رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

ألفيت كذالك في معدنها. ثم ما لا يحصى من أنواع معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد. ومنه صخرة عظيمة من الحديد زعموا أنها نزلت كذالك من السماء ، مع أشكال كثيرة من أحجار الزمرد واليامنض (١) وغيره مما لا نعرف له اسما ، وإن كان كل نوع مكتوب عليه اسمه وبيانه. مع أنواع أيضا من الرخام الصافي والملون ، مع عظام حيتة زعموا أنها من بقية الطوفان (٢) ، وأنهم قاسوها على أشكال الحيوانات الموجودة الآن ، فلم يجدوا ما يوافقها ويشاكلها. وهناك ريش السمندل (٣) وجميع أصناف حبوب القمح الذي يوجد ببلادهم منه في سنبله ومنه حب في زجاجات ، إلى غير ذالك مما لا يحصى من أنواع المعادن.

وفي هذا البستان أيضا أنواع النباتات غريبة وغيرها. فما يمكن جعله في الأرض في تلك البلاد فهو في الأرض ، وكل خشبة مغروز عليها عود صغير في رأسه ورقة مكتوب فيها اسم تلك العشبة وخاصيتها. وما كان من النباتات الغريبة التي لا تحتمل برد بلادهم ، جعلوا لها بيوتا سقفها وجوانبها من الزجاج المنطق بفساقي الخشب ، بحيث يمكن فتحه وغلقه. وجعلوا في أرض البيت القواديس من الحديد يجري فيها ماء حار يسخن بنار خارجة عن البيت ، وفوق القواديس شبابيك من الحديد هي أرض البيت ، وجعلوا النباتات في الصناديق والأواني. ويجعلون حرارة ذالك البيت التي تنشأ مما ذكر على ما يوافق النبات الذي فيها ، فإذا كان النبات من أرض الصحراء كالنخلة مثلا ، جعلوا الحرارة مثل حرارة الصحراء بحيث تصلح للنخل. أو كان النبات من بلاد ميريكة ، جعلوا الحرارة كحرارة ميريكة ، وهكذا. فإذا كان زمن البرد والغيم أغلقوا ذالك البيت من جميع جهاته ، وربّوا النبات بالحرارة

__________________

(١) تحريف للتسمية الفرنسية ديامان (diamant) ، وهو الماس الرفيع الجودة. وعند الغساني ، يامنط : افتكاك ، ص. ٨٤.

(٢) كان الترجمان الفرنسي المرافق للبعثة المغربية خلال جولتها الاستطلاعية يستعمل كلمة الطوفان وسيلة لوصف بعض مظاهر الحياة في فترات ما قبل التاريخ حتى يفهمها الصفار الذي لم يكن بإمكانه وبحكم معتقداته الدينية الثابتة تصور أي تطور تاريخي للكون لا تربطه علاقة مباشرة بالقدرة الإلاهية.

(٣) ويقابله بالفرنسية سلاماندر (salamandre) ، وهو حيوان صغير من فصيلة الضفدعيات أصفر اللون منقط بالسواد (المعرب).

١٨١

المذكورة. وإذا كان يوم شمس ودفاء ، فتحوا عليها شيئا من تلك الأغلاق ليدخل عليها الهواء ، وفي زمن الصيف والحرارة يخرجونها للفضاء.

فمما رأينا عندهم في تلك البيوت ، النخلة والموز وشجرة القهوة والأتاي ، وهما صغيرتان ليسا من الشجر الذي يعظم. وثمرة يسمونها أنانا (١) تجلب من بلاد ميريكة ، وهي قدر الليمة الكبيرة في رأسها ورقات ، وهي مدرجة كجوزة الصنوبر ، ولهم بها اعتناء تباع الواحدة منها بخمسة ريال وأكثر ، ويقطعونها قطعا قطعا ويأكلونها بالسكر وربما طبخوها ، ومذاقها حلو في حموضة فلذالك يدرون عليها السكر.

وبراح هذا البستان خارج هذه البيوت مشتمل على أشجار عظام صفوفا مستوية وخصص ماء وجلسات مربعة ومستديرة ، وبيوت لخدمته وقومته وعسكريه ، فهو من أشهر أماكن باريز. وفائدة وضع ما ذكر من الحيوانات والنباتات والمعادن فيه ، أن كل من يتعاطى علما من العلوم المتعلقة بذالك ، إذا رءا في كتابه اسم شيء من ذالك ، فيمكنه أن يقف عليه ويعرف حقيقته (٢) ، ومن أراد الاطلاع على شيء من ذالك والفرجة فيه فلا يمنعونه. لكن بعض الأماكن كالبيوت المغلقة لا تباح إلا في أوقات مخصوصة كيوم الأحد مثلا.

التياتروا

ومن محال فرجاتهم المحال المسماة بالتياتروا ، وتسمى الكومزية وتسمى الأوبرة ،

__________________

(١) مأخوذة عن الفرنسية أناناس (ananas) ، وهي مصنفة تحت التسمية النباتية التالية : ananas) (comosus.

(٢) لم يكن تصنيف النباتات مجهولا في المغرب ، إذ ألف أحد علماء القرن السادس عشر من مدينة فاس وهو قاسم بن محمد الوزير الغساني ، كتابا صنف فيه ٣٧٩ نوعا من النباتات الموجودة في المغرب. غير أن العمل على تصنيف النباتات التي لا يمكن الاستفادة منها عمليا قد شكل في حد ذاته شيئا جديدا عند الصفار. انظر :

H. P. J. Renaud," Un essai de classification botanique dans l\'؟د uvre d\'un me؟decin marocain du XVIe sie؟cle", Me؟morial Henri Basset : Nouvelles e؟tudes nord ـ africaines et orientales, ٢ vols.) Paris, ٨٢٩١ (, ٢ : ٧٩١ ـ ٦٠٢.

١٨٢

وهو محل يلعب فيه بمستغربات اللعب ومضحكاته ، وحكاية ما وقع من حرب أو نادرة أو نحو ذالك. فهو جد في صورة هزل ، لأنه قد يكون في ذالك اللعب اعتبار أو تأديب أو أعجوبة أو قضية مخصوصة ، ويكتسبون من ذالك علوما جمة (١).

وبيان شكل هذا المحل وكيفية اللعب فيه ، أنه قبة عالية وفي جوانبها بيوت طبقة فوق طبقة تشرف على محل اللعب وفي أرضها انحذار ، وهي مسطرة بالشوالي والكراسي صفا أمام صف ليجلس عليها المتفرجون. وفائدة الانحذار ليلا يحجب من يكون أمام الشخص الذي يكون خلفه ، ليأخذ كل واحد حظه من النظر لمحل اللعب. وخارج القبة ميدان كبير هو محل اللعب ، ويسدل على ابتداء ذالك الميدان ستارة ترخى وترفع ، فيجلس المتفرجون في تلك البيوت التي في جوانب القبة وفي أرضها ، كل على حسب فلوسه وعطائه. ويجتمع اللعابون في الميدان المذكور ، ويجلس أصحاب الموسيقي في طرف القبة متصلين بالميدان. ولا يعمر إلا في اليل ، ويوقدون في وسط القبة ثريا كبيرة ، وفي جوانبها ثريات صغار.

__________________

(١) المسرح والكوميديا والأوبيرا (The؟atre ,come؟die ,ope؟ra) ، وكلها من مظاهر الفرجة الاسستعراضية الموجهة إلى الجمهور الأوربي بصفة خاصة ، لكونها لم تشكل أبدا جزءا من مكونات الثقافة الإسلامية السنية. ولذلك كان الذهاب إلى قاعات العروض المسرحية وما شابهها من التجارب الجديدة التي كان يقدم على خوضها غالبية الزوار المترددين على الديار الأوربية. وسبق لرفاعة الطهطاوي أن أكد على أهمية المسرح في تهذيب الأخلاق ونشر القيم النبيلة في أوساط عامة الناس (تلخيص ، ص. ١٥٤. ١١٩ (L\'or ,p .. ووصف خير الدين التونسي المسرح بأنه «من ألوان الشعر التي تصلح قراءتها على مسامع عامة الناس لتهذيب أخلاقهم» ، انظر :

Khayr ad ـ Din at ـ Tunisi, The Political Treatise of a Nineteenth ـ century Muslim Statesman, trans. L. C. Brown) Cambridge, Mass., ٧٦٩١ (, p. ٠٤١.

وقد أعجب أعضاء البعثة المغربية بالمسارح الباريزية ، فترددوا على قاعات العروض مرات عديدة. وشاهدوا في مدة لن تتجاوز أسبوعا واحدا ، ما بين ١ و ٧ فبراير ١٨٤٦ ، عروضا لثلاث فرجات مختلفة ، عرضا للأوبيرا ومسرحية ، ثم حفلة غنائية أحيتها الآنسة راشيل (Mlle Rachelle) التي اشتهرت بعروضها في قاعات الحفلات الباريزية وقتئذ. انظر : AAE / ADM / Voyage ، بوميي إلى دوشاستو ، ٨ فبراير ١٨٤٦.

١٨٣

١٨٤

وفي ابتداء ذالك الميدان صفا واحدا من المصابيح ، وكلها بضوء اسبيريطوا (١) الذي يجري في القواديس. ومن عجيب أمره أنه لا ينطفئ ولو نفخت عليه بمنافخ الدنيا ، وييس بفتيلة ولا شمعة إنما هو لسان من النار يخرج من جعبة ولها طرّاشة (٢) ، إذا فتلتها انسد مجرى الجعبة فينطفئ السراج ، فإذا فتلتها بالعكس رجع كما كان ، وكل ضوء حوانيتهم وأسواقهم وسائر فناراتهم منه. ويتعاقد من يريده مع صاحبه الذي يرسله على قدر من الزمان معين كساعة أو ساعتين ، فإذا مضى ذالك الزمن انطفى السراج لأن مرسله يقطع له المادة وقتئذ ، وهو من حكمهم العجيبة.

رجع ، فإذا حضر أوان اللعب واجتمع الناس ، فتكون الستارة مرخية على ذالك الميدان ، فترتفع الستارة فتبدوا في ذالك الميدان صور عجيبة وأشكال غريبة ، فيصورون البلدان والأشجار والبراري والبحار والسماء والشمس والقمر والنجوم ، وكل ذالك رقوم ونقوش في الكواغيط ، ولكن لا يشك من رءاها أنها حقيقة. ويصورون ضوء الليل والنهار والفجر وضوء القمر تحت السحاب وغير ذالك. ولا بد أن يكون هناك جواري مزينات بأحسن الزينة وأجمل اللباس ، وعسكر وسلطان لابسي الدروع والبيضات وبيدهم الأسلحة من السيوف والرماح والمكاحل وغير ذالك. ويلعبون أربع أو خمس لعبات في الليلة ، وإذا انقضت اللعبة الأولى أرخوا الستارة المذكورة وغيروا التصوير الذي كان في المرة الأولى ، ويصورون تصويرا آخر يوافق اللعبة الثانية ، وهكذا في كل لعبة (٣).

ثم إن اللعبات عندهم محفوظة معلومة لا أنهم يخترعونها هنالك. واللعب الذي

__________________

(١) ظهرت مصابيح الإنارة المعتمدة على مادة الغاز في باريز لأول مرة في العقد الثاني من القرن التاسع عشر ، وكانت تسمى وقتئذ بيك دو كاز (bec de gaz). وتعني لفظة اسبيريطو في العامية المغربية نوعا من الكحول أو الوقود الذي يبدو ضوءه شبيها بضوء الغاز عند إيقاده.

(٢) فعل طرش ، أي أغلق. وقد كتب دوزي أنها تعني اليوم في المغرب عكس ذلك ، أي فتح : Dozy ٢. ٣٥ ، والمقصود بالطراشة هنا ، المفتاح الذي يسمح بمرور الغاز إلى المصباح فيضيء ، أو يمنع مروره فينطفىء حسب الحاجة (المعرب).

(٣) اعتقد الصفار خطأ ، ونتيجة لجهله اللغة الفرنسية وبالتالي لموضوع المسرحية وحبكتها الروائية ، أن كل مشهد جديد من المشاهد المعروضة يشكل مسرحية قائمة الذات.

١٨٥

يريدون أن يلعبوا به يكتبونه في النهار في الكوازيط ، ويذكرون أنهم يريدون أن يلعبوا في المحل الفلاني ، ويشهرون ذالك للناس ليقع الاعلام بذالك ومدار لعبهم على تناشد أشعارهم والتغني بلغاتهم خصوصا المتعاشقين ، فيجعلون واحدا عاشقا وأخرى معشوقته ويبرزان للميدان يتناشدان ويغنيان ، وتارة تكون المعشوقة راضية عن عاشقها مقبلة عليه وتارة تبغضه وتعرض عنه. وينشدان لكل حالة ما تقتضيه ، وهم الذين يفهمون كلام بعضهم بعضا. عندهم لذة تلك المحاورات والمناشدات أحسن من رؤية التصوير والأعاجيب ، لما تشتمل عليه محاورتهم من الرقائق والأدبيات والعلوم الغريبة والمسائل المشكلة ، والأجوبة المسكتة والنوادر المضحكة ونحو ذالك.

وإذا قصدوا في لعبهم حكاية حرب وقع مثلا ، فيصورون السلطان وجيشه وخيلهم وأسلحتهم على ما كانت عليه وقتئذ ، والبلد التي وقع الحرب عليها. وقد حضرناهم مرة يلعبون بحكاية حرب وقع بإشبيلية ، فصوروا إشبيلية وصومعتها وأبوابها ومشاهير أمكنتها ، بحيث قال من حضر ممن رءا إشبيلية هي هذه بعينها. وصوروا بل جعلوا حقيقة سلطانا وعساكره لابسين زي الوقت الذي كان فيه ذالك الحرب ، وزينوا الجواري بلباس ذالك الوقت أيضا ، وأخذوا في الحرب حتى دخلوها.

وإذا أرادوا أن يحكوا حال قسيسين مثلا إذا خلوا أخذوا في اللهو والشرب والطرب ، وإذا رأوا الناس أظهروا الخشوع والإعراض عن رؤية النساء ونحو ذالك ، فيصورون الكنيسة وسائر ما يكون فيها ، ويجعلون بعضا منهم قسيسين ويلبسون زيهم ويحضرون أواني الشراب إذا خلوا ، فإذا رأوا أحدا تركوا ذالك وأخفوه بسرعة وقاموا إلى الصلاة ، وإذا جاءتهم امرأة تتبرك بهم فلا يلتفتون إليها.

وإذا أرادوا أن يحكوا حال فرعون مع موسى عليه‌السلام ، فيصدرون البحر ويجعل يتماوج كأنه حقيقة ، وينفلق حتى ينجوا منه موسى وأصحابه وينطبق على فرعون وقومه. وقد رأيناهم مرة صوروا الجنة بقصور وأشجار وأنهار ومنظر حسن ، وصوروا ملائكة يطيرون في الهواء بأجنحة بيض. وذالك بأن عمدوا إلى جوار صغار وجعلوا لهن أجنحة ، وربطوا كل واحدة بخيط رقيق لا يبصر إلا بعد التأمل ، يمسكها من أعلاها وشخص يجريه من فوق بحيث لا يظهر ، وإنما ترى كأنها تطير بجناحيها في الهواء. وصوروا أمواتا خرجوا من تحت الأرض ، وشخصا آخر ابتلعته الأرض حتى ريء بعض ذالك في الجنة. ويصورون أيضا الطوفان وسفينة نوح.

١٨٦

وقد رأينا مرة موضعا عندهم يسمونه الديوراما (١) ، دخلناه نهارا فصعدنا في درج مظلمة حتى انتهينا إلى أعلاه ، وهو مظلم إلا أن فيه بعض الضوء من كوة هنالك ، وهو على شكل التياتروا. فأرخيت الستارة وجعلوا يجهزون المكان خلفها ، فلما رفعت ظهرت كنيسة ذات قبب وسواري وخصص كانت مضيئة بضوء النهار ، أعني بضوء مصور كأنه ضوء النهار ، ثم أخذ في النقصان كأنها عشية والشمس تئول للغروب ، حتى ذهب الضوء كله واستحكمت الظلمة ، فظهر نور خفي فجعل يكبر وينتشر حتى ظهرت ثريا كبيرة معلقة في وسطها تضيء ، وظهر معها في أرض الكنيسة ناس كثيرون يصلون ولم يكن لهم ظهور قبل ذالك مع أنه لم يتغير التصوير. وكان الناس صغارا في رأي العين فجعلوا يكبرون ويعظمون ، ثم أرخيت الستارة وغير التصوير. فلما ارتفعت ظهرت مدينة عظيمة ذات بناء محكم وبرج عال مستحكم ، ويخرج من خلالها نهر عليه قنطرة عظيمة وفيه سفينة صغيرة. وفي أعلا المدينة من جبل إلى جبل قنطرة أخرى كبيرة من قناطر الحديد ، وحول المدينة أشجار ونبات ، فجعل الثلج ينزل عليها ونحن نرى الثلج نازلا ، وهو أبيض مترادف قوي ونسمع وقعه على السقف فوقنا ، بحيث من لم يكن له علم أن ذالك لعب فلا يشك أنه الثلج حقيقة. فبقي ينزل حتى صار كل شيء أبيض ، وكادت أن تتغطى المدينة به ، ثم فتر وجعل يسيل من فوق السطوح ويجري في الطرق.

ثم أرخيت الستارة وغير التصوير ، ثم رفعت فظهرت مدينة أخرى ذات بناء

__________________

(١) كانت الديوراما (Diorama) ، التي اخترعها الفرنسي لوي جاك ماندي داكير (Louis ـ Jacques ـ Mande؟Daguerre) (١٧٨٧ ـ ١٨٥١) ، من وسائل الفرجة التي استهوت الباريزيين في القرن التاسع عشر. وهي منظر بانورامي خلف الستار يحضر برسوم مصغرة لأشياء مختلفة ، ويمكن مشاهدته من خلال فتحة صغيرة وتكون درجة الإنارة قوية بالشكل الذي يجعل المشهد يبدو للناظرين إليه نابضا بالحيوية والواقعية.

Dolf Sternberger, Panorama of the Nineteenth Century, trans Joachim Neugroschel) New York, ٧٧٩١ (, pp. ٨٨١ ـ ٩٨١; La Grande Encyclope؟die Larousse, ed., ٣٧٩١; s. v." Daguerre, Louis ـ Jacques ـ Mande؟".

وكان الصفار قد شاهد فيها عرضا حول تغير الفصول ، بالإضافة إلى مشهد داخلي لكنيسة القديس مارك (St.Mark) في مدينة البندقية ، انظر جريدة الإلوستراسيون L\'illustration ، ٧ فبراير ١٨٤٦.

١٨٧

قديم ، فيها قلع وحصون ، والناس يظهرون ماشين في أزقتها ويظهر كأن السماء فوقها مغيمة ، فجعل الغيم يشتد والظلمة تنزل حتى أظلمت. وكانت الظلمة جائية من خلف المدينة ، فبمجرد وصولها لها صرصرت ريح عاتية ويسمع لها دوي وصفير ، وأخذ المطر ينزل كأفواه القرب ، وتكلم رعد عظيم له دوي من فوق ، ونحن نسمع وقع المطر على السقف كأنه حقيقة. ثم ظهر نور في الأفق خلف المدينة كأنه الفجر قد طلع ، حتى انجلى الضوء ، فجعل المطر ينزل ويظهر كأنه مار بين الجبال له خراطيم عظيمة ، وكأنه يجيء إلى المدينة بحر من خلفها مما انحدر من الجبال وسال من الأودية من مياه المطر حتى كأنه يريد أن يغرق المدينة. ثم أرخيت الستارة وانتهى ، وكان هذا كله في نحو ربع ساعة ، وكانوا يصورون بذالك الطوفان لاكن لم يكملوه.

وتارة يكون لعبهم المذكور برقص تلك الجواري ، فيمسكن بأيدي بعضهن بعضا ويأخذن في رقص عجيب وتليين أعضائهن وتثنية معاطفهن ، حتى يكاد أن يلتقي فمها بعقبها من خلف ، ويقفزن على رجل واحدة ويدخلن في بعضهن بعضا حتى كأنهن لسن آدمييات. وتارة يمسك واحد من الرجال واحدة من تلك الجواري ويتراقصان.

وهذه التياتروا ليست مجمعا للحرافيش والأوباش ، بل يحضرها أكابرهم وأهل المروءة منهم ، ويحضرها الرجل وزوجته وبناته ، والرجل وأصحابه. ويجعلها السلطان في داره ، وله في داره محل معد لها ، فيدعوا اللعابين والمتفرجين ، ويجلس هو وأولاده ونساؤه ونساء أولاده وجميع وزرائه وخواصه ، وأهل اللعب يلعبون بالرقص والتعاشق وغير ذالك ، وهم ينظرون وينشطون بذالك. ويزعمون أن في ذالك تأديبا للنفوس وتهذيبا للأخلاق وراحة للقلب والبدن ، ليعود إلى شغله بنشاط وقريحة.

أفد طبعك المكدود بالجد راحة

يجم وعلله بشيء من المزح

وسئل الشعبي هل كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحكون؟ قال نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي (١). وكان نعيمان الصحابي من أولع

__________________

(١) مأخوذ عن كتاب ابن حجر العسقلاني (المتوفى في ٨٥٢ / ١٤٤٩) ، الإصابة في تمييز الصحابة (كلكوتة ، ١٨٥٦ ـ ١٨٩٣) ، ٣ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠. وأيضاEI ٢ ,s.v."Ibn Hadjar Al ـ؟Askalani " وأقدم هنا شكري الجزيل للأستاذ المهداوي المدغاني الذي أرشدني إلى هذا المصدر. أما عن الشعبي ، فهو عمر بن شرحبيل الشعبي من مشاهير علماء القرن الثامن الميلادي.

١٨٨

الناس بالمزاح وكان بدريا ، قيل أنه ذكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يكثر المزاح والضحك ، فقال : يدخل الجنة وهو يضحك. فمن مزح نعيمان ما روي أنه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرة عسل اشتراها من أعرابي بدينار ، فجاء بالأعرابي إلى باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : خذ الثمن من هاهنا. فلما علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذالك ، قال لنعيمان ما حملك على ما صنعت؟ فقال أردت برّك ولم يكن معي شيء ، فتبسم وأعطى الأعرابي ثمنه.

ومر يوما بمخرمة ابن نوفل الزهري وهو ضرير فقال له : قدني حتى أبول. فأخذ بيده حتى أتى به إلى المسجد فأجلسه في آخر المسجد ، فصاح به الناس إنك في المسجد ، فقال : من قادني. فقالوا : نعيمان. قال : لله علي أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته. فبلغ ذالك نعيمانا فجاء إليه وقال : يا أبا المسور هل لك في نعيمان؟ قال : نعم. قال : هو ذا يصلي ، فأخذ بيده وجاء إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهو يصلي ، وقال : هذا نعيمان. فعلاه بعصاه ، فصاح الناس : أمير المؤمنين. فقال : من قادني. فقالوا : نعيمان. قال والله لا تعرضت له بسوء بعدها.

وقال عطاء بن السائب رضي‌الله‌عنه : كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا ، وربما لم يقم حتى أنه يضحكهم ويبسط آمالهم. فمن لطائفه ما حكي أنه بعد ما فرغ من ميعاده ، قال سمعت الناس يتكلمون بالتصحيف وكنت لا أعرفه ، فوقع في قلبي أن أتعلمه ، فدخلت سوق الكاتبين واشتريت كتابا في التصحيف. فأول شيء رأيت في التصحيف سكباج تصحيفه نيك تاج (١) ، فحلفت لا أشتغل به بعدها ، فضحك الناس من قوله حتى غشي عليهم.

الكوازيط

ولأهل باريز كغيرهم من سائر الفرنسيس بل وسائر الروم ، تشوف لما يتجدد من

__________________

(١) سكباج هو صنف من الطعام على شكل حساء. أما نيك تاج فهي مركبة من كلمة «نيك» التي تعني في اللغة جامع أو ضاجع ، انظر : القاموس المحيط ، ج ٣ ، ص. ٣٣٢ (بيروت ، دون تاريخ). أما تاج فهو اسم لامرأة. ومن ثم فإن نيك تاج تعني مضاجعة تاج. وباستثناء العلامات الصوتية المميزة ، فإن شكل كتابة الكلمتين المذكورتين يكاد يبدو متطابقا (المعرب).

١٨٩

الأخبار ويحدث من الوقائع في سائر الأقطار ، فاتخذوا لذالك الكوازيط (١) ، وهي ورقات يكتب فيها كل ما وصل إليهم علمه من الحوادث والوقائع في بلدهم أو غيرها من البلدان النائية أو القريبة.

وبيان كيفيتها أن صاحب دار الكازيطة ، يتخذ أقواما يرسلهم لالتقاط الأخبار من كل ما يسمعونه أو يرونه في ذالك اليوم من المهمات والحوادث والوقائع والنوادر ، وغير ذالك مما يحسن الإخبار به. ومن جملة محال التقاطهم للأخبار ، القمرتان الكبيرة والصغيرة اللتان يجتمعون فيها لتدبير قوانينهم (٢). فإذا اجتمع أهل القمرة وأخذوا في الخوض في نوازلهم ووقائعهم ، جلس أصحاب الكوازيط في ناحية يكتبون كلما تكلم به فيها. فكل ما وقع الكلام عليه فيها وانبرم من الأحكام يصبح غدا في الكوازيط ، ويشهر لسائر الناس ، وليس يقدر أحد أن يمنعهم من ذالك ، إلا إن كان كلامهم في أمر سري يجب كتمه عن سائر الناس فيمنعونهم.

ولأصحاب الكوازيط مراسلات ومكاتبات مع سائر البلاد ، ولهم في كل بلد من يعرفهم بأخبارها وما وقع فيها أو بلغها من جهة أخرى ، فلذالك تجد أهل الكوازيط يعرفون غرائب الأخبار قبل الناس. وهاؤلاء الملتقطون يظلون يومهم في التقاط الأخبار ، فإذا أمسوا أتى كل واحد منهم بما جمعه في ذالك اليوم ، فيطبعه صاحب الكازيطة ، ويجعل منه عدة ورقات بطبع الاسطنبا ، وسيأتي بيانها. فإذا أصبح فرقها على من يأخذها منه ، يبعث لكل واحد من مرتبيه ورقة. ومعنى هذا أن سائر أكابر

__________________

(١) ذكر الغساني الكزيطة وقدم لها وصفا في رحلته التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر فقال : «ويسمونها الكاسيطة ، فيطلع الإنسان منها على أخبار كثيرة ، إلا أن فيها من الزيادة والكذب ما تحمل عليه الشهوة النفسانية» ، افتكاك ، ص. ٦٧. وقد اعتمد الصفار في وصفه للكوازيط اعتمادا كبيرا على ما أورده رفاعة الطهطاوي في كتابه تخليص ، ص. ١٠٤ ، ١٧١ ، بالإضافة إلى :. ٢٠١ ـ ٢٠٠ ، ١٣٨L\'or ,p .. ولم تظهر الصحف بطريقة منتظمة في المغرب إلا مع حلول ثمانينيات القرن التاسع عشر في مدينة طنجة. وفي زمن محمد الصفار ، كان الرقاص هو الوسيلة الوحيدة المستعملة لنقل الأخبار الرسمية على شكل رسائل يوجهها السلطان إلى عماله على الأقاليم Aubin ,Morocco ,pp.٨٦ ,٤٢٣ ، انظر أيضا ابن زيدان ، العز ١ ، ص. ٤٠٧.

(٢) ويعني بالقمرتين كلا من :(Chambre des pairs) و (Chambre de؟s de؟pute؟s) ، وسيأتي الحديث عنهما بالتفصيل في حينه.

١٩٠

الفرنسيس ، خصوصا في باريز ، يتفقون مع صاحب الكازيطة على أن يرسل لهم كل يوم كازيطة جديدة ، ويدفعون له عددا معلوما كل عام ، أعني ثمنها. وكذالك سائر القهاوي كل يوم ترسل لهم كوازيط متعددة من عند أناس شتى. فإذا دخلها الداخل ، فأول ما يناوله الخادم الكازيطة ليطلع على ما تجدد من الأخبار ، ثم يأتيه بالقهوة ويتحافظون عليها ويرفعونها. فمن أراد علم ما وقع في غابر السنين ، فيفتش على كازيطة ذالك الوقت في القهاوي أو غيرها ، فيجد فيها ذالك.

ومن جملة ما هو مرقوم صدر الكازيطة ، أن ثمنها كذا في العام. وكنا مدة إقامتنا بباريز ، كل يوم تأتي لصاحب الدار التي كنا فيها كازيطة جديدة من أصح كوازيطهم أخبارا ، مكتوب في أولها أن ثمنها ستة عشر ريالا في العام. ويتعاقد صاحبها مع من شاء أن يبعثها له على ما شاء من الزمن قليله وكثيره ، إلا ما نقص عن شهر ، فلا يبيعها له مدة عشرين يوما مثلا. وكان يقال أن صاحب هذه الكازيطة المذكورة يطبع كل يوم نحو خمسة عشر ألف كازيطة (١) ، وكل واحدة في ورقة طولها وعرضها نحو ذراعين مكتوبة من جهتين. تجد فيها أخبار باريز وسائر بلاد الفرنسيس ، وأخبار بلاد النصارى كلها وبلاد المشرق والمغرب والبر والبحر. ويسافر منها الأعداد لسائر البلدان ، فكلما دخلت بلدا من بلدان فرنسا ، تجد فيها كازيطة باريز كما أنك تجد بباريز كوازيط الآفاق.

فبسبب ذالك لا يخفى عليهم خبر ، سواء كان داخليا أو خارجيا. وليس ما فيها كله صحيح ، بل ربما كان الكذب فيها أكثر من الصدق ، ولاكنها تتضمن أخبارا تتشوف النفس للعلم بها. ولها عندهم فوائد ، منها الاطلاع على ما تجدد من الحوادث والأخبار. ومنها أن من ظهر له رأي في أمر من الأمور ولم يكن من أهله ، فإنه يكتبه في الكازيطة ويشهر لسائر الناس حتى يطلع عليه ذووا رأيهم ، فإن كان سدادا اتبعوه وإن كان صاحبه حقيرا ، وهذا مما يستحسن كما قال الشاعر :

__________________

(١) يمكن اعتبار رقم ٠٠٠ ، ١٥ نسخة الذي أتى به الصفار هنا رقما صحيحا في حالة الكازيطة التي كانت تصل إلى محل إقامة البعثة المغربية ؛ غير أن الصحيفتين اليوميتين الباريزيتين الأكثر شعبية خلال أربعينيات القرن التاسع عشر في فرنسا هما : لابريس La Presse ولوسييكل Le Sie؟cle ، وكانتا تعرفان معا رواجا يتجاوز ٠٠٠ ، ٥٠ نسخةPinkeny ,Decisve years ,p.٠٦ ـ ـ

١٩١

لا تحقرن الرأي وهو موافق

وجه الصواب إذا أتى من ناقص

فالدار وهو أجل شيء يقتنى

ما حط قيمته هوان الغائص (١).

ومن جملة قوانينهم التي أسسها لهم سلطانهم لويز الثامن عشر ، والتزموا اتباعها ، أنه لا يمنع إنسان في فرانسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه ويطبعه ، بشرط أن لا يضر ما في القوانين ، فإن أضر أزيل. وكان من جملة ما نقموا على ملكهم شرل العاشر الذي كان قبل هذا الملك الموجود الآن. وكان السبب في قيامهم عليه وخلعهم طاعته ، أنه أظهر النهي عن أن يظهر أحد رأيه أو يكتبه ويطبعه في الكازيطات ، إلا إذا اطلع عليه أحد من أهل الدولة ، فلا يظهر منها إلا ما أراد إظهاره (٢).

ويكتبون في الكوازيط اعتراضات على أهل القمرتين فيما أبدوه من القوانين. وإن جار سلطانهم فضلا عن كبير من كبرائهم ، أو خرج عن القانون في أمر ما ، يكتبونه في الكازيطة ويقولون إنه ظالم وليس على الحق ، ولا يقدر أن يقابل من قال ذالك أو فعله بسوء. ومنها أن من فعل فعلا عظيما يمدح به أو يذم ، فإنه يكتب في الكوازيط ليكون معلوما للخاص والعام. فإن كان حسنا مدحوه به لينشط ويرغب في مثله ، وإن كان قبيحا ذموه عليه ليرتدع عن مثله. ومنها أن من كان مظلوما من أحد بمظلمة ، كتبها في هذه الورقات ليطلع عليها كل الناس ، فتعرف قصة المظلوم والظالم من غير زيادة ولا نقص ، حتى تصل لمحل الحكم وينظر فيها بما تقتضيه شرائعهم. ومنها أن من أراد إشهار سلعته مثلا ، فيكتبها في الكازيطة ويمدحها ويذكر محله وثمنها رغبة في النفاد ، أو أراد أن يبيع دارا أو عقارا ، أشهر ذالك في الكوازيط ليعلمه الناس. وبالجملة ، فالكوازيط عندهم من أهم المهمات ، حتى أن أحدهم قد يصبر على الأكل والشرب ولا يصبر على النظر في الكازيطة.

__________________

(١) تخليص ، ص. ١٠٤ ؛ ١٣٨L\'or ,p.

(٢) استقى الصفار معلوماته من رفاعة الطهطاوي الذي كان حاضرا في الديار الفرنسية عند بداية اندلاع ثورة ١٨٣٠ ، فخصص لها حيزا كبيرا من كتابه ، انظر : تخليص ، ص. ٢٠١ ـ ٢٢٤ ، ٢٦٣ ـ ٢٣٧.L\'or ,pp

١٩٢

ولأهل باريز حرص تام على التكسب رجالهم ونسائهم لا يتقاعدون ولا يكاسلون ، والنساء مثل الرجال في ذالك أو أكثر (١). ولا تجد أحدا منهم خاليا عن شغل ، وإن كان عندهم من أنواع البطالات والفرجات العجب العجاب. لاكن ذالك لا يلهيهم عن أشغالهم ، فيعطون لكل وقت ما يستحقه. وتلك الفرجات تعينهم على أشغالهم لما فيه من استراحة النفس ليعودوا لها بنشاط. ولا يرضى أحد منهم أن يكون فقيرا ، فإن الموت عندهم أهون من الفقر ، وصاحبه حقير دليل كما قيل :

ذريني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرهم الفقير

وأحقرهم وأهونهم عليه

وإن كانا له نسب وخير

يباعده القريب وتزدريه

حليلته وينهره الصغير

وتلقى ذا الغنا وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطير (٢)

وقد قيل : الفقر رأس كل بلاء وداعية إلى مقت الناس ، وهو مع ذالك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء ، ومتى نزل بالرجل الفقر لم يجد بدا من ترك الحياء. وقد قيل : من حفظ دينه حفظ الأكرمين ، عرضه ودينه. وقال الشاعر :

لا تلمني إذا اقتنيت الأواقي

فالأواقي لماء وجهي أواقي

وقال لقمان (٣) لابنه : «يا بني أكلت الحنظل ودقت الصبر ، فلم أر شيئا أمر من

__________________

(١) انظر الفصل الحادي عشر الذي خصصه الطهطاوي من رحلته لهذا الجانب تحت عنوان «في كسب مدينة باريس ومهارتها» ، تخليص ، ص. ١٤٩ ـ ١٥٣ ؛ ١٧٥ ـ ١٧٣.L\'or ,pp

(٢) قارن بين هذه الأبيات وما نظمه شاعر تازة ابن شجاع ، وقد أوردها ابن خلدون في المقدمة ، انظر : Muqaddimah ٣ : ٩٦٤.

(٣) من الأسماء المعروفة قبل الإسلام ، وقد اشتهر لقمان بحكمه البليغة المنتشرة في الأوساط العربية والإسلامية ، SEI ,s.v."Lukman "

١٩٣

الفقر ، فإذا افتقرت فلا تحدث به الناس كي لا ينتقصونك ، ولاكن سل الله». وكان بعض الناس يقول : «صاحب المال عند الناس أعذب من الماء وأرفع من السماء وأحلى من الشهد وأذكى من الورد. خطأه صواب وسيئاته حسنات ، وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يمل حديثه. والمفلس عندهم أكذب من لمعان السراب وأثقل من الرصاص ، لا يسلم عليه إذا قدم ولا يسئل عنه إذا غاب ، مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة».

وقال بعضهم : «نظرت إلى ما يذل العزيز ويكسره ، فلم أر شيئا أذل له ولا أكسر من الفاقة». وقال الشاعر :

وكل مقل حين يبدوا لحاجة

إلى كل من يلقا من الناس مدنبا

وكان بنوا عمي يقولون مرحبا

فلما رأوني معدما مات مرحبا

وقال آخر :

جروح الليالي ما لهن طبيب

وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب

وحسبك أن المرء في حال فقره

تحمقه الأقوام وهو لبيب

وقال آخر :

لعمرك إن المال قد يجعل الفتى

سنيا وإن الفقر بالمرء قد يزدر

وما رفع النفس الدنية كالغنى

ولا وضع النفس الشريفة كالفقر

وقال بعض الحكماء : «الحركة بركة والتواني هلكة والكسل شؤم ، وكلب طائف خير من أسد نائم». وقيل : «من العجز والتواني تنتج الفاقة».

١٩٤

قال الشاعر :

فإن التواني أنكح العجز بنته

وساق إليها حين زوجها مهرا

فراشا وطيا ثم قال لها اتكي

فإنكما لا بد أن تلدا الفقرا

وأغلب تكسب هاؤلاء القوم التجارات والصنائع. ولهم من التجارات أمور خارجة عن البيع والشراء. منها ما يسمى بالبنكة : وهي أن يودع الرجل قدرا من المال عند من هو متصد لذالك ، ويدفع له المودع عنده ربحه في كل سنة قدرا معلوما عندهم ، فإذا أراد رب المال أخذ رأس ماله أخذه. وهي على ضربين : بنكة الدولة وبنكة التجار. وفائدة بنكة التجار أكثر من فائدة بنكة السلطان ، لاكن بنكة السلطان أوثق وءامن ، لأن الدولة دائما موجودة لا تفلس ، بخلاف التجار فقد يفلسون (١).

ومنها جمعية تسمى بما معناه الشركاء في الضمانة ، وهي المعروفة بالسكوروا (٢). وذالك بأن تلتزم لمن يدفع لها قدرا معينا من المال كل سنة ، أنه إذا تلف له بيته أو حانوته أو ما فيهما بحادثة قهرية كالحرق والهدم ونحو ذالك ، أو غرق له مركب في

__________________

(١) حين يتحدث الصفار عن بنكة الدولة أو بنكة السلطان ، فهو يقصد بذلك «بنك فرنسا المركزي» ، أي (Banque de France). وانطلاقا مما هو ساري المفعول في المغرب ، فإن الصفار لم يفرق بين الثروة الخاصة لملوك فرنسا وخزينة الدولة. وعلى الرغم من أن مؤسسة «بنك فرنسا» قد أوكلت إليها الحكومة الفرنسية مسؤولية السهر على الشؤون المالية ، فقد كانت ملكيتها خاصة ولم تكن تخضع إلا لمراقبة حكومية طفيفة. انظر : Pinkeny ,Decisive Years ,p.٧١ ؛ وعن مصطلح «دولة»» dawla «، انظر :

H. A. R. Gib," The Evolution of Government in Early Islam", in Studies on the civilization of Islam, ed. S. Shaw and W. Polk) Boston, ٢٦٩١ (, p. ٦٤ note ١.

أما عن أفكار الطهطاوي التي تأثر بها الصفار في هذا الصدد ، فانظر :

تخليص ، ص. ١٤٩ ، ١٧٣ ـ ١٧٤.L\'or ,pp

(٢) المقصود منها شركات التأمين ، وقد استفاد الصفار في هذا الجانب من كتابات الطهطاوي. تخليص ، ص. ١٤٩ ـ ١٥٠ ؛ ١٧٤.L\'or ,p

١٩٥

البحر أو أصابته جائحة ، فإنها تغرم له كل ما ضاع له ، وتعيد له داره أو حانوته كما كانت. ومنها جمعية تسمى الكنبية (١) : وهي أن الجماعة من التجار أو غيرهم ، يجتمعون ويخرج كل واحد ما استطاع من المال ، ويشتركون في استخراج المعادن وتصويب الطرق وبناء القناطر وعمل القوارب والفلائك في الأنهار والأودية. على أن يقيموا كل ذالك بما يحتاج إليه ، وما حصل فيه من المستفاد يقتسمونه على حسب رءوس أموالهم ، ويدفعون لبيت المال شيئا معلوما ليمكنهم من ذالك. لأن كل هذه الأمور كلها لبيت المال ، بعد أن يحدّ لهم في ذالك حدا معلوما. ومن قوانينهم ، أن الإنسان لا يشرع في التجارة إذا أرادها ، إلا إذا دفع لبيت المال قدرا معلوما ، ويعطونه نيشانا (٢) علامة على الإذن له في ذالك.

وعلم التجارة عندهم من جملة العلوم التي تدرّس وتدوّن ولها مكاتب ومدارس. وللنساء مهارة في التجارة كالرجال أو أكثر ، فغالب من يعمر الحوانيت النساء. ومن حرصهم على التكسب ، أنك لا تجد عندهم فقيرا قادرا على الشغل يسئل الناس ويمنعونه من ذالك ، ويرون أن إعطاء القادر على الشغل فيه إعانة على الكسل وعدم التكسب.

وأهل باريز موصوفون بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر (٣) ، ولا يقنعون في

__________________

(١) يريد أن يقول كبانية ، ويقابلها في الفرنسية (compagnie). وكل المعلومات التي ساقها الصفار للحديث عن شركة المحاصة ، مستمدة من رفاعة الطهطاوي. أما عن الدور الذي قامت به شركات المحاصة في تصنيع فرنسا ، فيمكن الرجوع إلى كتاب : Pinkney ,Decisive Years ,pp.٦٣ ـ ٩٣.

(٢) النيشان ، هي الرسائل التي كان يحررها الكتاب العاملون في بلاط الإمبراطورية العثمانية ، فيضع السلطان خاتمه عليها بعد موافقته على مضمونها. انظر التامكروتي ، En ـ nafhat ,p.٢٦

(المعرب) : واستعمل المغاربة هذه الكلمة في القرن التاسع عشر للحديث عن الأوسمة التشريفية المعروفة في الفرنسية بالميداليات هكذا :(me؟dailles) والكلمة أصلها من الفارسية وتعني العلامة ، وقد دخلت التركية وتطلق على العلامة التي تنصب بقصد التدريب على الرماية. كما تطلق الكلمة على الشارة والشعار. وما يقصده الصفار هنا بالنيشان هو الرخصة المعروفة في الفرنسية بليسانس هكذا :(licence). انظر أحمد سليمان ، تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل (القاهرة ، ١٩٧٩) ، ص. ١٩٠.

(٣) اعتمد الصفار في هذه النقطة على الفصل الثاني الذي وضع له الطهطاوي العنوان التالي : «في الكلام على أهل باريس وصفاتهم» ، تخليص ، ص. ٧٥ ـ ٩١ ؛. ١٣١ ـ ١١٨.L\'or ,pp

١٩٦

معرفة الأشياء بالتقليد ، بل يبحثون عن أصل الشيء ويستدلون عليه ويقبلون فيه ويردون. ومن اعتنائهم بذالك ، أنهم كلهم يعرفون القراءة والكتابة ، ويدونون في الكتب كل شيء. حتى الصنائع فلا بد أن يكون الصانع يعرف الكتابة والقراءة ليتقن صنعته ، ويجب أن يبتدع في صنعته شيئا لم يسبق به. ولأنه إن فعل زادت مرتبته وعلت حظوته عند دولتهم ، ويعطونه على ذالك ويمدحونه ويذكرونه بما استنبط ، ترغيبا منهم في الترقي في الأمور. فيكون كل شيء دائما في الزيادة ، فذالك يحملهم على تدقيق النظر وإمعان التأمل ، واستكشاف دقائق الخفيات في سائر تصرفاتهم. ولهم مدارس ومكاتب ، حتى في علوم الطبخ والغرس والبناء والزراعة ومعالجة النباتات وإنتاج الحيوانات وغير ذالك. فكل ما يسمعونه أو يرونه أو يستنبطونه أو يبلغ إليهم علمه ، يدونونه في الدواوين ويحفظونه على مر الأيام.

ومن طبعهم الخفة والطيش ، فتجدهم إذا اجتمعوا في موضع لا يقر لهم قرار ، ولا تراهم إلا بعضهم يموج في بعض. ولا يجلسون إلا في حالة الأكل ، وبعد الفراغ منه يقومون. والجلوس عندهم عيب ولا يجلس إلا النساء ، ولو أدى إلى وقوفه طول اليل إن كان اجتماعهم لفرجة أو رقص. وإذا أراد أحدهم الجلوس والاستراحة ، فيذهب لبيت آخر خاليا من الناس ، إلا إن قصد مثل قصده. وما رأينا رجالهم يجلسون في ليالي الفرجة إلا في التياتروا حين اللعب ، فإذا قضيت اللعبة قاموا.

وتجدهم في أزقتهم وطرقهم ومحال تماشيهم إذا لم يكن لم شغل ، كل واحد يأخذ بيد صاحبه أو صاحبته ويجعلون يتماشون ذاهبين راجعين جادين في المشي كأنهم يريدون حاجة ، وما مقصودهم إلا الحديث والاستراحة. وربما فعل ذالك الواحد وحده ، ويقولون إن في ذالك عونا لهم على التفكر واستخراج خبايا العقل واستنباط الأمور والتدبيرات ، وقد جرب ذالك فصحّ.

ومن طبعهم أنهم يحبون من كان خفيف الحركة طلق الوجه مبدي البشاشة ، كثير الكلام بالمباسطة أو السؤال عما يبغى السؤال عنه ، أو البحث في العلوم أو نحو ذلك من الأخبار بالمغربات ، والتحدث عن أحوال البلدان وعوائد أهلها. ويميلون كل الميل إلى من هذه صفته وتحصل لهم به ألفة ، وإن لم تسبق بينهم وبينه معرفة ، وإن كان كلامهم معه بواسطة ترجمان مثلا ، ويستثقلون من يكون بضد ذالك ، وتنفر منه طباعهم ويبعدون منه.

ومن طبعهم الحدة والشرارة والأنفة ، فتراهم يتداعون للبراز على أدنى كلمة

١٩٧

يلقيها أحدهم للآخر من سب أو قذف مثلا. ولا يسع المدعو له إلا أن يجيب ، وإلا بقي يعاير بالجبن والذلة طول عمره. ويتشارطون في البراز كيف يكون ، وبأي سلاح يقاتلون وكيفية المحاربة ومحلها ، وغير ذالك من الأمور المتعلقة بذالك ، ولا يتعرض لهم في ذالك حاكم ولا غيره. ولهم حظ وافر في الأدب الدنيوي والظرافة والرقة والحضارة ، ويراعون الأدب في مخاطبتهم وكلامهم ، فلا تكاد تسمع منّهم السّاقط في الكلام ، ولا يتعرضون للغريب من دينهم أو من المسلمين بسوء. ولا ينادي عليه صبيانهم ولا يوذونهم كما يسمع على غيرهم من بعض أجناس النصارى ، وذالك من جملة ما يتعلمونه ويقرءونه ويدونونه في الكتب ، لتكون لهم بذالك المزية على غيرهم. وقد اختصوا من بين أجناس سائر النصارى بالأدب والحضارة والمروءة الدنيوية ، حتى أن كبراء الأجناس يرسلون أولادهم لباريز لتعلم آداب الفرنسيس وتربيتهم ، واختصت باريز بذالك لأنها دار ملكهم وأحضر بلادهم.

ومن أوصافهم أنهم أصحاب جد في بيعهم وشرائهم وسائر معاملاتهم وتصرفاتهم ، فلا تجد فيهم غشا كما هو في اليهود ، ولا ترى فيهم خروجا عن الطريق ، وليسوا فجارا إلا في دينهم. ولهم اعتناء تام بالنظافة الظاهرة في بيوتهم وأزقتهم وحوانيتهم وأبدانهم وملابسهم ، فلا ترى على أحد منهم ثوبا وسخا ولا ملطخا بقذر ، ولا يكون في الغالب إلا جديدا. وفي حاراتهم وأسواقهم أقوام جالسون على كراسيهم ، وبيدهم أمشاط من الشعر يمشطون بها الملف والنعال. فمن رءا في ثوبه تغييرا أو في نعله غبار ونحوه ، وقف عند واحد منهم فيمشط له ثوبه ويمسح نعله حتى يرجع له لمعان كأنه جديد ، ويعطيه أجرته على ذالك.

ولا يغفلون يوما واحدا على نفض فرشهم التي ينامون عليها ، وبعد يومين أو ثلاثة يبدلون بطانتها وظهارتها بأخرى نظيفة. وكذلك الفوط التي تجعل على حجر الآكلين ، لا تكون دائما إلا نظيفة. وإذا أصابها شيء من الإدام أو الطعام أو مسح بها اليد ، لا يأتيك بها مرة أخرى حتى تغسل وتنظف. ولا ترى في طرقهم من الكناسة والزبل أصلا ، وكل يوم تكنس وترش بالماء إن لم يكن المطر. إلا أن أعيب ما يعاب فيها أنهم يبولون في أصول الحيطان ، والماء المضاف بالبول يجري على وجه الأرض ، لاكن يشفع في ذالك سعة الطريق حتى يبقى ذالك في ناحية لا يضر بالماشين. ولا ترى أبواب حوانيتهم ودورهم وشبابيك طيقانهم وفناراتهم التى توقد في الأسواق والحوانيت إلا ممسوحة نظيفة تشرق وتلمع كأنها اليوم وضعت.

١٩٨

ولنسائها نصيب من الجمال والبياض وخصب البدن. وسواد العين والحاجبين معدوم عندهم ، والنادر لا حكم له. فلذالك يزين نساءهم لبس السواد ويواتيهن أكثر من غيره من الألوان ، ويحسن أن ينشد هنا في ذالك :

رأيتك في السواد فقلت بدر

بدا في ظلمة اليل البهيم

وألقيت السواد فقلت شمس

محت بشعاعها ضوء النجوم

ومما يحكى أنه قدم تاجر إلى المدينة يحمل من خمر العراق ، فباع الجميع إلا السود ، فرفع قضيته تلك إلى الدارمي (١). وكان الدارمي قد نسك وتعبد فعمل بيتين ، فأمر من يغني بهما في المدينة ، وهما :

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا أردت بزاهد متعبد

قد كان شمر للصلوة إزاره

حتى قعدت له بباب المسجد

فشاع الخبر في المدينة أن الدارمي قد رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود ، فلم تبق بالمدينة مليحة إلا اشترت لها خمارا أسود. فلما أنفذ التاجر ما كان معه من الخمر السود ، رجع الدارمي إلى تعبده ، وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها.

وليس عندهم الغزل والتشبيب والتعشق إلا في النساء ، ولا يميلون إلى الغلمان والأحداث ، وذالك عندهم عيب كبير ، وفيه العقوبة ولو كان برضاهما. بخلاف عشق النساء والخلوة بهن ، فإن ذالك إذا كان عن رضى منها لا يتعرض لهما متعرض ، ولا يلزم فيه شيء عندهم. لاكن فاعلوه عندهم ساقط المروءة ناقص العرض ، وخصوصا الفاعلة ، فإنه لا يبالى بها ، ويستنكف أهل المروءة من الكلام معها والسلام عليها ولو لغير ذالك القصد ، وإن كان ذالك مباحا إذا كان برضى الجميع.

__________________

(١) ومعناها هنا الرجل الزاهد أو الناسك المتعبد (المعرب).

١٩٩

وأما العفيفات منهن ، فإن من دخل بيت زوجها وهي هنالك ، فإنه لا يعد من الظرفاء والأدباء إلا إذا أبدأها بالتحية وخاطبها خطاب مباششة وملاطفة في عفة. وبذالك ينشط زوجها ويزداد عنده فاعل ذالك رفعة ومحبة ، وبعدها يحيى الزوج وغيره من الرجال ، فمن أراد قضاء حاجته مع الرجل فليقصد المرأة. هذا ما استقرت عليه عادتهم ، وبالله التوفيق.

٢٠٠