رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

كراسي أمامهم ويجعلون عليها أوراقا فيها ذالك الغناء ، كل واحد أمامه كتابه.

فبعد أن فرغنا من عشائنا ، وحضر معنا فيه بعض من عرضه صاحب الدار ، خرجنا من بيت الأكل ودخلنا القبة المذكورة. فجعل الناس يدخلون أفواجا رجالا ونساء ، ومناد واقف بالباب ، كلما دخل شخص نادى عليه فلان جاء ، فيأتي الواحد منهم بامرأته أو بنته ، أو تأتي المرأة وحدها حتى امتلأت القبة. ولا يجلس إلا النساء ، وكلهن مزينات بأحسن زينتهن لابسات أفخر ثيابهن على اختلاف ألوانها أبيض وأحمر وأزرق. وحد الستر في لباسهن الثديان فهما مستوران ، وما فوقهما من الصدر والظهر والرقبة والعضد مكشوف بادي. ويسترن بعض العضد إلى نصف الساعد بأكمام ضيقة على قدر العضد ، وقد لا يبلغ المرفق. ويحتزمن على الخصر تحت ذالك الثوب بحزام ضيق لرقة خصورهن ، قيل إنهن يربينه كذالك من سن الصغر بقالب معد له. فخصرها قد يمكن أن تحلق عليه بأصابعك لرقته ونحافته ، ويجعلن الثوب الذي على الخصر ضيقا على قدره ، حتى يكون ذالك الخصر باديا ظاهرا في رقته ولطافته. ويرخين الثوب فيما أسفل من ذالك حتى يعظم به المردف ، ولعله بشيء يجعلنه تحته ، فتصير كما قال الشاعر :

أسيلات أبدان رقاق خصورها

وثيرات ما التفت عليه المئازر

وتسدل ذالك الثوب حتى يستر بنانها ، فلا يظهر من أسفلها شيء بالكلية ، فإذا أقبلت عليك تشتهي أن تمسكها من ذالك الخصر :

قد رق لي خصره المضني فناسبني

فقلت خير الأمور الأنسب الوسط

وقد خفا الردف عني من تثاقله

فقلت هذا على ضعفي هو الشطط

وأما شعرها فإنها تعمد إليه أولا فتسرحه تسريحا جيدا ، ثم تقسمه من مقدم رأسها قسمين حتى تترك ساقية بيضاء بينهما ، ثم تظفره في بعضه بعضا ، ثم تلوي تلك الظفيرة على مؤخر رأسها بصنعة بديعة ، فتكون دائرة مستقيمة تشبه في الشكل فم الرمانة إلا أنها أوسع منه. ثم تركز في وسط الدائرة مشطة من الصدف أو ما

٢٢١

يشبهه مرصعة بأحجار اليامنض ، وربما تلوي مع تلك الذؤابة حبلا من الجوهر وقد تجعل حبلا من الجواهر والأحجار دائرا مع جملة الرأس. وبعضهن يجعلن على رءوسهن خمارا رقيقا من الحرير قد علقت بأطرافه أحجار وجواهر ، وهذا إنما تفعله العجايز. وأما الشواب فيتركن رأسهن مكشوفا في أحسن منظر ، أو بإحكام تسريح الشعر وعطفه على جانبي الناصية ، تبقى الجبهة كأنها القمر ، وتجعل على جانبي رأسها وردتين مصنوعتين معهما شيء من النور وتلصق ذالك مع الشعر.

ويجعلن في عنقهن قلادة من فاخر الدرر النفيس الصافي المحكم الاستدارة ، ثمن الحبة الواحدة منه نحو ستين ريالا. وتجعل على صدرها صفيحة مرصعة بالأحجار النفيسة ، وتجعل في يديها سوارا من ذهب مرصع بالأحجار مع خيوط من الجوهر. وغالب أحجارهم اليامنض الفاخر النفيس الصافي الذي يخطف شعاعه الأبصار. ولا يستعملون من الجوهر رديّه ، وإنما يستعملون اللؤلؤ الصافي المدور. وهذه اللبسة إنما هي عندهن في مثل هذا الموضع حيث يجتمعن للفرجة ، وأما في الأزقة والطرقات ، فإنها تستر جميع بدنها حتى كفيها تجعل لهما غلافين ، وإنما تترك مكشوفا وجهها فقط.

ثم بعد أن اجتمعوا في القبة المذكورة ، حضر أصحاب الآلات والموسيقي ، فتصدر صف من البنات لابسات ثيابا بيضا جالسات على شواليهن بيد كل واحدة كتابها ، وجلس خلفهم الرجال بيد كل واحد آلته ، فأخذوا بالطرب والغنا بلغاتهم.

ويتقدمهم شيخ كبير بيده قضيب يشير لهم به إلى إخفاء الصوت وإجهاره. ويضربون في آلاتهم قليلا ثم يسكتون ، ويجعلون ينظرون في تلك الأوراق التي أمامهم ، ثم يعودون لها وهكذا. والحاصل آلاتهم وغناؤهم لا يطربنا ولا يهزنا ، فبقينا معهم هنيّة ثم انصرفنا عنهم وتركناهم :

في مجلس ضحكت أرجاؤه طربا

لأنه ببديع الزهر مفروش

يقولون هذه أم عمر قريبة

دنت بك أرض نحوها وسماء

ألا إنما قرب الحبيب وبعده

إذا هو لم يوصل إليه سواء

ومن الغد حضّوا علينا في الحضور بتياتروهم ، ولم نكن رأينا قبل ذالك ولا

٢٢٢

عرفناه وتقدم وصفه ووصف لعبه بما فيه كفاية. وأجلسونا في محل الخصوص ، فبقينا نحو ساعتين ثم انصرفنا.

وفي يوم الجمعة عاشر محرم ، أضافنا وزير وزرائهم ، وهو شيخ كبير السن واسمه صلت (١) ، ولم يكن عنده غناء ولا طرب إلا موسيقى أصحاب البواقات والأطبال من عادتهم أن يستعملوها حالة الأكل لتزداد شهوتهم في الطعام ، وكانت خارج محل الأكل. ثم تتابعت علينا الضيافات من وزرائهم ، ولم نكن نذهب إلا لعند من يكون من ناحية السلطان وأهل الدولة.

وفي يوم الأربعاء خامس عشر الشهر ، استدعانا السلطان لليلة الرقص يعملها كل عام في داره في ذالك الوقت. فذهبنا إليه ، فإذا تلك القصور كلها قد امتلأت ببنات الروم البارعات في الحسن والجمال ، متجردات الأجياد والنحور ، رقاق الخصور ، ثقال الأرداف ، عراض الصدر ، يخجلن بحسنهن الشموس والبدور. عليهن من الحلي والحلل ما لا يصفه واصف ولا يضبطه عارف ، قد شمرن عن أذرع كأنهن البرق الخاطف ، يبهرن العقول بلماهن المعسول ، ورشاقة القدود وحمرة الخدود ، وتثني الغصون وتليين المعاطف. ومعهن أضعافهن من الرجال لاكن النساء معتزلات على حدة ، بعضهن جالسات وبعضهن وقوف. ولم يحضر هناك إلا بنت من وزوجة من ومن ، كنساء السلطان وأقاربه ، وسائر وزرائه وعظماء دولته وخواص مملكته ، وليس فيهن فاجرات ولا عاهرت.

وبعد اجتماع الناس تكلمت الموسيقى وأخذوا في الرقص رجالا ونساء ، فيأخذ الرجل بيد المرأة ويجعلان يرقصان رقصا عجيبا ويمسكها من أيديها وهو يرقص معها.

__________________

(١) الجمعة ٩ يناير ١٨٤٦ موافق ١١ محرم وليس ١٠ كما ذكر الصفار. انظر :

J. Mayr and B. Spuler, Wچ stenfeld ـ Mahler؟sche Vergleichungs Tabellen) Wiesbaden, ١٦٩١ (, p. ٧٢.

أما سولت ، فهو نيكولا جان دو ديو سولت (Nicolas Jean de Dieu Soult) الذي شغل منصب وزير للحربية ، وكان رئيسا لمجلس الحكومة ، كما ارتقى إلى مرتبة مارشال فرنسا : Mare؟chal de) (France ، وهو بطل للثورة والحروب النابليونية. كان يبلغ من العمر خلال سنة ١٨٤٦ سبعا وسبعين سنة. انظر :

Dictionnaire d\'histoire de France Perrin, ed., ١٨٩١, s. v." Soult",

٢٢٣

ومن أبلغ أنواع الرقص عندهم ، أن يمسكها الرجل من خصرها ، فيجعل ذراعه على خصرها ويضمها لعنده بلطافة بحيث لا يعصرها ، ويجعل يرقص معها. ورقصهم إنما هو بالدوران والإشارة بالقدمين ، ويرقص النساء وحدهن والرجال وحدهم. وتارة يمسك رجلان امرأة ويرقصان معها ، وليس ذالك عندهم عيبا ولا مخلا بالمروءة ، فترقص المرأة بحضور زوجها مع غيره. وإذا ترادف عليها الرجال بحيث يطلقها هذا ويمسكها هذا رغبة منهم في الرقص معها ، فتنشط لذالك وتفرح له وتعظم في نفسها لكون رقصها معجبا. وقد رأيت السلطان بنفسه واقفا وأولاده ونساء أولاده وبناته يرقصون مع بعضهم بعضا ومع غيرهم ، وهو يفرح لذالك ويضحك (١).

والحاصل هذا عندهم من الفرح الكبير والزهو العجيب ، الذي لا يأتي إلا مرة أو مرتين في السنة. ويبقون يرقصون ساعة ، فتسكت الموسيقى ويفترون للاستراحة ثم يعودون ، وهكذا إلى آخر اليل. ومن أحب من الحاضرين أن يستريح ، خرج إلى بيت آخر معد عندهم للاستراحة فيجلس فيه ، وأما في محل الفرجة فلا يجلس إلا النساء. ومن أراد الشراب أو التفكه بالفواكه أو الحلاوي ، خرج إلى بيت آخر فيه سائر ذالك ومعه خدمة يناولون من أراده طول اليل. حتى إذا فرغوا من الرقص واستقصوا فيه مجهودهم أمسكوا عنه ، فنصبت موائد الأطعمة والطبلات ، بل كانت تهيأ من أول اليل في موضع على حدته. وليس هذا الطعام إلا للنساء ، فاعتزل النساء كلهن على حدتهن في بيوت ، ثم حشدن لموضع الطعام وجلسن على تلك الطبلات فأكلن وشربن. ومن اعتنوا به من الرجال ، أجلسوه في بيوت عالية تشرف على ذالك المحل لينزه لواحظه.

قيل إن جملة من حضر هذه الليلة من الرجال والنساء أربعة آلاف ، النساء منهن خمس عشرة ماية. وكانت صيلان هذه الدار على كثرتها واتساعها مشحونة بالناس في غاية التزاحم والتضام ، بحيث لا يمكنك أن تشق بالمرور في وسطهم. وذكروا أن جملة ما يصرفه السلطان على هذه الليلة عشرون ألف ريال. وأما ما كان يوقد فيها من الشموع والزاجات فالآلافات التي لا تحصى.

__________________

(١) قارن بين هذا الوصف وما كتبه الغساني عند حديثه عن عادات الرقص وطرقه المعروفة عند الإسبانيين. انظر : افتكاك ، ص. ٣٠.

٢٢٤

دار كتبهم (١)

ومن الغد ذهبنا لدار الكتب السلطانية ، أعني خزانتها. وهي دار كبيرة لها أربع طبقات ، في كل طبقة خمسة أو ستة بيوت كبار عالية جدا. وكل جوانب البيوت من الأرض إلى السقف مملوءة كتبا في خزائن من الخشب ، وزيد في وسط البيت صناديق عالية صفا واحدا على طول البيت. وكل هذه الكتب بالتسافير الحمراء الجديدة الجيدة ، مرتبة أحسن ترتيب ، وكل واحد مكتوب عليه اسمه في ظاهر جلدته مما يوالي المواجه له (٢). وكل هذه البيوت في غاية الغاية من النظافة ، لا يوجد فيها زبل ولا غبار ، ولا عنكبوت ولا سوس في الكتب ولا بق ، ولا غير ذالك.

ولها قومة وخدمة يقومون عليها ويحفظونها ، وبيد كبيرهم مفتاح تلك البيوت. ولا يمنعون من أراد الدخول لها ، لاكن يدخل ويجلس في بيت معلوم في وسطه طبلة احتف بها كراسي للجلوس ، ويطلب من قيمها ما شاء من الكتب يأتيه به ينظر فيه هنالك ، وينسخ منه إن أراد ويطالع ما أراد حتى يقضي غرضه ويذهب ، ولا يرخص لأحد في إخراج كتاب واحد منها. وقومتها دائما فيها لا تقلق ولا تحجر ، ويعرفون أسماء جميع ما فيها من الكتب. فمهمى قلت لواحد منهم إيتني بالكتاب الفلاني ،

__________________

(١) يقصد الخزانة الملكية التي أصبحت تشكل اليوم جزءا من الخزانة الوطنية في بنايتها القديمة. أما في المغرب ، فغالبا ما كانت كبريات الخزانات ملحقة بالجوامع الكبيرة كما هو حال القرويين في فاس ، بينما توجد المجموعات الخاصة من الكتب في حوزة أسر كبار الأعيان والأثرياء ، انظر :

(٢) كانت توضع الكتب وقتئذ في خزانات البلدان الإسلامية بطريقة مكدسة ، وتكتب عناوينها فوق الحواشي السفلى لأوراق الكتاب المواجهة للمشاهد بدلا من أن تكون فوق ظهر الكتاب ، انظر :

F. Rosenthal, Techniques and Approach, p. ١١, note ٣.

٢٢٥

ذهب قاصدا إليه وأتاك به في الحين. وفيهم من يعرف العربية (١) ، فإذا دخلها عربي وجد من يفهم كلامه.

وهذه الكتب التي فيها على كل نوع : منها العربي مغربيه ومشرقيه مكتوبا بالقلم ومطبوعا بالاسطنبا ، ومنها العجمي بسائر أجناسه يوناني ولاطيني وهندي وتركي وقبطي وحبشي وفارسي ، وغير ذالك. طلبنا منهم الكتب العربية ، فأحضروا لنا مصحفا عظيما في مجلد كبير يحمله اثنان من الناس بينهما لكبره ، وهو خط مشرقي لم ير مثله حسنا وبهجة ورونقا وكمالا. ولا يوصف ما فيه من الحلية والذهب مما يستحسن أن يكون في خزانة ملوك الإسلام أظفرهم الله به وأنقذه من أيدي الكفرة (٢) ، وهو في غاية من الحفظ والصون ، ولا يلحقه من الأذى إلا مسّ المشركين له. فسألناهم من أين أتوا به ، فذكروا أنهم أتوا به من مصر عند تغلبهم عليها (٣).

__________________

(١) كانت تدرس اللغة العربية في باريز بمدرسة اللغات الحية منذ أواخر القرن الثامن عشر. وكان أبرز المستعربين الفرنسيين خلال تلك الفترة هو سيلفستر دوساسي (١٨٣٨ ـ ١٧٥٨)(Silvestre de Sacy) الذي أصبح في سنة ١٨٢٤ مديرا للمدرسة الجديدة لتدريس اللغات الشرقيةEcole des Langues Orientales. وفيها تكون على يديه العديد من المتخصصين الذين اشتغل البعض منهم في الخزانة الملكية ، وبها أيضا عين دوساسي محافظا لقسم المخطوطات سنة ١٨٣٣ ؛ بينما أصبح البعض الآخر تراجمة رسميين ، مثل أليكس دوكرانج (Alix Desgranges) ، الذي كان يعرف العربية والتركية ، وأسندت إليه مهمة مرافقة البعثة المغربية في باريز. وكان دوساسي يعمل أيضا مفتشا للحروف المشرقية بالمطبعة الملكية انظر :

Henri De؟he؟rain, Orientalistes et antiquaires : Silvestre de sacy, ses contemporains et ses disciples) Paris, ٣٨٩١ (, pp. iii, vi, xvii, ١ ـ ٢١.

(٢) قارن مع ما جاء عند أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي ، المعروف بأفوكاي في كتابه : ناصر الدين على القوم الكافرين ، تحقيق ودراسة محمد رزوق (الدار البيضاء ، ١٩٨٧) «فتغيرت حين رأيت كتاب الله تعالى بيد كافر نجس» ، ص. ٥٠.

(٣) اصطحب نابليون بونابارت معه في حملته على مصر سنة ١٧٩٨ ، مجموعة من العلماء المستشرقين الذين تمكنوا من «اكتشاف» العديد من المخطوطات والتحف الإسلامية الثمينة ، التي انتهى بها المطاف فيما بعد إلى الديار الفرنسية. وكان من بينها هذا المصحف الكبير الحجم الذي ما يزال محفوظا ضمن مجموعات الخزانة الوطنية ؛ وكان موجودا في الأصل بجامع الأزهر في

٢٢٦

وأحضروا لنا مصحفا آخر دونه ومصاحف أخر ، منها مصحف مكتوب في ورقة طويلة في آية الكرسي. وذالك أنهم كتبوا في هذه الورقة آية الكرسي بحروف كبيرة (١) ، وجعلوا حروفها بكتابة دقيقة جدا كتب فيها القرءان العظيم من أوله إلى آخره (٢). ثم أتوا لنا بموطأ الإمام مالك بخط أندلسي في رق (٣). ثم شرح العيني على الجامع الصحيح (٤) ، ثم كتاب يسمى كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (٥) ، وغيرها من الكتب العربية لو تتبعنا النظر فيها لاستغرقنا فيها النهار. ثم أدخلونا سائر البيوت ، وأطلعونا على جميع ما فيها من الكتب في الجملة ، وكيف كان مثال الكتابة أولا وكيف صارت ثانية ، وكثير من أوراق كتابة الأولين.

وفيها زيادة على الكتب كثير من مئاثر القدماء كخواتمهم التي كانوا يتختمون بها والتي كانوا يختمون بها ، ودروع الحديد التي كانت للملوك يلبسونها في الحرب ، والدرقات والسيوف ودبابيس الحديد والشواقر ، وكل شيء من ذلك كان لصاحب له

__________________

القاهرة ، حيث «أنقذ من الحرائق التي اندلعت أثناء ثورة ٣٠ فنديميير (vende؟miaire ١٢) (أكتوبر ١٧٩٨) ونقل إلى فرنسا». انظر :

Bibiothe؟que Nationale; Catalogue des manuscripts arabes, ٢ e؟me partie," Manuscrits musulmans" Tome ١, ٢" Les Manuscrits du coran", ed. F. Deroche) Paris, ٥٨٩١ (, pp. ٠٦ ـ ١٦.

(١) توجد آية الكرسي كما هو معلوم في سورة البقرة ، الآية ٢٢٥.

(٢) يوجد هذا المصحف الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر ، ضمن مجموعات الخزانة الوطنية في باريز. انظر :

Splendeur et majeste؟: Coran de la Bibiothe؟que Nationale) Paris, ٧٨٩١ (, p, ٧٥ entre؟e ٦٢.

(٣) من تأليف الإمام مالك بن أنس ، المتوفى في ١٩٧ / ٧٩٥ ، وهو من فقهاء المدينة المنورة ومؤسس المذهب المالكي ، أحد المذاهب الأربعة المعروفة انظر : SEI ,s.v؟Malik b.Anas ?.

(٤) من تأليف أبي محمد محمود بن أحمد العيني ، وهو شرح لكتاب صحيح البخاري. وعنوانه الكامل : عمدة القارئ في شرح البخاري GAL ,٢ : ٢٥ ـ ٣٥ ;S ٢ ;٠٥ ـ ١٥.

(٥) من كتب التراجم ذات الأهمية الكبيرة. ويحتوي على أزيد من ٥٠٠ ، ١٤ مادة وترجمة. ألفه كاتب جلبي المعروف أيضا باسم حاجي خليفة ، وهو من أبرز علماء العثمانيين خلال القرن السابع عشر (توفي في (١٦٥٧ ، ١٠٦٧). انظر : EI ٢ ,s.v.؟Katib C؟eleb ?.

٢٢٧

معين. وهم إذا ظفروا بحاجة ملك أو كبير أو شيء غريب ، حافظوا عليه وتركوه في خزائنهم عبرة إلى آخر الدهر ، ولم يضيعوه ولا يفرطون فيه. وكثير من سكك القدماء منها ما هو من مثل الحجر أو الحديد ، ومنها غير ذالك ، وكل سكك ملوك الأندلس وملوك المغرب. وكل سكة موضوعة في دارة صغيرة مكتوب عليها اسم سلطانها ومحلها ، فهي منزلة في مثل بيوت الجدول غطيت من فوق بزجاجة لتحفظها. وهناك كثير من أشكال مفاتح الأولين وأثاثهم ، من جملتها قدح من الذهب مرتفع على ساق صغير مرصع بالجواهر والأحجار ، زعموا أنه كان لهارون الرشيد (١) أرسله لهم مكافأة على مصحف كان عندهم ، وبعث له به سلطانهم. وكثير من مئاثر اليونانيين ، وما كانوا يجدونه من قلائد الذهب في قبور الجاهلية (٢) التي كانوا يدفنونها معهم ، إلى غير ذالك من الأمور.

ومن بعد الغد أمر لنا السلطان بسرد العساكر ، واستدعانا للفرجة فيها مبالغة في إكرامنا والاعتناء بنا ظاهرا ، لأنه لا يفعل ذالك إلا لمن هو عنده في حظوة ، وزيادة في تبكيتنا والتنكيت علينا باطنا (٣). فذهبنا حتى وصلنا إلى دار كبيرة ، فأركبوا رءيسنا وبعض فرسانه على الخيل ، وأطلعوا باقينا لعالي تلك الدار ، فأشرفنا على ميدان كبير واسع ممتد ، والعسكر واقفون به يمينا وشمالا ، الخيل لجهة والرجالة في جهة. ولا ترى إلا بريق السيوف ولمعان التوافل ، وإشراف البيضات التي على رءوس البعض منهم ،

__________________

(١) هو خامس الخلفاء العباسيين (توفي في ١٩٣ / ٨٠٩) ، اتسعت شهرته بفضل كتاب ألف ليلة وليلة. وترددت أقوال عن تبادل السفراء والهدايا بين هارون الرشيد وملك فرنسا شارلمان (Charlmagne) غير أن المصادر العربية لا تتضمن أي معلومات يمكن اعتمادها لتأكيد صحة تلك الأقوال. انظر :

Hitti, History of the Arabs, p. ٨٩٢; EI ٢; s. v." Harun Al ـ Rachid".

(٢) تطلق لفظة الجاهلية للحديث عن مختلف مظاهر الحياة التي كان يوجد عليها العرب قبل الدعوة الإسلامية. وقد استعملها الصفار هنا بمعنى العهود التاريخية القديمة. انظر : SEI ,s.v."Djahiliya ".

(٣) أجري ذلك الاستعراض يوم السبت ١٧ يناير ١٨٤٦ ، في موضع يسمى شان دومارس (Champs ـ de Mars). وقد جمعت الفرق العسكرية من باريز وضواحيها لإعطاء صورة إلى السفير المغربي «عن مختلف أنواع الأزياء العسكرية الفرنسية العجيبة» ، فتحركت تلك الفرق «بدقة متناهية أدت إلى استغرابه الكلي وأثارت كل إعجابه». انظر جريدة الإلوستراسيون L\'illustration : ، بتاريخ ٣١ يناير ١٨٤٦ ، وانظر أيضا اللوحة رقم ٩ في هذا الكتاب.

٢٢٨

وشعاع الدروع التي هم لابسونها على ظهورهم وصدورهم.

وكان في صدر الميدان ولد السلطان الأكبر مع باقي إخوته ، فأوقفوا رءيسنا معهم وجعلنا ننظر. ثم تحركت العساكر ، فانزاحت الخيل عن محلها ، وجعلت تذهب إلى طرف الميدان. وتزحزحت أيضا الرجالة ، فبينما هم وقوف ملتصقين ببعضهم بعضا إذا انفصلوا فصاروا أبراجا وجداول مربعة. ثم انفصلوا انفصالا آخر وصاروا جداول وصفوفا ، فأقبلوا لصدر الميدان ليتسردوا هنالك ، فانقسموا على ستة أو سبعة أقسام ، كل قسمة انقسمت أيضا على اثني عشرة قطعة. وكل قطعة على حدتها بكبير يقدمها بيده سيف مسلول ، مشتملة على ثلاثة صفوف ، كل صف فيه أكثر من ثلاثين رجلا ، دون صف أصحاب الموسيقا. فأول من يتقدم من القسمة ويسمونها الطرونبة (١) صف فيه ثلاثة عشر أصحاب الشواقير ، قد علقوا عليهم مكاحلهم وجعلوا شواقرهم على رقابهم ، وعليهم الجلود وعلى رأسهم برنيطة (٢) طويلة سوداء كأنها جلد معز منتفخ. وفائدة تقدمهم إذا عرض في الطريق شجرة أو عود أو غابة ، أزالوا ذالك بشواقرهم وفتحوا الطريق.

ثم يتلوهم أصحاب الموسيقى في صفين يتقدمهم واحد بيده دبوس من حديد ، وخلفه صفان ، كلهم أصحاب الأطبال في كل صف ثمانية عشر. وخلفهما واحد بطبل كبير ، ومعه شخصان بهندقتين (٣) كبيرتين من النحاس يضربان بهما. ثم بعدهم صفوف أصحاب الغيطات ومعهم شخص أو شخصان يحمل عمودا من صفر في رأسه قبة صغيرة فيها جلاجل فيضرب بكفه على العمود فتتحرك تلك الجلاجل ، وذالك من تمام الموسيقى.

ويتلوهم صفوف العسكر كل قطعة على حدتها ، مشيتهم خطوة واحدة يرفعون

__________________

(١) وهذا تحريف من الصفار للمفردة الفرنسية تروب (troupe) ، أي فرقة (المعرب).

(٢) انظر الهامش رقم ١٣ أعلاه ، ومعناها قبعة.

(٣) المعنى واضح من خلال السياق ، ويتعلق الأمر بصفحتين نحاسيتين دائريتين متوسطتين ومسطحتين تضرب إحداهما بالأخرى في الفرق الموسيقية الكبيرة ، واسمها بالفرنسية سيمبال (cymbale) ، وفي العربية : الصنج وجمعها صنوج (المعرب). أما لفظة هندقة التي استعملها الصفار هنا ، فلم نعثر عليها في أي من القواميس وتعني في المغربية الدارجة إحداث ضجيج وهرج ومرج في مناسبة ما قد تعبر عن الفرح أو القرح.

٢٢٩

أرجلهم معا ويضعونه كذالك. ولا يخرج أحد منهم من الصف لا يمينا ولا شمالا ، ولا يفارق موضعه. وإذا وصل الصف إلى ركن الميدان وأراد أن ينعطف إلى صدره ليجعل صدر الميدان عن يمينه ، فيقف الطرف الذي هو من داخل الميدان حتى ينعطف الطرف الذي هو من جهة الركن حتى يستوي الصف ، ثم يتقدمون جميعا.

وفي حال الانعطاف المذكور ، يواجههم كبيرهم الذي يتقدمهم ويمشي القهقرا (١) ، وهو يشير لهم بالدبوس (٢) التى في يده ، يمدها على كفيه يشير لهم بها لتقدم من يريد تقديمه وتأخر من يريد تأخيره. يريهم كيفية الانحراف حتى يستقيموا كلهم ، فيتقدمون جميعا إلى صدر الميدان. وأصحاب الموسيقى الذين يتقدمون أولا ، إذا وصلوا صدر الميدان تصففوا ووقفوا يضربون في آلاتهم حتى تمضي طرنبتهم كلها ، فينصرفون مع آخرها. وهكذا في كل قطعة وطرونبة حتى مروا عن آخرهم. وكلما حاذى كبيرهم الواقفين صدر الميدان ، رد ذبابة سيفه للأرض إشارة للسلام عليهم ، فيردون عليه بنزع البرنيطة من على رءوسهم. ولا يمر آخر طرونبة حتى يكون أول التي تليها في إثرها من غير تراخ ولا فصل ، وكذالك الفصل بين الصفوف يكون متساويا لا تفاوت فيه. وكل طرونبة لها راية ، ورايتهم صغيرة يحملها واحد في طرف صف من الصفوف الأخيرة ، ولا يجعلونها في المقدم. وكان لهم فيها رايات ممزقة بما لاقته من الحروب ، أبقوها كذالك ولم يجددوها افتخارا بما لاقته ، وزيادة رفعة لأهلها ولمن يحملها حيث صبر عليها.

وكان يمر مع بعض القطع في آخرهم امرأة لابسة لباس العسكر تمشي بمشيتهم ، معلق عليها صندوة صغير من الشراب له بزبوز من عطش سقته. ومعهم أيضا طبيب خلفه خادمه ومتعلمه ومن يحمل له آلة طبه. وكل عسكري حامل قرابا (٣) خلف

__________________

(١) هكذا : في النص الأصلي للرحلة ، والصحيح هو القهقرى (المعرب).

(٢) جمعها دبابيس ، وهي عصا قد تكون من خشب أو من حديد طولها قدمان تقريبا وفي رأسها شيء متميز كالكرة أو مشابهها ، بالفرنسية (massue) ٤٢٣ : ١Dozy. غير أن الصفار يعني بها هنا العصا التي يستعملها رئيس الفرقة الموسيقية لتسيير أعضائها (المعرب).

(٣) القراب في اللغة هو الغمد وجمعه أقربة. وفي المغرب نوع من القفف ذات شكل دائري تسمى القراب بتسكين القاف. ويقصد بها الصفار هنا ما يشبه الكيس أو الحقيبة الصغيرة التي يحملها الجنود فوق أكتافهم. ١٣٣ : ٢Dozy (المعرب).

٢٣٠

٢٣١

ظهره فيه ما يمكنه حمله من مأكول وغيره. وعلى فم ذالك القراب ثوب مقنط لعله فراشه ، وبيده مكحلته وعليه سيفه. ويعلق عليه أيضا ما يجعل فيه البارود والقراطيس وإقامات الحرب. وهذا كله مبالغة في الحزم ، فإذا أمره كبيره بالسفر ، يجد نفسه مستجمعا لكل ما يحتاج إليه.

ثم بعد أن مرت جموع الرجّالة ، تلتهم أصحاب المدافع ثم الفرسان. وكان عندهم هنالك أربعة وعشرون مدفعا من مدافع الاثني عشر ، كلها تشرق لصقالتها وصفائها ، في أربعة صفوف. كل صف فيه ستة مدافع ، وكل صف من المدافع يتلوه صف آخر يحمل إقامتها في ربيعتين (١) لكل مدفع. وكل مدفع على كريطته يجرها ستة من الخيل ، اثنان أمام اثنين. ولكل مدفع عشرة من الطبجية يباشرون عمارته وإخراجه وجره ، ثلاثة منهم راكبون على ثلاثة من الخيل ، وباقيهم راكب على المدفع وعلى كراريط إقامته ، ويعلق على كل كريطة فردة كريطة أخرى يحملونها احتياطا ، ليلا ينكسر لهم شيء من ذالك ، فيجدون خلفه قريبا حاضرا ، حتى مرت صفوف المدافع كلها بإقاماتها.

ثم أقبلت الخيل تتلوهم ، انقسموا أيضا أقساما وقطعا كما تقدم العسكر الرجلى. وأول من يتقدمهم أصحاب الموسيقى راكبين على خيولهم ، لاكن إنما هم أصحاب الغيطات وليس فيهم أطبال. وهاؤلاء الخيالة أنوع : منهم طائفة بأيديهم سيوف مسلولة ومكاحلهم قصار معلقة عن يمينهم. ومنهم طائفة بالرماح فقط ، في رأس كل رمح رقعة صغيرة مثلثة اللون بيضاء وحمراء وزرقاء ، يرى لها خفقان واضطراب من بعيد ، زيادة في الإدهاش والإرهاب ، يفزعون بها كما يفزعون ببريق السيوف المسلولة والتوافل والبيضات التي على رءوسهم. ومنهم طائفة بالبيضات على رءوسهم (٢).

__________________

(١) مفردها ربيعة بتسكين الراء ، ومعناها هنا صندوق يستعمل لحفظ البارود ، واستعمال هذه اللفظة شائع في العامية المغربية. التي غالبا ما تعني صندوقا من حجم صغير يحتفظ فيه بالأشياء الثمينة. لكن من الممكن أن تكون الربيعة كبيرة الحجم ، كما هو حال الصندوق الذي يوضع في أضرحة الأولياء لتجمع فيه الهبات النقدية المقدمة من طرف الزوار. انظر : Harrell ,p.٣٢١

(٢) أشار ابن خلدون في المقدمة إلى مدى وقع التأثير النفسي للرايات والموسيقي أثناء المعارك ، فقال إن الهدف من «نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون» هو إرعاب العدو. وأضاف قائلا : «إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك ، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه [...] لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية». المقدمة ، النسخة العربية سابقة الذكر ، ص ٢٥٨.

٢٣٢

ومنهم طائفة أخرى لابسين الدروع على صدورهم وظهورهم. كما أن العسكر الرجلى أيضا كذالك ، كل طائفة لها عمل خاص من مباشرة الحرب ، قائما أو راقدا على جنبه ، وإطفاء النيران إن وقعت في العسكر ، وهكذا حتى مروا عن آخرهم.

ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل نارا ، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتيبهم ، ووضعهم كل شيء في محله ، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم ، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم ، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين ، إنما ذالك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب ، واتباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم.

إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها ، سواء كان رفيعا أو وضيعا. وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوه درجتها ، لا يطمع أحد منهم في غير ما هو له ، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه. فعلى ذالك يبدلون مهجهم في المعارك ، ويلقون بأنفسهم في المهالك. ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب ، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم ، وما راء كمن سمع الخ. اللهم أعد للإسلام عزته ، وجدد للدين نصرته بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الغد وبعده ، ذهبوا بنا لقصرين من قصورهم السلطانية ، أحدهما يسمى باليرويال (١) ، والآخر يسمى لوفر (٢) ، وكل منهما قصر عظيم ضخم مشيد. فالأول مشتمل على أثاث البيت كله عندهم التي يكون عند الملوك ، لاكنه غير مستعمل بل مستور محفوظ مصون يتعاهده الخدمة كل وقت وهو فارغ لا يسكنه. وفيه أثاث سلطانهم المتولي الآن وتصاوير أقاربه وأحواله ، وكيف كان في أول نشأته وبعد ذالك إلى أن تولى المملكة.

وأما قصر لوفر ، وهو قريب من القصر الآخر ، فهو فارغ لا يسكنه أحد ولا أثاث. وفيه من التصاوير والثماثيل ما لا يحصى : منها أجسام من الحجارة ونحوها ، ومنها نقوش ورقوم. فكان هناك كثير من صورتي مريم وعيسى بزعمهم ، وتصاوير صور الماضين من سلاطينهم وتصاوير صور اليونانيين ، ومنهم سقراطس وفلاطون الحكيمان ، وصور أصحاب الطوفان ورجالهم حين وصل إليهم الماء وهم يتعلقون

__________________

(١) ويقابلها في الفرنسية (Palais Royal).

(٢) ويقابلها في الفرنسية (Le Louvre).

٢٣٣

بالشجر ، وبعضهم يتعلق ببعض.

وبناء هذا القصر من أرفع ما يكون وأبدعه. ومن جملة ما فيه ، أثاث وحوائج من آثار القدماء. ومن جملة ما فيه ، ذوات أموات مصبرة بعد طلائها بأنواع الأطلية التي تصبر معها الذات. وهي مكفنة بثياب فيها رقم وتخطيط ، وجعلوا لها في ظاهر الكفن وجها له عينان كبيران وحاجبان سوداوان كأنه شخص حي ، زعموا أن هذه الأجسام توجد بمصر. وكان أوائل أهل مصر ، إذا مات لهم ميت فعلوا به ذالك وتركوه في داره ، ولا زالوا يوجدون بمصر تحت الأرض. وأخبرني بعض من حضر منهم ، أنه قبل ذالك بعام حضر للفتح على ذات منهم اشتراها واحد منهم من مصر وقدم بها ، فحلّ عنها ذالك الكفن بعد معالجة شديدة لأنه كان مطليا بالقار ، فألفوها ذات امرأة وهي عندهم في هذا المحل. منها ما هو ممدود على صناديق في وسط البيوت ، ومنها ما هو في خزانة واقفا.

ورأيت الكلام عليها في تأليف صغير من تئاليفهم في التاريخ ، وأن أهل مصر كانوا يفعلون بها ما ذكر ليلا يغيب عنهم الميت. وكان الواحد منهم إذا استسلف مالا من أحد أو ابتاع منه بدين ، رهنه صورة من تلك الصور كصورة أبيه أو بنته ونحو ذالك إلى أن يؤدي الدين فيردها ، ولا يسمح فيها ويتركها ولو فداها بنفسه (١).

ومن جملة ما في هذا البيت ، بيوت عديدة في طبقة من طبقاتها فيها تصاوير مراسي بلادهم ، وقدر كل واحدة وعمارتها وما تتميز به عن غيرها. وفيها أمثلة أنوع المراكب حقيقة لا تصويرا ، بل هي مراكب صغار كمثال البابور والنابيوس الكبير عندهم والذي دونه والفراكط وبابور البر ، وكيفية إنشاء المركب من أول مرة ، وأين يوضع وهكذا. وكل مركب بإقاماته وصواريه وأحباله وسلاسله ، وغير ذالك من إقامته وإن كان صغيرا. وفيها كثير من آلات الحرب القديمة ، كالأقواس والدرقات والدروع والرماح وغير ذالك. وفيها أمثلة المدافع كبارا وصغارا ، نظير ما ذكر في المراكب ، ففيها من ذلك ما يستحسن النظر إليه. والحاصل هو قصر مشيد ضخم ظريف مزخرف ، لو لا كثرة ما فيه من التصاوير فإنها تقبح حسنه.

__________________

(١) خلال عصر البطالسة ، وفي مدافن الأموات حيث كانت تحفظ المومياوات الملكية ، كان بإمكان الكهنة أن يولوا اهتمامهم للمومياوات التي كان «يمكنهم التصرف فيها بالبيع والشراء بموجب عقد أو ما إليه». انظر : Encyclopaedia Britannica ,١١ e؟me ed."Mummy "

٢٣٤

دار الفزك

وفي غد ذاك اليوم ذهبنا لدار من ديار تعلمهم يسمونها دار الفزك (١) ، وهو اسم علم عندهم ، ويترجمون عنه بعلم الطبائع وبعلم الكيمياء. ومداره على علم معرفة طبائع ذوات الأشياء ، كجذب المغناطيس الحديد وتموج الهواء بالصوت الذي يسير فيه ، وغير ذلك مما لم نعرف له اسما. وفي هذه الدار آلات غريبة وأشكال عجيبة (٢).

__________________

(١) إن كلمة فزك من تعريب الصفار ، أخذها عن لفظة (physique) الفرنسية. وقال إنها تعني «علم دراسة الأشياء الطبيعية» ، غير أن واقع الأمر استعمل المصطلح بمفهوم أوسع ، يشمل في معناه «العلوم التجريبية» حيث عاين الصفار إجراء تجارب في الكهرباء السكونية والضغط والموجات الصوتية والتكبير الظاهري بواسطة العدسات المكبرة. وقدم الطهطاوي للصفار مساعدة طفيفة في الموضوع ، على الرغم من إشارته إلى أن الكيمياء كانت من العلوم الموجودة في فرنسا ، فقال إنها تهدف إلى «معرفة تحليل الأجزاء وتركيبها (...) وليس المراد بالكيميا حجر الفلاسفة كما يظنه بعض الناس فإن هذا لا تعرفه الإفرنج ولا تعتقده أصلا». تخليص ، ص. ٢٢ ؛ .. ٥٧.L\'or ,p واستعمل خير الدين التونسي أيضا مصطلح الفزك بالمعنى نفسه ، أي التجارب العلمية ، انظر :

Khayr ad ـ Din at Tunisi) trans. Brown (, The Surest Path, p. ٩٠١ note ٢١١.

وكانت «دار الفزك» تسمى وقت وجود الصفار في باريز : كونسرفتوار دي زار إي ميتيي (Conservatoire des Arts et Me؟tiers) ، أو معهد الفنون والصنائع ، وتعرف اليوم باسم آخر هو : موزي ناسيونال دي تكنيك (Musse؟e National des Techniques) أو المتحف الوطني للتقنيات حيث لا تزال جل الآلات التي شاهدها الصفار. انظر :

AAE / ADM / Voyages" Visites dans Paris".

(٢) إلى حدود أيام محمد الصفار ، لم تكن العلوم في المغرب قد عرفت أي تطور يستحق الذكر منذ زمن ابن خلدون. لكن غياب التجديد لم يكن يعني عدم وجود اهتمامات بالقضايا العلمية ، لأن الطلبة استمروا مع ذلك في دراسة النصوص القديمة الموروثة عن قرون خلت ، لاحتوائها بصفة أساسية على قضايا علمية في مواضيع تتعلق بممارسة الشعائر الدينية ، كما كان حال علم الفلك لضبط أوقات الصلاة ، والهندسة لتحديد اتجاه القبلة في المساجد. انظر :

H. P. J. Renaud," L\'enseignement des sciences exactes et l\'e؟dition d\'ouvrages scientifiques au Maroc avant l\'occupatin europe؟enne", Hesp. ٤١, ١) ٢٣٩١ (: ٨٧ ـ ٩٨.

٢٣٥

فأول ما لقينا فيها دائرة مربعة من قنانيط صفر واقفة على سوقها ويتصل بها غير ذالك من الحركات من أعلاها (١). وفي وجه منها زجاجة كبيرة على شكل دائرة الناعورة تحرك تلك الزجاجة بيد كيد الناعورة ، فتدور كما تدور الناعورة. فإذا دورت هذه الزجاجة وقرب شخص يده من تلك القنانيط ، خرج له منها مثل البرق في لونه وسرعته. إلا أنه نقط نقط مترادفة ، فتؤثر في يده كأنما ضرب بشيء يؤلمه ضربة سريعة ، لاكن لا يبقى لها بعد ذالك أثر وجع ولا غيره كما يبقى من أثر الضرب الحقيقي.

وأعجب من هذا ، أنه وقف شخص في حال تدوير الزجاجة ، فأمسك بيده كرة من صفر متصلة بالقنوطة المواجهة للزجاجة ، فجعل شعر رأسه ينتفش ويقف شعرة بعد شعرة ، وأمسك تلك الكورة بيده اليمنى ، ومد يده اليسرى متباعدة منه ، فقرّب شخص منها يده ، فخرج له من تلك اليد الممدودة ذالك البرق الذي كان يخرج أولا من القنانيط. مع أن الماسك لا يتأثر بشيء من ذالك ولا يخرج له ، ولا يقال إن للواقف الماسك حيلة في عدم تأثره بذالك ، فإنه وقف واحد منا وأمسك تلك الكرة بيده فلم يتأثر بشيء. وقرب منه شخص آخر ، فخرج له من يده نقط النار المذكورة. وتلك القنانيط مسدودة من كل جهة ، ويزعمون أن ذالك مثال لبرق السماء ، وأنه ينشأ عن انضغاط الهواء بعضه ببعض ، كما تنشأ النار عن الانضغاط الواقع بين

__________________

وكان الصفار نفسه شديد الاهتمام بعلوم التوقيت كما يخبرنا بذلك محمد داود ، تطوان ٧ : ٩٣. وسبق للفقيد الأستاذ محمد المنوني أن أطلع سوزان ميلر على نسخة لمخطوط تحت عنوان : نصرة بعض المتأخرين لمحراب مسجد القرويين ، مكتوب بخط محمد الصفار ، وهو في موضوع اتجاه القبلة بجامع القرويين في فاس ، وزارة الثقافة ، جائزة الحسن الثاني للوثائق والمخطوطات لسنة ١٩٧٣ ، رقم ٢٢٠.

(١) استعمل الصفار لفظة «حركة» بمعنى قوة محركة ، إشارة بذلك إلى مختلف الأشكال الجديدة والغربية لأنواع الطاقة الكهربائية والبخارية والميكانيكية المستخدمة وقتئذ لتشغيل عدة آليات في فرنسا. أما لفظة «قنوطة» ، فأصلها من الإسبانية (canete) ، وتعني في اللهجة الدارجة التطوانية البكرة من الخشب أو القصب التي يكبب فيها الخيط أو الحرير بشكل يجعل استعمالها هينا عند الحاجة. الخطابي ، مشاهدات ، ج ٢ ، ص. ٤٣ ، الهامش ١٧. وهنا يقدم الصفار وصفا مفصلا لتجربة في الكهرباء السكونية.

٢٣٦

الحجر والحديد.

ثم انصرفنا عن هذا ووقفنا في موضع آخر ، فرأينا فيه لوحة مجوفة وفي داخلها حركة. ويمتد من جانبيها خيطان فيهما ليّ وتجعيد كأنهما من سلك الحديد ، لفّ عليهما خيوط أخر من الحرير أو نحوه ، وفي طرف هذين الخيطين قنوطتين صغيرتين من نحاس ، فإذا حركت الحركة التي في باطن اللوحة حدث في الخيطين ارتعاد واضطراب ، فإذا أمسك شخص القنوطتين اللتين في طرف الخيطين مع تلك الحركة ، ارتعدت عروق يده من داخل ارتعادا لا يقدر أن يصبر معه ، فيرسلهما من يده في حينه. وزعموا أن تلك الحركة تمتد ما امتد الخيطان ولو إلى أقصى البلاد ، فمن أمسكهما وحركت الحركة ارتعدت عروق يده ولو كان بينه وبينها مسافة بعيدة. وفائدة ذالك الإعلام بالخبر كما سيأتي قريبا.

ثم عمد شخص منهم إلى لوحة في وسطها جعبة صغيرة نافذة ، ولها طراشة (١) تغلق بها وتفتح ، فجاء بزجاجة على شكل قادوس صغير إلا أنها غير نافذة ، فقلبها على اللوحة وصارت تلك الجعيبة في وسطها ، وأحكم إنزال الزجاجة على اللوحة بحيث لم يبق من بين حواشيها وبين اللوحة متنفس ، ثم فتح تلك الجعيبة وأطلع فيها النفس بئالة حتى ريء بخاره خارجا من فم الجعبة يدور داخل الزجاجة وينزل إلى تحت. ثم أغلق الجعبة واستحكم ذالك النفس داخل الزجاجة ، فلزقت الزجاجة مكانها حتى لا يقدر أحد أن يرفعها ، ولو استعان بغيره من ثقل الهواء الذي هو داخلها ، حتى يتنفس ذالك الهواء وحينئذ ترتفع. وذالك عندهم مثال لكون الهواء إذ لم يجد منفذا ، فإنه يثقل على ما نزل عليه ثقلا لا يقدر معه على النهوض والتحرك.

ثم انصرفنا من هذا الموضع فوقفنا في موضع آخر ، فأتى شخص بلوحة من نحاس صغيرة ، وشدها بلولب يدخل في وسطها وتنزل عليه مرتفعة عن الأرض حتى لا يبقى لها الطنين ، ثم درّ عليها رملا أسود رقيقا وعمد إلى قوس كقوس الكمنجة وأصلحه وجعل يجر على حرف تلك اللوحة فيسمع لذالك صوت حاد. وجعل ذالك الرمل يضطرب وتحدث له أشكال ودوائر كأنما صنعت باليد ، ولا يصنعها

__________________

(١) سبق شرح معناها في الهامش رقم ٥٤ في الصفحات السابقة من هذا الكتاب.

٢٣٧

إلا عارف بالدّابد (١) والآلة وهذا مثالها بإشارة :

هكذا في الجملة ، وإلا فهي أتقن من هذا وأحسن. ويزعمون أن ذالك الطنين هو الذي أحدث تلك الأشكال والدوائر. وذالك عندهم مثال لكون الهواء يتموج بالصوت ، ويحدث فيه بالصوت هالات تنتشر مثل ما حدث في الرمل من ذالك الصوت ، فهو مثال لإدراكه بالحس. ومثله أيضا إذا ألقيت حجرا في الماء ، فإنه يحدث في الماء أدوارا وهالات ، وتنتشر حتى تبعد عن النظر. ومقصودهم بذالك أن يتوصلوا به إلى معرفة المدة التي يبلغ فيها الصوت من موضع إلى موضع.

ولهم في هذا المحل آلات كثيرة على ضروب مختلفة وأشكال متباينة ، ولا يعرف نتيجة ذالك إلا هم. ومن جملة ما رأيناه في هذه الدار ، آلة تكبر الذوات الصغيرة ، أي تصيرها كبيرة في رأي العين. وذالك بأن أغلقوا بيتا وجميع ما فيه من الطيقان حتى صار مظلما ظلمة حالكة ، وأتوا بنحو فنار ، إلا أنه ليس من الزجاج بل من الخشب أو النحاس ، وفيه ثقب صغير عليه زجاجة صغيرة جدا قدر الأنملة ، وأوقدوا في داخله قطعة شمع وأغلقوه ، وجعلوا ذالك الثقب قبالة الحائط ، فيضعون شيئا وإن كان دقيقا جدا على تلك الزجاجة ويلصقونه فيها بما يمكن أن يلصق به ، فينطبع في الحائط في ضوء تلك الزجاجة أعظم ما يكون وأكبره. فكان يظهر في شوكة النحلة سبعة أشبار وتظهر كأنها شطبة. ووضعوا عليها القملة فظهرت كالنسر ، ووضعوا عين

__________________

(١) أصله الضابط ، وهو أداة حديدية أو خشبية يستعملها بعض الحرفيين أو الصناع ، فحرفت إلى دابد للتخفيف. الصبيحي ، معجم ، ص. ١١٦ (المعرب).

٢٣٨

الذبابة فظهرت كالغربال الكبير وكلها ثقب كثقب الغربال. ووضعوا عليه لسان ضفدع صغيرة فانطبع في الحائط أعظم ما يكون ، وظهرت عروقه كلها كبيرها وصغيرها ، ويظهر الدم يجري في تلك العروق ذاهبا وراجعا في أسرع ما يكون ، كأنما هدمت قرية نمل دقيق فتراه يجوح في بعضه بعضا. ثم وضعوا قبالها خمير دقيق طال شيئا ما حتى تغيرت رائحتها ، فظهر فيها دود أمثال كبار الحنوش تكعكع وتلتوي على بعضها بعضا ، وفي خارج ذالك لا يظهر فيها شيء. ويضعون هناك قطعة لحم من لحوم الحيوانات ، ويرون ما حدث فيها من التغيرات.

ثم فرغوا من هذا وأتوا بزجاجة نافذة من جهتين ، في أسفلها عمود من حديد ، وينزل عليه من فوق عمود آخر ويلتقيان برأسيهما ، وفي طرف كل عمود منهما شريطة من نحاس ، وتتصل الشريطة بعمل وأوان وحركات. فإذا التقى العمودان برأسيهما ، حدث من بينهما نور عظيم أضاء له ذالك البيت مع شدة إظلامه ضوءا عظيما. وقالوا لو أرادوا أن يجعلوا هذا فوق محل عال من باريز ترى منه باريز كلها لأضاءت بذالك كلها ضوءا يغني عن الفنارات. ثم وضعوا بين رأسي العمودين قطعة فضة فذابت بسرعة ، ووضعوا فيه معدنا آخر زعموا أن النار لا تعمل فيه شيئا فذاب بسرعة. وإذا والت إحدى الشريطتين الأخرى ، خرجت من بينهما نار مثل البرق. وإذا أمسكها أحد بيده وبلّه بالريق ، ارتعدت عروقه من داخل حتى لا يصبر ويرسله بسرعة. وإذا أفسخوا تلك الشريطة من العمل الذي هي متصلة به ، لم يبق فيها شيء من ذالك. وهذا العمل أواني صغار من الحديد متصلة ببعضها بعضا بقطعة نحاس صغيرة ، جملة منها في ناحية وجملة في ناحية قبالتها ، وإحدى الجملتين منفصلة عن الأخرى ، ويربط من كل عمل شريطة من الشريطتين المذكورتين ، فيخرج منهما ما ذكر. وانظر ما في تلك الأواني من الحكمة.

ومن أعجب ما رأيناه في هذا المحل وأغربه ، حركة يصل بها الخبر من محل إلى محل في لحظة ، وإن كان بعيدا مع استيفائه واستيعابه لأنها بالكتابة (١). وبيان ذلك

__________________

(١) كان التلغراف الكهربائي لا زال يخطو خطواته الأولى أنذاك. وفي سنة ١٨٤٤ صوت البرلمان على ميزانية لإنشاء أول خط تلغرافي بين باريز وروان (Rouen) ، غير أن استعماله لم يصبح رهن إشارة عموم الفرنسيين إلا مع حلول سنة ١٨٥١.

La Grande Encyclope؟die Larousse, ed ٦٨٨١., s. v." Te؟le؟graphe"; Pinkney, Decisive Years, p. ٨٥ ـ ٩٥.

٢٣٩

أنهم جعلوا دائرة من صفر مصمتة كوجه المكانة ، وبسطوها ورشموا في دائرتها الحروف كلها وحركاتها من فتحة وضمة وكسرة لأنها عندهم حروف أيضا. وهذه الدائرة مسمرة في كرسي منزلة عليه مبسوطة ، وفي جانب كرسيها الذي هي منزلة عليه ثقب بعدد الحروف ، تحت كل حرف ثقب. ثم عملوا قبالتها دائرة أخرى فيها الحروف كلها أيضا ، إلا أنها قائمة لا مبسوطة ، وفي وسطها موري (١) يصل رأسه للحروف. ووصلوا بين الدائرتين بخيطين ، أحدها من جانب والآخر من الجانب الآخر ، وكأن الخيطين من سلك فيهما تجعيد.

فإذا أراد المتكلم أن يتكلم مع صاحبه بكلمة ، عمد إلى أول حرف منها في الدائرة المبسوطة ، فغرز إبرة في الثقب الذي تحت ذالك الحرف ، ويدورها حتى يحصرها خازوق (٢) هنالك. وفي حال حركة هذا الحرف ، يتحرك الموري الذي في الدائرة الأخرى ، فيجعل يدور حتى يصل لذالك الحرف فيقف عنده ، ثم يشير لحركته فيشير لها الموري أيضا ، وهكذا فكلما أشار الأول لحرف ودور الدائرة الأخرى لذالك الحرف حتى يقف عنده. وهكذا حتى يستوعب ما شاء من الكلام مع صاحبه ، مع فهم كامل وتبليغ تام في أبلغ سرعة. زعموا أنه لو اتصلت هذه الحركة بين هاتين الدائرتين ، لوصل الكلام من الأولى للثانية إذا كان بينهما ماية ألف وخمسة عشر ألف ساعة في ثانية من الثواني التي هي سدس عشر الدقيقة. وهذا أمر يكاد يحيله العقل ، لاكن من شاهد ذالك لا ينكره. اختبرناه بكم من كلمة ، فإذا أشير إلى الحرف في الدائرة الأولى ، لم ندرك أن ننقل بصرنا منها إلى الدائرة الثانية ، حتى يكون الموري قد وقف عند الحرف المشار إليه. وزعموا أنهم وصلوا هذه الحركة من باريز إلى أورليا (٣) وبينهما تسعون ميلا. وأنها عندهم أيضا موصلة من

__________________

(١) لا يعرف أصل هذه الكلمة ، غير أن معناها واضح من خلال السياق ، والمقصود بها هنا هو المؤشر الشبيه بعقرب الساعة (المعرب).

(٢) جاء تعريفه عند البستاني كالتالي : «عبارة عن وتد طويل حاد الرأس كان يستعمل من جملة العقوبات لمن يستحق القتل [...] وذلك بأن يدخل في إست المحكوم عليه فيخرق أحشاءه ويصعد في جوفه» ، أورده الصبيحي ، معجم ، ص. ١١٥. أما معناها هنا فواضح من خلال السياق ، فهو بمثابة قضيب حديدي يلعب هنا دور الحاجز (المعرب).

(٣) أي أورليان ، وبالفرنسية هكذا (Orle؟ans).

٢٤٠