رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

رموز مختصرة

Abreviations

٢١
٢٢

٢٣

٢٤

القسم الأول

الدراسة

٢٥
٢٦

تمهيد

في يوم من أيام ربيع سنة ١٨٤٦ ، وبعد أن عاد محمد الصفار من رحلته إلى فرنسا ، حمل القلم وشرع في الكتابة في جو مفعم بالروائح الزكية المنبعثة من الأزهار المتفتحة لأشجار البرتقال المنبثة في البساتين المحيطة بتطوان ، مسقط رأسه. وقد استعان في ذلك بحزمة ضخمة كانت أمامه تضمنت العديد من المعطيات التي تذكره بالناس والأماكن ، وبمختلف العجائب التي رآها أو سمع عنها خلال رحلته. وبعد أن دعا الله وطلب منه العون والتوفيق ، شرع بكامل الصبر والأناة في العمل ، وبدأ في تحرير انطباعاته على الورق بأسلوب ثابت هادئ ، معتمدا في ذلك على خبرته الطويلة في ميدان الكتابة.

وعند بداية شهر شتنبر / أيلول ، حين بدأت أزهار الربيع اليانعة تتحول إلى دوائر ذهبية اللون ، كتب الصفار السطور الختامية لمخطوطته معبرا عن تلك الفرحة الكبيرة التي تهز الفرد كلما فرغ من عمل عسير وشاق بالعبارات التالية : «وهذا ما تيسر للعبد الضعيف جمعه مع تشويش البال وتزاحم الأشغال ، ولو لا مساعدة من تجب إجابته وتتحتم طاعته ، لما كدت ولا قررت أن أفعل شيئا من ذلك» (١). وتوحي هذه الكلمة الختامية ، إلى جانب السرعة التي حررت بها ، بأن الطلب الذي كان الصفار بصدد الاستجابة إليه ، نابع لا محالة من شخص السلطان نفسه.

لماذا كان المولى عبد الرحمن ـ أمير المؤمنين وسليل نبي الله محمد صلى الله

__________________

(١) انظر الصفحات الأخيرة من نص الرحلة في نهاية هذا الكتاب.

٢٧

عليه وسلم ، وأحد أعلام سلاطين الأسرة العلوية التي حكمت المغرب خلال فترة تجاوزت قرنين من الزمن ـ متعطشا هذا التعطش لقراءة ما دونه محمد الصفار في رحلته من أخبار؟ قد يكون من بين تلك الأسباب ، أن السلطان كان يتوقع العثور في الصفحات التي ملأ الصفار سطورها بشكل مكثف على أجوبة قد تشفي غليله حول بعض التساؤلات المحيرة التي كانت تشغل باله بصفة لا تخلو من الإزعاج : أين يكمن سر قوة الفرنسيين؟ كيف تمكنوا من الوصول إلى ذلك المستوى من القوة؟ كيف استطاعوا قهر الطبيعة وإحكام قبضتهم على مسارها بطرق وأساليب ما زالت خافية عنا؟ كيف يعيش الفرنسيون حياتهم اليومية ، وكيف يربون أبناءهم وخدامهم؟ ما هي أحوالهم التعليمية ، وكيف يسلون أنفسهم ويروحون عنها ، وماذا يأكلون؟ وباختصار ، ما هو وضع حضارتهم ، وما هي أوجه اختلافها عن حضارتنا؟

تكمن أهمية رحلة الصفار في قدرة كاتبها على تقديم أجوبة عن مثل هذه الأسئلة ، وعلى تسجيل تجربته في صور دقيقة الرسم وذات عمق إنساني. وكانت له القدرة على فتح نافذة على عالم بعيد عن عالمه هو ، ونقل مشاهدته إلى غيره. ومن خلال وصفه الدقيق لما هو جديد ، ويكاد يكون كل شيء جديدا ، نحس بنسيج اللقاء الثقافي : وبقراءتنا لما دونه عن رحلته ، نجد أنفسنا أمام فرصة نادرة تتاح لنا لتقمص شخصية أحد رجال الفكر المغاربة في لحظة حرجة تمتحن معتقداته ومشاعره وتوجهاته.

إن «موعد» الصفار مع الجديد ، على حد تعبير بارت (Barthes) ، يحدث مواجهة أكبر حجما مجد خلالها تجربته مرات عديدة. وتمثلت خلفيات رحلته في أحداث ووقائع أدت ، بشكل عميق ، إلى قلب التصور الذي كان لدى النخبة الحاكمة في المغرب عن قوتها إزاء الغرب رأسا على عقب. وفي الواقع ، كانت الرحلة في حد ذاتها جزءا من ذلك المجهود الذي استهدف القيام بمحاولة لتصحيح الخلل والتبصر بمعرفة الأسباب الكامنة وراء الإخفاقات والفشل. وقد تميز العصر الذي عاش فيه كاتب الرحلة بالقلق الذي انتاب المغاربة من قدرتهم على مواجهة الغرب المتحكم في جميع مقومات التفوق العسكري. كما تميز أيضا بوجود تخوفات كبيرة من وقع القضايا الخارجية وخطورة تأثيرها على الأحوال الداخلية لنظام اتسم بهشاشته. وكانت هذه القضايا العريضة مطروحة مسبقا قبل الرحلة ، وقد تم صبها في قالب اكتسى دلالات تاريخية ذات أهمية بالغة. وحتى تفهم الرحلة ، يجب علينا أن نضعها في إطارها التاريخي والزمني.

٢٨

علاقة المغرب بفرنسا والجزائر

كان أبرز حدث هزجيل الصفار هو الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة ١٨٣٠. ولما تمكن الفرنسيون من توسيع مجال احتلالهم من المناطق الساحلية للجزائر إلى أعماق البلاد ليصبح احتلالهم لها شاملا ، أدى ذلك إلى تحطيم مفاجئ لاستمرارية المجال الذي كان بين البلدان الإسلامية الممتدة من مصر إلى المغرب منذ القرون الأولى للعهود الإسلامية. وقد أصبح التوغل الفرنسي يعني للمغرب أن دولة مسيحية أصبحت تجاوره على طول حدود ممتدة على أرض سهلية وأخرى صحراوية بكل ما تسمح به من فسح للمجال المغربي أمام الفرنسيين. إن هذا الواقع الجديد ليعتبر انقلابا حقيقيا لم تشهد البلاد مثله من قبل ، ولا بد أن تكون عواقبه متعددة ووخيمة.

ولم تكن تلك أول مرة يجد فيها المغرب نفسه مهددا من الغزاة الوافدين من أوربا ، غير أن التهديد كان مختلفا ومن نوع جديد. لقد اخترق الإيبيريون أجزاء من السواحل المغربية خلال القرنين الرابع عشر والسادس عشر ، إلا أن احتلالهم لها كان في الأغلب احتلالا مؤقتا وعابرا. وفي القرن السابع عشر ، ارتفعت درجة التوتر بصفة قارة بين المغرب وأوربا في عرض المحيطات ، فتبادل القراصنة المغاربة والأوربيون الهجمات على مراكب بعضهم البعض ، محاولين الرفع من مداخيلهم المالية بدعوى الدفاع عن معتقداتهم الدينية (١). وفي أواسط القرن الثامن عشر ، شهدت عمليات القرصنة تقلصا واضحا ، وفسح المجال أمام أشكال التبادل المتسمة بدرجة أقل من العنف. وأصبحت الصراعات العابرة من أحد المظاهر المميزة للعلاقات المغربية الأوربية ، كما شكلت التجارة النشيطة والعلاقات الدبلوماسية مظهرا آخر لتلك العلاقات. وشهد عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (١٧٥٧ ـ ١٧٩٠) إنشاء مرسى جديدة بالصويرة على ساحل المحيط الأطلسي لجلب أنظار التجار الأجانب

__________________

) J. Bookin ـ Weiner," The\'Sallee Rovers\' : Morocco and its Corsairs in the Seventeenth Century", in The Middle East and North Africa : Essays in Honor of J. C. Hurewitz, ed. Reeva S. Simon) New york, ٠٩٩١ (, p. ٧١٣.

٢٩

وتعزيز المداخيل الجمركية لبيت مال المخزن (١). وبعد ذلك ، جاءت الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية ، فكان لها تأثير حاسم على مستوى العلاقات بين المغرب وأوربا فانقطعت الصلات بينهما. وعلاوة على ذلك ، أثيرت صراعات شديدة على الحكم في المغرب بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله ، جعلت البلاد تتخبط في جو من الصدامات وأعمال العنف. ودخلت بذلك الحياة السياسية في مرحلة من التجاوزات بشكل ما تحدثت عنه من قبل أقلام الإخباريين المغاربة وكتاباتهم (٢).

وكان لا بد من انتظار حلول عشرينيات القرن التاسع عشر ، ليتمكن المغرب وأوربا من تجاوز مرحلة سادت فيها الاضطرابات. وفي مختلف أرجاء القارة ، احتفل الأوربيون بحلول السلام على طريقتهم الخاصة ، فاندفعوا برغبة قوية في تحقيق النمو والتطور في كل المجالات ، وشرعوا جادين في البحث عن الأسواق الخارجية والمواد الأولية. وبينما كانت أوربا بصدد الدخول في عهد جديد ، كنا نجد المغرب على عكس من ذلك متجها إلى الانطواء على نفسه ، بل إنه يقدم ، خلال فترة حكم المولى سليمان (١٧٩٣ ـ ١٨٢٢) ، على قطع جل علاقاته مع الأوربيين. وفي سنة ١٨١٧ ، نفذ السلطان قراره القاضي بتفكيك ما تبقى من العناصر المكونة للأسطول البحري المغربي ، فوضع بذلك حدا للحركة التجارية البحرية بواسطة المراكب المغربية (٣). وفي هذا السياق ، أغلقت كل المراسي أمام التجارة الأجنبية ، ومنع

__________________

(١)Daniel Schroeter, Merchants of Essaouira : Urban Society and Imperialism in Southwestern Morocco, ٤٤٨١ ـ ٦٨٨١) Cambridge, ٨٨٩١ (, pp. ١١ ـ ٠٢.

وانظر نسخته المعربة : دانييل شروتير ، تجار الصويرة ، المجتمع الحضري والإمبريالية في جنوب غرب المغرب ، ١٨٤٤ ـ ١٨٨٦. تعريب خالد بن الصغير ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، سلسلة نصوص وأعمال مترجمة ٦ ، ١٩٩٧.

(٢) أحمد بن خالد الناصري ، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ، تسعة أجزاء ، (الدار البيضاء ، ١٩٥٦) ، ٨ : ٧٢ ـ ٨٦.

(٣) عن تفكيك الأسطول المغربي عند بداية القرن الثامن عشر ، انظر : محمد المنوني ، مظاهر يقظة المغرب الحديث (الرباط ، ١٩٧٣) ، ١ : ٣ ـ ٨. (جميع الإحالات إلى هذا الكتاب من طبعة سنة ١٩٧٣ ، ما لم يشر إلى خلافه). انظر أيضا :

J. L. Mie؟ge," La marine marocaine aux XIXe؟me sie؟cle", Bulletin de l\'enseignement publique au Maroc, ٧٣٢) ٦٥٩١ (: ١٥ ـ ٧٥.

٣٠

المغاربة من السفر خارج البلاد إلا بترخيص من السلطان (١). وحاول خلفه السلطان مولاي عبد الرحمن (١٨٢٢ ـ ١٨٥٩) تدارك الموقف وتصحيح الخلل ، لكنه فشل في تحقيق ذلك ، فعاد المغرب إلى العزلة التي كان قد فرضها على نفسه بمحض إرادته (٢).

ودام الانفصام الذي كاد أن يكون تاما في علاقات المغرب مع الغرب مدة تجاوزت جيلا واحدا. وفي غضون ذلك ، تمكنت أوربا من الدخول في مرحلة حافلة بالتحولات والتطورات الجديدة بأشكال لم يكن بإمكان غالبية المغاربة تصورها آنذاك (٣).

وقد أدى الاحتلال الفرنسي للجزائر إلى الإسراع بوضع حد لتلك المرحلة وإنهائها ، وزج بالمغرب من جديد في خضم القضايا الأوربية. فوجد السلطان نفسه مكرها على أن يصبح طرفا في قضايا تدخل في اهتمامات جيرانه الجدد المحتلين للجزائر. وكانت بداية التدخل المغربي في تلك القضايا مع الأمير عبد القادر الزعيم الجزائري الذي نظم المقاومة المحلية ضد الفرنسيين ابتداء من ١٨٣٠. وكان السلطان قد بادر إلى مده بالزاد والسلاح ، تعبيرا منه بذلك عن قيامه بواجبه الديني الهادف إلى الوقوف في وجه التهديد المسيحي. لكن السلطان كان في الوقت نفسه ، شديد الحذر من جيش الأمير غير النظامي ، وكثير الاحتراس من استغاثته الدينية به ، وأيضا كان يخشى أن يكون سببا في إثارة فرنسا لتقوم بمهاجمة المغرب (٤).

__________________

(١) نذكر مثالا على ذلك ، الظهير الصادر عن السلطان مولاي ليمان لفائدة الحاج عبد الرحمن أشعاش بتاريخ ٢٨ شوال ١٢٢١ / ٨ يناير ١٨٠٧ ، يسمح له فيه بالسفر خارج المغرب. داود ، تاريخ تطوان ، ٣ : ٢٣٦.

(٢) J. Caille؟," Le dernier exploit des corsaires du bou ـ Regreg", Hesp. ٧٣, ٣ ـ ٤) ٠٥٩١ (: ٩٢٤ ـ ٧٣٤.

(٣) من أجل إلقاء نظرة عامة وشاملة ، انظر ما يلي :

J. L. Mie؟ge, Le Maroc et L\'Europe, ٤ vols.) Paris, ١٦٩١ (, vol. ٢ : L\'ouverture, pp. ٩١ ـ ٨٥٢; L. Valensi, Le Maghreb avant la prise d\'Alger) ٠٩٧١ ـ ٠٣٨١ (,) Paris, ٩٦٩١ (.

(٤) عن حركة المقاومة التي قام بها عبد القادر بن محيي الدين المختاري (١٨٠٧ ـ ١٨٨٣) ، ما بين ١٨٣٢ وإلى حدود ١٨٤٧ ، انظر ما يلي :

R. Gallissot," La guerre d\'Abd el Kader ou la ruine de la nationalite؟alge؟rienne) ٩٣٨١ ـ ٧٤٨١ (", H ـ T ٥) ١٣٩١ (: ١٤ ـ ٩١١.

٣١

استمرت تلك العلاقات الطيبة المشوبة بالكثير من المصاعب بين الطرفين طوال المدة التي اقتصرت فيها فصول الحرب على المجال الترابي للجزائر. لكن مع حلول سنة ١٨٤١ ، دخل الصراع الفرنسي المغربي في مرحلة جديدة بصفة مفاجئة. إذ أكد الجنرال بيجو (Bugeaud) ، فور تعيينه قائدا للجيوش الفرنسية ، أنه «لن يسمح للعرب بالقيام بأعمال الحرث أو الحصاد ، ولا حتى بالرعي دون حصولهم على تصريح بذلك منا» ، أي من الفرنسيين. وفي نهاية المطاف ، أدى عزمه الشديد على ملاحقة الأمير عبد القادر دون هوادة إلى عبور الزعيم الجزائري للحدود المجاورة والدخول إلى المغرب (١). وفي يوم ٦ غشت / آب ١٨٤٤ ، قامت وحدات من الأسطول الفرنسي ، دون سابق إنذار بضرب طنجة بالقنابل. وبعد ذلك بأيام قليلة ، ضربت مرسى الصويرة بالقذائف إلى أن تحولت المدينة إلى خراب. وفي خلال أسبوع واحد ، تمكن الفرنسيون من إلحاق الضرر وتعطيل النشاط التجاري بمرسيين هامين ، ومن توجيه ضربة قوية إلى مداخيل السلطان الجمركية (٢). وفي غضون ذلك ، عبر الجنرال بيجو الحدود فشتت جموع الجيش المغربي في وادي إيسلي ؛ وبذلك ألحقت الهزيمة بالمغاربة برا وبحرا.

__________________

ـ أما عن تفاصيل المبادرات ذات الطابع الدبلوماسي ، فانظر :

P. de Cosse؟ـ Brissac, Les Rapports de la France et du Maroc pendant la conque؟te de l\'Alge؟rie) ٠٣٨١ ـ ٧٤٩١ () Paris, ١٣٩١ (.

وانظر كتاب العروي الذي قدم فيه تأويلات جديدة بعد فترة الحماية :

A. Laroui, History of the Maghrib) Princeton, ٧٧٩١ (, pp. ٩٩٢ ـ ١٠٣.

ويعتبر كتاب جوليان أساسيا في الموضوع ، انظر :

C. ـ A. Julien, Histoire de l\'Alge؟rie Contemporaine) Paris, ٤٦٩١ (, ch. ٤.

ويقول بول أزان (Paul Azan) إن عبد القادر منح للسلطان «المكانة نفسها التي يستحقها السيد من تابعه» ، انظر :

Julien, Histoire, p. ٢٤١.

(١) ورد ذلك عند جوليان : Julien ,Histoire ,p.٤٧١.

(٢) انظر ما رواه شاهد عيان عن هذه الأحداث في كتابه الآني :

A. H. Warnier, Campagne du Maroc, ٤٤٨١,) Paris, ٩٩٨١ (.

٣٢

ثم بدأت فرنسا تسعي في صنع السلام ، فكتب الجنرال بيجو ما يلي : «الآن يمكننا أن نكون كرماء دون أن نكون ضعفاء ، لأننا ضربناهم بقوة» (١). وأدى إبرام اتفاقية طنجة في شتنبر / أيلول ١٨٤٤ ، ومعاهدة لالة مغنية في شهر مارس / آذار اللاحق ، إلى تعزيز النجاح الذي حققه الفرنسيون ، في حين كان الثمن الذي دفعه السلطان مقابل كل ذلك غاليا جدا (٢). إذ كان عليه أن يوافق على قبول التعاون مع الفرنسيين في القبض على الأمير عبد القادر ، والدخول في مفاوضات لرسم حدود جديدة مع الجزائر. وبذلك وجد السلطان نفسه مرغما دفعة واحدة ، على التخلي عن معارضته للفرنسيين ، والتسليم بوجوده على التراب الجزائري ، وهو اعتراف حقيقي بواقع لم يكن موجودا من قبل.

وفي غضون ذلك ، حاول المخزن أن يضع حدا للكارثة. وتؤكد الكتابات المعاصرة ـ حسب ما جاء عند محمد المنوني ـ على ما تميز به رجال المخزن المركزي والعلماء وقتئذ ، من تخبط في الحيرة وعجز عن التفكير السليم (٣). وترتب عن ذلك بروز اتجاهين اثنين : تمثل أولهما في النداء الموجه للقيام بالجهاد. والثاني ، في محاولة للبحث في النصوص التقليدية ، عن تفسيرات لفهم أسباب وقوع تلك الكارثة (٤).

ويوحي كلا الاتجاهين ، على الأقل ، بوجود بعض من عناصر النخبة الذين

__________________

(١) ورد ذلك عند : Cosse؟ـ Brissac ,Rapports ,p.٦٩.

(٢) يوجد نص هذه الاتفاقية والمعاهدة أعلاه في :

H. M. P. de la Martinie؟re et N. Lacroix, Documents pour servir l\'e؟tude du nord ـ ouest african, ٤ vols.) Alger, ٤٩٨١ ـ ٧٩ (, ٢ : ٧١٥ ـ ١٢٥.

(٣) المنوني ، مظاهر ١ : ١٣.

(٤) عبر عن الاتجاه الأول من خلال قصيدة تحميسية من نظم الوزير ابن إدريس مطلعها :

يا أهل مغربنا حق النفير لكم

إلى الجهاد فما في الحق من غلط

المنوني ، مظاهر ١ : ٢٠ ؛ وأيضا :

M. Lakhdar, La vie litte؟raire sous la dynastie Alawide) Rabat, ١٧٩١ (, pp. ٦١٣ ـ ٧١٣, ٧٢٣ ـ ٥٣٣.

أما الاتجاه الثاني ، فيمكن تلمسه عبر تأليف وضعه أحد علماء فاس محمد بن عبد القادر الكيلاني المعروف بالفقيه الكردودي ، تحت عنوان : كشف الغمة ببيان أن حرب النظام حق على

٣٣

حاولوا البحث من الداخل ، عن مرشد يرشدهم إلى الكيفية التي يجب أن تتم بها ردود الفعل على التهديدات الفرنسية القادمة من الجزائر. غير أن عناصر أخرى داخل الجهاز المخزني ، كانت ترى أن ذلك الاتجاه المستمد لعناصره من السلف ، لم يصبح ملائما لمستجدات العصر ، وأن الحاجة أصبحت ماسة للبحث عن معلومات ومعطيات جديدة. إن أبواب المخزن كانت ما تزال مفتوحة وقابلة لأن تتسرب منها بعض التصورات والأفكار الجديدة. ومنذ أواسط أربعينيات القرن التاسع عشر ، بدأ نوع من الرغبة في معرفة أحوال أوربا ينتاب بعض العناصر القليلة ذات النفوذ داخل الجهاز المخزني. وإذا لم تكن قد صارت من دعاة الإصلاح بمعناه الدقيق ، فإنما أصبحت تتحمس إلى «البحث» و «المشاهدة والسماع» (على حد تعبير الصفار) لما يمكن للغرب أن يقدمه من أشياء جديدة (١). ولعل هذا الفضول كان قد استمد وجوده من تقارير الرحالة الأوربيين والمغاربة وغيرهم من المسلمين ، الذين نقلوا أخبارا عن التحولات العلمية والتقنية العظمى التي تحدث في مختلف أرجاء أوربا. بل لعله كان بسبب ظهور كتب الرحلات كرحلة المصري رفاعة الطهطاوي إلى باريز التي وجدت طريقها إلى مكتبة ابن إدريس وزير السلطان (٢) ؛ بل الآكد أنه جاء نتيجة الهزيمة العسكرية. في بداية الأمر ، بدا أنه من الممكن الخلوص انطلاقا من هذه المصادر ، إلى أنها هي التي كانت وراء ظهور فكرة إرسال بعثة إلى أوربا لمعاينة مظاهرها الحضارية. لكنها كانت فكرة مليئة بالتناقضات ومشحونة بكثير من مظاهر الريبة والشكوك. ومع ذلك ، تبين في نهاية المطاف أنها فكرة حان موعد إدخالها حيز التنفيذ.

__________________

هذه الأمة ، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط ، تحت رقم ١٢٨١D. نشر أيضا في المطبعة الحجرية بفاس ، دون تاريخ ، وذكره المنوني في كتابه مظاهر ١ : ١٣ ـ ١٥. وأيضا عند العروي :

A. Laroui, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocaine) ٠٣٨١ ـ ٢١٩١ () Paris, ٧٧٩١ (, pp. ٦٧٢ ـ ٨٧٢.

(١).Laroui ,Origines ,pp.٣٧٢ ـ ٤٧٢ ,٨٧٢

(٢) عن هذه الإشارة إلى خزانة ابن ادريس ، انظر الصفحة ٢١٥ من المرجع المذكور في الهامش السابق رقم ١٦. أما عن الطهطاوي ، فانظر الهامش رقم ١٢٧ فيما سيأتي.

٣٤

الظروف المحيطة بسفارة أشعاش

أثيرت فكرة توجيه سفارة مغربية ، للمرة الأولى ، أثناء المفاوضات التي كانت جارية حول معاهدة لالة مغنية ، حينما اقترح الفرنسيون على السلطان إيفاد مبعوث عنه إلى فرنسا قصد إدخال «التغييرات والتحولات التي يتطلبها الوضع الجديد (١)» حيز التنفيذ. إلا أن المخزن أبدى تحفظا من ذلك العرض ، فمرت عدة شهور دون أن يصدر عنه جواب في الموضوع ، بينما كانت هناك بعض العناصر داخل الجهاز المخزني تتدارس الفكرة. ولم يخف بوسلهام بن علي أزطوط ، نائب السلطان وممثله أمام الهيئة الدبلوماسية ، لم يخف عن الوسيط الفرنسي في المفاوضات ، أنه يتبنى موقفا مؤيدا للمصالحة مع فرنسا ، غير أن وجهات نظره تلك لم تجد بعد آذانا صاغية داخل القصر. وجاء في أحد التقارير ، أنه عبر عن موقفه بالعبارات التالية : «إن التحالف مع فرنسا شيء مناسب لنا ، وهذه الفكرة ليست مقبولة بعد بشكل تام من طرف الإمبراطور ... غير أنها بدأت تدور في خلده ، وسأعمل على رعايتها بكل ما أملكه من وسائل (٢)». ونتيجة لهذا الموقف المشجع للفرنسيين ، كلف ليون روش Le؟on) (Roches الذي اشتهر بموهبته وتمسكه الصارم بمبادئه ، بمهمة التحضير لتلك السفارة وتنظيمها (٣). وتحقيقا لذلك ، ظل روش على اتصال مستمر بكل من النائب

__________________

(١) AAE / MDM ٩ / ٠٧٣ ، رسالة دولاروde la rue إلى ابن ادريس ، ٢٢ مارس ١٨٤٥.

(٢) AAE / CPM ٤١ / ٩١١ ـ ٢٢١ ، روش (Roches) إلى كيزو (Guizot) ، ٢٤ غشت ١٨٤٥. كان بوسلهام بن علي أزطوط عاملا على طنجة والعرائش ، وفي الوقت نفسه نائبا وممثلا للسلطان أمام قناصل الدول الأجنبية المقيمين بطنجة. وظلت العلاقات الخارجية في المغرب خاضعة في تسييرها لموظفين مخزنيين يقيمون بالشمال ، فيقومون بمهمة ربط الصلات بين السلطان وممثلي الدول الأجنبية دون أن يكون هناك اتصال مباشر وحقيقي بين الأجانب وشخص السلطان وبقية العناصر العليا داخل الجهاز المخزني.

(٣) ابتدأ ليون روش (Le؟on Roches) حياته مع الجيوش الفرنسية في الجزائر سنة ١٨٣٢. وفي سنة ١٨٣٧ ، خلال مرحلة الهدنة ، أصبح هو الكاتب الخاص للأمير عبد القادر الجزائري ، واتخذ لنفسه اسم عمر بن الروش. وفي ١٨٣٩ التحق من جديد بحاشية الجنرال بيجو (Bugeaud) ، ولعب

٣٥

السلطاني بوسلهام بن علي في العرائش وبالوزير محمد ابن إدريس في القصر السلطاني (١).

وفي غضون ذلك ، تزايد تحمس الحكومة الفرنسية للسفارة المغربية ، خاصة وأن فوائدها السياسية أصبحت واضحة المعالم. لأن حلول سفير مغربي بالديار الفرنسية ، سيقدم للرأي العام الفرنسي الذي كان يعيش نوعا من الانقسام ، الدليل القاطع على أن الأهداف المتوخاة من حرب الجزائر الطويلة الأمد والباهظة التكاليف قد تم بلوغها. وفي هذا الصدد كتب ليون روش ما يلي : «على الإمبراطور أن يقدم لملكنا سلاحا فعالا يمكنه من الصمود أمام الرأي العام لرعيته ، والسلاح المطلوب هو السفير» (٢). وأيضا كانت في ذهن ليون روش نظرة أخرى عن المغرب ، البلد الذي أدّب وروّض ، وبالتالي ألحق هو أيضا ، بصفوف الدول الإسلامية الخاضعة منذ زمن إلى فرنسا. وعبر روش عن وجهة نظره الخاصة التي تقول إنه قد يأتي اليوم الذي يتحالف فيه السلطان تحالفا مماثلا «لما هو موجود بيننا وبين كل من سلطان القسطنطينية وباشا مصر وباي تونس ... عليكم بالقدوم إلى بلدنا للبحث عن المدربين الذين سيزودون تركيا

__________________

دورا أساسيا في سفارة أشعاش ، حيث كان مرافقا للبعثة المغربية في رحلتها إلى باريز. انظر الملف الخاص عن مساره في :

AAE, Dossier personnel" Le؟on Roches" ، بالإضافة إلى ما يلي :

M. Emerit," La le؟gende de Le؟on Roches"," Revue africaine ١٩, ٠١٤ ـ ١١٤) ٧٤٩١ (: ١٨ ـ ٥٠١, et Le؟on Roches, trente ـ deux ans travers l\'Islam, ٢ vols.) Paris, ٤٨٨١ ـ ٧٨ (.

غير أن هذا الكتاب الذي سجل فيه روش مذكراته لا يغطي الفترة التي تعنينا هنا دراستها.

(١) محمد ابن ادريس (١٧٩٤ ـ ١٨٤٧) كان صدرا أعظم خلال فترة حكم السلطان عبد الرحمن بن هشام ، وشاعرا ممتازا ، وأحد رجال الدولة المحنكين داخل الجهاز المخزني. كان في الأصل وفيا لاتجاهه المعادي لأوربا ، إلا أن موقفه قد تغير بعد هزيمة إيسلي ، فناصر فكرة توجيه سفارة إلى فرنسا. انظر الناصر الفاسي ، «محمد ابن ادريس وزير مولاي عبد الرحمن وشاعره» ، البحث العلمي ، ١ ، (يناير ـ أبريل ١٩٦٤) : ٨٠ ـ ١٥٧.

(٢) AAE / CPM ٤١ / ٢٨١ ، روش إلى ابن ادريس ، ١٢ شتنبر ١٨٤٥. أما عن موضوع النقاشات السياسية التي أثيرت في فرنسا حول حرب الجزائر ، فانظر ما يلي :

F. P. G. Guizot, France under Louis Philippe, ١٤٨١ ـ ٧٤٨١) London, ٥٦٨١ (, pp. ٧١١, ٠٣١.

٣٦

ومصر وتونس بخيرة الفرق العسكرية ، ولتتمكنوا من دراسة علومنا وصناعتنا» (١).

هناك ضغوط وأسباب كثيرة ، دفعت المغاربة في تلك الظروف إلى التفاوض. وقد كان أولها الوضعية الخاصة بالأمير عبد القادر ، إذ كانت فرنسا تمارس ضغوطها على المغرب لإبعاد الأمير عن التراب المغربي ، بينما كان السلطان بحاجة إلى مزيد من الوقت. وحاول روش البرهنة على أن لجوء المغرب إلى المطالبة بالمزيد من الأناة والصبر بتوجيه الدعوة إلى فرنسا مباشرة من باريز قد تكون درجة إقناعه أقوى من الاتصالات الدبلوماسية غير المباشرة في المغرب (٢). علاوة على ذلك ، فقد كانت في مشاهدة فرنسا مباشرة مصلحة وفائدة. ومن الممكن أن تكون من الأفكار التي أوحت بقبول تلك السفارة ، مسألة إتاحة الفرصة أمام إمكانية جمع المعلومات والمعطيات مباشرة ، وبواسطة مبعوث يحظى بالثقة الكاملة ، بدلا من الاعتماد على وسطاء قد تحوم شكوك كثيرة حول صدقهم ودرجة ولائهم. وفي الأخير ، فإنه من الممكن أيضا أن يكون السلطان قد اقتنع بأن التفاوض في مثل تلك الحالات يمثل أفضل الحلول. وإذا كان الجهاد هو أحد مظاهر العلاقات مع البلدان غير الإسلامية ، فإن الصلح والمهادنة هما أيضا من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام المسلمون منذ العهود الباكرة. وما دام هناك إجماع على اعتبار الممارسة الدبلوماسية مع غير المسلمين تخدم مصالح الجماعة وما دامت القضايا المتعاقد عليها ذات طابع مؤقت قصير الأمد ، فإنها كانت منذ زمن ، من الأدوات السياسية المستحسنة والجاري بها العمل (٣).

__________________

(١) AAE / CPM ١٤ / ١٨٢ ، روش إلى ابن ادريس ، ١٢ شتنبر ١٨٤٥.

(٢) AAE / CPM ٤١ / ٢٥١ ـ ٣٥١ ، رسالة روش إلى الجنرال دولا مورسيير (de La Morcie؟re) ، ٣ شتنبر ١٨٤٥. وكتب السلطان إلى بوسلهام بأن أهداف السفارة هي «إظهار محو ما كان صدر بين الإيالتين من الغيام ورجوع ما كان بينهما إلى حاله الأول» ، بالإضافة إلى احتمال أن الفرنسيين قد «يبطلون شرط الحاج عبد القادر [...] والمقصود الأهم هو اغتنام فك أسارى المسلمين من أيدي أعداء الدين». غير أن المصادر الفرنسية لا تتحدث بتاتا عن هذه النقطة الأخيرة. رسالة السلطان إلى بوسلهام ، ٢٢ جمادى الثاني ١٢٦١ / ٢٨ يونيو ١٨٤٥ ، مسجلة ضمن محفوظات مديرية الوثائق الملكية تحت رقم ١٧٥٦١ ، ومنشورة في الجزء الثاني من دورية الوثائق ، ص. ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) أولى تقاة المسلمين اهتماما خاصا للشروط التي تستوجب السفر إلى بلدان غير البلدان الإسلامية.

وتنص التعاليم الإسلامية على ألا تشد الرحال الا في اتجاه الأماكن التي تقيم بها عناصر

٣٧

وأملت سوابق الماضي كيفية تشكيل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية لدى المسلمين. وبخلاف ما كانت عليه الدول الأوربية ، التي كانت ترعى مصالحها

__________________

الجماعة المسلمة دون غيرها. والمعنى الأساسي لمصطلح الهجرة ، هو الهروب بعيدا من دار الكفر ، واللجوء إلى دار الإسلام. وبهذا يكون التوجه في سفر إلى بلاد الغرب ، ينطوي في حد ذاته على إشكاليات عدة ، كما شكل نقطة هامة أثيرت حولها نقاشات عديدة في أوساط العلماء. انظر ما يلي :

Dale F. Eickelman and James Piscatori, eds., Muslim Travellers : Pilgrimage, Migration, and the Religious Imagination) Berkeley and Los Angeles, ٠٩٩١ (.

وانظر بوجه خاص المساهمة التي قدمها ضمن المجموعة نفسها خالد مسعود تحت عنوان :

" The Obligation to Migrate : The Doctrine of Hijra in Islamic Law", pp. ٩٢ ـ ٩٤.

وفي المجموعة سابقة الذكر نفسها ، انظر المساهمة التي قدمها عبد الرحمن المودن تحت عنوان :

" The Ambivalence of Rihla : Community Intrgration and Self ـ definition in Moroccan Travel Accounts, ٠٠٣١ ـ ٠٠٨١", pp. ٩٦ ـ ٤٨.

ولمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع ، انظر :

Laroui, Origines, pp. ٠٢٣ ـ ١٢٣; M. EL ـ Mansour," Moroccan Perception of E urpean Civilization in the Nintheenth Century" in Morocco and Europe, ed. George Joffe؟, Center of Near and Middle Eastern Studies, School of Oriental and African Studies, University of London, Occasional Paper ٧) London ٩٨٩١ (, pp. ٧٣ ـ ٥٤.

بالإضافة إلى مقال لعبد المجيد القدوري تحت عنوان : «صور عن أوربا من خلال ثلاث رحلات مغربية وبعض المراسلات الرسمية» ، في : مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، الرباط ، ١٥ (١٩٨٩ ـ ١٩٩٠) : ٤٥ ـ ٦٦. وقد أبدى علماء فاس معارضتهم التامة لأي اتصال مع غير المسلمين على جميع المستويات ، مما أدى إلى اصطدامهم مع التجار المحليين المتطلعين إلى ممارسة التجارة الخارجية فيما وراء البحار. عن ذلك انظر :

N. Cigar," Socio ـ economic Structures and the Development of an Urban Bourgeoisie in Pre ـ colonial Morocco", Maghreb Review ٣, ٣ ـ ٤) May ـ August ١٨٩١ (: ٧٦.

وعن معالجة هذه القضية انطلاقا من رحلة الصفار انظر ما سيأتي في مختلف صفحات هذا الكتاب.

٣٨

الخارجية بالاعتماد في ذلك على قناصل مقيمين في مختلف أرجاء المعمورة ، فإن غالبية الدول الإسلامية بما فيها المغرب ، لم تكن تعتمد ، إلى حين حلول العصر الحديث على وجود هيئة دبلوماسية محترفة ، ولم تكن دشنت بعد مسطرة إنشاء السفارات الدائمة خارج حدودها. وجرت العادة دائما على إسناد مهمة القيام بالمفاوضات إلى مبعوثين خاصين يختارهم حاكم البلاد ، فيتوجهون في رحلتهم إلى الخارج لتنفيذ المهام المنوطة بهم ، ثم يعودون إلى بلدهم الأصلي بمجرد إنهائها. ومع ذلك ، فإن وقوع الاختيار على شخص ما ليكون مبعوثا إلى بلد أجنبي ، كان تشريفا حقيقيا وكبيرا له. ومن ثم فإن وقوع الاختيار على شخص ليتوجه في مهام دبلوماسية كان أمرا مرغوبا فيه بل كان الناس يتهافتون على الفوز بتلك الحظوة. وفي ذلك الإطار ، ما لبثت أن شاعت فكرة اقتناع السلطان وعزمه على توجيه مبعوث عنه إلى فرنسا ، حتى أصبح موضوع انتخابه للشخص المناسب موضوعا للكثير من التخمينات والأقوال المتضاربة.

بلغ ليون روش ، عن طريق مخبريه الموجودين داخل القصر السلطاني ، أن موضوع السفارة أصبح حديث الساعة وأن ألسنة الجميع قد أصبحت منشغلة به. وكان لكل فريق مرشحه الخاص به ؛ إذ جاء في تقرير للقنصل الفرنسي بطنجة إيدم دو شاستو (Edme de ch teau) ، أن «ابن إدريس اقترح مرشحا واحدا ، وأن بوسلهام اقترح واحدا غيره ، في حين كان الإمبراطور يميل إلى اختيار أحد أثرياء تجار فاس» (١). وقد حاول ليون روش التأثير على السلطان حتى يقدم على اختيار مبعوث جيد ، فعمد إلى التذكير بأيام السلطان المولى إسماعيل والملك لويس الرابع عشر ، حينما اتسمت العلاقات بين بلديهما بمظاهر «العظمة والأبهة ، والنتائج الطيبة» ، فبذل قصارى جهده لحث المغاربة على تعيين «شخص تجتمع فيه جميع الصفات

__________________

(١) AAE / CPM ٤١ / ٣٨ ـ ٤٨ ، دو شاستو (de Chasteau) إلى كيزو ، ٣ غشت ١٨٤٥. في البداية أشار الفرنسيون إلى ترشيح كل من مصطفى الدكالي وأحمد التمسماني ، وهما تاجران ولهما علاقات قوية مع الخارج. غير أن نية السلطان لم تكن كذلك. وحسب مضمون إحدى الرسائل المحفوظة بمديرية الوثائق الملكية ، فإن السلطان كان يفضل مبعوثا له «عارفا بأمور المخزنية ليس واحدا من التجار». رسالة ابن ادريس إلى بوسلهام ، ١٤ رجب ١٢٦١ / ١٩ يوليوز ١٨٤٥. مسجلة تحت رقم ١٧٥٧١.

٣٩

المميزة : وهي أن يكون ذا مظهر خارجي مهيب ، متصفا بالذكاء واتقاد الذهن ، وأن يكون من ذوي الحسب والنسب ، ويحتل مكانة سامية في الدولة» (١).

وصلت في آخر الأمر أخبار تفيد أن السلطان اتخذ قراره في الموضوع. وبلغت مسامع ليون روش ، من «أحد أصدقائه الموجودين بالقصر السلطاني في فاس» ، أن الاختيار قد وقع على عبد القادر أشعاش ، عامل تطوان. وفي حينه ، بادر ليون روش إلى تحرير رسالة وجهها إلى وزير الخارجية الفرنسي كيزو (Guizot) ، تضمنت وصفا يطري شخصية أشعاش ، حاول من خلالها تغطية ما كان ينقصه عن فصول حياته وأصوله من دقة ، باختلاق نوع من الحماسة المبالغ فيها ، نقتبس منها ما يلي :

«كان أسلافه من المورسكيين المبعدين من إسبانيا في القرن الخامس عشر ، واستقر في المكان الذي تقع فيه اليوم تطوان ، ويعتبرون مؤسسين لها. ومنذئذ ، آل منصب الباشا لفائدة كبير الأسرة. وأصبحت الباشوية حكرا على عناصرها عن طريق الوراثة ... وتم ذلك بشكل لا مثيل له في المغرب. وهكذا فإن أشعاش من أهل الحسب والنسب ، والجاه الرفيع. وإن كان يكاد يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر ، فهو واسع الاطلاع وله ما يكفي من التجربة الدولية. فهو يحظى بكامل الثقة ، وعلاقاته حميمة بالإمبراطور ، ويملك ثروة طائلة ، كما سبق له أن زار مكة ... وسيكون من المستحيل حقا العثور في المغرب على رجل أكثر ملاءمة منه» (٢).

كان أشعاش الابن البكر لإحدى الأسر التطوانية الثرية ذات النفوذ ، وقد سبق لأبنائها تقلد مهام السلطة والسهر على تسيير شؤونها مدة استغرقت ثلاثة أجيال متعاقبة. وكان جده عبد الرحمن أشعاش ، أول من اكتسب مكانة سياسية بارزة بين كل أفراد الأسرة ، إذ استطاع أن يشغل منصب عامل على تطوان ثلاث مرات. وكان والده محمد أشعاش عاملا على المدينة نفسها ، واشتهر ببأسه الشديد وشخصيته القوية. فكان مهاب الجانب ، يخشاه الناس ، حتى قيل إنه كان يحكم تطوان بيد من

__________________

(١) AAE / COM ٤١ / ٦٠١ ـ ٧٠١ ، روش إلى بوسلهام ، ١٠ غشت ١٨٤٥.

(٢) AAE / CPM ٤١ / ٣٥٢ ـ ٤٥٢ ، روش إلى كيزو ، ٢٠ أكتوبر ١٨٤٥. وعلل السلطان وقوع اختياره على أشعاش في رسالة وجهها إلى خادمه بوسلهام بن علي في ١٨ شوال ١٢٦١ / ٢٠ أكتوبر ١٨٤٥ ، بقوله : «لما رأينا من رزانته وعقله ولكونه من بيوتات الرياسة والخدمة» ، محفوظة بمديرية الوثائق الملكية ، تحت رقم ١٠٧٩٥.

٤٠