكنولوجي الموجود بين فرنسا والمغرب. إذ قدم الرحالة من عالم يتنقل فيه المسافرون على الأقدام أو على الدواب ، ليحل بأوربا التي دشنت وقتها انتقالها من مرحلة الاعتماد على القدرات الحيوانية إلى القوة الميكانيكية. وفي المغرب يمكن أن يقطع المسافر مسافة طولها ثلاثة أو أربعة أميال في ساعة زمنية ، حسب الأحوال التي تكون عليها مسالك المرور. أما في فرنسا فقد كانت نسبة السرعة حسب المدة الزمنية ، تفوق ذلك بمرتين حتى في حالة استعمال وسائل النقل المعتمدة على القوة الحيوانية ؛ إذ بلغت سرعة الأكداش الفرنسية في أربعينيات القرن التاسع عشر حوالي ستة أميال في الساعة ، وهي نسبة تبدو مع ذلك هائلة جدا في نظر إنسان مغربي (١).

وكان لقاء الصفار للمرة الأولى مع تلك الأبعاد الجديدة للسرعة أثناء تنقله في العربة بين مرسيليا وأورليان. وعندما صعد إليها ، انخدع بمظهرها فبدت له من فرط تجهيزاتها وكأنها «في الحقيقة بيت من البيوت» ، لكنها ما لبثت فجأة أن بدأت تجرها الخيول في عرض الطريق بسرعة كبيرة ، جعلت البيت الهادئ يتحول إلى قذيفة تخترق الأجواء وتحطم كل المفاهيم المعروفة عن قدرة الجسم البشري على قطع المسافات. وحينما ركب الصفار متن القطار لعبور المسافة الفاصلة بين أورليان وباريز ، ارتبكت في ذهنه كل المفاهيم المعهودة لديه عن العلاقة بين عنصري المسافة والزمن. وعلى الرغم من أن السكة الحديدية كانت لا تزال في خطواتها الأولى ، فإن القاطرة كانت تتحرك بسرعة أكبر من عربات الخيول بمعدل يقارب الثلاثين ميلا في الساعة (٢).

لقد وصف الصفار ذلك الإحساس الغريب الذي انتابه حينما وجد نفسه

__________________

(١) انظر ما كتبه العروي حول سرعة التنقل ونسبها في المغرب : ٤٤ ـ ٥٤.Laroui ,Origines ,pp. أما المعطيات المتعلقة بفرنسا ، فهي مأخوذة عن بينكني : Pinkney ,Decisive Years. واستفدنا في المناقشات التالية حول السكة الحديدية في بداياتها الأولى ومدى تأثيراتها النفسية في الركاب مما كتبه شيفيلبوش : Schivelbusch ,Railway Journey ,ch.٤

(٢) Pinkney ,Decisve years ,p.٣٥.

٩٨

محمولا على متن عربة القطار ، فقال بأنه : «يسير ... سيرا لم يعهد مثله في الإسراع يكاد أن يساير الطير في الهواء ... وكنا ننظر إلى جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من الأحجار أو غيرها إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا ، ولا نحقق الحجر ولا غيره» (١). إن هذه الإشارة إلى الشعور بالطيران لم تكن أمر مقصورا على الرحالة المسلمين دون غيرهم ، لأن الرحالة الأوربيين استعملوا أيضا تعبيرا مماثلا على وجه التقريب عند حديثهم عن ركوب القطار للمرة الأولى ؛ وهو شعور يفقد عنصري الزمان والمكان قوتيهما المعهودتين لدى الشخص ، لأن الرحلة التي كان من المفروض أن تستغرق في المغرب أياما معدودة قد تمت في ساعتين ونصف فقط. إننا نعرف جيدا أن تصور فكرتي الزمان والمكان وكذا العلاقات القائمة بينهما ، من الأمور المحددة ثقافيا ؛ كما أننا نعرف أيضا أنه من الممكن الاستئناس بتلك العلاقات عن طريق التجربة المتكررة. وكانت تلك هي الحالة عند ركوب القطار الذي أصبح في آخر الأمر من الأشياء الروتينية سواء عند الغربيين أم عند غيرهم. وما تتميز به حالة محمد الصفار أنها تجعلنا حاضرين بين أحضان الجديد ومعايشين للحدث في حالته الخالصة من أي مشاعر أو معرفة مسبقة لعناصره.

وتحتوي الرحلة على أمثلة دقيقة وأساسية أخرى عن العلاقات القائمة بين عنصري الزمان والمكان. وقد انتقل الصفار ، أثناء وجوده في فرنسا ، من عالم يقاس فيه الزمن بطقوس العبادات إلى عالم يقاس فيه العنصر نفسه ، وفي غالبية الأحيان ، بالحركات الميكانيكية لعقارب الساعة. وفي المغرب ، كما هو الحال أيضا في جميع بلدان العالم الإسلامي ، فإن إيقاع اليوم تتحكم فيه أوقات الصلاة ومواعيدها. إذ يستيقظ المرء ليصلي صلاة الصبح ، ويتناول وجبة الغذاء بعد صلاة الظهر ، ثم ينهي نهاره بأداء صلاة العشاء. وكان إيقاع الحياة الإسلامية بكل مظاهرها يسير في عالم الذكور وفقا لأوقات محددة تتحكم فيها مواعيد الصلاة ، سواء أتعلق الأمر بإبرام عقود وصفقات أم تعلق بتحديد لقاءات أو ما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، كان تذكير المرء بأوقات اليوم وساعاته يتم دائما بواسطة نداء المؤذن المنبعث من صوامع المساجد. وبذلك كان إيقاع مواقيت الصلاة أدق وسيلة توقيت يمكن أي يطمئن لها المسلم ، كما يطمئن سكان العاصمة البريطانية لندن لساعة بيك بن الشهيرة.

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

٩٩

وحين كان الصفار بعيدا عن موطنه ، وبحكم وجوده في أرض غير إسلامية ، فقد وجد نفسه فجأة محروما من تلك المؤشرات الثقافية المحددة لعنصر الزمن. فقال لنا إن اللقاء مع الملك لوي فيليب (Louis ـ Philippe) قد حدد موعده «في عاشرة النهار» ؛ وإن حفل الاستقبال بالقصر الملكي بمناسبة رأس السنة الجديدة هو «أول يوم من يناير عندهم». أي أن فرنسا كانت من حيث عنصر الزمن أرضا تسود فيها الساعة الميكانيكية والتقويم المسيحي ، ويقاس فيها الوقت بفوارق زمنية محددة. وكانت توجد في المغرب أيضا ساعات ، لكنها غالبا ما كانت تتخذ تحفا تزيينية (١). وقد شاهد الرحالة الأوربيون نماذج منها في بعض الديار الراقية ، لكنها نادرا ما كانت تموضعات عقاربها مطابقة للتوقيت الصحيح. ولا يعني ذلك أن المغاربة كانوا يجهلون الساعة الميكانيكية ، لأن العكس هو الصحيح ، وإنما كان اهتمامهم بها غير كبير (٢). فالمشكل الذي كان يعاني منه الصفار ليس هو معرفة الساعة بدقة خلال اليوم ، بقدر ما كان منشغلا من الناحية الدينية بالمواعيد التي تحدد مواقيت الصلاة بموجبها.

وهناك جانب أساسي آخر من جوانب الحياة اليومية شكل حقلا نتتبع فيه الصفار مرة أخرى وهو يخوض مغامرة المواجهة مع الجديد ، ألا وهو الحد الفاصل بين المجالين الخاص والعام. وسبق لمايكل جيلزنان (Michael Gilsenan) أن قال بأن «المجال ليس نوعا من الأشكال الجاهزة ، بل هم عبارة عن مجموعة من البنيات والعلاقات التي لا بد من الاطلاع عليها ... واكتسابها بالتالي بطريقة ثابتة خلال الحياة اليومية» (٣). إن حاجيات بني الإنسان وأنشطتهم متباينة من ثقافة إلى أخرى ، والمجال هو الميدان الذي تمارس على أرضيته تلك الوظائف على اختلافها. ولعل تعرف الفرد الأجنبي على القوانين المعقدة التي تحدد المجال ووظائفه الاجتماعية المتغيرة

__________________

(١) ونستثني من ذلك طبعا ، الساعات الموجودة في القصور السلطاني والجوامع الكبيرة التي يحرص على ضبط توقيتها لتحديد أوقات الصلاة بشكل سليم. ابن زيدان ، العز ، ١ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٢) أشار جون دراموندهاي أثناء وصفه لإحدى دور الأعيان بمدينة الرباط ، إلى أنها : «كانت مفروشة على النمط المغربي الرفيع ، وكانت بها زرابي من مختلف الأصناف ، وعدة مرايا وساعات. وكان يطلق العنان للساعات لكي تختار لنفسها التوقيت الذي ترغب فيه» ، انظر : Journal ,p.٣٤

(٣) Michael Gilsenan, Recognizing Islam : Religion and Society in the Modern Arab World) New York (, ٢٨٩١ (, p. ٧٨١.

١٠٠