رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

حديد. وفي هذا الصدد كتب عنه مؤرخ مدينة تطوان محمد داود أنه «سدل رداء الأمن على جميع إيالته ، حتى بلغ من الأمن في مدته ، أن كان النساء يبتن في الجنانات والغراسي وحدهن بدون رجل لا يخفن إلا الله» ، على غرار ما ورد تكراره في الأدبيات التقليدية المتعلقة بموضوع الأمن والسكينة. وكانت صرامته وولاؤه لشخص السلطان ، سببا في تدعيم مكانة أسرته وضمان إحكام استمراريتها في بسط نفوذها على تطوان. وعند وفاته في ١٨٤٥ ، انتقلت مهام باشوية المدينة إلى ولده البكر عبد القادر (١).

ولم تمض سوى أشهر قليلة على تسلم عبد القادر أشعاش لمهامه الجديدة ، حتى كافأه السلطان باختياره مبعوثا عنه في سفارة إلى الخارج. علاوة على ذلك ، كان عمره أصغر بكثير مما كتبه ليون روش ، إذ يحتمل عدم تجاوزه سن الثامنة والعشرين. ويمكن أن يتساءل المرء كيف وقع الاختيار على شخص ذي تجربة قليلة لتنفيذ مهمة فائقة الصعوبة ، تتطلب من المكلف بها مؤهلات كبيرة. صحيح أن عبد القادر أشعاش لم يكن حديث العهد بشؤون الحياة العامة ، بحكم قضائه إلى جانب والده بضع سنوات تتلمذ عليه خلالها في مختلف الجوانب والقضايا المتعلقة بتسيير مصالح المدينة ومرافقها ، وأيضا في كل ما له صلة بالأمور السياسية على المستوى المحلي ، أو في إطار العلاقات مع القصر السلطاني والمستويات العليا من الجهاز المخزني (٢). لكن أشعاش بعيدا عن مستوى تكوينه التعليمي وعن مؤهلاته وقدراته المتنوعة ، كان يملك ما هو أهم من ذلك بكثير ، ألا وهو ثروته الطائلة التي سمحت له بتحمل كل الأعباء المالية لمصاريف البعثة السفارية. ويبدو أن هذا العنصر كان ، إلى جانب عوامل أخرى ، هو العامل الأقوى الذي حسم اختيار المخزن دون سواه من أجل تلك المهمة.

__________________

(١) محمد داود ، تاريخ تطوان ، ٣ : ٢٧٦ ـ ٢٩٤. قدم فيها مؤرخ تطوان وصفا مطولا للفترة التي شغل خلالها محمد أشعاش منصب عامل على المدينة.

(٢) لم يكن أشعاش على حظ كبير من الثقافة والتعليم ، وفي ذلك تأييد لما سبق للعروي تأكيده ، من أن غالبية السفراء الذين وقع عليهم الاختيار للتوجه في بعثات دبلوماسية إلى الخارج كانوا أشباه أميين ، انظر :(Origines ,p.٥١٢).

ويوجد في مجموعة AAE / ADM" Voyage de Sidi Aschasch, Pacha de Tetouan, ٥٤٨١" ، والتي سوف نشير إليها من الآن فصاعدا هكذا : AAE / ADM Voyage ، يوجد تقييد بخط يده الرديء لا يحمل تاريخا.

٤١

٤٢

٤٣

إذ اجتمعت في شخص أشعاش كل الشروط الضرورية : فهو جليل المقام ، ذو خبرة ودراية بالشؤون العامة ، وفي حوزته ثروة مالية تعفي المخزن من تحمل التكاليف الباهظة التي تستلزمها السفارة (١).

وتضمنت الرسالة السلطانية التي عين بموجبها عبد القادر أشعاش مبعوثا إلى الديار الفرنسية ، تعليمات إضافية حول كيفية إعداد نفسه للرحلة والتهيؤلها ، بالعبارات التالية :

«خديمنا الأنجب عبد القادر أشعاش ، وفقك الله وسلام الله عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد ، فقد كانت تكررت الإشارة والطلب قبل بتوجيه باشدور لدولة الفرنصيص لإظهار تقرير الصلح والمهادنة. وكنا استشرنا والدك رحمه‌الله في حياته ، فوافق على ذلك ، وقال : إن كان يتوجه أحد غيره يحتاج إلى تقويمه بما يحتاج إليه ، وإن توجه هو بنفسه لا يحتاج لشيء (٢). وكان إذ ذاك لم يظهر لتوجيه الباشدور وجه لما كان وقع من الجنس المذكور ، واليوم أكثر الإلحاح في ذلك.

وقد شرح الله صدرنا لتوجيهك باشدورا لباريز ، لما توسمنا فيك من النجاعة وعلو الهمة والمعرفة بالأبهة والقوانين. فبوصول كتابنا هذا إليك ، اشرع في التأهب لذلك ، وعين من يصحبك في وجهتك من ذوي العقل والمروءة والدين والمعرفة بقوانين الأجناس. ولا بد لك من عالم (٣) يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة ، وما

__________________

(١) AAE / CPM ٤١ / ٣٥٢ ـ ٤٥٢ ، روش إلى كيزو ، ٢٠ أكتوبر ١٨٤٥. وفي هذا الصدد كتب روش ما يلي :

«إن اقتراحه تحمل كل مصاريف السفارة هو الذي جعل قرار السلطان يكون لصالحه». وكان والده وعد السلطان قبل ذلك بأنه لو اختاره سفيرا ، ليتكفلن بكل نفقات السفارة. رسالة مولاي عبد الرحمن إلى عبد القادر أشعاش ، ١٨ رمضان ١٢٦١ / ٢٠ شتنبر ١٨٤٥ ، مسجلة ضمن محفوظات مديرية الوثائق الملكية تحت رقم ١٠٧٩٤.

(٢) وفي ذلك إحالة إلى رغبة والد عبد القادر أشعاش في تحمل الأعباء المالية للسفارة.

(٣) يمكن العودة إلى المراجع التالية لإلقاء نظرة على نماذج من العلماء في المغرب :

E. Burke III," The Moroccan Ulama, ٠٦٨١ ـ ٢١٩١ : An Introduction", and K. Brown," Profile of a Nineteenth ـ Century Moroccan Scholar".

وكلاهما منشور ضمن المجموعة التالية :

Scholars, Saints, and Sufis : Muslim Religious Institutions in the Middle East Since ٠٠٥١, ed. Nikki R. Keddie) Berkeley, ٢٧٩١ (, pp. ٣٩ ـ ٥٢١, ٧٢١ ـ ٨٤١.

٤٤

يعرض من جوانب أحبارهم ، فإنهم يبحثون المسلمين كثيرا ، عموما وخصوصا في أمور الاعتقادات والديانات ، لتوجد جامعا لما لا بد منه من الأمور.

وهيء ذلك على سعة. وحين تبقى عشرة أيام للعيد أقدم لحضرتنا الشريفة لتحضر عيد الفطر ، وتتوجه من عندنا قاصدا وجهتك ، وتصحب معك ما هيأنا بقصد الإنعام عليهم من سباع وغيرها مما يناسب.

فإنه لا كبير عمل في ذلك ، ولا تحتاج إلى عقد ولا حل ، وإنما أنت مكلف بإيصال الكتاب وما معه ، ورد الجواب إن شاء الله تعالى. والله يصلحك ، والسلام» (١).

مرت زهاء سنة كاملة على التاريخ الذي اقترحت فيه لأول مرة فكرة توجيه سفارة مغربية ، قبل أن يكون أشعاش على استعداد للانطلاق ، رفقة أعضاء البعثة إلى باريز. ومع اقتراب الموعد ، أصبح ليون روش واثقا بأن مجهوداته سوف تبدأ تؤتي أكلها بعد حين ، فكتب مبتهجا العبارات التالية : «إن ثورة قد وقعت في القصر السلطاني ... وهذه الثورة كلها لصالحنا. وإننا على أبواب التمكن من بسط نفوذ فرنسا بشكل يفوق نفوذ بقية جميع الدول ، إذا استطعنا معرفة كيفية استغلالها» (٢).

المركب ميتيور (Le Meteore)

في غضون الأسبوع الأول من شهر نونبر ١٨٤٥ ، حلت بطنجة الباخرة التي تقرر ركوب أعضاء البعثة السفارية المغربية المتوجهة إلى فرنسا على متنها. وكان ذلك المركب الذي يحمل اسم ميتيور (Me؟te؟ore) قد جهز بتجهيزات خاصة منذ البداية

__________________

(١) رسالة السلطان عبد الرحمن بن هشام إلى عبد القادر أشعاش ، ٤ رمضان ١٢٦١ / ٦ شتنبر ١٨٤٥ ، وهي مسجلة ضمن محفوظات مديرية الوثائق الملكية تحت رقم ٤٦٥٧١. وقد نشرت في المجموعة الثانية من دورية الوثائق ، تحت رقم ١٧٨ ، ص. ٧٥ ـ ٧٦ (الرباط ، ١٩٧٦).

(٢) AAE / CPM ٥١ / ٩٦١ ـ ٦٧١ ، روش إلى دو شاستو ، ٥ نونبر ١٨٤٥ [؟] ، أشير في جانبها إلى عبارة «سرية»» Confidentiel «انظر أيضا كتاب كايي :

J. Caille؟, Une mission de Le؟on Roches Rabat en ٥٤٨١) Casablanca, ٧٤٩١ (.

٤٥

ليتخذ مركبا استشفائيا للعلاجات الأولية للمرضى عند الضرورة. وحصلت الاستفادة من خدماته طوال المدة التي استغرقتها الحملة الفرنسية على الجزائر ، فنقلت على متنه الفرق العسكرية من مدينة تولون (Toulon) ، في اتجاه وهران. وغالبا ما كان يعاد إلى فرنسا محملا بأعداد من المرضى والمصابين. وقام القنصل الفرنسي بجولة تفقدية لمرافق المركب ، فكتب في أعقابها إلى باريز رسالة وجهها إلى وزير الخارجية كيزو (Guizot) ، عبر له فيها عن عدم رضاه عن ذلك الاختيار. فاشتكى إليه صغر حجم المركب ، وأن قائده الملازم الأول جويفروي (Goeffrry) كان بمرتبة عسكرية متواضعة لا ترقى إلى المستوى المطلوب ، ومن ثم فكلاهما غير ملائم ولا يناسب مقام البعثة وجلالها (١). غير أن المركب ذات الحجم الكبير لم تكن متوافرة بكثرة ، فكانت الحاجة ماسة إليها بسبب أجواء الحرب في الجزائر ، ولا سبيل لتجاوز تلك العقبة. ولذلك لم يجد ليون روش بدا من ضرورة التوجه في رحلة قصيرة إلى جبل طارق ، واقتنائه من هناك لكل ما هو ضروري ، لإعطاء المركب مظهرا يليق بمقام تلك المناسبة ، بما في ذلك الأثواب التزيينية والستائر والأثاث والبسط غيرها. وكانت الغاية هي تجهيز الجناح المخصص لإقامة السفير المغربي ، وتجميله وفقا للطراز المشرقي. فوضعت طاولات قصيرة القوائم على أرضية فرشت أساسا بالزرابي والبسط. وعلى الرغم من ضيق الغرف ، قيل إن جناح إقامة أعضاء البعثة توافرت فيه كل وسائل الراحة ، وكان مظهره الخارجي لطيفا (٢).

منذ أوائل دجنبر ١٨٤٥ ، كان أفراد المجموعة الصغيرة من الفرنسيين الذين أو كلت إليهم مهمة مرافقة البعثة المغربية إلى فرنسا مجتمعين في طنجة. وكان يرأسهم بطبيعة الحال ليون روش ، وإلى جانبه أوكست بوميي (Auguste Beaumier). ووصف هذا الأخير بأنه «رجل شاب على مستوى كبير من الذكاء ، ويتكلم شيئا من

__________________

(١) AAE / CPM ٥١ / ٢٥ ـ ٥٥ ، دو شاستو إلى كيزو ، ٥ نونبر ١٨٤٥.

(٢) AAE / CPM ٥١ / ٧٦ ـ ٩٦ ، روش إلى كيزو ، ١٣ نونبر ١٨٤٥ ؛ بالإضافة إلى :

AN / MM / BB ٤ ـ ٢٤٦, ٦٤٨١," Missions particulie؟res, Me؟te؟ore, Mission Tanger".

وهو عبارة عن تقرير صفحاته غير مرقمة من إنجاز قائد المرك جويفروي (Goeffroy). أما عن انطباعات الصفار حول السفر بحرا ، فهي موجودة في الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

٤٦

العربية» (١). وكان يعمل وقتئذ كاتبا خاصا للقنصل الفرنسي دوشاستو. وفي ٦ دجنبر غادروا جميعا طنجة بحرا في اتجاه تطوان التي وصلوها في اليوم نفسه. وعند دخولهم المدينة ، وجدوا أزقتها وسطوح منازلها ممتلئة عن آخرها بالسكان الذين بدت مظاهر الفضول واضحة على وجوههم ، وكان أشعاش ينتظر وصولهم قاعدا في الرياض الموجود بمحل إقامته ، فأحدث مظهره وقعا إيجابيا في نفوسهم. وكتب دوشاستو على أثر ذلك قائلا : «إن ابتسامته ظريفة وتصرفاته لبقة ؛ وأعتقد أن حكومة الملك ستكون راضية عن اختياره سفيرا إليها» (٢).

وسرعان ما تبين أن أعضاء البعثة المغربية لم يكونوا على استعداد للانطلاق في رحلتهم نظرا لهبوب رياح عاصفة في تلك الليلة ، مما دفع إلى إبعاد المركب «ميتيور» إلى عرض البحر اتقاء لمخاطر العاصفة. ولمدة أيام عديدة ، لم تسمح الأحوال الجوية المضطربة بعودته إلى الساحل. وأخيرا ، اجتمع أعضاء السفارة في صبيحة يوم ١٣ دجنبر على الشاطئ ، وأرسل القائد جويفروي زورقا كبير الحجم لحملهم إلى «الميتيور». وما لبث «أن اكتسح ذلك الزورق جموع المغاربة الذين لا شك في أنهم كانوا يرغبون في ركوبه» حسب ما كتب جويفروي في يوميته. وفي غضون ذلك ، كان بعضهم الآخر منهمكا في توديع السفير : «فقام أحدهم بتقبيل كسوته ، وقبله آخر في كتفه ، بينما قبل الثالث يديه». وحين صعد المغاربة على متن «الميتيور» ، أمر

__________________

(١) ولد أوكست بوميي سنة ١٨٢٢ في مرسيليا ، فدرس العربية وأصبح كاتبا خاصا للقنصل الفرنسي دو شاستو (de Chasteau) سنة ١٨٣٩. وبعد عودة السفارة المغربية ، قضى جل مساره الدبلوماسي في المغرب ، فكان نائبا قنصليا في الرباط ، ثم قنصلا بالصويرة إلى حين وفاته بها سنة ١٨٧٦. وكانت له إلى جانب ذلك اهتمامات علمية (انظر : ٢٢٢ ـ ٢٠٩ / ٤ (AAE / MDM فكتب مقالات في مجلة :

Bulletin de la Socie؟te؟de Ge؟ographie

كما ترجم إلى الفرنسية كتاب الأنيس المطرب بروض القرطاس ، حول تاريخ فاس لمؤلفه ابن أبي زرع المتوفى في ١٣٢٥ ه‍. أنظر أيضا :

AAE, Dossier Presonnel" Beaumier" ، بالإضافة إلى :

J. Caille؟," Auguste Beaumier : Consul de France au Maroc", Hesp. ٧٣) ٠٥٩١ : ٣٥ ـ ٩٥

(٢) ١٩٣ ـ ١٨٩ / ١٥AAE / CPM ، دو شاستو إلى كيزو ، ٥ دجنبر ١٨٤٦.

٤٧

القائد ملاحيه بالإقلاع. وعلى امتداد اليوم الأول ، ظل السفير وبقية المرافقين له ، واقفين على ظهر المركب محدقين بأعينهم إلى البحر في تأمل عميق هادئ (١).

وبالإضافة إلى شخص السفير ، تضمنت لائحة المسافرين على متن «الميتيور» خلال هذه الرحلة ، أسماء المغاربة المرافقين له. وكان من بينهم صهر أشعاش محمد اللبادي ، وهو رجل مسن عانى كثيرا من ألم دوار البحر. وطوال المدة التي استغرقتها الرحلة ، بدا الانشغال الكبير لرئيس البعثة المغربية براحة صهره وسلامة أحواله الصحية. ثم بعد ذلك صهره الآخر ، الحاج العربي العطار ، الذي وصفه جويفروي «بأنه رجل وسيم ، يتراوح سنه بين الأربعين والرابعة والأربعين» ، يتكلم الإسبانية ، ويبدو أنه يفهم الفرنسية أيضا. وقد سبق له القيام برحلات عديدة إلى جبل طارق ، علاوة على سفره إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج. وكان الفقيه محمد الصفار ، البالغ من العمر حوالي خمس وثلاثين سنة ، ثالث المقربين من الحاشية الضيقة لأشعاش. وقال عنه قائد المركب جويفروي ، إنه بدا له «شديد التحفظ ، وأقل بشاشة وانشراحا مما كان عليه الآخرون». وكان هؤلاء الثلاثة ينفردون لوحدهم بحظوة تناول وجبات الطعام مع السفير. وهناك شخص رابع اسمه أحمد العياط ، وصف بأنه هو «المسؤول عن تدبير شؤون السفير وقضاء حاجياته». غير أنه لم يكن يسمح له بالجلوس على مائدة السفير ، بينما كان يقيم معه في الغرفة نفسها. بالإضافة إلى ذلك ، كان هناك تسعة مخازنية يرافقون البعثة لخدمة أعضائها (٢).

وبعد أن زالت الدهشة عن المغاربة وقل وجلهم من البحر وبدأوا يستأنسون به ، عادت الحياة فوق المركب إلى حالتها الرتيبة والعادية. فعند أوقات تناول الوجبات ، كان أشعاش والمقربون إليه يجلسون إلى مائدة القائد جويفروي. وعلى الرغم من

__________________

(١) ٦٤٢ ـ ٤AN / MM / BB ، تقرير جويفروي (Goeffroy). بالإضافة إلى :

APT / ٢ C ١٠٢ / journal du bord, Me؟te؟ore ، «الميتيور» ، ١٣ دجنبر ١٨٤٥.

(٢) وردت أسماؤهم ضمن لائحة ركاب «المتيور» ، وقد كتبت فيما يبدو كما تنطق ، ولذا فيها شيء من التحريف البسيط : عبو العطيطر ، أحمد الزغل ، حجي أحمد اليعقوبي ، الطاهر بريول ، أبو السالم العمري ، محمد القراصي ، الحاج عبد الرحمن شولون ، محمد علو الدريسي ، ومحمد مختار الذي أشير إليه بصفة الترجمان. انظر :

APT / IC ٤٥٧٢ / ٥٤٨١, Me؟te؟ore, Ro؟le d\'e؟quipage," passagers la table du commandant".

٤٨

اتخاذ هذا الأخير لكل الاحتياطات الضرورية على مستوى مؤونة التغذية لجعلها رهن إشارة ضيوفه ، فإن أشعاش فضل الاعتماد على مؤونته الخاصة المتكونة من : «ثورين اثنين ، وأربعين كبشا ، وست مائة من الدجاج ... ومقادير من البيض والخضروات والتفاح والعنب» ، فوضع كل ذلك بمخازن المركب الفرنسي قبل انطلاقه من تطوان. علاوة على ذلك ، فإنه لم يظهر المغاربة تحمسا كبيرا لمواد الطبخ الفرنسي ، بل فضلوا أن يهيئوا طعامهم بأنفسهم :

«وخاصة الطبق المشهور المسمى بالكسكس الذي لا يمكنهم الاستغناء عن تناوله. فكان يقدم إليهم في ظهيرة كل يوم. إنهم متدينون جدا ، وتمسكهم شديد بتعاليم القرآن. فهم لا يشربون الخمر أبدا ، وحين كنا نشربه أمامهم ، لم يصدمهم ذلك فيما يبدو ، ولربما كانت لهم رغبة تذوقه ولو على سبيل التجربة ... وحاول أحد الحاضرين ممازحة الفقيه ، بقوله إنه بفضل اطلاعه الواسع لا بد وأن يجد آية من القرآن ترخص له شرب الخمر» (١).

فباستثناء وجبات الطعام ، لم يكن هنالك شيء يذكر يمكن القيام به في المركب. وقد قام جويفروي ببرمجة شيء من الفرجة الليلية كالألعاب النارية ، تسلية لضيوفه وسعيا منه في جعل الرحلة ممتعة. وفي ١٧ دجنبر ، تم بلوغ سواحل فرنسا ، وفي يوم ١٩ كان الوصول إلى مرسيليا التي نال فيها الجميع قسطا من الراحة قبل التوجه إلى باريز. ووجهت الدعوة إلى السفير لزيارة المدينة رفقة أعضاء البعثة ، غير أن أشعاش رفض الاستجابة لها ، ملحا على ضرورة الإسراع بالتوجه إلى باريز دون تأخير. وكان رفض قبوله تلك الدعوة السياحية من الأمور التي أربكت مضيفيهم الفرنسيين ، وبدأت تروج في أذهانهم تصورات وانطباعات غامضة عن الطريقة الواجب نهجها مع زوارهم «الشرقيين». وفسر أحد الفرنسيين ذلك الموقف الغريب للسفير المغربي بأنه تعبير إضافي عن حماسة دينية مفرطة : «ككل المسلمين ، فقد فهم أن واجبه الأول عند الوصول إلى البلاد هو تقديم نفسه إلى حاكمها ، الذي يرى

__________________

(١) AN / MM / BB ٤ ـ ٢٤٦ ,rapport de Goeffroy. تقرير أنجزه جويفروي.

٤٩

أنه السيد الوحيد والمطلق على كل رعاياه» (١).

غادر أعضاء البعثة المغربية مرسيليا يوم ٢١ دجنبر ، واتجهوا برا راكبين العربات ، في طريقهم نحو الشمال ، مخترقين وادي الرون. وفي يوم ٢٧ من الشهر نفسه ، وصلوا إلى أورليان (Orle؟ans) ، وبها كان مبيتهم قبل الدخول إلى باريز. وفي صبيحة اليوم الموالي ، وهو اليوم الخامس عشر منذ انطلاقهم من تطوان ، ركبوا قطارا خاصا نقلهم من أورليان إلى باريز ، فكانت تلك أول رحلة قام بها المغاربة في القطار. وعند وصولهم إلى باريز في وسط النهار ، ذهب بهم مباشرة إلى المكان المخصص لإقامتهم والذي يحمل العنوان التالي : ٦٦ شارع الشانز ـ إيليزي (Champs ـ Elyse؟es).

مشاهدات الصفار في باريز

كانت باريز خلال أربعينيات القرن التاسع عشر ، أكبر العواصم الأوربية وأرقاها على الإطلاق. وربما كانت لندن هي عاصمة العالم المالية ، غير أن باريز كانت قطب الرحى في الثقافة العالمية التي كانت تتدفق منها مشعة بكل ما لديها من ثقة في نفسها بجمالها البالغ أعلى درجات الكمال والنضج. وكانت باريز قد عرفت بعلو كعبها في ميدان الأزياء والموضة ، وبرعت فيها بدرجات جعلتها تنصب نفسها حكما فريدا على مسارها ومآلها. وكانت الحشود الكبيرة من الزوار الوافدين على باريز لمشاهدة صناعتها وفنونها ، وآخر إبداعاتها في عالم الأزياء وغيرها من مظاهر الأناقة والجمال ، تذكر الباريزيين بتلك الدرجات العليا من التطور والرقي اللذين بلغهما وقتئذ المجتمع الفرنسي.

وكان وصول البعثة المغربية إلى باريز كافيا لإثارة اهتمام جل الباريزيين على

__________________

(١) ٢١٦ ـ ٢١٥AAE / CPM ، بورسي (Pourcet) ، إلى كيزو ، ١٩ دجنبر ١٨٤٥. قارن مع الرحلة المغربية التي قام بها إلى إسبانيا خلال القرن السابع عشر ، الوزير الغساني ، الذي رفض قبول الدعوات التي وجهت له في طريقه للاستراحة فأجاب بقوله : «لا يمكننا القيام بموضع من المواضع ما لم نصل البلاد التي نحن قاصدون إليها والطاغية الذي توجهنا إليه». رحلة الوزير في افتكاك الأسير ، ترجمها إلى الإسبانية وحققها ثم قام بنشرها ألفريد البستاني (طنجة ، ١٩٤٠) ، ص. ٩. وكل الإحالات تتعلق بالنص العربي للرحلة.

٥٠

اختلاف مشاربهم وانشغالاتهم. وساد في أرجاء المدينة عبير خاص حول مبعوث السلطان ، تعلق بالمكانة الخاصة التي كان يحتلها المغرب في ذاكرة الفرنسيين الشعبية. ذلك البلد القريب منهم جدا من الناحية الجغرافية ، والبعيد جدا من حيث طريقة عيشه وعقلية سكانه ، إلى درجة أن «المغربي أصبح يبدو في نظرهم لا يختلف عن الصيني تماما» (١). وكانت هناك أيضا ملامح السفير الوسيمة اللافتة للنظر ، التي أثارت في الأذهان مزيدا من التصورات المفعمة بالرومنسية وروح المغامرة. «لقد شد المبعوث الوافد من المغرب ... عقول الباريزيين. فكل شيء فيه يذكر بسلاطين المورسكيين في غرناطة وبآل ابن سراج ذوي الأصول العريقة التي انحدر منها هو نفسه» (٢). وتمت الإشارة بكامل الدقة إلى ملابسه التي وصفت جميعها من أعلى رأسه إلى قدميه :

__________________

(١) حين وردت الأخبار الأولى في جريدة «الإلوستراسيون» الفرنسيةL\'Illustration ، بتاريخ ٣ يناير ١٨٤٦ ، معلنة وصول السفير المغربي ، فقد وعدت قراءها بتقديم «كامل التفاصيل ، وأكثرها غرابة حول السفير».

(٢) الجريدة نفسها ، بتاريخ ١٠ يناير ١٨٤٦. ويتعلق الأمر بأبطال قصة رومنتيكية ـ تراجيدية ألف فصولها شاتوبريان (١٨٤٨ ـ ١٧٦٧)(FranC؟ois ـ Auguste ـ Rene؟de Chateaubriand). تحت عنوان :

Les aventures du dernier Abencerage) Paris, ٦٢٨١ (واستمد وقائعها من الوضع القائم في إسبانيا خلال القرن الخامس عشر. وانظر أيضا :

Hassan Mekouar, Washington Irving the Arabesque Tradition) Ph. D. dissertation, Brown University, ٧٧٩١ (, pp. ٠٣ ـ ١٣; EI l, s, v" Abencerages".

(المعرب) : والمقصود هنا أسرة بني سراج التي أقامت بالأندلس منذ القرن الثامن الميلادي ، ودخلت في صراعات قوية مع الزكريين الذين كانوا سببا في سقوط غرناطة سنة ٢٩٤١ كما هو معلوم. وكانت المغامرات الأسطورية لأفراد هذه الأسرة قد وردت روايتها عند :

Gine؟s Perez de Hita : Historia de la guerras civiles de Granada) ٤٠٦١ (.

انظر : Mourre, Dictionnaire d\'histoire universelle, s. v" Abencerage" p. ٣٢

٥١

٥٢

«السفير رجل شاب عمره ثمان وعشرون سنة ، حسن المنظر متوسط القامة ، رقيق الملامح ، وعيناه لطيفتان معبرتان ، وله يدان صغيرتان جميلتا الشكل. ويلبس ... طربوشا (١) حادا في نهايته ، وتحيط به عمامة من الثوب الموصلي الرقيق. ويحيط برأسه ثوب أحمر اللون من الكشمير ... ويرتدي فوق عدة أقمصة قصيرة لباسا فضفاضا ، يسمى الجلابة ، وهي اللباس الوطني في المغرب. وذلك الجلباب مثبت على جسده بحزام يشده. وحين كان الباشا يعزم على الخروج ، فإنه يضع فوق كل ذلك سلهامين (٢) إضافيين ، أحدهما من الصوف والثاني من ثوب ثقيل رمادي اللون. ويلبس سروالا لطيفا من الحرير الأبيض ، ويحتذي بلغة صفراء (٣) كان يضغط دائما على مؤخرتها بقدميه».

وبعد مدة قصيرة من وصول أعضاء البعثة المغربية ، نشرت جريدة الإلوستراسيون L\'Illustration مجموعة من الصور للسفير ومرافقيه. فساهمت بتلك الصور المرئية في تعزيز ما تداولته الألسن من كلام عادي في الموضوع. وعبرت باريز عن رغبتها الأكيدة في أن يشكل المغاربة خلال ذلك الخريف ، أبرز حدث مثير للاهتمام والإعجاب داخل الأوساط الاجتماعية الباريزية. فتوالت الدعوات إلى الحفلات الراقصة ، وإلى السهرات ومختلف مظاهر الفرجة المقامة لغايات خيرية. كما التمس البعض الحصول من رئيس البعثة على المال والهدايا ، وكتبت في حقه القصائد الشعرية. كما وردت على السفير رسائل ينطوي بعضها على نصائح مسداة إليه وأخرى على تحذيرات. وكان أوكست بوميي (Auguste Beaumier) السكرتير الشاب الذي فوض إليه أمر السهر على تنفيذ الجدول الزمني للبعثة ، يحاول جاهدا بذل كل ما في وسعه ، لضمان السير العادي لحياة السفير المغربي ومرافقيه تجنبا لكل ما قد

__________________

(١) تمت كتابته هكذاsarbush ، وهو القبعة أو غطاء الرأس المصنوع من ثوب اللباد ، ويسميها دوزي «بغطاء الرأس الذي يتميز به الأمراء» انظر :

Dozy, Dictionnaire de؟taille؟des noms des ve؟tements chez les Arabes) Beyrouth, s. d (, pp. ٢٢٢.

(٢) وجاءت تسميتها بالفرنسية هكذا بورنوس (bournous) ، المعروف في العربية ب «البرنس» وعند المغاربة ب «السلهام».

(٣) ورد اسمها بالفرنسية هكذا بابوش (babouches).

٥٣

يزعجهم أو يقلق بالهم. وهذا هو الوصف الذي قدمه بوميي نموذجا لبرنامج يومي بتاريخ ١٧ يناير ١٨٤٦ :

«أيقظني بعض المتقدمين بملتمسات على الساعة الثامنة ، أجبت بعدها على عدد من الرسائل الموجهة إلى سفير المغرب كان لا بد من الرد عليها بلباقة ... فوصل عدد قارب الاثني عشر من الخدم لإطلاعي على جدول الأعمال المخصص لذلك اليوم ، ثم أجريت الحسابات الخاصة بالأيام السالفة. وبعد ذلك ، قمت بزيارة السفير ومرافقيه لتفقد أحوالهم والاستجابة لطلباتهم : فمنهم من احتاج إلى طبيب ، وآخر إلى حلاق ، أو إلى حمام. ثم حضر الجميع لتناول وجبة خفيفة ، كنت خلالها ترجمانا لبعض الضيوف المدعوين. وبعد ذلك وصلت تعليمات بالتوجه مباشرة إلى شان دو مارس (Champs ـ de ـ Mars) وجاء روش في الوقت وعين لكل من السفير ومرافقيه عربات ركوبهم. وعبرنا باريز محفوفين بجماهير بدت على محياهم مظاهر الفضول وحب الاستطلاع. وعند الوصول إلى المدرسة العسكرية ، صعدنا إلى أعالي شرفة هناك. وفي الساعة الثالثة ، عدنا برفقة السفير ، فكتبت ما كان ضروريا من رسائل الشكر ... وبعد ذلك تفحصت من جديد برنامج الأنشطة المخصصة للمساء ، ووضعت ، في الحدود الممكنة ، قائمة بمصاريف ذلك اليوم ... تلا ذلك تناول عشاء فاخر ، استغرقت مدته ساعتين ، بثمن ستمائة فرنك عن كل يوم. فأخذت شيئا من القهوة ، وأجريت دردشة قصيرة بالعربية ، ثم ركبنا العربات في اتجاه المسرح الإيطالي ... وعندنا في الثانية عشرة ليلا ... ومن ثم إلى فراش النوم» (١).

وبعد ستة أسابيع من الأنشطة المكثفة بشكل مماثل لهذا البرنامج المرهق ، كتب بوميي متأوها : لقد اشتقت جدا إلى «العودة من جديد إلى هدوء طنجة وإلى غرفتي الصغيرة ، لأنني أشعر بانهيار كامل لقواي» (٢).

خصص السفير المغربي أيامه الأولى في باريز لتنفيذ المهمة الدبلوماسية التي بعثه السلطان من أجلها. ففي يوم ٣٠ دجنبر ، قدم أوراق اعتماده إلى الملك الفرنسي

__________________

(١) AAE / ADM / Voyage ,s.d ، خلال مقامه بباريز ، كان بوميي يكتب بطريقة منتظمة إلى دوشاستو في طنجة. وتوجد في الملف نفسه مسودات لتلك الرسائل إلى جانب مجموعة كتابات مختلفة جمعت أثناء الرحلة. وعن مشاهدات الصفار لأنشطة ذلك اليوم انظر الصفحات اللاحقة.

(٢) نفسها ، بوميي إلى دوشاستو ، ٨ فبراير ١٨٤٦.

٥٤

في حفل استقبال بقصر التويلوري (Tuileries) ، وسلمه أيضا الرسالة التي وجهها إليه السلطان عبد الرحمن بن هشام (١). وتتناول الرسالة المذكورة (الملحق رقم ٤) موضوع الأمير عبد القادر ، إذ طلب السلطان الحصول على مزيد من الوقت للتمكن من تنفيذ خطة تستهدف إبعاده عن المغرب دونما حاجة إلى بذل جهود مضنية في سبيل ذلك ، كما جاء في الرسالة. وتضمنت هذه الأخيرة انتقادا مغربيا لموضوع التسوية الجديدة للحدود بين المغرب والجزائر ، وانتهت باحتجاج شديد على محاولات التوغل الفرنسية في السواحل الجنوبية (٢).

وتطلبت الإجابة على الرسالة السلطانية أزيد من شهر ، إذ عبر كيزو وزير الخارجية الفرنسي في رسالته الجوابية عن اعتقاده أنه «سيكون من الأفضل نسيان الماضي» (٣) وتفادي العودة إلى استعراض جملة من الشكاوي القديمة. وفي نظره أن الهدف من سفارة أشعاش إلى باريز كان هو اتخاذ المغاربة فرجة استعراضية لا أكثر. ووردت في مذكرات كيزو معطيات إضافية عن الجوانب السياسية للسفارة المغربية ، فقدمها على أنها فرجة خالية من الجوهر وليس لها مدلول حقيقي. فقال في معرض حديثه عن أشعاش ، إنه كان «شابا عربيا ذا شخصية مقبولة ، على مستوى من

__________________

(١) توجد رسالة التفويض إلى أشعاش عند عبد الرحمن بن زيدان في كتابه إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس ، ٥ أجزاء ، (الرباط ، ١٩٢٩ ـ ١٩٣٣) ، ٥ : ١٧٠ ؛ أيضا داود ، تاريخ تطوان ٣ : ٢٩٥. وتوجد ترجمة بالفرنسية للرسالة نفسها في : ١٢٥ ـ ١٢٣ / AAE / MDM. وكتب أشعاش إلى أخيه حول استقبال الملك الفرنسي له (الملحق رقم ٢ ، ثم الوثائق ٢ : ١١٩ ـ ١٢١). كما نقل دوشاستو إلى الوزير ابن ادريس أخبار أنشطة أعضاء البعثة السفارية في باريز من خلال رسالة وجهها إليه ، وهي مسجلة بمديرية الوثائق الملكية ، تحت رقم ١٧٥٧٠ ، ومؤرخة في ٢٨ محرم ١٢٦٢ / ٢٦ يناير ١٨٤٦.

(٢) رسالة السلطان مولاي عبد الرحمن إلى الملك لوي فيليب مؤرخة في ٧ محرم ١٢٦٢ / ٦ يناير ١٨٤٦ ، وهي محررة بخط يد محمد الصفار ، وتوجد في : ٥٤١ / ٤.AAE / ADM أما عن محاولات التوغل الفرنسية فكانت قد تمت بالفعل على مقربة من وادي نون في الجنوب ، في الطريق التجارية الفاصلة بين الصويرة وتنبكتو ، انظر :

AAE / MDM ٩ / ٧٩٢ ـ ٩٩٢," Mission d\'exploration des co؟tes de Wadnoun) ٣٤٨١ ("; Mie؟ge, Le Maroc ٢ : ٦٤١ ـ ٤٥١.

(٣) ١٦٠ ـ ١٥٥ / ٤AAE / MDM ، رسالة كيزو إلى أشعاش ، ١٤ فبراير ١٨٤٦.

٥٥

الجدية والتواضع والدماثة ، لبقا لطيف السلوك. وكان أشعاش شديد الاهتمام بإظهار تمسكه الشديد بعقيدته ، واتسامه بالاحترام وعلو المنزلة. كما كان حرصه شديدا على أن يتم استقباله بطريقة جيدة تقديرا لشخصه أو لشخص السلطان الذي كان يمثله أكثر من عزمه على تحقيق هدف سياسي معين». وكان إرساله إلى باريز «دليلا للتعبير بواسطته عن علاقات الصداقة بين المغرب وفرنسا» (١). ويكشف كيزو النقاب ، من خلال تعليقاته الواردة في مذكراته ، كيف أن السفارة في أعين الفرنسيين كانت لا بد من أن تكون متناغمة مع الإطار الأوربي المتميز بنظرته المتمحورة على الذات إزاء الأحداث ، وبشكل هيمنت فيه رغبتهم الواضحة في استعراض مظاهر التفوق الفرنسي. إن ما تميز به ضيوفهم المغاربة من كياسة ومجاملة ، بالإضافة إلى حضورهم القوي فعلا ، قد اعتبر في حد ذاته مؤشرات ناطقة بالنجاح الذي حققته فرنسا في اتباعها سياسة خارجية تهدف ، حسب تعبير كيزو ، إلى «ضمان سلامة ممتلكاتنا في إفريقيا» (٢). وعبر أيضا عن اعتقاده بأن الزيارة كانت ناجحة ، لأنها أدت ـ كما بدا له ـ إلى جعل المغاربة قريبين أكثر من أي وقت مضى ، إلى قبول فرنسا كعنصر له حضوره الدائم في المنطقة. وكانت قراءته تلك للأحداث صائبة في عمقها ، لأن السفارة وجدت مكانا لها ضمن نوادر التاريخ الفرنسي ، كفصل من فصوله المثيرة التي اهتم مؤرخو الحقبة الاستعمارية بتدوينها ، واعتبارها دليلا على «عظمة فرنسا» وعلى نجاحها في بسط نفوذها على شمال إفريقيا ، الأمر الذي كان من العسير تفاديه (٣).

وبعد انتهاء أشعاش من تنفيذ مهامه السياسية ، أطلق العنان لنفسه ولأعضاء البعثة المرافقين له للاستمتاع بباريز وعالمها العجيب. وعلى عكس ما كتبه الصفار

__________________

(١) Guizot ,France under Louis ـ Philippe ,p.٢٢٢.

(٢) المرجع نفسه ، ص ٢٠٤.

(٣) J. Cille؟," Un ambassadeur Marocain Paris) ٥٤٨١ ـ ٦٤٨١ (", Le monde FranC؟ais ٦١, ٩٤) Octobre ٩٤٩١ (: ٦٨;" Ambassades et Missions Marocaines en France", H ـ T I, I) ٠٦٩١ (: ٥٦ ـ ٧٦.

لم يول المؤرخون الفرنسيون انتباههم إلى ما دونه محمد الصفار عن رحلته ، وإن كان مييج قد أشار إلى أن سفارة أشعاش لم تدرس بما فيه الكفاية. انظر : J ـ L.Mie؟ge ,Le Maroc ٢ : ٥٠٢ ,note ١

٥٦

في رحلته حين قال : «فما كنا نخرج من المحل الذي كنا نازلين به إلا في بعض الأوقات» ، كان أعضاء البعثة المغربية يعيشون حياة اجتماعية نشيطة تحت العيون اليقظة لمضيفيهم الفرنسيين. ورفضت الاستجابة لبعض دعوات الضيافة لاعتبارها لا تناسب مكانة السفير ومرتبته : «فكنا والحمد لله في أعينهم عظاما ، ينظرون إلينا دائما بعين الاحترام والتعظيم ، ولو كنا مبتذلين نكثر في الدخول والخروج لكنا بخلاف ذلك». وكان بوميي (Beaumier) يجيب عن تلك الدعوات برسائل خطية أرفقت في حالات عديدة بهدايا تذكارية من السفير. ومن الأعمال الإحسانية التي قام بها أشعاش تكرمه بمنح «فقراء باريز مبلغ ٥٠٠٠ فرنك ، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية». وأثارت حاتمية السفير وكرمه انتباه الصحافة الباريزية التي تحدثت كثيرا عن شخص السفير واعتبرته رجلا ذا ثروة عظيمة «امتلأت يداه بالهدايا».

وكانت أروع الهدايا وأجملها هي التي قدمت إلى الملك ، فقد سلم إليه أشعاش قبل مغادرة باريز وفي أثناء حفل استقبال بقصر التويلوري ، ستة خيول عربية ، بالإضافة إلى مجموعة من الحيوانات المتوحشة. وكانت تلك الحيوانات الموجهة إلى حديقة النباتات (Jardin des Plantes) ، عبارة عن أسد ونعامتين وثلاثة غزلان بالإضافة إلى صنف من الماعز البري غير معروف في أوربا ، سماه الفرنسيون هكذا :» mouton manchettes «. ووجدت الصحافة صعوبة في التعبير عن تقديرها لقيمة تلك الهدايا في نمطها العربي ، فجاء في تعليق كتبته جريدة الإلوستراسيون L\'il ـ lustration أنه قد : «كان السلاطين المغاربة يحملون معهم الماس والعطور هدايا ، فإذا بأبناء الصحراء يهدوننا اليوم الأسود والغزلان» (١).

العودة إلى المغرب

ودع أشعاش وأعضاء البعثة المرافقين له باريز يوم ٢٧ فبراير ١٨٤٦. وبعد إلحاح شديد من الفرنسيين ، عرج الجميع في اتجاه الجنوب على مدينة تولون (Toulon) التي كان مرساها مقرا أساسيا لوحدات الأسطول الفرنسي. وعند وصولهم هناك ، قاموا بجولة استطاعية لأحد المراكب الحربية التي كانوا يجهلون مساهمتها المباشرة

__________________

(١) العدد الصادر بتاريخ ١٠ يناير ١٨٤٦.

٥٧

٥٨

٥٩

في ضرب مدينتي طنجة والصويرة بالقنابل في عام ١٨٤٤ (١). وأخيرا كان وصولهم إلى مرسيليا ، فتوقفوا أياما عديدة لاقتناء مقادير كبيرة من الحرير والأقمشة المطرزة بالذهب لفائدة السلطان والصدر الأعظم (٢). وفي اليوم الثاني من شهر مارس ، صعد الجميع إلى «الميتيور» ، فوصلوا إلى تطوان بعد ذلك بخمسة أيام. وقد استقبلوا بحرارة كبيرة عند عودتهم ، وهذا ما كتبه أحد الفرنسيين في الموضوع :

" اكتظت الشوارع بممثلين عن كل فصائل الطرقيين وبالعلماء الوافدين من مختلف المساجد ، وهم يحملون أعلام الزوايا على اختلاف ألوانها ... واقترب الباشا من أعضاء كل مجموعة واحدة تلو الأخرى وهو يقرأ معهم آيات من القرآن ، بينما كان بعض الصالحين يحاول التقرب منه ومنحه بركات الرسول ... النساء والصبيان والشيوخ كلهم بادروا إلى السطوح ، وكانوا يرتدون الملابس الخاصة بأيام الأعياد.

وكان الحي اليهودي بصفة خاصة في أبهى حلله ، بفضل ما كانت تتجمل به نساؤه من ملابس مطرزة ومجوهرات بديعة. فحيت تلك النساء الباشا بزغاريدهن وهتافاتهن ، بينما اصطف رجالهن على جوانب الطرقات مقبلين باحترام كبير سلهام الباشا وكذا ركبتيه» (٣).

وقبل أن يدخل أشعاش إلى بيته ، اتجه إلى المسجد مباشرة حيث يوجد قبر والده ، فشكر الله هناك على حسن العودة وعلى إنهاء مهمته بنجاح.

وعلى التو ، اتجه السفير نحو مراكش لإطلاع السلطان على تفاصيل المهام التي

__________________

(١) زار المغاربة المركب الحربي حيمابيس (Jemmapes) الذي كان بمرسى تولون يوم ٢٥ فبراير ١٨٤٦AAE / CPM ٣٧ ـ ٣٥ / ١٦ ، رسالة بورسي (Pourcet) إلى كيزو ، ٢ مارس ١٨٤٦. وقد ساهم هذا المركب في ضرب طنجة بالقنابل إذ كان «متموضعا في مواجهة القصبة وعلى مسافة لا تبعد عن المدينة مقدار رمية البندقية» ، انظر كتاب : Warnier ,Compagne du Maroc ,p.٦٩

(٢) غادر أشعاش فرنسا حاملا معه ستا وأربعين لفة من البضائع تزن في مجموعها ٢٠٦٤ كيلو كراما ، انظر :

AAE / ADM / Voyage," Police de chargement".

(٣) ٧٤ ـ ٧١ / ١٦AAE / CPM ، بورسي إلى كيزو ، ١٣ مارس ١٨٤٦. يتكلم معظم يهود الجهات الشمالية من المغرب اللغة الإسبانية ، لانحدارهم من اليهود المبعدين عن إسبانيا منذ القرن الخامس عشر الميلادي.

٦٠