رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

قضاها في فرنسا (١). وفي يوم ٢٢ مارس ١٨٤٦ ، التقى القنصل البريطاني جون دراموند هاي (J.D.HAY) ، الذي كان أيضا في طريقه إلى مراكش ، بأشعاش في الرباط ، فتناولا الشاي معا هناك. وكتب هاي في مذكراته متحدثا عن أشعاش ما يلي : «إنه ليعتبر بحق من أحسن المغاربة الذين رأيتهم ، ويبدو أنه قد زالت عنه تلك الدرجات المعهودة من التعصب عند المغاربة بعد زيارته باريز» (٢). وحسب ما جاء عند دراموند هاي ، فقد أحاط السلطان استقبال السفير أشعاش بكل مظاهر التشريف والإجلال ، وفي ذلك دليل على رضى السلطان عن سلوك مبعوثه أثناء وجوده في الخارج.

وعاد أشعاش إلى تطوان لممارسة مهام الباشوية على المدينة ، غير أنه ما كان بمقدرته نسيان أولئك الذين نزل عندهم ضيفا في الديار الفرنسية. وتفيدنا بعض النصوص الموجودة ضمن الوثائق الفرنسية أنه كتب إلى دوشاستو (De Chasteau) العبارات التالية : «إذا كانت لكم رغبة شيء ، فأخبروني بها ، وبعون الله تعالى سوف ألبيها لكم» (٣). ونجده بالفعل خلال ربيع ١٨٤٦ وصيفه ، يزود القنصل الفرنسي بمعلومات قيمة عن بعض القضايا المحلية (٤). وما لبث أن ظهر مناصرون آخرون لفرنسا ، فتوسعت دائرة الأشخاص الذين اعتادوا الحصول على المال من الفرنسيين بمن فيهم كبار موظفي المخزن. وحسب المصادر الفرنسية ، فإن الوزير ابن إدريس قد حصل من الفرنسيين على مبلغ قيمته ٢٩٠ ، ٢٩ فرنك بالعملة الإسبانية الذهبية المعروفة قديما بالدبلون. كما وافق بوسلهام بن علي على تسلم ما قيمته ٣٦٠ ، ١٠ فرنكا بعد أن أقسم على «كتمان ذلك». وتلقى عامل الريف المدعو بن عبو وعودا بالحصول على ما قدره ٠٠٠ ، ١٨ فرنك سنويا «طالما استمر في قيامه بأعمال يكون من شأنها

__________________

(١) وثائق عائلية ، ابن ادريس إلى محمد الرزيني ، ٢٠ ربيع الأول ١٢٦٢ / ١٨ مارس ١٨٤٦.

(٢) J. H. D. Hay, Journal of an Expedition to the Court of Marocco in the year ٦٤٨١) Cambridge, ٨٤٨١ (, p. ٥٤.

(٣) ٦٨ / ١٦AAE / CPM ، أشعاش إلى دوشاستو ، ١٠ مارس ١٨٤٦.

(٤) ٢١٢ / ١٧AAE / CPM ، دوشاستو إلى كيزو ، ٢٧ شتنبر ١٨٤٦. يحدثه فيها عن التقرير الذي بعث إليه به أشعاش حول وصول قطع صغيرة من الأسطول البريطاني إلى تطوان.

٦١

خدمة مصالح فرنسا» (١). فتحولت بذلك توقعات ليون روش إلى حقيقة ، إذ حدثت بالفعل ثورة داخل البلاط السلطاني ، وتمكنت فرنسا من تدعيم موقفها إلى ذلك الحين. فكتب القنصل البريطاني دراموند هاي بلهجة لا تخلو من الحسرة أنه : «لا يمر يوم واحد دون أن أسجل التراجع الحاصل لنفوذنا والتزايد الواضح لنفوذ الفرنسيين» (٢).

ونظر المغاربة أيضا بعين الرضى إلى تلك السفارة ؛ فبعد عودة أشعاش ، قرر كيزو أن يرفع ضغوط بلاده عن السلطان ، ليترك أمامه حرية اختيار الطريقة التي يراها مناسبة لمعالجة قضية الأمير عبد القادر (٣). ونتيجة لحرمانه من المعونات المغربية ، لا يستبعد أن يكون المقاوم الجزائري قد قرر تسليم نفسه والذهاب إلى المنفى. غير أن

__________________

(١) ١٦٥ ـ ١٦٠ / ١٨AAE / CPM ، دوشاستو إلى كيزو [؟] ، ١٢ فبراير ١٨٤٧. وذكر العروي أن بعض الأسر شرعت في الحصول على مبالغ مالية كبيرة ، فأصبحت بذلك «أو فى حليف للمصالح الأوربية» ، انظر : History ,p.٢٢٣. وكانت أعمال الارتشاء من القبيل نفسه سارية المفعول في الإمبراطورية العثمانية منذ القرن الثامن عشر ، حيث أصبحت «شيئا مكملا لا يمكن العدول عنه عند إبرام كل الصفقات أو العمليات». انظر :

Thomas Naff," Ottoman Diplomatic Relations with Europe in the Eighteenth Century : Patterns and Trends", in Thomas Naff and Roger Owen, eds., Studies in Eighteenth Century Islamic History) Carbondale, ٧٧٩١ (, p. ٥٩.

(المعرب) : ولم يستثن محمد الصفار من ذلك ، إذ نجده يتسلم من جون دراموند هاي ، النائب البريطاني ، مبلغا ماليا قيمته مائتا جنيه استرليني مكافأة له على موقفه المساند للمقترحات البريطانية أثناء المفاوضات الخاصة بمعاهدة ١٨٥٦. انظر : ٧٢ / ٩٩.FO ، رسالة سرية من هاي إلى كلارندن ، طنجة ، ١٣ نونبر ١٨٥٦ في كتابنا : المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (١٨٥٦ ـ ١٨٨٦) ، منشورات كلية الآداب بالرباط ، الطبعة الثانية ١٩٩٧ ، ص. ١٢٢.

(٢) ٣١ / ٩٩FO ,Public Record Office ، هاي إلى بالمرستون ، ٤ نونبر ١٨٤٦. ورد ذكرها عند فلورنوي :

F. R. Flournoy, British Policy toward Morocco in the age of Palmerston) Baltimore, ٥٣٩١ (, p. ٦١١.

(٣) ٢٠٦ ـ ١٩٨Guizot ,France under Louis ـ Philippe ,pp .. وقد اهتم الناصري في الجزء التاسع من كتابه الاستقصا بتسجيل مظاهر التلاشي المستمر للعلاقات بين السلطان والأمير عبد القادر ، إذ اتهم هذا الأخير ب «استفساد القبائل» ، (ص. ٥٠) ، وبأنه «رام الاستبداد بل والتملك على المغرب» (ص. ٥٦). وتلقى المغاربة خبر القبض عليه في جو من الفرح والاغتباط (ص. ٥٨).

٦٢

هذا الانسجام في المصالح بين المغرب وفرنسا كان ظرفيا ، إذ أدت ثورة عام ١٨٤٨ إلى محو كل آثاره بصفة تامة. وفي أعقاب ذلك ما لبثت الأطماع الأمبريالية أن برزت من جديد وبدرجة أقوى مما كانت عليه من قبل ، جعلت الدولتين تدخلان مرة أخرى في دوامة الصراع والمواجهة (١).

أما الفقيه محمد الصفار ، فبعد مدة قصيرة من عودته إلى تطوان ، فقد شرع في كتابة فصول رحلته. وربما كانت لديه نية كتابتها منذ البداية ، لأنه اتخذ كناشا سجل فيه كل المعطيات التي عاينها خلال مشاهدته اليومية. ومن المحتمل أيضا أن يكون أشعاش هو الذي أمره بذلك ، حتى يتمكن من تقديم تقرير مفصل ومكتوب عن الرحلة إلى السلطان مولاي عبد الرحمن. ومن الأمور الأكيدة التي لا يتسرب إليها أدنى شك ، هو أن أهم ما خلفته تلك السفارة من أثر حقيقي هو الرحلة في حد ذاتها. وإذا كان الزمن قد أسهم في نسيان اسم السفير ، وكذا في نسيان الهدف الذي وجهت السفارة من أجله ، فإن اسم كاتبها محمد الصفار ظل على العكس من ذلك ثابتا ، بل إنه سيظل كذلك على مر العصور لا محالة.

الصفار وجوانب من حياته

اسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أندلسي الأصل ، تطواني المولد (٢). أتى أجداده من مدينة جايين (Jae؟n) الأندلسية ، وكان والده يلقب

__________________

(١) يمكن العودة إلى ما مييج عن النتائج المترتبة على السفارة وعن تطورات العلاقات المغربية الفرنسية انظر :. ٢٢٠ ـ ٢١٤ : ٢Mie؟ge ,le Maroc

(٢) يعتبر كتاب تاريخ تطوان لمؤلفه محمد داود المصدر الأساسي لحياة محمد الصفار ، ٧ : ٧٨ ـ ٩٨. وقد استفدنا في هذه الدراسة من مصادر أخرى نذكر منها ما يلي : تقييد في ترجمة الوزير الصفار ، مجهول المؤلف ، ومحفوظ بالخزانة الحسنية تحت رقم ١٢٤١٩ ، سنشير إليه من الآن فصاعدا هكذا : التقييد المجهول ؛ أحمد الرهوني ، عمدة الراوين في تاريخ تطاوين ، ٦ : ٥٢٣ ـ ٥٣٣ ، المكتبة العامة بتطوان ؛ العباس بن إبراهيم المراكشي ، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ، تحقيق ونشر عبد الوهاب ابن منصور ، ١٠ أجزاء (الرباط ، ١٩٧٤ ـ ١٩٨٣) ٧ : ٣٤ ـ ٣٥ ؛ محمد غريط ، فواصل الجمان في أنباء وزراء وكتاب الزمان (فاس ، ١٣٤٧ / ١٩٢٨) ص. ٧٠ ـ ٧١.

٦٣

بالجياني. يجهل كل شيء عن تاريخ ولادته كما هو شأن المعاصرين له ، وعن فصول حياته الأولى ، مع أن البيت الذي شهد ولادته ما يزال قائما إلى اليوم في تطوان. وهو مسكن بسيط من طابقين ، لا تحتوي جهاته الداخلية على أي من مظاهر الزينة التي عادة ما تتميز بها دور الأثرياء (١). وتوحي بساطة البيت بأن أسرة الصفار كانت متواضعة ، وربما كانت غنية من ثقافتها وأصلها المتميز ، لكنها لم تكن على حظ من الثروة المادية.

حلت أسرة الصفار بمدينة تطوان رفقة الجموع المهاجرة فرارا من حروب الاسترداد الإسبانية ، عند نهاية القرن الخامس عشر ، للالتحاق ببقية المسلمين الأندلسيين الذين أعادوا بناء مدينة تطوان ، واتخذوها قاعدة للانطلاق منها وشن هجمات مضادة على إسبانيا والثغور الأجنبية المجاورة لسبتة وطنجة. ثم هاجر جزء من الأسرة إلى فاس ، غير أن الفرع التطواني منها تجذر وترعرع في أحضان تلك المدينة المغربية الشمالية وربوعها. وتعتبر الصورة التي كانت لدى محمد الصفار عن تطوان مسقط رأسه ، والأحاسيس الشاعرية التي انتابته عند مغادرته إياها ، دليلا قاطعا على مدى ارتباطه العميق بها (٢).

إن لكل مدينة مغربية خصوصياتها الفريدة ، ولا تستثنى تطوان من ذلك. إذ أنها تمتد على هضبة واقعة بين الجبال والبحر الأبيض المتوسط ، وتميل في وجهتها إلى الأراضي البرية الداخلية أكثر من انفتاحها على البحر. وعلى امتداد قرون عديدة ، التحق بالعناصر المنحدرة من الأصول الأندلسية العريقة ، سيل من سكان الجبال الوافدين من الريف أو من منطقة جبالة ، والذين جذبتهم تطوان إليها بأسواقها النشيطة وبساتينها اليانعة المعطاء. وإذا كانت المرسى المجاورة لها في مارتيل تعرف اليوم ركودا مطلقا ، فإنها قد عاشت فيما مضى حركة تجارية دائبة. وعلى الرغم من أنها لم ترق إلى رتبة المرسى الرئيسية للبلاد ، فإنها قد شكلت مع ذلك ، صلة وصل بين الطرق التجارية النشيطة في اتجاه الشرق والجنوب. وازدهرت في أحضانها نماذج

__________________

(١) وذلك ما لاحظته سوزان ميلار في عين المكان خلال زيارة قامت بها شخصيا في شهر ماي من سنة ١٩٧٣.

(٢) انظر الصفحات الأولى من متن الرحلة فيما سيأتي.

٦٤

من أثرياء التجار (١) المتميزين ببرانسهم وجلاليبهم النظيفة الناصعة البياض والذين كانت لهم مشاركة ما في التجارة الدولية. وحاول سكان تطوان الاستفادة من بعدهم النسبي عن مراكز السلطة المخزنية ، فسعوا جاهدين في الوصول إلى «الرفع من مقدار ثرواتهم عن طريق التجارة ، واستمتاعهم في سلام وسكينة ، بما يجدونه من سعادة في الآداب والفنون» (٢).

وكان ثراء المدينة يجذب الأنظار إليها ، مما جعلها تكون بين الفينة والأخرى ، مسرحا لمظاهر العنف والاضطراب. وفي سنة ١٢٣٦ / ١٨٢٠ دخل إلى المدينة بعض القبليين المؤيدين للمولى إبراهيم ، أحد المتنافسين على السلطة مع السلطان المولى سليمان ، «[...] واستولوا على مال المرسى ، وعلى مخازن السلطان وما فيها من سلاح وكتان وملف وغير ذلك [...]» (٣). وفي أحيان أخرى ، كان السلطان يتدخل في الحياة التجارية الحرة لتطوان ويقوم ـ حسب التعبير المخزني ـ ب «أكل» ممتلكات التجار الذين تفاحشت ثرواتهم بشكل أصبح باديا للعيان (٤). لكن حياة الهدوء كانت في غالبية الأوقات مخيمة على المستوى المحلي للمدينة ، وإن تخللتها في بعض اللحظات اضطرابات ظرفية ثمنا لما كانت تعرفه مرساها من إيقاع تجاري على حظ وافر من الرخاء.

وفي بعض الأحيان ، كانت تلك التجارة تلزم التطوانيين بالاغتراب مؤقتا

__________________

(١) تعني لفظة «التاجر» في التعبير العامي المغربي ذلك التاجر النموذجي الناجح ، الذي غالبا ما تكون له مساهمة بشكل من الأشكال في التجارة الدولية.

(٢) انظر المراجع التالية :

G. S. Colin, EI I, S. V." Tittawin"; J. D. Latham," The Reconstruction and Expansion of Tetuan : The Period of Andalusian Immigration", Arabic and Islamic Studies in Honor of Gamilton A. R. Gibb, ed. G. Makdisi) Leiden, ٥٦٩١ (, pp. ٧٨٣ ـ ٨٠٤; A. joly," Te؟touan". ٢ e؟me partie," Histoire", AM ٥) ٥٠٩١ (: ٨٩١ ـ ٤٦٢, ٣١٣ ـ ٨١٣.

(٣) الناصري ، الاستقصا ، ٨ : ١٥٢.

(٤) في سنة ١٢٤٢ / ١٨٢٦ ، قبض القائد محمد أشعاش بأمر من السلطان مولاي عبد الرحمن على اثنين من أعيان تجار تطوان ثم «استصفى من أموالهما ما وصلت إليه يده ... وبعث بالكل إلى السلطان» ، تطوان ، ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٦٥

والذهاب متنقلين بعيدا عن مدينتهم. وكانوا ينطلقون في رحلاتهم مبحرين من مرسى مارتيل في اتجاه مراكز البحر الأبيض المتوسط ، أو غيرها من الجهات النائية. فحل البعض منهم بالجزائر ، ووصل قليل منهم إلى جهات من بلدان أوربا. في ١٢١٢ / ١٧٩٧ نجد التاجر عبد الرحمن مدينة يحصل من أمناء تطوان ، على شهادة تثبت عزمه على «[...] السفر في البحر لبر النصارى لتجارة رائجة إن شاء الله ، فأظهر لشهوده ما بصندوقه من المال ، فكان عنده أربعة آلاف وخمسمائة وسبعون ريالا ونصف ، مع ضبلون عدده ستة وثلاثون ، وعشرون من المطبوع [...]» (١). وقد وصف محمد الصفار الحاج العربي العطار ، أحد أعضاء السفارة المغربية إلى فرنسا ، بالشخص «الماهر بسياسة المخالطات وجوب الأقطار» (٢). وكان أفراد أسرة العطار من مشاهير رجال الأعمال التطوانيين الذين اعتادوا القيام بعمليات تجارية في الخارج. ومن ثم كان التطوانيون يتحلون بحق ، بسمات الفطنة واليقظة المعهودة لدى رجال الأعمال الناجحين ، وهي من الصفات التي غالبا ما اعتقد الناس خطأ أن سكان فاس ينفردون بها انفرادا متميزا عن غيرهم. لكن ـ علاوة على ذلك ـ كانت لديهم تلك المسحة غير المحلية التي جعلتهم متحررين في سلوكهم أثناء تعاملهم مع الأجانب. وكانت تلك الخاصية من الصفات النادرة في الفترات الزمنية الباكرة من مغرب القرن التاسع عشر.

غير أن وجود اتصالات مع الأجانب لا يعني بالضرورة قبولهم ، لأن مدينة سبتة القريبة كانت قاعدة أمامية مسيحية لها احتكاك بهوامش تطوان وأطرافها ، بشكل يجعلها تحس وكأنها يمارس عليها ضرب من الانتهاك العنيف لحرمتها. وكذلك حال طنجة غير البعيدة ، التي كانت مصدرا لعدوى الأجانب (٣). وخلق القرب الشديد

__________________

(١) تطوان ، ٣ : ٢٣٦.

(٢) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٣) احتلت البرتغال سبتة عام ١٤١٥ ، وظلت منذ ذلك التاريخ في قبضة الأجانب. إذ انتقلت إلى يد إسبانيا في ١٥٨٠ ، ثم أحكم عليها الإنجليز قبضتهم في ١٨١٠ ، فأعيدت إلى إسبانيا عند نهاية الحروب النابليونية. أما طنجة ، مكان إقامة الهيئة الدبلوماسية ، فقد كان بقية المغاربة ينظرون إليها دائما بعين الريبة. انظر :

. A. Rey, Revue des deux mondes," Le Maroc et la question d\'Alger",) ٠٤٨١ (: ٨١٦. ٤٢

وقد ورد فيها مقتطف من كلام للوزير ابن ادريس قال فيه إن طنجة «هي مدينة المسيحين».

٦٦

من أوربا عند سكان تطوان نوعا من الإحساس المعقد الممتزج بمشاعر الألفة والازدراء في آن واحد. وشهدت المدينة نمو روح نضالية خاصة ، فاعتبر معها العديد من التطوانيين أنفسهم حاملين لواء الجهاد في حرب ضد الاحتلال المسيحي. في سنة ١٧٩١ ، ساند التطوانيون حركة مولاي اليزيد القائم ضد والده سيدي محمد بن عبد الله. وكان السبب الرئيسي الذي حملهم على ذلك ، هو تجاهل هذا الأخير لمسألة الوجود الإسباني في سبتة. وقام مولاي اليزيد بمحاصرة المدينة المحتلة ، وعلى الرغم من فشل جهوده ، ظلت تطوان مخلصة في ولائها له ، في حين نظرت إليه بقية جهات المغرب نظرة احتقار وازدراء (١).

وهناك مصدر آخر شجع أهل تطوان على الارتباط الشديد بروح النضال الإسلامي ومبادئه. إذ كانت تطوان ـ منذ القرن الثامن عشر ـ مركزا لحركة دينية نشيطة مكثفة. وتمحورت تلك الحركة بصفة أساسية حول الزاوية الدرقاوية ، المؤسسة حديثا في منطقة غير بعيدة عن تطوان ، فانتشرت من هناك لتعم بقية أرجاء المغرب. وأصبحت الزاوية الدرقاوية قبلة للزوار ، فترددوا عليها للمشاركة في طقوسها التعبدية من تلاوة ذكر وغناء وجذبة ، وغيرها من الممارسات المعروفة عند مختلف الزوايا والطرق الصوفية المغربية. وما لبثت الزاوية الدرقاوية أن بسطت نفوذها على المدينة. وحين أعلن المولى سليمان ، لأسباب سياسية ودينية ، معارضته الشديدة لتقديس الأولياء ولكل ما يصاحبه من طقوس لدى الزوايا والطرق الصوفية ، أثيرت ضده في تطوان وأحوازها مشاعر العداء. وتبعا لذلك ، لم تتردد كل عناصر التشكيلة الاجتماعية التطوانية ، كرجال الزوايا والعلماء والتجار والأعيان ، في تقديم العون والمؤازرة لخصمه مولاي سعيد. وعمت الفرحة الكبيرة سكان مدينة تطوان حينما بلغهم خبر تنازل المولى سليمان عن الحكم لفائدة ابن أخيه مولاي عبد الرحمن بن

__________________

ويضيف راي معلقا على ذلك بقوله :» Ce n\'est plus le Maroc, ce n\'est pas encore l\'Espagne «، «إنها ليست من المغرب في شيء ، ولكنها ليست بإسبانيا».

(١) تطوان ، ٣ : ١٩١.

٦٧

هشام سنة ١٨٢٢ (١).

هذه هي الأرضية التاريخية لمدينة تطوان ، مسقط رأس محمد الصفار. تلك المدينة التي يمكن أن يصادف فيها المرء ، جنبا إلى جنب ، مظاهر أسلوب العيش الرفيع الموروث عن الأندلس ، مع أساليب حياة الريف المعروفة بمظاهرها الشديدة القساوة ؛ وكذا سيادة الأذواق الحضرية الراقية إلى جانب روح المجاهدين النضالية ؛ كما تجد أيضا بين أحضان مساجدها علوم الدين السنية الأصلية وإلى جانبها الممارسات التعبدية التي أحدثتها الزوايا والطرق الصوفية. إن هذه المتناقضات هي التي شكلت مكونات المحيط الذي أبصر فيه محمد الصفار النور وترعرع فيه.

وقد بدأ محمد الصفار مرحلته التعليمية في تطوان ، فتعلم على يد شيوخ عصره ، وإن كانت أسماؤهم مجهولة لدينا (٢). واتجه بعد ذلك إلى فاس لقراءة العلوم بجامع القرويين صحبة رفيقه الحميم محمد عزيمان ، الذي أصبح فيما بعد قاضيا بتطوان (٣). ولم تكن هناك مدة محددة يتلقى خلالها المتعلمون دروسهم في القرويين. غير أن جل الطلبة ، لا يقضون فيها بوجه عام سوى أربع سنوات أو خمس. ومع ذلك ، فقد مكث محمد الصفار بفاس مدة استغرقت أزيد من ثماني سنوات ، انهمك خلالها في دراسة علوم الفقه والحديث والنحو والأصول ، على يد العالم

__________________

(١) عن هذه الفصول المتعلقة بتاريخ المدينة ، انظر : تطوان ، ٣ : ٢٠٦ ـ ٢٢٤ ، ٢٥٨ ـ ٢٦٥. أما عن الزاوية الدرقاوية فيمكن الرجوع إلى مادة «درقاوة» في : EI ٢ ,» Darkawa «وهناك سبب آخر لا متعاض التطوانين من المولى سليمان ، وهو تضييقه الخناق على التبادل التجاري مع الخارج ، مما كان له تأثير سلبي مباشر على السير العادي والمربح لأعمال التجارة بمرسى تطوان ، انظر :

J. Brignon et al., Histoire du Maroc) Paris, ٧٦٩١ (, p. ١٨٢.

(٢) تطوان ، ٧ : ٧٨. لم يترك لنا الصفار أية فهرسة تتضمن لائحة بأسماء شيوخه وعناوين الكتب التي قرأها بتوجيه ورعاية منهم.

(٣) المرجع نفسه. وشكلت التربية التقليدية في المغرب موضوع دراسة أنجزها إيكلمان تحت عنوان :

D. Eickelman," The Art of Memory : Islamic Education and its Social Reproduction", Comparative Studies in Society and History ٠٢, ٤) ٨٧٩١ (: ٥٩٤ ـ ٦١٥.

انظر قائمة المصادر والمراجع المستفيضة التي أثبتها إيكلمان في الكتاب أعلاه.

٦٨

الشهير ابن عبد الرحمن الحجرتي (١). ولا بد من أن يكون قد حضر الجلسات المسائية التي كانت تعقد خارج جامع القرويين ، والتي كان بعض الطلبة المتميزين يدرسون فيها علم البلاغة والإنشاء ، من أجل التحكم الصحيح في ناصية اللغة العربية. ولما عاد الصفار إلى تطوان في ١٢٥٢ / ١٨٣٦ أصبح يلقب بالفقيه دليلا على إحاطته بالفقه وما إليه من العلوم الشرعية.

تجاوز الصفار بالتعلم في فاس تحصيل الأدوات الشرعية الكافية لممارسة مهام القضاء على سبيل المثال. فبعد إنهاء دراسته بدرجات من الامتياز ، كان الصفار على أتم استعداد لاحتلال أعلى المراتب في المجتمع المغربي ، ولأن يكون ضمن صفوف الخاصة بكل ما تتميز به من تعارض مع فئة العامة (٢). إن تردد الصفار على الأوساط العلمية واحتكاكه بمؤسساتها في فاس ، قد منحه وهو شاب في مقتبل العمر من أسرة بسيطة ، نوعا من «التجربة الاجتماعية المكثفة» (٣) ذات الأهمية البالغة ، التي سمحت له بالدخول مباشرة واحتلال مكانه ضمن العناصر الاجتماعية المكونة للنخبة الحضرية ولو على مستواها الجهوي. واعتمادا على رسائل التوصية المسلمة إليه من أساتذته المرموقين ، تمكن الصفار في وقت وجيز من فرصة عمل تتلاءم وتكوينه ، فاشتغل عدلا بمدينة تطوان (٤). وكان العدول يحظون بالتقدير والاحترام لدى عامة الناس ، لمعرفتهم بأمور الشرع واتصافهم بالاستقامة والأمانة. ويؤكد محمد

__________________

(١) واسمه الكامل هو أبو العباس بن محمد بن عبد الرحمن الفيلالي الحجرتي ، شيخ الجماعة بجامع القرويين ، كان يعتبر من كبار علماء عصره في المغرب. توفي سنة ١٣٠٣ / ١٨٨٦. محمد بن جعفر الكتاني ، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس ، ٣ أجزاء. (فاس ، ١٨٩٨) ، ٢ : ٢٠٦ ، ٣ : ٩ ؛. ١٩٣Lakhdar ,La vie litte؟raire ,p.٧٥٣ note

(٢) انظر مادتي : «الخاصة والعامة» ، في : El ٢ ,"al ـ Khassa wa\'l ـ Amma ".

(٣).٦٩٤.Eickelman ,"Art of Memory ",p

(٤) تتلخص وظيفة العدلية في العقود والرسوم في مختلف المجالات والمعاملات بين الأطراف المعنية بها وتوثيقها ، وذلك بوضع خاتم القاضي عليها. كما يتقن العدل الأسلوب الخاص بتحرير العقود الشرعية وفقا لمقاييس محددة لا بد من الالتزام بها. وتحمل الوظيفة نفسها تسمية مخالفة في البلدان الإسلامية المشرقية هي الشاهد ، انظر : Dozy, R. P. A., Supple؟ment aux dictionnaires arabes, ٢ vols, Beyrouth, ١٨٩١, ٢ : ٣٠١.

٦٩

داود أن الصفار كان يجمع بين تلك الميزتين معا ، واستطاع أن يصبح بسرعة من أبرز العدول الموجودين في تطوان. كما كان يقدم الفتاوى في القضايا الدينية ، وينوب أحيانا عن القاضي في اتخاذ القرارات. ويحتمل أنه كانت لديه طموحات ليصبح قاضيا على تطوان.

كان الصفار إضافة إلى مهام العدلية يدرس بمساجد تطوان مواد الحديث والفقه (١). كما اعتمد تقديم دروس عمومية عند الضحى من كل يوم في مواضيع المعاملات ، ودروس أخرى في العبادات فيما بين العشاءين. ومما لا شك فيه أن تلك الأيام قد شكلت أوقات حبور وطمأنينة له. إذ حظي عند التطوانيين أهل بلدته بالاحترام والتقدير ، فانغمس في تلك البيئة المريحة التي وفرتها له تطوان مسقط رأسه ، منشغلا بمهام التدريس وخطة العدالة. كما نعم الصفار بحياة عائلية مستقرة بعد زواجه بالشريفة مباركة بنت المؤذن ، فكانت له منها بنتان تزوجتا في تطوان ، وما زالت ذريتهما تعيش بهذه المدينة إلى اليوم (٢).

غير أن حياته الهادئة لم تبق على ذلك الحال بصفة دائمة ، وربما عرفت نهايتها بعد مصاحبته عامل تطوان محمد أشعاش ، وملازمته لابنه عبد القادر أشعاش الذي تولى المنصب نفسه بعد وفاة أبيه. وتقول المصادر إن الصفار قد أبعد على مضض عن متابعة القيام بمهمتي التدريس والعدلية ، ومورست عليه بعض الضغوط لحمله على الدخول في خدمة باشا المدينة. ونظرا لمكانة الصفار الجهوية ، وتمكنه العميق من أسرار اللغة العربية وعلوم الشريعة ، فقد أصبح مستشارا لعبد القادر أشعاش في كل القضايا ذات الصبغة الشرعية الصرفة. ويبدو أن دخول الصفار مرحلة الممارسة لمهامه

__________________

(١) كان من بين تلامذته الشيخ المفضل أفيلال أحد رجالات تطوان المعروفين آنئذ. وقد ترك كناشة أشار فيها إلى أنه بدأ دراسته لكتاب مختصر خليل مع الصفار في ١٢٥٨ / ١٨٤٢ ، ولامية الأفعال لابن مالك في ١٢٥٩ / ١٢٤٤ ، تطوان ، ٧ : ٧٨ ـ ٧٩. والمختصر كما هو معلوم هو تلخيص لموطأ الإمام مالك ، وضعه الشيخ خليل بن إسحاق الجندي ، ٩٦ : ٢GAL S. أما لامية الأفعال فهي في موضوع النحو وقواعد اللغة ، وقد وضعها جمال الدين بن علي ابن مالك ، ٥٢٦ : ١.GAL S والألفية أيضا منظومة في النحو لابن مالك ، ٥٢٢ : ٢.GAL S.

(٢) بعد مغادرة الصفار لمدينة تطوان ، فتح بيتا جديدا في فاس وتزوج هناك مرات عديدة إلى أن بلغ عدد الزيجات أربعا ، وهو العدد الذي تسمح به الشريعة الإسلامية. كما كانت له عشرة مع عدة إماء.

٧٠

الجديدة قد تم على الشكل الآتي :

«وسبب اتصال الفقيه الصفار بالسلطان الأعظم مولانا عبد الرحمن نور الله ضريحه ، أنه أمر كافة عمال إيالته بأن يتخذوا الكتاب من المدن الذين يحسنون الإنشاء والترسيل حيث كانت مكاتبهم ترد على الأعتاب الشريفة بخط طلبة البادية الذين لا يفهمون خطابا ولا يحسنون جوابا ولا يعرفون نحوا ولا لغة. ومن جملة العمال ، عامل تطوان الحاج عبد القادر أشعاش ، فطلب من الفقيه الصفار أن يأخذ بيده في أجوبة المكاتب التي ترد عليه من الحضرة الشريفة ، فامتنع من ذلك ، ولا زال يستعطفه حتى ساعده على ذلك. ولما وصل أول كتاب كتبه على لسان العامل المذكور لسيدنا مولانا عبد الله ، استحسنه وقال : الآن أتخذ أشعاش الكاتب» (١).

وحين أمر السلطان مولاي عبد الرحمن عامله على تطوان ، عبد القادر أشعاش ، بالاستعداد تهييئا لرحلته إلى فرنسا ، طلب منه اختيار «عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة» ، وكان من الطبيعي جدا وقوع اختياره على محمد الصفار. وقد أظهر الصفار حب استطلاع كبير أثناء وجوده في فرنسا ، فسجل أمورا كثيرة في أوراقه تسجيلا مفصلا. فهو مثلا يهتم بتذوق أنواع الطعام ، ويحاول التقرب من مظاهر البذخ ومن كل ما تتميز به الحياة الأوربية من مظاهر أثارت استغرابه وإعجابه بما كانت تزخر به من تنوع. وفي هذا الصدد كتب بوميي (Beaumier) إلى دوشاستو (de Chasteau) في طنجة بما يلي : «إن الفقيه ... مشغول طوال الوقت. وإن لديه موهبة عقلية نادرة ، وهو بصدد إنجاز بحث حقيقي ، فقد كتب أشياء كثيرة» (٢). وعلى امتداد صفحات الرحلة ، بدا الصفار مفعما بالحيوية وبدقة الملاحظات. وجدناه يعبر عن مشاعر الإعجاب أمام جمالية المرأة ، ويبدي تحسراته أثناء قيامه بالوضوء استعدادا للصلاة ، بل ويتألم متبرما من الساعات الطوال التي كانت تستغرقها وجبات الطعام. أما وجهات نظره وأفكاره فهي متباينة من صفحة إلى أخرى ؛ بعضها مبتذل وعادي لا أصالة فيه ، وبعضها الآخر أصيل بكل ما في الكلمة من معنى. ولم تكن الرحلة عند الصفار مجرد سلسلة من الأشياء المثيرة ، بل تجاوزتها لتكون

__________________

(١) التقييد المجهول ، صفحاته غير مرقمة. وقد بدأ الصفار مهامه الجديدة على عهد محمد أشعاش والد عبد القادر أشعاش ، حسب ما جاء عند الرهوني.

(٢) AAE / ADM / Voyage ، بوميي إلى دوشاستو ، ٢٩ يناير ١٨٤٦.

٧١

تجربة لتكون تجربة حقيقية على درب التحولات. لكن بعد قضاء خمسين يوما في الخارج ، لم يخف اشتياقه إلى مدينته تطوان وإلى بيته بقوله : «معاهد أنسنا ومطاب عيشنا ومسقط رؤوسنا وعش أفراخنا ومثار نشاطنا وأفراحنا» (١).

وبعد أن عاد الصفار إلى تطوان ، استأنف مزاولة مهام العدلية ، وإلقاء الدروس في الجامع ، إضافة إلى قيامه بمهمة الكتابة في خدمة الباشا عبد القادر أشعاش (٢).

وفوق هذا وذاك ، انهمك محمد الصفار في تحرير رحلته لتقديمها كتقرير مفصل ليرفع إلى حضرة السلطان. وبعد أن أتم الصفار ذلك العمل الشاق ، عاد إلى الظل ، ولم يقع في فصول حياته شيء يستحق الذكر خلال السنوات القليلة التالية.

غير أن هذه المرحلة ما لبثت أن انتهت في شهر رمضان من سنة ١٢٦٧ / ١٨٥٠ ، حين فقد عبد القادر أشعاش حظوته السابقة عند السلطان مولاي عبد الرحمن. وبحكم العلاقات الحميمة القائمة بين باشا تطوان ومحمد الصفار ، وجد الفقيه الكاتب نفسه في وضعية غير مريحة. وقبيل حلول عيد الأضحى ، أمر السلطان عامله على تطوان بالقدوم إليه في فاس لتقديم هدية العيد كما جرت العادة بذلك. وقد امتثل أشعاش واتجه في طريقه إلى فاس مصطحبا معه محمد الصفار دون أن تساوره أي شكوك في نوايا سيده ، وهذه رواية محمد داود لبقية الأحداث : «ولما وصل إلى فاس مع القائد الحاج عبد القادر أشعاش ـ وكان المترجم له [أي الصفار] كاتبا له ـ استدعاهما الفقيه الخطيب السيد الكبير الفاسي للغذاء معه بداره ، (٣) فاعتذر القائد المذكور بأنه سيذهب إلى دار المخزن لتقديم هديته إلى

__________________

(١) انظر الصفحات السابقة من هذا الكتاب بالإضافة إلى تعاليق بوميي «لقد بدأ السفير والمرافقون له ... يحسون بالشوق إلى بلدهم».AAE / ADM / Voyage ، بوميي إلى دوشاستو ، ٨ فبراير ١٨٤٦.

(٢) عثر محمد داود ضمن أوراق محمد الصفار على رسوم عدلية تحمل علامة توقيعه المعروفة عند العدول بالدبانة ، وتحمل تواريخ تبتدئ بسنة ١٢٦٣ / ١٨٤٥. وفي ذلك دليل على متابعة الصفار لمزاولة وظيفة العدلية بعد عودته من فرنسا.

(٣) عبد الكبير بن المجدوب الفاسي (توفي سنة ١٢٩٦ / ١٨٧٩) ، ينحدر من أسرة فاسية عريقة ، وكان خطيبا بضريح مولاي إدريس في المدينة نفسها. انظر :

E. Le؟vi ـ Provenc؟al, Les historiens des chorfa) Paris, ٢٢٩١ (, p. ٦٤٣.

واستقى محمد داود معلوماته من القاضي سيدي عبد الحفيظ الفاسي حفيد سيدي عبد الكبير الفاسي المشهور.

٧٢

السلطان. وتغدى الصفار بدار السيد الفاسي ، فكان من لطف الله به أنه لما صلى العصر وأراد الخروج ، استمهله صاحب الدار إلى أن فات وقت الهدية. فلما خرج الصفار من الدار ووصل إلى الصفارين ، وصله نبأ إلقاء القبض على القائد المذكور وعلى من كانوا معه ، فعاد للزاوية الفاسية من حينه بها محترما» (١).

وقد حاول الصفار ، في أثناء احتمائه بحرم الزاوية ، أن يتفاوض في إمكان إطلاق سراحه ، وربما تشفع له بعض معارفه في فاس وتدخلوا لصالحه لدى الجهاز المركزي للمخزن. ولا يستبعد أن يكون السلطان ما زال يذكر شخصيا أن الصفار هو كاتب الرحلة السفارية إلى فرنسا. ومهما كانت الأمور ، فقد سمح للصفار بمغادرة الضريح الذي احتمى به. ولم يكتف بغض النظر عن علاقاته الحميمة بعبد القادر أشعاش ، بل وجهت إليه الدعوة للالتحاق رأسا بحاشية السلطان (٢).

أما مصير القائد أشعاش ، فقد كان أقل حظا من صاحبه. فبينما ظل الصفار آمنا على نفسه بحرم الزاوية ، زج بأشعاش ومعه كل أفراد أسرته في غيابات السجن. ثم صودرت كل ممتلكاتهم وبيعت ، لتعود مداخيلها إلى بيت المخزن. وتظل الأسباب التي أدت إلى خراب أسرة أشعاش غير واضحة بما فيه الكفاية. إلا أن المعطيات المفصلة المتعلقة بالممتلكات المصادرة كما نشرها محمد داود ، توحي بأن ثروة الأسرة

__________________

(١) تطوان ، ٧ : ٧٩ ـ ٨٠. كانت مقابر بعض الأولياء «حرما» يمكن أن يجد فيه المتابعون ملجأ آمنا لأنفسهم. غير أن هناك اختلافا بين المصادر في اختيار الصفار للضريح الذي احترم به. إذ يقول محمد داود بلجوئه إلى الزاوية الفاسية ، ويؤيده في ذلك ما هو وارد في التقييد المجهول. أما الرهوني ، فيعتقد أن الصفار قد فر لاجئا إلى ضريح مولاي إدريس ، وهو الحرم التقليدي المعروف في فاس. أما الزاوية الفاسية ، فهي المركز الديني لمؤسسها سيدي عبد القادر الفاسي (المتوفى في ١٦٨٠) ، وتوجد في حي القلقليين بفاس ، انظر :

N. Cigar, Muhammad al ـ Qadiri\'s؟Nashr al ـ Mathani\' : The Chronicles) London, ١٨٩١ (, p. ٢٣١ et note ٧; Le؟vi provenc؟al, Les historiens, pp. ٤٦٢ ـ ٥٦٢.

أما الصفارين فهو حي صغير يتوسط قلب مدينة فاس قرب خزانة القرويين. والاسم مأخوذ عن الحرفيين الذين يصنعون هناك الأواني النحاسية وغيرها.

(٢) تطوان ، ٧ : ٧٩. ويؤكد داود أن الوزير ابن ادريس كان مؤيدا لرسائل التشفع الموجهة إلى السلطان وساعد على إخراج محمد الصفار من المأزق.

٧٣

كانت طائلة ومن الأهمية بمكان. ولا يستبعد أن تكون رغبة السلطان مولاي عبد الرحمن في حيازتها سببا رئيسيا في تغيير موقفه من آل أشعاش (١). ومن المحتمل أن يكون قد أطلق سراح أشعاش ، وسمح له بالعودة إلى تطوان ليعيش هنالك حياة عادية. وفي عام ١٨٦٢ أعاد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن تعيين أشعاش عاملا على تطوان ، لكنه ما لبث أن صادف صعوبات جديدة ، فأقيل من منصبه. وقضى أشعاش ما تبقى من عمره خديما مخزنيا بسيطا في مدينة مكناس إلى حين وفاته بها سنة ١٢٨٢ / ١٨٦٥ ـ ١٨٦٦. ولم تتمكن أسرة أشعاش بكل ما كانت تتميز به من جاه وأبهة ، من استعادة سالف مجدها الذي عاشت في أحضانه حينا من الدهر بمدينة تطوان (٢).

أما المرحلة الثانية من حياة الصفار ، وتشمل الفترة الطويلة التي قضاها في خدمة المخزن على المستوى المركزي ، فهي محيرة جدا لكل من يحاول تتبع فصولها وجمع شتاتها في وحدة متناسقة. وقد أحيطت حياته خلال تلك المرحلة التي يمكن تسميتها بالمخزنية ، بكثير من الغموض والسرية. وذابت كل عناصره الذاتية والفردية لتصبح منغمسة في خضم الوجود الواسع والحضور القوي لشخص السلطان وبلاطه ، والذي تتمحور كل العناصر التي تكون الأطر والموظفين المخزنيين حوله كالقطب المركزي. وكانت تبدو كل جوانب الحياة في البلاط ومظاهرها خاضعة في جميع جزئياتها إلى تقنينات بروتوكولية صارمة يصطلح عليها في التعبير المخزني بلفظة «القاعدة». وبموجبها تتحدد كل التصرفات الواجب احترامها داخل البلاط ، بدءا من طريقة تقديم الشاي وانتهاء بكيفية استقبال سفراء الدول الأجنبية. وكان يتم تشكيل الموظفين الوافدين على المخزن من جهة نائية من مختلف ربوع البلاد وفقا لتلك القاعدة ، وبطريقة تجعلهم يصبحون منصهرين في إطار عينة اجتماعية واحدة متراصة ومتلاحمة الصفوف. حيث يتخلى كل واحد منهم عن ولاءاته الجهوية المعهودة لديه بالأمس ، ليتحول إلى مخلوق جديد يخلص بكل كينونته وجوارحه إلى المؤسسة السلطانية دون غيرها. وكان انعزالهم عن بقية أفراد الرعي يزداد قوة نتيجة عدم استقرارهم في مكان واحد ، بفعل حياة التنقل والترحال الدائمة التي كان

__________________

(١) تطوان ، ٣ : ٣٠٣ ، ٣٠٩ ـ ٣٣٤.

(٢) تطوان ، ٦ : ١١ ، ٨٨ ـ ٩١.

٧٤

يعيشها السلطان وحاشيته ، وتحركه في موكبه من مكان إلى آخر. فقد يستقرون بعض الأحيان في أحد القصور السلطانية ، وتكون الخيام أحيانا أخرى مأوى لهم ومقاما.

ومقابل ذلك ، كان الموظف المخزني العامل بداخل البلاط يحقق بعض المكاسب. إذ يجد نفسه في غنى عن تحمل أعباء مصاريف حياته اليومية على جميع المستويات ، من مسكن وطعام وكسوة. وفي عهد السلطان مولاي عبد الرحمن ، لم يكن كبار موظفي البلاط السلطاني يتقاضون أي رواتب أو أجور محددة. فكانوا من الناحية النظرية ، مرتبطين مباشرة في كل حاجياتهم بشخص السلطان الذي يمكن أن ينعم عليهم بدور للسكنى أو بقطع أرضية يستغلونها فلاحيا ، وأيضا بالكسوة وحتى بمقادير مالية في بعض الأحيان. لكنهم في الواقع ، يستغلون سلطتهم المستمدة من مكانتهم كعاملين في خدمة البلاط ، فيكونون ثرواتهم الشخصية. وبصفة عامة ، فقد كان كبار موظفي المخزن يحيون دائما في بحبوحة من العيش ، وينعمون باليسر والرفاهية ، بل وحتى ببعض مظاهر الترف (١).

ولو كان لدى المرء حرية الاختيار ، لكان من الصعب عليه جدا مقاومة جاذبية الحياة داخل البلاط. وما حدث لمحمد الصفار ، هو أنه لم تتح له فرصة لتحديد اختياره ؛ إذ أصبح محروما من حماية راعيه بالأمس في تطوان عبد القادر أشعاش ، ودب إليه اليأس والاكتئاب من جراء المدة التي قضاها محبوسا بحرم الزاوية ، فلم يبق أمامه سوى الارتماء في أحضان الخدمة المخزنية داخل القصر السلطاني. وعاش الصفار طوال الثلاثين سنة اللاحقة منغمسا إلى أقصى الحدود في الوسط المخزني المركزي القريب جدا من شخص السلطان ، فما لبثت فردانيته أن انصهرت في بوتقة النسيج المخزني العريض ، ليصبح جزءا لا يمكن فصله عن مكوناته وارتبطت حياته

__________________

(١) تتضمن المراجع التالية وصفا للحياة بداخل البلاط السلطاني خلال القرن التاسع عشر :

E. Aubin, pseud,) Le؟on Descos (, Morocco of To ـ day) London, ٦٠٩١ (, ch. ٢١; E. Michaux ـ Bellaire," Au palais du sultan marocain", RMM ٥, ٨) aoچ t ٨٠٩١ (: ٧٤٦ ـ ٢٦٦;

وللمؤلف نفسه مادة المخزن «مخزن» في» El l ,s.v."Makhzen ". وأهم ما صدر في هذا الباب باللغة العربية ، كتاب عبد الرحمن ابن زيدان ، العز والصولة في معالم نظم الدولة ، في جزئين ، (الرباط ، ١٩٢٩ ـ ١٩٣٣) ، الجزء ١.

٧٥

ارتباطا وثيقا بذلك النسق.

وحين حل الصفار بالبلاط السلطاني ، لم يلحق بمجموعة الكتاب المتخصصين في تحرير المراسلات المخزنية ، بل أسند إليه السلطان مولاي عبد الرحمن مهمة السهر على تربية أفراد الأسرة السلطانية وتعليمهم ، ومن بينهم الأمير مولاي الحسن ، الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب كما هو معلوم. وبالمقابل ، فإن الصفار قد كانت «مونته تأتيه من طعام مولانا عبد الرحمن رحمه‌الله من داره السعيدة صباحا ومساء». وفي أعقاب ذلك ، أصبح الصفار بصفة تدريجية قريبا من أفراد الأسرة السلطانية ، ولم يمض سوى وقت ضئيل حتى ظهرت مواهبه واتضحت معالمها ، فتطورت العلاقات بين الطرفين على الشكل التالي :

«وكان السلطان نفسه يحضر مجلسه حالة تلك القراءة مع الشرفاء (يعني أبناء السلطان وأحفاده) ، ويقدمه للصلاة إذا لم يحضر الإمام الراتب. ويستغرق معه جل الأوقات في المذاكرة في العلوم. وكان يكتب لجلالته المكاتيب الخاصة. فكان وظيفه لدى السلطان المذكور كأنه السكرتير الخاص الذي يباشر الأعمال التي لا ينبغي أن يطلع عليها إلا من كان كامل الأمانة موضعا لكامل الثقة» (١).

وبعد أن تحول الصفار من مدرس إلى كاتب خاص يتمتع بثقة السلطان الخاصة ، انتهى به المطاف إلى الارتقاء لمنصب الصدر الأعظم في السنوات الأخيرة من حكم السلطان مولاي عبد الرحمن ، وهو أعلى المراتب التي يمكن أن يطمح إليها موظف مخزني (٢). وكانت مهمته الجديدة تتمثل في الجلوس إلى جانب السلطان ، والعمل على تنفيذ أوامره ، والبقاء على اتصال مستمر عن طريق المراسلة ، مع جميع الموظفين المخزنيين من المستويات المحلية. وعلى الرغم من أن العلاقات بين السلطان ووزيره قد تختلف حسب الظروف ، فإن هنالك نقطة أساسية واضحة تماما ، وهي أن الصدر الأعظم لا بد من أن يتمتع بثقة السلطان الكاملة حتى يمكنه البقاء في منصبه. ومن الأمور المثيرة المعبرة عن خصوصيات محمد الصفار ، صموده الطويل الأمد وبقاؤه مدة

__________________

(١) تطوان ، ٧ : ٨١ ـ ٩٢.

(٢) ليس هناك إجماع بين المصادر على تاريخ تعيينه ، ويصل الاختلاف الموجود إلى حوالي سنتين ، لأن الصفار كان يقوم بمهام الصدارة العظمى مدة طويلة قبل بداية تعيينه بصفة رسمية. تطوان ، ٧ : ٨١ ـ ٩٢.

٧٦

قاربت ثلاثة عقود من الزمن طرفا فعالا في مركزية السلطة المخزنية. ويعتبر هذا رقما قياسيا له أهميته في عالم المخزن المعروف بتقلباته العديدة.

وبمجرد ما أصبح الصفار صدرا أعظم للدولة ، بادر في الحال إلى إقصاء منافسيه مستعينا في ذلك بمكانته السامية الجديدة. وحسب ما هو وارد عند محمد غريط ، فقد كان هنالك وقتئذ رئيس البروتوكول المعروف بقائد المشور (١) ، «لما له من كمال الأثرة ونفوذ المرة ومزيد الخبرة ، قد استولى دونه على مواد النفع وموارد الأخذ والدفع» ، فاشتكى الصفار أمره إلى السلطان الذي أقاله من منصبه. وبعد ذلك ، يضيف محمد غريط «استبد الوزير بتدبير أعماله وتنفيذ أشغاله ، متمريا ضرعها منتقيا زرعها ، [و] أن ما جمعه وبتطوان أودعه» (٢).

ولا تسعفنا المصادر إلا بمعلومات طفيفة وخاطفة حول ما تبقى من فصول حياة

__________________

(١) «المشور» ، هو الساحة الواسعة الأرجاء الموجودة عند مدخل القصر السلطاني. وقائد المشهور موظف مخزني يتولى مسؤلية الحرس الموجود خارج القصر ، إلى جانب إشرافه على تنظيم الإجراءات الخاصة بحفلات استقبال سفراء الدول الأجنبية أو غيرها من الأنشطة الرسمية للمخزن المركزي. ابن زيدان ، العز ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) غريط ، فواصل الجمان ، ص. ٧٠ ـ ٧١. أما التقييد المجهول ، فنجده على عكس ذلك يعدد صفات الاستقامة في حق محمد الصفار. وأصبح هذا الأخير رجلا ثريا عند ممارسة مهامه مع المخزن. وتتميز سكناه ومحل إقامته التي اشتراها فيما بعد في تطوان بتنميقاتها الجميلة الأشكال وبزخارفها الرفيعة على الخشب. وكانت مهامه تتيح أمامه فرصا عديدة لتحقيق المكاسب المادية ، لأن العادة كانت جارية بتقديم المشتكين هبات وهدايا مالية إلى وزير الشكايات (انظر الهامش رقم ١٠٥) ، «تتناسب مقاديرها مع حجم الشكاية وأهميتها» كما جاء ذلك عند :

Michaux ـ Bellaire," Un rouage du gouvernement marocain : La beniqat ech chikai؟at de Moulay Abd el Hafid", RMM ٥, ٦) Juin ٨٠٩١ (: ٢٥٢.

وتضمنت وصية الصفار ـ وهي وثيقة خطية يبلغ طولها ستة أمتار وعرضها ثلاثون سنتمترا ـ لائحة مطولة بالممتلكات والعقارات والديون المخلفة والأشياء الثمينة التي كان يملكها. ويستفاد منها أنه ترك بعد وفاته أزيد من ثلاثين عقارا موزعة على مدن تطوان وفاس وزرهون ومراكش بقيمة ٨٨٣ ، ٤٢ ريال. لكنه بقيت عليه ديون بلغ مجموع قيمتها ٢٦٠٠ ريال أداها عنه السلطان مولاي الحسن لأصحابها ، وثائق عائلية ، تطوان.

٧٧

الصفار أثناء مساره الطويل في خدمة المخزن المركزي. ففي صيف سنة ١٨٥٩ مثلا ، حين ساءت صحة السلطان مولاي عبد الرحمن سادت الشكوك حول مصير الولاية ، فكان الصفار المركز الأساسي الذي اعتمد عليه المخزن. وجاء في أحد التقارير الفرنسية ، أنه تم «استدعاء طبيبين إنجليزيين إلى مكناس في شهر غشت لإجراء فحوص عليه فأكدا بأن حياته أشرقت على النهاية. وكان الصفار هو المتحكم الحقيقي في زمام الأمور» (١). كما لعب الصفار أيضا دورا أساسيا في تولية خلف السلطان المتوفى ، سيدي محمد بن عبد الرحمن (١٨٥٩ ـ ١٨٧٣) الذي كانت ميوله الإصلاحية واضحة المعالم (٢).

وكانت من الأهداف الأساسية للسلطان الجديد ، محاولة تحقيق نوع من العقلنة لبنيات الدولة ؛ فعمل إلى جانب وزيره محمد الصفار على إنشاء منصب حديث العهد في المغرب هو منصب وزير الشكايات ، للنيابة عن السلطان في الرد عن التظلمات الصادرة على المستويات المحلية من مجموع البلاد ، وكلف محمد الصفار بتحمل أعباء تلك المهمة الجسيمة. وتتلخص مهمة هذا الوزير في تلقيه جميع أنواع الشكايات ، والبت أحيانا في البعض منها شخصيا «حسب رغبة السلطان» ، وإحالة بعضها الآخر على حاكم البلاد وسيدها أحيانا أخرى. وكان السلطان يستمع شخصيا إلى المتقدمين بشكاويهم مرة في الأسبوع ، ليؤكد بذلك دوره التقليدي كرئيس أسمى لهيئة القضاء ، وأنه هو آخر هيئة شرعية يمكن اللجوء إليها في البلاد للبت بصفة نهائية وحاسمة في القضايا ذات الصبغة الشائكة أو المعقدة (٣). ويقدم

__________________

(١) Mie؟ge ,Le Maroc ٢ : ٩٥٣ note ٤.

(٢) نفسه. وفي ١٨٧٣ لعب الصفار دورا هاما في تهدئة ثورة الدباغين في فاس ، حين أقنع السلطان مولاي الحسن بعدم إطلاق المدافع على المدينة بقوله : «يا مولانا إن فاس جوهرة فريدة في المغرب ، فإذا هدمناها فمن أين لنا أن نأتي بفاس أخرى» ، تطوان ، ٧ : ٨٩ ؛ المنوني ، مظاهر ١ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٣) انظر المراجع التالية :

Laroui, Origines, p. ٣١١; Mohamed Lahbabi, Le gouvernement marocain L\'aube du XXe sie؟cle) Rabat, ٨٥٩١ (, pp. ٣٧١ ـ ١٨١.

أنشئت وزارة الشكايات بهدف التخفيف من حدة الكرب والحزن الذي حل في نفوس المغاربة

٧٨

لنا ابن زيدان لمحة عن مهام هذه الوزارة نقتبسها من كتابه إتحاف أعلام الناس :

«وعاد المترجم [السلطان] في تقسيم أيام الأسبوع أنه كان ـ قدس الله روحه ـ يقابل أصحاب المظالم وأرباب الشكايات بنفسه. يوم الأحد يقدم له الوزير المكلف بسماع المظالم وتقييد دعاويهم في زمام المشتكين كل باسمه ونسبه ومحل استيطانه وتقرير دعواه ، فيأخذ المترجم الزمام وينادي المقيدين به واحد بعد واحد ويبحث كلا على حدته بحثا مدققا حتى يأتي على جميعهم. فمن وافق مقاله ما هو مقيد عنه وقع بما يراه نظرة الأسد في إنصافه ممن ظلمه. ومن وقعت منه أدنى مخالفة يتتبع قضيته ويحلل كلامه أدق تحليل حتى يتضح له وجه الحق ، فيقضي بما يراه. هذا كله ووزير الشكاية واقف بإزاء المترجم [السلطان] وبيده تقييدة مثل التي بيد صاحب الترجمة [السلطان]» (١).

وظل الصفار على رأس تلك الوزارة طوال فترتي حكم السلطانين سيدي محمد بن عبد الرحمن وخلفه المولى الحسن ، إلى حين وفاته في سنة ١٢٩٨ / ١٨٨١.

وبقي الصفار متمسكا إلى النهاية وبصفة قارة بخصلتي الاستقامة والرزانة اللتين تميز بهما منذ بداية مسيرته. وبخلاف العديد من الذين أثيرت ضدهم حفيظة السلطان وانتهى المطاف بإبعادهم في سنواتهم الأخيرة ، نجد الصفار ينهي الفصول الأخيرة من حياته في جو من الهدوء والطمأنينة ، تماما كما كان أمره في البداية.

وعلى الرغم من كبر سنه ، نجده ملازما لحاشية السلطان أثناء كل التحركات والتنقلات التي كان يقوم بها المخزن المركزي بمختلف أرجاء البلاد. وفي إحدى حركات مولاي الحسن ، أصيب الصفار بوعكة صحية بينما كانت المحلة السلطانية تعبر المناطق الجبلية الممتدة بين فاس ومراكش ، فانتاب السلطان قلق كبير على أثرها ، فقيل إنه جعل محفته رهن إشارة وزيره الذي كانت حالته الصحية لا تسمح له بركوب الفرس. وحين اقتربت المحلة السلطانية من منطقة دار ولد زيدوح التادلية ،

__________________

في أعقاب الاحتلال الإسباني لتطوان في ١٨٥٩. وعن هذه الوزارة ، انظر ما كتبه ابن زيدان ، العز ١ : ٥٠ ـ ٥٤ ؛ المنوني ، مظاهر ، الطبعة الثانية ، (الدار البيضاء ، ١٩٨٥) ، ١ : ٤٣ ، بالإضافة إلى الهامش ١٠٢ أعلاه.

(١) يشمل هذا الوصف وزارة الشكايات خلال فترة حكم السلطان مولاي الحسن ، الذي تولى الحكم كما هو معلوم بعد سيدي محمد بن عبد الرحمن. الإتحاف ، ٢ : ٥١٦.

٧٩

توفي محمد الصفار (١). وأمر السلطان بتحضير جنازته وتهييئها للدفن والصلاة عليه. ثم وضع جثمانه من جديد فوق محفة السلطان وحمل عليها إلى مراكش ، فأقبر في ضريح الولي الصالح سيدي يوسف بن علي الموجود خارج باب أغمات أحد أكبر أبواب الحضرة المراكشية (٢).

وكان دفن محمد الصفار بجوار الولي الصالح سابق الذكر تنفيذا لأمره أصدره السلطان مولاي الحسن ، مكافأة له على المدة الطويلة التي قضاها من حياته في خدمة المخزن. ومن المتناقضات الصارخة أن يكون تفاني الصفار في خدمة مؤسسة المخزن مدة طويلة هو الذي جعل اسمه يظل محفوظا ، في حين سرعان ما نسي إنجازه الكبير في أدب الرحلة. وكل الذين أرخوا لحياة محمد الصفار ، ركزوا جميعا على صب حياته في قالب من التقوى والخصال الحميدة ، باحثين عن كل ما يظهر فردانيته وسمو منزلته. ولم يتجاوز أي منهم ، باستثناء الفقيه محمد داود (٣) ، الإشارة بطريقة عابرة وعرضية إلى رحلته التي قام بها إلى فرنسا. كما أن أحدا منهم لم يكلف نفسه عناء التساؤل أو التفكير في الآثار أو العواقب التي كانت لتلك الرحلة على سلوك حياة محمد الصفار خلال ما تبقى من حياته. كما أننا لم نستطع أن نعرف من كل الذين كتبوا عنه ، هل كان لتجربة الصفار الخارجية تأثير معين على سياسة المخزن أم لا ، بالرغم من أنه قد عاش في فترة كثر خلالها الحديث عن البرامج الإصلاحية وفقا للنمط الغربي بل وكانت وقتئذ من أبرز قضايا الساعة.

ونعلم جيدا أن دقة الملاحظة والجودة في التعبير الباديتين بوضوح كامل من

__________________

(١) كانت أسرة ولد زيدوح من الأسر الكبيرة التي غالبا ما زودت المخزن برجال أكفاء مارسوا مهامهم كقواد في منطقة تادلة.

(٢) يعتبر سيدي يوسف بن علي أحد صلحاء القرن الثاني عشر ميلادي ، وهو واحد من سبعة رجال المعروفين بمراكش ، انظر :

G. Deverdun, Marrakech : Des orgines ٢١٩١, ٢ vols.) Rabat, ٩٥٩١ ـ ٦٦ (: vol. I, pp. ٨٧٣ ـ ٩٧; vol. ٢, planche ٩٣.

(٣) انظر ما كتبه محمد داود عن السفارة المغربية إلى فرنسا في : تطوان ، ٣ : ٢٥٩ ـ ٣٠٩. بينما اعتقد المراكشي خطأ أن الرحلة كانت إلى إنجلترا. وقد تدارك هذا الخطأ عبد الوهاب ابن منصور عند تحقيقه لكتاب الإعلام ، ٧ : ٣٥ ، الهامش ١.

٨٠