رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

فرانسا كلها حرم لا تهتك ولا يتعدى أحد على ملك آخر (١). ومن فعل عوقب عقوبة معلومة عندهم لا شفاعة فيها ، ولا يقدر أحد أن يدفعها عنه. وقد رأينا في بعض الطريق زربا (٢) صغيرا فاصلا بين الطريق والملك ، فأخبرنا بعض من كان معنا أنه علامة على الحد بين الملك والطريق ، فمن تخطاه برجل واحدة سجن خمس سنين ، ومن وقع خلفه بكله سجن خمسة عشرة سنة. ولذلك لا تجد عندهم إنسانا ولا دابة هائمة في ملك أحد ولو كانت أرض مرعى ، فإنما يتصرف فيها ربها لا يشاركه فيها غيره. مع أن ماشيتهم لا تسرح إلا نادرا ، واعتمادها إنما هو على العلف. وكل أحد يزرع في ملكه ما يقضب للعلف والأكل طول السنة يعمله لنفسه أو للبيع ، ولم نر عندهم مراعي ينبت فيها الكلأ وحده كما عندنا بالمغرب.

ومن استفادة أشجارهم المذكورة الخشب العظام التي تصلح للأعمال والأبنية ، والورقة التي يصنع بها الأبواب والصناديق ، وغير ذالك مما يصنع من الخشب كالمراكب والفلائك وصواريها وغير ذالك. ويحتالون على الشجرة من صغرها حتى تطلع مستقيمة وتكون عمودا واحدا ، فتصلح للصواري ونحوها. واحتياجهم في البناء للخشب أكثر من غيره ، لأن الفصل بين البيوت إنما يكون بالخشب المطلية بأنواع الأطلية لا يعرف أنها خشب إلا بعد التأمل ، ولا يبنون بالحجارة إلا الجدرات الخارجية.

ولهم في غرس هذه الأشجار التي في البراري ترتيب وتصفيف عجيب في غاية

__________________

مدلول المصطلحين ؛ فيعتبرون الشريعة مجمل القوانين السماوية الثابتة ، بينما يدخلون في إطار «القانون» مختلف التقنيات التنظيمية القابلة للتغيير والتي وضعها بنو الإنسان ، حتى تكون قابلة لمسايرة المستجدات بصفة عامة ، وليس هناك أي تناقض بين الاثنين وإن كانت مصادرها الأصلية مختلفة تماما ، انظر :

A. Hourani," Aspects of Islamic Culture : Introduction", in Naff and Owen, Studies, pp. ٦٦٢ ـ ٧٦٢.

(١) لاحظ الصفار غياب الأراضي الجماعية التي يسمح فيها لعامة الناس برعي ماشيتهم وجمع العلف لفائدتها ، كما كان معهودا وقتئذ في البوادي المغربية.

(٢) «الزرب» ، وهي أغصان شائكة تستعمل سياجا للحقول والممتلكات الخاصة ، أو وسيلة لحصر الماشية في البوادي ومنعها من التنقل. انظر : ٥٨٤ : ١Dozy (المعرب).

١٤١

من الإتقان ، فيجعلونها صفوفا متساوية وخطوطا متوازية ، لا ترى واحدة خارجة ولا بارزة عن أختها في الصف. فترى زقاقا طويلا جدا بين صفي الشجر المتوازية ، ليس فيه اعوجاج ، وصف الشجرة من هاهنا وهاهنا كأنه ذات متصلة في غاية الاستقامة. ويجعلونها جداول وخطوطا وعلى أشكال شتى ، وبسبب إتقانها في الغرس والإنزال ، لا يمنع غرسها من عمارة باقي الأرض بالحرث ونحوه. وفي الغالب لا يتركون الفدان أبيض كله ، بل يغرسون أطرافه بالأشجار ، وحيث تكون في الطرف لا تمنع من عمارة الوسط.

ولهم اعتناء تام واهتبال واهتمام بدوالي العنب ، حتى أن بساتين العنب عندهم ربما كانت أكثر من أرض الحرث وذالك لولوعهم بالخمر ، إذ هو من ضروريات عيشهم ، ولو أريقت خمرهم لفاضت منها البحار. وأما الحرث فعندهم منه حظ وافر يكفيهم إن كان صالحا. وفي حوز باريز محاريث جيدة ، وقمح باريز في غاية البياض والصفا.

ومن قوانينهم في الزراعة أن بيلكهم يعطي عطاء معلوما عندهم لمن ظهرت على يده مزية لم يات بها غيره من الفلاحين ، ترغيبا منهم للزارعين في أن يجتهدوا في الحرث والازدراع ، وأن يأتي كل منهم بما يفوق به غيره في الزراعة. ومن قوانينهم أيضا ، أنه إذا جاءهم في برهم ما يكفيهم من الزرع فيمنعون من دخول غيره من خارج بلادهم. حتى إن جاء من جهة أخرى ليطحن في بلادهم ويخرج ، فيكون دخوله وخروجه بالوزن ليلا يبقى منه شيء في بلادهم ، وذالك ليلا تكسد زروع رعيتهم الذين يحرثونها ، فيزهدون في الحرث فيعود عليهم الضرر. وإن كانت الغلة ناقصة ، أباحوا دخوله من الآفاق ، وتسامحوا في عشوره (١) ليكثر جلبه من الآفاق. وأرضهم على الجملة ليست أرض خصب وكلإ كأرض المغرب ، إنما هي أرض صلبة قرعة خشنة ، لولا دوام النبش فيها والتزبيل (٢) والخدمة وعدم وطء المواشي والأرجل

__________________

(١) «العشور» ، والمقصود به عشر الانتاج السنوي المفروض أداؤه من طرف جميع المسلمين تطبيقا للتشريعات السماوية. وفي المغرب ، حيث كانت تقاس المداخيل أساسا بقطعان الماشية أو بالمحاصيل الزراعية ، كان يساوي «العشور» عشر المحصول السنوي من الحبوب. انظر مادة «عشر» في : SEI ,s.v."Ushr "

(٢) المقصود بالتزبيل هنا ، إغناء الأرض وتقوية تربتها بوسائل التخصيب المعتمدة أساسا على روث البهائم وحتى براز الإنسان أو ما شابه ذلك من المواد المخصبة للأرض (المعرب).

١٤٢

لها ، لما أخرجت ما تخرجه من الثمار وغيرها بما ذكر. ولم نر عندهم شيئا من النباتات والعشب التي تكون عندنا في فصل الشتاء.

ورأينا في هذه الطريق أيضا كثيرا من الأودية والأنهار ، وكلها تسافر فيها المراكب والفلائك وبابورات النار. ومراكب الأنهار عندهم طوال ممسوحة القيعان ، إذ ليس في النهر من العمق مثل ما في البحر ، لكن ما ينقص من عمقه يزاد في طوله. وسواء في ذالك النهر الكبير والصغير ، لأنه وإن كان لا يمكن أن تسافر فيه المراكب لقصر عمقه ، فإنهم يحفرونه ويعمقونه ويعتنون بتصفية مجراه على قدر ما يمكن فيه سير المراكب. ولا يقتصرون في الأنهار على ما انشق بنفسه بل يحدثونه ويحفرونه. فإذا كان نهران متقابلان ولا اتصال لأحد بالآخر ، فإنهم يشقون بينهما نهرا آخر صغيرا ليتصلا ، حتى تصل المراكب من هذا لهذا. ولا تجد عندهم نهرا منهارا جرفه ولا ذاهبا في غير مجراه ولا غير ذالك من التفريط ، بل يعتنون بإصلاحها غاية ، وغالب حافاتها مبنية بأوثق بناء وأتقنه.

وإذا كان على حافتها طريق بنوا طرفها الموالي للنهر ، وربما جعلوا فيه أعمدة عظيمة من الحجارة ، وأجروا فوق هذه الأعمدة ممدودا عليها أعمدة طوالا من الخشب مسمرة في رؤوس أعمدة الأحجار ليلا تنهار الطريق ، وخوف أن تميل كروصة في حالة المشي فيحصرها الحاجز المذكور عن الوقوع في الجرف.

والأنهار في بلادهم كثيرة ، ومن أشهرها وأكبرها فيما مررنا عليه نهر يسمى الرون (١). ومبدؤه من ناحية مدينة اليون ، فيدخلها ويلتقي معه فيها نهر آخر يسمى لاصون (٢). ثم يخرج منها مشرقا إلى أن يخلص للبحر الصغير غربي مرسيليا ، ويتصل به في طريقه أنهار أخر. فكلما زاد اتسع مجراه وكثر ماؤه ، فيرى في بعض المواضع كأنه بحر من البحور ، تسافر فيه المراكب الكبار ذوات النار وغيرها ، ويطلق على الجميع الرون تغليبا ، وعلى شاطئه فيما بين اليون ومرسيليا بلدان كثيرة وقناطير ضخام مشيدة على أشكال مختلفة ، وبساتين وأشجار يحمل بكثرة الأمطار وينقص بنقصانها ، ولا يتأثر البنا المؤسس بطرفه ولا الأشجار من زيادته لتأسيسه أولا على الإتقان.

__________________

(١) «الرون» ، هو نهر (Rho؟ne) الذي يسير انطلاقا من مشارف مدينة ليون في اتجاه الجنوب.

(٢)(La Sao؟ne) ، هو من أهم روافد نهر الرون سابق الذكر.

١٤٣

ومنها نهر يسمى للوار (١) ، وهو فيما بين اليون وباريز جاريا لناحية الغرب إلى أن يخلص للبحر الكبير ، أول ما رأيناه في حال ذهابنا لباريز بمدينة يقال لها الروان (٢) ، ولم يغب عنا حتى جاوزنا مدينة أورليا (٣) ، التي هي آخر مرحلة لباريز. وعلى شاطئه أيضا بلدان عديدة وعمارات مديدة ، تسافر فيه المراكب العظام ويتصل به غيره من الأنهار ، ويطلق على الجميع للوار تغليبا. ويمر في وسط كثير من البلدان ، وعليه في محال العبور داخل بلدة أو غيرها ، القناطر العجيبة البناء على أشكال مختلفة سيأتي بيانها.

ومنها نهر يسمى لاسين (٤) ، وهو داخل مدينة باريز على نعت ما تقدم ، ووصفه ومصبه في البحر الكبير فهو جار بها غربا ، هذه أكبر ما رأينا. والأنهار الصغار كثيرة ، وغالب أنهارهم متصل بعضها ببعض ، وإن لم تكن متصلة وصلوها كما تقدم.

وغالب ما يوسق في مراكب الأنهار الأمور الثقيلة ، كالحجارة والخشب والفحم وآلات البناء والخضر والفواكه ، وغير ذالك مما يثقل حمله. وجل هذه الطريق سهل ووطاء ، ولم نر عندهم من شواهق الجبال مثل ما عندنا ، إلا في ناحية مدينة اليون فإنها جبال وعقبات. لاكن يحتالون على العقبة بجعل الطريق دائرة معها ، حتى لا يحس بمشقتها ، وإن كان جبلا صغيرا شقوا الطريق في وسطه حتى تسلك الكروصة بسهولة. وما بعد اليون لناحية باريز ، فيه روابي وأكام. وكلما قربت لباريز ، وجدت البطاح والسهل ، حتى أنه في ناحية باريز لا ترى جبلا قط. وأصعب عندهم مما رأينا ، ما بين مدينة إكس (٥) وطولون ، فإنها جبال وعرة وعقبات صعبة تتأثر الكروصة فيها بالبطو في المشي لصعوبة الطريق.

وكل هذه الطريق عامرة ، ولا سيما بين مرسيليا واليون ، فإن عمرانها متزاحمة وبلدانها متقاربة. فالعمارة فيما بينهما أكثر مما بين اليون وباريز ، فإنه يوجد فيها الفضاء الكثير ، وهذا بالنظر للبلدان والقرى. وأما الدويرات المجتمعة والمنفردة على

__________________

(١)(La Loire).

(٢)(Roanne).

(٣). (Orle؟ans).

(٤)(La Seine).

(٥)(Aix en Provence).

١٤٤

جوانب الطريق ، فلا يخلو منها موضع. فلا تمر في محل من هذه الطريق إلا وأنت ترى البنيان ، إما بلدة أو قرية أو دار أو دور ، إن لم يكن قريبا فبعيد. وكل بستان من بساتينهم فيه دار مبنية عامرة بخادم البستان وأهله.

وكل ما في الطريق من البلدان فإن الطريق تمر في وسطها ، تشقها شقا بين حوانيتها وأسواقها. وفي هذه الطريق داخل عمارة أو خارجها ، الكثير من الصنائع التي يحتاج إليها المسافرون ، كصناع الأكداش والكراريص وسائر إقامتها ، والسمارين الذين يسمرون الدواب بصفائحهم وسائر آلاتهم ، فإذا اختل للمسافر شيء من ذالك وجد إصلاحه قريبا. وفيها كثير من ديار الخمارين الذين يبيعونها في الطريق للمسافرين ، وفيها كثير من بوسطات الخيل التي تكرى لجر الأكداش والكراريص ، كلما افتقر المسافر لشيء منها ألفاه قريبا.

وأما المدن والبلدان التي مررنا عليها في طريقنا هذه ، فأولها مدينة مرسيليا التي نزلناها بعد خروجنا من البحر ، وهي مدينة كبيرة من حواضر بلاد فرانسا. ولا سور لها من جهة البحر ، ومرساها محصنة بأبراج المدافع يمينا وشمالا. لها مدخل ضيق ، وعليها فنارات (١) عظام توقد بالليل للاهتداء. وعلى المرسى قهاوي عديدة في أحسن ما يكون من الزخرفة والتزيين. ومرساها جون داخل لجهة البلد ، بينها وبين جبل صغير مقابل لها ، وشاطئها مبني على نمط ما تقدم في مرسى بوربندر. وبهذه المرسى صناديق مرساة لازمة لموضعها وفيها ثقب كبير ، فمن أراد الدخول لداخل المرسى ، ربط فيها حبال سفينته وجعل يجبذ لتدخل سفينته لعدم الريح بداخل المرسى.

وليست مرسى للقراسيل (٢) والمراكب الحربية ، إنما هي مرسى لمراكب التجارة ، ألفينا بها من مراكب السلع والتجارة ما لا يوجد معها مسلك ، كان بها على ما قيل ما يزيد على ألفي مركب. لأن هذه البلد بلد المتجر ، فيها التجار من سائر الأقاليم ، وفيها جميع ما يوجد ببلاد فرانسا من السلع والصنائع. وسلع غير الفرنسيس فيها

__________________

(١) مفردها فنار ، وأصلها من الإسبانية (fanal) ، وهي المصابيح المستعملة للإنارة. ٢٩٢ : ٢Dozy (المعرب).

(٢) مفردها قرصال وأصلها من الإيطالية (corsale) ، أي لص البحر. وبما أن القرصنة لم تصبح بالكثافة التي كانت معهودة من قبل في حوض البحر الأبيض المتوسط ، فإن اللفظة هنا تعني صنفا من أصناف المراكب الحربية. انظر : Brunot ,La mer ,pp.٧٣٣ ـ ٤٤٣.

١٤٥

قليلة ، إلا سلعة يرغبون فيها لعدمها أو قلتها عندهم. وإذا جاءتهم سلعة من خارج بلادهم وعندهم مثلها ، فإنهم يتغالون في عشورها (١) حتى لا تدخل ، حرصا منهم على نفاذ سلع بلادهم لتدوم صنائعهم ، وليلا يزهد الصناع في صنائعهم إن كسدت.

وبهذه المدينة ديار عالية البناء مشيدة وأسواق مزينة ، وحوانيت بأنواع السلع وأنفسها مزخرفة. والحوانيت التي على المرسى متصلة بالشاطئ تصل المراكب والفلائك حتى تتصل بحافة المرسى المبنية بالصخر العظيمة ، فلا يبقى بينها وبين الحوانيت إلا الممر. وشوارعها واسعة وللشوارع والطرق وسط وحاشيتان ، فالوسط للأكداش والكراريص والحاشيتين للرجالة. ومما يستقبح فيها ، أن مجاري أخباثها ونجاستها تمر على وجه الأرض في وسط الشوارع لا يخلوا منها طريق ، وذالك في البول لا غير ، وأما الغائط فإنه يباع بالثمن ، فلا يفضل حتى يسيح على وجه الأرض ، فله أهل موكلون به ، يطوفون عليه ببوطات كبار يملئونها منه وييبسونه لتزبيل الأرض والأشجار.

وشوارعها كلها نافذة بعضها لبعض ، فليس فيها زقاق محصور ، وبها ميادين واسعة فيها صفوف من أشجار كبار يتماشى الناس فيها للاستراحة ، وتلك الأشجار تظللهم أيام الحر. ومن أشهر حاراتها موضع يسمى عندهم بورالي (٢) ، به أشجار وخصص ماء ، وبه غالب ديار أكابرهم وأهل الثروة منهم.

وهذه المدينة من جملة إيالات (٣) فرانسا حاكمة على عمالتها. وذلك لأن

__________________

(١) انظر الهامش ٤٣ أعلاه. ويمكن أن تعني أيضا الرسوم المفروضة على الصادرات التي يتم تحصيلها عند خروج السلع من المدينة. وفي ١٨٤٥ سميت الرسوم المؤداة على جميع أنواع السلع الموجهة من فاس إلى الجزائر «عشور فندق النجارين» وهو المكان الذي يتم فيه تحصيل تلك الضرائب. انظر :

E. Michaux ـ Bellaire," Les impo؟ts marocains", AM ١) ٤٠٩١ (: ٥٦.

(٢) ويتعلق الأمر بالقصر الذي يحمل اسم شاتو دو بوريلي (Ch teau de Bore؟ly) ، وقد بناه أحد أثرياء مرسيليا في أواخر القرن الثامن عشر ، في منطقة تمتد في منتزه واسع الأرجاء.

(٣) مفردها إيالة ، وهي من الكلمات العربية التي تحولت إلى مصطلح إداري لدى العثمانيين ، معناها الإقليم. وتم تبني المصطلح نفسه في المغرب على عهد السعديين ، ابن زيدان ، العز ، ١ ، ص. ٣٩٩. وعند نهاية القرن الثامن عشر فككت الأقاليم الفرنسية التي كانت موجودة قبيل الثورة وعوضت بست وثمانين مقاطعة يسميها الفرنسيون دبرتمان :(de؟partements).

١٤٦

عندهم في جميع بلاد فرانسا خمس أو ست وثمانون إيالة ، كل إيالة فيها مدينة كبيرة وما يضاف إليها من عمالتها من البلدان الصغار. ولكل إيالة حاكمان ، أحدهما حاكم العسكر ونظره مقصور عليه ، والثاني حاكم الرعية غير العسكر وهو بمنزلة قائد البلد عندنا ، ومرتبة الأول عندهم أعلا من الثاني (١). ومقرهما يكون في بلد الإيالة التي هي حاكمة على غيرها ، ولهما خلائف في حكومتهما. فمن حكومة مرسيليا وعمالتها مدينة طولون فحكومتها من تحت حكومة مرسيليا ، ومن عمالتها مدينة إكس (٢) الآتي ذكرها.

وبخارج هذه المدينة وأحوازها عمران متزاحمة وبناءات متلاصقة ، تمشي بعدها عدة أميال وفراسخ كأنك داخل بلدة ، وأهلها يريدون أن يجبلوا لها ماء من مسيرة بعيدة على نحو ثلاثة أيام من نهر قرب مدينة أفنيون (٣) ، وصرفوا على عمله أموالا جزيلة وإلى الآن لم يصل ، ولكنهم جادون في العمل يحفرون له مهاوي عميقة في بطون الجبال ويبنون له القناطير العظام فيما بين الجبلين ، وحفرهم المذكور بحركات البابور التي تدور بالنار ، فيخرجون من بطن الأرض جبالا من التراب من ذالك الحفر (٤). ويريدون أن يحدثوا بها مرسى أخرى وهم جادون في عملها ، لأن مرساها القديمة تتقعد فيها أثفال المدينة وأوساخها ، إذ لا منفذ لها سوى هنالك ، فكادت أن تفسد بسبب ذالك ، حتى أن ماءها أسود نتن ، فأرادوا أن يجعلوا أخرى عن يسار هذه

__________________

(١) «حاكم الرعية» يعني به الصفار والى المقاطعة المعروف في فرنسا باسم البريفي (pre؟fet) ، وهو أعلى هيئة مدنية رسمية تشرف على سير أعمال المقاطعة. أما «حاكم العسكر» ، فهو موظف عسكري من رتبة جنرال يتولى مسؤولية الإشراف على تسيير ثكنة عسكرية محلية خاضعة لأوامر وزارة الحربية ، انظر :

Grande encylope؟die Larousse, ed., ٢٨٨١., s. v" De؟partement".

(٢) مدينة (Aix en Provence) سابقة الذكر.

(٣) مدينة (Avignon).

(٤) شرع منذ سنة ١٨٣٩ في مد قناة مائية من نهر دورانس (Durance) إلى مرسيليا عبر مسافة بلغت ٨٣ كيلومترا. وكان أزيد من ٢١ كيلومترا من مجموع طول القناة يمر في بطن الأرض. أما الأشغال فقد انتهت سنة ١٨٤٧ ، انظر : L\'Illustration ,٦ septembre.٥٤٨١

١٤٧

بالنسبة للداخل سالمة مما ذكر (١).

ثم بعد انفصالنا عن مرسيليا وأحوازها ، مررنا على بلدة يقال لها إكس ، وهي بلدة صغيرة بالنسبة لمرسيليا وهي من عمالتها ، بها أسواق وحوانيت وأوكنضات ، وبها عساكر وقشلات (٢) للعسكر. ولهذه البلدة عند الفرنسيس مزيد اختصاص بعلوم شرائعهم حتى أن من وجب عليه القتل من عمالة مرسيليا بهذه البلدة يكون قتله ، لأن بها يقع التحاكم في قضيته (٣).

ورأينا لهم بها صليبا عظيما في ميدان بطرفها وصورته خشبة قائمة معترضة في رأسها قطعة خشب صغيرة ، وعليها صورة رجل مصلوب مجرد من ثيابه ، ما عدى ثوبا سترت به عورته. فهالنا منظره وأفزعتنا رؤيته ، وظننا أنه صاحب جناية علقوه ، إذ لا يشك من رءاه أنه آدمي مصلوب. فسألت عن ذالك ، فأخبروني أنه معبودهم وصليبهم الذي يعبدونه ، وهم يزعمون أنه عيسى أي صورته مصلوبا. ولا شك أنهم يعتقدون إلهيته كما أخبر عنهم القرءان العزيز ، ولا شك في كذب زعمهم وبطلان معتقدهم : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ)(٤) الخ الآية. (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ ، أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٥) الخ الآية. وهذا هو الصليب المنصوب في كنائسهم يعبدونه ويعظمونه ويصلون له ، ويكسره عيسى عليه‌السلام عند نزوله تكذيبا لهم وإبطالا لما يدعونه من تعظيمه ولإبطال دين النصرانية.

__________________

(١) أدى الغزو الفرنسي للجزائر إلى ارتفاع درجة النشاط التجاري بمرسى مرسيليا ، فأصبحت الحاجة ملحة إلى مرسى ذات إمكانات أكبر مما كان لها من قبل ، إذ كان عمق مياه المرسى القديمة لا يسمح بدخول المراكب الكبيرة ذات الحمولات الثقيلة جدا. وفي سنة ١٨٤٤ ، أي قبيل حلول الصفار بفرنسا ، تمت المصادقة على قانون يرخص الشروع في بناء رصيف جديد للمرسى شمال الأرصفة القديمة. انظر :

Guide Michelin : Provence, ed., ٦٧٩١, p. ٥٩.

(٢) مفردها «قشلة» ، وهي كلمة تركية قشلا ، وتعني الثكنة العسكرية ، ٣٥٩ : ٢Dozy

(٣) كانت مدينة إيكس تحتضن مقر محكمة الاستيناف التابعة لمقاطعة مرسيليا. انظر :

Guide Michelin : Provence, ed., ٦٧٩١, p. ٦٤.

(٤) سورة النساء ، الآية ١٥٧.

(٥) سورة التوبة ، الآية ٣٠.

١٤٨

قال القسطلاني (١) في شرح الصحيح عند قوله في الحديث : فيكسر الصليب الخ ما نصه. والأصل فيه ما روي أن رهطا من اليهود سبوا عيسى وأمه عليهما‌السلام ، فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ، فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقام رجل منهم ، فألقى الله عليه شبهه ، فقتل وصلب. وقيل كان رجلا منافقا فخرج ليدل عليه ، فدخل بيت عيسى ورجع عيسى وأبقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى. ثم اختلفوا فقال بعضهم إنه إله لا يصح قتله ، وقال بعضهم إنه قد قتل وصلب ، وقال بعضهم إن كان عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم ، رفع إلى السماء. وقال بعضهم ، الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. ثم تسلطوا على أصحاب عيسى عليه‌السلام بالقتل والطلب والحبس حتى بلغ أمرهم إلى صاحب الروم (٢) ، فقيل له أن اليهود تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله ، وكان يحيي الموتى ويبري الأكمه والأبرص ويفعل العجائب ، وعدوا عليه فقتلوه وصلبوه. فأرسل إلى المصلوب فوضع عن جذعه ، وجيء بالجذع الذي صلب عليه فعظمه صاحب الروم ، وجعلوا منه صلبانا ، فمن ثم عظم النصارى الصلبان ، انتهى.

فصليب بمعنى مصلوب ، وهو عندهم على أشكال والصورة واحدة كما تقدم. ولاكن تارة يكون كبيرا وتارة يكون صغيرا ، ويكون من الخشب والحجارة والحديد

__________________

(١) يعتبر القسطلاني من كبار العلماء المصريين ومن المراجع الأساسية في مادة الحديث ، توفي سنة ٩٣٢ / ١٥١٧. ومعلوم أن المسلمين يؤمنون بنبوة المسيح ، لكنهم لا يشاطرون الأفكار المسيحية القائلة بصلبه ، ويعتقدون أن شخصا شبيها بالمسيح قد حل محله وتعرض للقتل. ويفصلون بذلك بين المسيح والرمز التقديسي الذي يمثله الصليب كما هو معروف في اعتقاد المسيحيين. أما الكلام الذي ساقه الصفار في رحلته حول هذا الموضوع ، فقد أخذه عن كتاب القسطلاني إرشاد الساري في شرح البخاري. انظر مادتي «عيسى» و «القسطلاني» في :

. SEI, s. v."؟Isa" and" al ـ kastalani"

(٢) وهو بونتيوس بيلاتوس (Pontius Pilatus) أو بيلات بونت (Pilat Ponte) ، الحاكم الروماني على فلسطين ما بين ٢٦ و ٣٦ بعد الميلاد.

انظر : M. Mourre, Dictionnaire d\'histoire universelle, ed., ٢ : ٥٦٦١. (المعرب).

١٤٩

والنحاس والذهب وبالكتابة وغير ذالك. وتارة تكون عليه الصورة مصلوبة وتارة يكتبون بالجذع وحده كما تقدم في كلام القسطلاني. ويباع منه في حوانيتهم كثير ، ويصورون صورة عيسى في زعمهم على أشكال ، تارة رجلا كبيرا وتارة صبيا صغيرا وحده أو في حجر مريم أو في يدها ، وفي الكنيسة يصلون لهما معا. وإذا سألت أحدا منهم عن تلك الصورة ما هي ، فيصرح بالألوهية أو البنوة وبالأمومة في جانب مريم حاشاهما من ذالك ، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وما زادتنا رؤية ذالك إلا تبصرا بكفرهم واطلاعا على إبطال معتقدهم وسخافة عقولهم. فالحمد لله الذي هدينا للملة الحنيفية ، نسئل الله سبحانه أن يحفظ علينا الإيمان إلى المماتءآمين ، بجاه النبي الأمين ، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام إلى يوم الدين.

ثم انتهى بنا المبيت أول ليلة إلى مدينة يقال لها أفنيون ، وهي مدينة كبيرة لها سور دار عليها وأبواب ، وهي موسومة بالقدم ، وبها ما بمثلها من بلدانهم من الأسواق والعساكر ، وغير ذالك. ويقال إن فيها ثلاثة وثلاثين ألف نفس ، ويمر بطرفها نهر عظيم ، نهر الرون المتقدم ، وعليه هنالك القناطر المشيدة ، وفيه بإزائها الكثير من المراكب كبارا وصغارا. وهنالك أيضا شيء كثير جدا من الخشب والألواح والحطب والفحم ، وغير ذالك مما يوسق في ذالك النهر ، وهي من حواضر بلادهم. والأرض التي بحوزها بطاح وطية ، وهي أرض خصب وحرث لم نر عندهم أخضر منها. وبحذائها نهر آخر يسمى ديرانس (١) ، عليه قنطرة من الخشب كلها حسبنا فيها نحو خمسين قوسا.

ثم مررنا بعدها على بلدان واحدة تسمى ورنص (٢) وأخرى صرك (٣) ، وبطرفها نهر صغير يسمى افيز (٤) ، عليه قنطرة صغيرة. ثم أخرى يقال لها أورنج (٥) ، وهي بلدة قديمة بها قوس كان بابا لها مؤرخا عليه بتاريخهم أن له ما يزيد على ألفي سنة

__________________

(١) نهردورانس (Durance).

(٢) لم نتمكن من معرفة ما يقابلها في الفرنسية.

(٣) ويقابلها بالفرنسية (Sorgues).

(٤) ويقابلها بالفرنسية (Ouve؟ze).

(٥) ويقابلها بالفرنسية (Orange).

١٥٠

بالتثنية (١). ثم أخرى يقال لها مرناس (٢) ، ثم أخرى يقال لها لبلي (٣) ، ثم أخرى يقال لها مونطي لمار (٤) ، ثم أخرى يقال لها لوريول (٥) ، وبعدها نهر صغير يقال له دروم (٦) ، عليه قنطرة يلتقي هنالك مع نهر الرون المذكور. ثم أخرى يقال لها لبياس (٧) ، وكلها بلدان صغار متماثلة أو متقاربة.

ثم انتهى بنا المبيت في الليلة الثانية إلى بلدة يقال لها فلنص (٨) ، وهي بلدة كبيرة وبها آثار الحضارة ، وبها قصبة للعسكر لها سور قديم فيها المدافع. ولهذه البلدة عندهم مزيد اختصاص بعلم الطبجية ، ياتون إليها من نواحي أخر لتعلم ذالك (٩). ونزل ليلة بتنا بها ثلج عظيم غطى أرضها وسطوحها وأعواد أشجارها ، حتى أصبحت كلها بيضاء. ولقد رأينا الكراريص التي باتت سائرة أو في الفضاء ينحذر من ظهرها قطع الثلج ، غلظها نحو الأصبع أو أكثر ، وفيها أول ما رأينا الثلج بهذه البلاد ، ورأينا بعدها مثل ذالك أو أكثر.

وبعد هذه البلدة نهر صغير يسمى ليزاير (١٠) ، عليه قنطرة جديدة كل من يمر عليها يعطي. وقد جعلوا في طرفها بيتا صغيرا به أناس لا يمر أحد إلا دفع لهم ما هو

__________________

(١) ويتعلق الأمر بقوس النصر المعروف باسم : L\'Arc de Triomphe d\'Ornge ، بني سنة ٤٩ قبل الميلاد ، على يد قيصر روما تخليدا لانتصاراته على الغاليين انظر : Guide Michelin : Provence ,ed.,٦٧٩١ ,P.١١

(٢) ويقابلها بالفرنسية (Mornas).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (Lapalud).

(٤) ويقابلها بالفرنسية (Monte؟limar).

(٥) ويقابلها بالفرنسية (Loriol).

(٦) ويقابلها بالفرنسية (Dro؟me).

(٧) ويقابلها بالفرنسية (La Paillasse).

(٨) ويقابلها بالفرنسية (Valence).

(٩) ويتعلق الأمر بمدرسة مختصة في تبقين تقنية استعمال المدافع ، وبها تلقى ناببليون بونبارت تكوينه في المدفعية سنة ١٧٨٥. انظر :

Guide Michelin Valle؟e du Rho؟ne, ed., ٥٨٩١, p. ٨١٤

(١٠) ويقابلها بالفرنسية (Ise؟re)

١٥١

معين عندهم حتى يستوفوا ما صرف عليها. ثم مررنا بعدها على بلدة يقال لها طان (١) ، بإمالة الطاء ، وهي على نهر الرون المذكور. ثم بعدها بليدة يقال لها سفلي (٢) على شاطئ النهر المذكور. ثم أخرى يقال لها فياج دوروسيوا (٣) ، ثم أخرى يقال لها أفيين (٤) ، وهي قديمة وبها لهم كنيسة مذكورة عندهم يسمونها ساموريس (٥). وبهذه البلدة ديار صنعة الملف ، فهي مشهورة به. وكل مسير هذا اليوم أو جله على شاطئ نهر الرون المذكور.

ليون

ثم انتهى بنا المبيت في الليلة الثالثة إلى مدينة اليون (٦) بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الياء التحتية وهي مدينة كبيرة من حواضر بلاد فرانسا ، وهي أكبر من مرسيليا وهي بين الجبال ولها أسوار حصينة. وهي دار صنعة الحرير ببلاد فرانسا ، يخدم فيها ثوب المشجر (٧) ، وغيره من ثياب الحرير النفيسة ، يقال إن فيها من خدام الحرير الآلاف من الناس. ويدخلها نهران أحدهما يسمى الرون وهو المتقدم ذكره ، والآخر يسمى لاصون ، ويلتقيان بداخلها فيصير نهرا واحدا عظيما يشقها إلى انتهائها. ومعنى الرون في لسانهم الرجل ولاصون المرأة ، فكأنه التقى رجل بامرأة

__________________

(١) ويقابلها بالفرنسية (Tain).

(٢) ويقابلها بالفرنسية (St. ـ Vallier).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (Village de Roussillon).

(٤) ويقابلها بالفرنسية (Vienne) ، وهي فيينا القديمة ، التي احتلها الرومان خلال القرن الأول الميلادي ، فكانت من المعاقل الأولى للمسيحية في فرنسا ، انظر : Mourre ,٢ : ٥٦٢٢.

(٥) «الملف» ، نوع من الثوب الرفيع الجودة ، تخاط منه أصناف جيدة من الملابس الخارجية. وأصل الكلمة من المدينة الإيطالية. (Amalfi) ابن زيدان ، العز ، ١ ، ص. ٤١٨. ثم : Harrell ,p.١٨ ;Dozy ٢ ١٢٦ ;IB ٢ ;٤٤.

(٦) ويقابلها بالفرنسية (Lyon).

(٧) «الثوب المشجر» صنف من الأثواب الحريرية الرفيعة يتميز بزخارفه البهية ، وكان يصنع في الأصل بمدينة دمشق السورية.Dozy ١ : ٠٣٧.

١٥٢

وتزوج بها. وفي هذا النهر داخل هذه المدينة ما لا يحصى من المراكب والبابورات والفلائك. وعلى حاشيتية أسواق وحوانيت مزخرفة بالسلع والأشياء الرفيعة ، وحوانيت اللحم والخبز والفواكه والخضر وغير ذالك. وعليه بداخل البلد القناطر الضخام المشيدة على الأقواس والأعمدة العظام. وكل هذه القناطر عليها صفوف من الفنارات من الزجاج الصافي تضيء باليل على الطريق والمول (١). وكذلك سائر طرقها وحوانيتها يكون لها باليل منظر عجيب.

وبها الكثير من العساكر والجيوش ، وديارهم وهي من جملة إيالات فرانسا حاكمة على غيرها ، بها جلنار العسكر وكبير البلد الذى يسمونهم بلسانهم البريفي (٢) كما تقدم في مرسيليا. وبها كثير من ديار الصنائع التي يسمونها الفبريكات (٣) ، حتى أن جل حيطانها سود من دخان ديار الصنائع ، وغالب من يخدم في هذه الصنائع بهذه المدينة وغيرها النساء ، فعلين العمدة في ذالك.

وأهلها جادون كل الجد في البناء بداخلها وزيادة العمارة بأطرافها ، حيت انتهى البناء المتصل. فبها قناطر جدد وطرق الحديد (٤) ، توصل منها لغيرها ومن غيرها لها. وهذه المدينة يكثر القصد إليها بالأسفار والسلع ، إذ هي من أعمدة بلاد فرانسا لما اختصت به من الصانع والفبريكات التي لا توجد أو هي قليلة في غيرها من بلادهم. وبناؤها أتقن وأحكم من بناء مرسيليا ، وبخارجها عمران متزاحمة جدا حتى كادت أن تكون كلها مدينة واحدة. ولم نر هذه المدينة كغيرها من المدن التي في طريقنا هذه إلا بالمرور عليها ، ولم يكن لنا استقرار في شيء منها ، فلذالك نقصر في وصفها.

ثم انفصلنا عن المدينة وأحوازها في طريق بين الجبال وعلى رءوسها ، لاكن تمر عليها الكراريص بسهولة عهدك بنفسك في البطحاء والجبل أمامك حتى تجد نفسك على رأسه ، وذلك لبسطهم الطرق وتدييرها مع الجبال ، وإعلاء ما كان منها منحذرا والنقص مما كان منها عقبة ، حتى تصير كأنها كلها وطاء ، ولا تحس بالعقبة إلا في

__________________

(١) من الفرنسية (Mo؟le) ، أي رصيف المرسى (المعرب).

(٢) ويقابلها بالفرنسية (Le pre؟fet).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (fabriques).

(٤) ويعني بها السكة الحديدية التي سيأتي الحيث عنها بالتفصيل.

١٥٣

مواضع قليلة. وفي هذه المسافة مياه متدفقة وخنادق تجري في خلال أشجار متعانقة وبساتين بأنواع الغرس متناسقة. فانتهينا إلى بلدة يقال لها طرر (١) بلدة صغيرة وبها السواقي من الماء الجاري ، ويخدم بها الثياب البيض. وفي عشية هدا اليوم نزل ثلج عظيم حتى صرنا عند إظلال الليل لا نميز الأرض من السماء من بياض الثلج ، وأما البرد فلا تسل عن الزمهرير. لاكن لم يصبنا والحمد لله منه بأس لكوننا داخل الكدش والطيقان مغلقة ويجتمع فيه نفسنا لصغره وانسداده ، فيحصل لنا بذالك دفاء حسن لا نحس معه بألم البرد حتى نخرج منها.

ثم انتهى بنا المبيت في هذه الليلة إلى بلدة يقال لها الروان (٢) ، وهي بلدة متوسطة وحولها عمران كثيرة ، لاكن متفرقة على الآكام والروابي والظهور. وقبل دخولنا لها مررنا على نهر للوار الكبير المتقدم ذكره. وبين هذه البلدة ومدينة اليون طريق من طرق الحديد يسير فيها بابور البر حسبما يأتي توضيحه.

ثم بعد انفصالنا عنها مررنا على بلدة يقال لها لابليس (٣) ، وهي قرية صغيرة ، ثم بعدها على قرى كثيرة. ثم انتهى بنا المبيت في هذه الليلة إلى بلدة يقال لها مولان (٤) ، وهي بلدة متوسطة أو متحيزة للكبر. ثم بعدها قرية يقال لها فيني (٥) ، ثم مدينة نفير (٦) بالتصغير ، وهي كبيرة من حواضر بلادهم على شاطئ نهر يقال له لليفر (٧) ، وهو نهر صغير لاكن تسافر فيه المراكب والفلايك. ثم بلدة يقال لها

__________________

(١) ويقابلها بالفرنسية (Tarara) ، وهي من المدن المشهورة بإنتاجها لثوب رفيع يصنع من القطن الممتاز ، وكانت تتم صناعته بمدينة الموصل العراقية ، ومن ثم جاءت تسميته بالموصلي أو (mousseline) بالفرنسية. انظر :

Guide Michelin : Valle؟e du Rho؟ne, ed., ٥٨٩١., p. ٩٤١.

(٢) ويقابلها بالفرنسية (Roanne).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (Lapalisse).

(٤) ويقابلها بالفرنسية (Moulins).

(٥) والصحيح هو (Imphy).

(٦) ويقابلها بالفرنسية (Nevers).

(٧) ويقابلها بالفرنسية (Nie؟vre).

١٥٤

بوي (١) ، قريبة من نهر للوار ، ثم انتهى بنا المبيت في هذه الليلة إلى بلدة يقال لها كون (٢). ثم بعدها أخرى تسمى بريار (٣) ، وهي صغيرة يمر بها نهر صغير استمداده من نهر للوار. ثم بعدها مدينة جيان (٤) ، بسكون أوله في لسانهم ، وهي بلدة كبيرة يمر بطرفها نهر للوار عليه هنالك قنطرة كبيرة محمولة على اثني عشر قوسا نتركها في الذهاب لباريز لجهة اليسار. ثم انتهى بنا المبيت في هذه الليلة ، وهي الليلة السابعة من خروجنا من مرسيليا إلى مدينة أورليا (٥) ، وهي كبيرة يقال إن فيها خمسة وثلاثين ألف نفس ، وفيها كنيسة عجيبة الصنعة والبناء يزعمون أنه ليس عندهم بفرانسا مثلها وهي مبنية بالرخام (٦). وهذه المدينة على نهر للوار المذكور ، وعليه بداخلها قنطرة طولها نحو خمسماية خطوة ، وعرضها ما يمر فيه ثلاثة كراريص متسامتة. ولهم بها في ميدان من ميادينها قرب الكنيسة المذكورة صورة راهبة يزعمون أنها كانت عندهم في القديم (٧) ، وكان أغار على بلادهم جنس آخر من النصارى فحزبت عليهم أحزابا منهم وأخرجتهم بالحرب ، ولذالك نحو ثلاثماية سنة ، ورأينا عندهم صورة هذه الراهبة في كثير من المواضع. وقد بقي لنا من هذه المدينة لمدينة باريز تسعون ميلا فركبنا من هذه البلدة إلى مدينة باريز في طريق الحديد.

طريق الحديد

وبيان صفة طريق الحديد وكيفية المشي فيها ، أنهم عمدوا إلى الطريق أولا

__________________

(١) ويقابلها بالفرنسية (Pouilly).

(٢) ويقابلها بالفرنسية (Cosne).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (Briare).

(٤) ويقابلها بالفرنسية (Gien).

(٥) ويقابلها بالفرنسية (Orle؟ans).

(٦) ويتعلق الأمر بكنيسة (Ste.Croix) التي بنيت خلال القرن الثالث عشر على النمط القوطي ، انظر :

Michelin Guide : Ch teaux of the Loire) Englishe ed. (, ٨٨٩١, p. ٩٤١.

(٧) والمقصود بها شخصية جان دارك (jeanne d\'Arc) المعروفة ببطولاتها وكراماتها الدينية ، وقد عاشت ما بين ١٤١٢ و ١٤٣١.

١٥٥

فأسسوها وسووها ، ثم مدوا في عرضها قطعا صلبة من الخشب غليظة بين الواحدة والأخرى ذراع أو ذراعان. ثم مدوا فوق هذه القطع على أطرافها من الجهتين سبائك من الحديد ذاهبة مع طول الطريق واحدة عن اليمين والأخرى عن الشمال ، وشدوها في قطع الخشب المذكورة بحلق من الحديد ومسامير تمسكها من أسفل كيلا تتزحزح تلك السبائك عن محل وهكذا من ابتداء الطريق إلى انتهائها. ثم فرشوا فيها رملا أو ترابا ولم يبق بارزا منها إلا السبيكتان ، ثم صنعوا بابورا صغيرا) (١) ليس على شكل بابور البحر ، إنما فيه الحركات التي تدور النواعير لا غير ، ويركبه ثلاثة من الناس يسيرونه. ثم صنعوا أكداشا مماثلة أحسن وأرفع من الأكداش التي تجرها الخيل وأكبر منها ، وجعلوا لها نواعير تجري بها في الطريق. ونواعير الأكداش على قدر ناعورتي البابور ، وقاسوا ما بين الناعورتين على عرض الطريق بحيث ينزل حرف الناعورة على السبيكة البارزة ، وجعلوا في ظاهر حاشية الناعورة تجويفا بحيث يستحكم إنزاله على السبيكة البارزة ليلا تزيغ عنها يمينا أو شمالا ، وهكذا كل نواعير الأكداش السايرة.

وربطوا هذه الأكداش بعضها ببعض بالغناجي (٢) وسلاسل الحديد الغليظة ، حتى صارت صفا واحدا يقدمها البابور المذكور والناس راكبون في هذه الأكداش ، وفي كل كدش قطعتان أو أكثر منفصلتان. وفي كل قطعة منصبتان متقابلتان يجلس عليهما الناس ، وفي جانبيه عن يمين الطريق ويسارها طاقات حسان بإغلاق الزجاج الصافي ، إن شئت فتحتها وإن شئت أغلقتها مع بقاء الضوء التام والابصار العام. وإن كانت للراكبين أثقال في كراريصهم حملوا تلك الكراريص على سرير له نواعير مماثلة لنواعير الأكداش وربطوها فيها.

فإذا أرادوا الشروع في المسير حرك الرءيس حركة البابور ، فيجعل يسير مع ما هو مربوط به سيرا لم يعهد مثله في الاسراع يكاد أن يسار الطير في الهواء ، بحيث قطعنا هذه المسافة في ساعتين ونصف. وكنا ننظر إلى جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من

__________________

(١) ويقصد به الصفار القاطرة التي تقابلها في الفرنسية (locomotive) وتجر العربات بقوة محركاتها (المعرب).

(٢) مفردها غنج ، وهي من الإسبانية كانشو (gancho) ، ويقابلها بالفرنسية كروشي (crochet) ، وهو المحجن أو الكلاب الذي يكون على هيئة المخطاف ، وقد تكون أيضا عبارة عن عصي طويلة قصيرة ، وبها حديدة معقنة في رأسها أو مخطاف (المعرب).

١٥٦

الأحجار أو غيرها إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا ، ولا نحقق الحجر ولا غيره. وكنا نجهد كل الجهد أن نقرأ رشم الغباري (١) الذي في جانب الطريق لحساب الأميال ، مع كونها مرشومة بالسواد في أحجار بيضاء بحروف غليظة قدر الإصبع ، فلا نحققها ولا يستقر بصرنا عليها لسرعة السير. وزعموا أنهم إذا أوصلوا هذه الطريق بالحديد من مرسيليا لباريز تكون المسافة بينهما بالمرور فيها نحو يوم وليلة.

ولهم في هذه الطريق وفي غيرها من طرق الحديد بابورات متعددة تذهب وتجيء. ولكن كل بابور له ساعة معينة معلومة لا يسافر إلا فيها ، خوف أن يلتقي اثنان في محل واحد فيتصادما ويمنع كل منهما مرور الآخر. والغالب أن يجعلوا في الطريق الواحدة ممرين لبابورين فيمكن أن يذهبا معا ، لاكن كل واحد في ممره. وإن كانا متسامتين ويكون أحدهما ذاهبا والآخر راجعا وكل واحد في محله ، ويلتقيان فلا يلتطمان ولا يتناطحان ، لأن لكل واحد ممره على حدته ، وربما جعلوا فيها ثلاثة.

وهذا الطريق مقصورة على هذا البابور لا يمر فيها راجل ولا راكب ، وفيها لأجل ذالك حرس وعسس خوفا من مصادمة البابور أو من يلقاه فيها. وإذا رءاه الماشي فيها على غفلة قد لا يمكنه الانحراف عنه حتى يصل إليه لشدة سرعته ، ولذالك جعلوا في هذا البابور صفارات يسمع تصفيرها من بعيد ليعلم أنه جاء ليلا ياتيه على غفلة. وإذا كان بابور آخر جائيا لوجهه فيعلم به فيعمل بحسابه. وإذا أراد الرءيس أن يوقف هذا البابور في أثناء الطريق أوقفه ، ولا بد له من الوقوف لأجل تبديل الماء الذي يحرك بخاره النواعير. ومع ذالك فقد يجعلون في هذه الطريق محالا بسبائك الحديد في جانب الطريق لينحرف يمينا أو شمالا إذا عرض له عارض ، لكن في بعضها لا في كلها.

وشأن هذه الطريق أن تكون سهلة مستوية لا عقبة فيها ولا انحدار ، فإذا عرض لهم جبل رفعوا الميزان عليه من بعيد فلا تبقى عقبة. وإذا لم يمكنهم ذالك ولا محيد لهم عن المرور فيه ، فإنهم يشقون الطريق في بطنه تحت الأرض حتى تنفد إلى خارجه ، ويقيلون عليها بالبناء بإحكام وإتقان ، ويمرون في بطن الجبل حتى يجاوزونه.

__________________

(١) يقصد بها الصفار الصوى (مفردها صوة) التي هي أحجار منبثة بطريقة منتظمة على جوانب طول الطريق وتكتب عليها أعداد الأميال الفاصلة بين نقط انطلاق المسافرين ونقط وصولهم حتى تكون دليلا لهم في الطريق. وأما لفظة رشم الغباري فتعني الأرقام العربية (المعرب).

١٥٧

وقد ركبنا في طريق حديد أخرى من باريز لبستان من بساتينهم (١) ، فمررنا في مواضع تحت الجبال حتى وقعنا في الظلمة الشديدة ، فاحتاجوا أن يجعلوا فيها قناديل تضيء بالنهار. وبقينا سائرين تحت واحد نصف ميل ، فلما خرجنا رأيت أنه كان فوقنا أشجار وبناء وأرضون ونحن سائرون تحتها.

وطرق الحديد عندهم على ضربين ، أحدهما ما يقيمه البيلك بمعنى بيت المال عندنا (٢) ، والآخر ما يقيمه التجار وهو الغالب. وذالك عندهم ضرب من التجارة ، فيجتمع جماعة منهم ويتفقون على ذالك ، ثم يحزرون كم يصرف عليها من المال ، فإذا قيل مثلا مليون فيفرقون ذالك المليون على عشرة من الناس ، كل واحد يعطي ماية ألف ويكتبون بذالك أوراقا عشرة ، والمكتوب فيها اصطلاح لهم ، بحيث يعلم منه أن من بيده ورقة من تلك الورقات دفع في تعديل الطريق كذا فيأخذ من مستفادها على قدر ما دفع عشره مثلا. وإذا كتبوا الأوراق باعوها ، فكل من يأخذ ورقة يدفع ماية ألف حتى تنفذ الأوراق كلها ، ويجتمع المليون فيصرفونه عليها ويقيمون منه الخدمة وسائر الإقامات وما يحتاج إليه في ذالك. فإذا تمت وأخذ الناس يمرون فيها ويدفعون الخراج ، فكل ما يستفاد منها يقسم بين الدافعين للمال ، كل واحد على قدر ما دفع ، وذالك بعد أن يأذن لهم في ذالك السلطان أو من له النظر في ذالك. ويحد لهم حدا في قدر المقبوض من المارين ومدة دوام القبض ، فإذا انتقضت رجعت الطريق للبيلك هو يأخذ مستفادها أو يتركها للناس مجانا (٣).

ومن أراد من أهل هذه الورقات أن يبيع ورقته باعها ، فإن نتج المستفاد والربح

__________________

(١) ويتعلق الأمر بطريق السكة الحديدية الرابط بين باريز وفرساي ، والذي كان مسرحا لوقوع حادثة سككية اكتست طابعا كارثيا سنة ١٨٤٢. انظر :.Schivelbusch ,Railway Journey ,p.١٣١

(٢) بيت المال في المغرب ، هو المكان الذي كانت تخزن فيه ثروات السلاطين. وخلال الفترات السابقة لعهد الحماية كانت المدخرات المالية متمركزة في ثلاثة قصور سلطانية ، توجد في كل من فاس ومكناس ومراكش. انظر : العز ، ج ١ ، ص. ١٠٤.

(٣) حول موضوع تمويل مشاريع السكك الحديدية في فرنسا ، انظر :

F. Braudel et E. Labrousse. eds., Histoire e؟conomique et sociale de la France, vol. ٣ : L\'ave؟nement de l\'e؟re industrielle) ٩٨٧١ ـ ٠٨٨١ (, premie؟re partie) Paris, ٦٧٩١ (, pp. ٧٥٢ ـ ٢٦٢; Pinkney, Decisive years, pp. ٦٣ ـ ٧٣, ٥٤ ـ ٦٤.

١٥٨

وكان كثيرا فتكون مرغوبا فيها وربما باعها بأكثر مما دفع والعكس بالعكس ، ويحل المشتري محل البائع فيما كان يأخذه من المستفاد. ويعملون مثل ذالك في بناء القناطر ، فالقناطر التي رأيناها عندهم جديدة كلها يؤدى عليها العوض في المرور. وهي من عمل التجار حتى تمضي المدة المحدودة لهم فيرفعون أيديهم ويبقى الناس يمرون عليها بلا شيء كما في القناطر القديمة. ويعملون مثل ذالك في استخراج المعادن وغير ذالك. ولا يقصر ذالك على الكبار من التجار ، بل ربما كثروا الأوراق وقللوا ما فيها من العطاء بحيث يسهل على غالب الناس شراؤها ، وكل واحد يأخذ على قدر ما دفع ولو كعشرة من ألف.

ثم انتهى بنا المسير في طريق الحديد المذكورة إلى داخل بيت كبير عالي السقف جدا داخل سور مدينة باريز فيه ينتهي سير البابور المذكور ومنه يبتدئ السير فهو مرساه ، وكان مثله في ابتدائها من مدينة أورليا. فدخلنا مدينة باريز في وسط النهار من يوم الأحد الثامن والعشرين من ذي الحجة الحرام متم عام أحد وستين مايتين وألف ، موافقا الثامن والعشرين من الشهر دجنبير ، متم عام خمسة وأربعين وثمانمائة وألف من ميلاد عيسى عليه‌السلام بتاريخ الروم. فكانت مدة سفرنا من مرسيليا لباريز سبعة أيام ، ومن تطوان لباريز خمسة عشر يوما.

ولما رجعنا (١) ، نزلنا من أكداش بابور النار رجعنا لأكداش سفرنا ، وكانت لحقتنا من طريق أخرى فركبنا فيها حتى بلغنا المحل الذي أعد لنزولنا هنالك. وبقي لنا من المدن التي دخلناها مدينة طولون (٢) ، ولم نذكرها مع ما تقدم لأنها لم تكن في طريقنا وإنما سرنا إليها قصدا بعد رجوعنا من باريز. لما وصلنا إلى مدينة إكس في حال رجوعنا تركنا طريق مرسيليا وسرنا لطولون ، وطريقها صعبة وعرة فيها جبال ونبات ، والعمارة بها قليلة وغالبها أجنات دوالي العنب وأشجار الزيتون ، وبالقرب منها قليل من أشجار اللشين.

وهذه المدينة هي مأوى عساكرهم البحرية ومرسى سفنهم الحربية ، وهي صغيرة لاكنها في غاية التحصين ، لها سوران وخلف كل سور حفير عظيم واسع. وعند بابها

__________________

(١) عمد الصفار هنا إلى الحديث عن الرجوع ، حتى يكون حديثه المفصل عن باريز قائم الذات ، لأن مقام البعثة السفارية المغربية بباريز هو أهم مراحل الرحلة.

(٢) ويقابلها في الفرنسية (Toulon)

١٥٩

على الحفير المذكور قنطرة يجاز عليها ترفع باليل وتبسط بالنهار ، وهي دائرة بأبراج المدافع ، وليس فيها تجارة ولا كبير أسواق. إنما المقصود منها المرسى ، ومرساها كبيرة جدا في جون بين الجبال محجوبة عن الريح ، محتفة بأبراج المدافع مبنية المون والشاطئ من سائر جوانبها. وقرب المرسى براح كبير مشتمل على بيوت وخزائن فيه دار صنعة المراكب وءالاتها المسماة عندهم بالطرسنة (١) ، فيها بيوت عالية جدا كبيرة يدخل لها القرسال الكبير بتمامه حتى يكون في وسط ذالك البيت مرتفعا بدعائم من الخشب فيصلح أو ينشأ جديدا. وإخراجه من البحر عندهم بحركات حتى يخرج من الماء ويرتفع على فرش من الخشب فيرفعه حتى يدخله البيت المذكور. وبعد تمامه يخرج كذالك حتى يلقى في الماء.

ولما قدمناها أتانا كبير البحر الذي يسمونه الميرنط (٢) ، وحض عليها في الذهاب للمرسى وأن نطلع لبعض مراكبهم التي بها فأسعفناه لذالك ، فذهبنا وانتخب لنا فلائك من أحسن ما عندهم هنالك ، فركبنا فيها وسرنا حتى بلغنا لبابور قرسال فصعدنا إليه فرأينا فيه من الطبجيات والمدافع وسائر آلاتها وإقامتها ، ومن العساكر وترتيبها ووضع الأشياء في محلها ، وإسراع من به لإجابة أمر كبيرهم وطاعتهم له ، ومن الإتقان والحزم والضبط ما ينبئ عن عظيم قوتهم وحدة عقولهم وحسن إعدادهم وتدبيرهم واستعدادهم للأمور قبل أن تنزل بهم.

ومن أغرب ما وجدنا عندهم فيه أن كانوا يحلون ماء البحر حتى يصير عذبا يشرب ، وذالك بأن يطلعوه من البحر بحركات ويجعلوه في قدور على فرن وهو يغلى عليه. وانظر ما يفعلون به بعد ذالك حتى ينفصل من بزبوز (٣) آخر حلوا باردا يغني

__________________

(١) أو الترسانة ، وأيضا الترسخانة. وأصل الكلمة من العربية دار الصناعة. ومعناها الضيق هو «ورشة بناء وتجهيز المراكب الحربية». ودخلت تلك الكلمة فيما بعد في اللغات الأوربية ، فنجدها في الإيطالية أرسنال (arsenale) ، وفي الفرنسية أيضا أرسنال (arsenal) ، ثم عادت الكلمة نفسها إلى العربية لكن في شكل جديد. انظر :

Dozy ١ : ٠٢٤; EI ٢, s. v" Dar al ـ Sin a".

(٢) ومعناها بالفرنسية أميرال (amiral) ، وهي أيضا من الكلمات العربية التي عادت مجددا إلى أصلها العربي لكن في شكل آخر : Muqaddimah ٢ : ٧٣.

(٣) جمعها بزابيز ، وهو الصنبور ، وبالفرنسية روبيني (robinet) ، أو كانيل (Bozy ١ : ١٨).) cannelle ((المعرب).

١٦٠