رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

عن الماء الحلو ، إلا أنه لا يقوم مقامه في العذوبة والحلاوة ، لاكن يكتفى به عند عدم غيره. فسألنا عن ذالك رئيسه ، فأخبرنا بما مضمنه ، أنهم يقطرونه حتى ترتفع ملوحته لأعلا ويبقى الأسفل حلوا ، أو بالعكس لم أتحقق ذالك منه وقتئذ لعدم فصاحة الترجمان. وذكر لنا في طي ذالك تشبيها ، وهو أن ماء المطر يرتفع من البحر وتذهب ملوحته بحر الشمس فكذالك هذا ، وحرارة النار تقوم مقام حرارة الشمس ، هذا ما ذكر لنا ولم يبلغنا بحقيقة الكيفية ، وجرب ففي التجريب علم الحقائق.

وعندما طلعنا له تلقونا بموسيقاهم وطنابيرهم (١) ، وبعد أن حصلنا فيه رفعوا راية سلطاننا حتى جعلوها في رأس صاريهم الكبير العالي فوق بنديرتهم (٢) ، وأطلقوا من مدافع الفرح ما ينيف على الماية وثلاثين عمارة. ثم نزلنا منه وسرنا لنابيوس (٣) كبير أيضا فيه من المدافع ماية واثنان ، فطلعنا له فإذا هو من أعظم ما يكون وأتقنه ، وفيه ما يحير الناظر ، وبالجملة فهو مدينة حصينة على ظهر الماء. فتلقونا أيضا بالموسيقى وتصفيف من فيه من العساكر ، وكانوا كثيرين ، وبعد استقرارنا فيه رفع أيضا رايتنا فوق رايتهم ، وطلب منا أن نتماشى فيه لننظر ما هنالك. ومن طبعهم أنهم يعجبهم أن يروا ما عندهم ولا يتركون عندهم شيئا جليلا أو حقيرا إلا أطلعونا عليه. فمن جملة ما فعلوا لنا في هذا النابيوس مما هو في الظاهر فرحة ، وفي الباطن تخويف وقرحة ، مع أنا والحمد لله لا نخافهم وإنما نخاف الله.

أنهم أرونا كيفية حربهم بالمدافع في هذا المركب ، إذا عرض لهم فيه حرب ، بينما كل واحد من خدمته ومن يباشر ذالك جالس أو قائم في موضعه الذى هو فيه وهم على غفلة ، إذ صاح بهم كبيرهم فأقبلوا جميعا ، وكل واحد جاء قاصدا لشغله. فصاحب البارود مثلا جاء قاصدا لقرطاس البارود ، فأخذه وذهب به إلى مدفعه المعين الذي لا يذهب إلا إليه ولا يذهب لغيره. وكذالك صاحب المدق ومن يجبذ المدفع

__________________

(١) مفردها طنبور أو طنبار ، والمقصود بها هنا أصناف من الآلات الموسيقية (المعرب).

(٢) البنديرة ، وهي الراية ، وأصلها من الإسبانية بنديرة (bandera) ، ١١٨ : ١Dozy (المعرب)

(٣) ربما كان أصل هذه الكلمة من الإسبانية نافيو (navio) ، أي مركب. وكان الأمر يتعلق بالمركب الحربي الكبير المسمى جيمابيس (Jemmapes) ، الذي استعملته البحرية الفرنسية عند رميها لمدينة طنجة بالقنابيل قبل ذلك التاريخ بستين ، انظر الدراسة والهامش رقم ٥٨ في الصفحات السالفة من هذا الكتاب.

١٦١

ويدفعه جاء قاصدا لذالك ، وبمجرد وصوله يشرع في الفعل ، وهكذا كل مدفع وخدمته. والحاصل كل واحد منهم له شغل معين لا يفعل غيره ، وكل طائفة لها مدفع معين لا تباشر إلا هو. فإذا صاح به كبيره فلا يحتاج أن يأتيه ويقف ويقول له ما أفعل ، أو يذهب اثنان لأمر واحد يقوم به واحد وحده ، أو تذهب جماعة لمدفع واحد ويبقى الآخر لا يذهب إليه أحد ، لأن ذالك كله عطلة وهو خلاف الحزم. فبمجرد ما صاح بهم كبيرهم المذكور ، جاءوا وجبذوا المدافع من طيقانها وعمروها وأخلوها في لحظة ، لأن ذالك كله فعل رجل واحد. ثم عادوا أيضا وعمروا تلك المدافع وأخلوها في لحظة. ولا تسمع مدفعا واحدا ، إنما تسمع كالرعد المتتابع ، ثم عادوا وعادوا ، وكل ذالك في أسرع زمان.

ومدار ذالك كله على الضبط والحزم والاعتناء التام وعدم الغفلة في الأمور. وإلا فليست لهم قوة في أبدانهم ليست لغيرهم ، بل ربما كانوا أضعف من غيرهم في ذالك ، وإنما الذي لهم الاعتناء والترتيب الحسن ووضع الأشياء في محلها ، ويبنون أمورهم كلها على أصح أساس ، ويستعدون للأمور قبل وقوعها ، ولا يعرف حقيقة ذالك إلا من شاهده.

ثم بعد أن شفوا الغليل من ذالك ، نزلنا منه وجعلت فلائكنا تدور بنا في المرسى بين المراكب للفرجة والنزهة. وكلما حاذينا مركبا اصطفت عساكره على ظهره بموسيقاهم للسلام علينا حتى استوعبنا ذالك ورجعنا ، فكان فيها من القراسيل نحو الخمسين. وليس للفرنسيس في هذا البحر الصغير مرسى للقراسيل إلا هذه. وله مراسي أخر في البحر الكبير من الوجه الآخر لأن بره يطل على البحرين معا. وكانت إقامتنا في هذه البلدة يوما كاملا بدون يوم الدخول والخروج ، فخرجنا منها وسرنا لمرسيليا فبلغناها في ست ساعات.

وبالله سبحانه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.

١٦٢

الفصل الثالث

فصل جفي ذكر مدينة باريز

فصل في ذكر مدينة باريز وما يتعلق بها مما شاهدناه بها أو خلص إلينا علمه من أحوالها ، وفي ضمن ذالك الكلام على عوائد الفرنسيس وأحوالهم وأمورهم.

اعلم أن هذه المدينة هي قاعدة بلاد الفرنسيس وأعلم حواضرهم وكرسي مملكتهم ومسكن عظمائهم ومنشأ قوانينهم وشرائعهم ودار علومهم بها يتفاخرون وفي سكناها يتنافسون ، وبها وبأهلها في عوائدهم وءادابهم وحضارتهم يأتسون.

وهي مدينة عظيمة كبيرة من كبار المدن المذكورة في الأقاليم كالقسطنطينة العظمى للمسلمين وما يضاهيها ، يقال إن دورها ثمانية وأربعون ميلا ، وأخبرني بعض أهلها أن الماشي الراجل يقطع دورها في سبع وعشرين ساعة. وأخبرني شخص آخر أن دورها أحد وعشرون ميلا. وذكر الرفعة أفندي في رحلته أن محيطها سبعة فراسخ ، وكان طال مكثه بها نحو الخمس سنين (١). وهي موضوعة في التاسعة

__________________

(١) سبعة فراسخ تعادل حوالي واحد وعشرين ميلا. والمقصود ب «الرفعة أفندي» هو رفاعة رافع الطهطاوي (انظر الهامش ١٢٧ في الصفحات الخاصة بالدراسة). وكل الإحالات إلى كتابة تخليص مأخوذة من الطبعة التي أعدها محمد عمارة ، تحت عنوان : الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي ، الجزء ٢ (بيروت ، ١٩٧٣) ، ص. ٩ ـ ٢٦٦ ، وأيضا من الترجمة الفرنسية المختصرة التي وضعها أنور لوقا : Anouar Louca, L\'or de Paris : Relation de voyage, ٦٢٨١ ـ ١٣٨١) Paris, ٨٨٩١ (.

١٦٣

وأربعين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالي فهي لذالك كثيرة البرد (١). والمواضع التى خلف الجدارات الموالية لجهة الجنوب لا ترى الشمس في فصل الشتاء أبدا. على أن الشمس في هذه المدينة غريبة كل الغرابة زمن الشتاء والغيم فيها مستمر ، ولا ترى الشمس إلا يوما في الشهر.

وهذه المدينة غاصة بأهلها ، وهي بالنسبة لغيرها من بلدانهم بمنزلة يوم السوق عندنا مع الأيام التي لا سوق فيها ، فتحسب غيرها خاليا من الناس بالنسبة لها وإن كان الغير مشحونا بالناس. وسمعنا على لسان غير واحد من أهلها أن فيها مليون من الناس. ولا يستغرب حسابهم لمن فيها (٢) ، فإن كل من ولد أو مات أو قدم لها أو سافر منها يكتبونه ويزممونه ، وهدا شغل من هو متصد لذلك على الدوام ، وكذا دأب

__________________

(١) حسب ما جاء عند ابن خلدون ، تقع باريز في القسم الثاني من النطاق السادس حيث تعصب الحياة لشدة قساوته ، Muqaddimah.١ : ٩٥٢ وأكد أندري ميكل أن جل الأخبار المعروفة عند المسلمين في العصور الوسطى عن أوربا كانت تستند بصفة أساسية على محتويات كتاب الرحالة اليهودي إبراهيم بن يعقوب الذي عاش في القرن العاشر ، وضاعت مؤلفاته ، انظر :

Andre؟Miquel," L\'Europe occidentale dans la relation arabe d\'lbrahim b. Y qub) Xe s. (", Annales : Economies, Socie؟te؟s, Civilisations ١٢, ٥) Sept ـ Oct ٦٦٩١ (: ١٥٠١.

كما تكلم المسعود (المتوفى سنة ٣٤٥ / ٩٥٦) عن باريز (البويرة) فوصفها بأنها «مدينة كبيرة جدا ، [...] وأنها مقر لمملكة الفرنجة» ، انظر :

Les prairies d\'or, traduction Barbier de Meynard et Pavet de Courteille, ٣ vols.) Paris, ٤٦٨١ (, ٣ : ٧٦.

كما أن الإدريسي (القرن الثاني عشر) قد أشار هو الآخر إلى باريز (إباريز) ووصفها بأنها «مدينة ذات أهمية ، محاطة بحقول الكروم والباستين ، وتقع في جزيرة على نهر السين» ، انظر المقال الذي حرره :

Charles Pellat," La France dans la ge؟ographie d\'al ـ Idrisi", Studi maghrebini ٠١) ٨٧٩١ (: ٢٦.

وعن الإفرنج» Francs «بصفة عامة ، انظر :

Andre؟Miquel, Ge؟ographie humaine, vol. ٢, Ge؟ographie arabe et repre؟se؟ntation du monde : La terre et l\'e؟tranger, pp. ٤٥٣ ـ ٩٥٣.

(٢) حصر الطهطاوي عدد الباريزيين يومئذ في «حوالي مليون واحد من السكان» انظر تخليص ، ص. ٧٤ ؛. ١١٧.L\'or ,p.

١٦٤

غيرهم من سائر الروم. ولها سور حصين مستحدث لم يكن لها في القديم (١) ، وهو يرى من خارج ولا يرى من داخل لأنه من داخل مردوم بالتراب والحجارة حتى ساوى الردم رأسه أو علاه ، وخلفه لخارج حفير عظيم واسع عميق ، وعلى رأس السور لداخل مواضيع المدافع وسورها تباعد عن دورها وأبنيتها المتصلة ، ليزاد في ذالك الفضاء الذي بين البناء والسور عمارات أخر فتكبر بذالك المدينة وتزيد. ولم يجعلوا لها أبوابا في السور كما هو في غيرها ، نعم إذا دخلت داخل السور ووصلت إلى ابتداء العمارة ألفيت أبوابا من الحديد مسورة عن يمينها وشمالها بضرابيز (٢) من الحديد ، بحيث لا يدخل أحد إلا على ذلك الباب. وبها حراس وعسكريون واقفون يفتشون كل من دخل أو خرج لأجل المكوس التي توخذ ممن يدخل للمدينة أو يخرج منها بما يماكس عليه عندهم. وبإزاء ذالك الباب ديوان العشارين ، وهكذا في كل مداخلها (٣). ولم أقف على تحقيق فيما يعطى عليه عندهم وما لا ، إلا أن القمح لا يعطى عليه واللحم يعطى عليه ومذبحه بخارج المدينة. وأعظم ما تؤدى عليه المكوس عندهم الخمر ، حتى جعلوا له ديوانة مخصوصة في ناحية على حدتها فيها عدة من الخزائن والبيوت المعدة لإنزال براميله ، وهو من ضروريات العيش عندهم.

__________________

(١) في سنة ١٨٤٠ ، أحيطت باريز بسور جديد على مسافة من مثيله القديم الذي كان الهدف من بنائه خلال القرن الثامن عشر هو التحكم في تحصيل الرسوم الواجب أداؤها على السلع الداخلة أو الخارجة من المدينة ، وأصبح يشكل زمن زيارة البعثة المغربية جزءا من المنطقة شديدة الاكتظاظ بالسكان. وحين انتهت أشغال البناء سنة ١٨٤٣ ، بلغ محيط دائرته حوالي واحد وعشرين ميلا. وبنيت داخله حصون بارزة لنصب المدفعية ، كما تمت حمايته بخندق واسع الأرجاء من كل جهاته الخارجية. وبنيت حول المدينة حصون جديدة بلغ عددها ستة عشر حصنا على مسافة تعادل رمية المدفع. وكان الهدف من ذلك كله ، هو أن تكون لباريز واجهة المدينة المتمتعة بالتحصينات الجيدة والمتينة. انظر :

P. Lavedan, Histoire de Paris, se؟rie" Que sais ـ je؟" n! ٤٣) Paris, ٠٦٩١ (, p. ٨٧ ـ ٩٧.

(٢) مفردها ضربوز ، انظر : ٤٣٠ : ١Dozy

(٣) ويتعلق الأمر بالأبواب القديمة التي كانت تؤدي الضرائب عند المرور عبرها دخولا أو خروجا ، وهي المعرفة باسم باريير (barrie؟res) ، إذ كان يقف عندها المكلفون بتحصيل رسوم الأبواب. انظر :

Jacques ـ Louis Me؟ne؟tra, Journal of My Life) New York, ٦٨٩١ (, p. ٤٣١ et note ٧٦١.

١٦٥

وهذه المكوس التى تؤخذ مما يدخل على المدينة لا تدخل عندهم في خزانة البيلك ، بل هي عندهم معدة لمصالح البلدة كتعديل طرقها وإيقاد الفنارات بها. وهي عندهم في كل بلد ، لاكن في هذه المدينة بالخصوص منها المئون والآلاف ، يقال إن فيها ماية ألف فنار وكلها مرفوعة على أعمدة من الخشب محكمة الإنزال والتصفيف متساوية في العلو. إذا وقفت في طريق الصف ونظرت إليه ترى كأنه حبل ممدود مد البصر ، ليس واحد منها بارزا عن الآخر ولا زائدا عليه في العلو. واذا وقفت في فضاء من أماكنها خصوصا على النهر الذي بها في الليل عند ايقادها ، تراها كما ترى النجوم في الليلة المظلمة الصاحية ففيها منظر عجيب. ويصرفون أيضا من هذه المكوس على اسبيطارات (١) المرضى ومدارس تعليم أولاد الفقراء ، وغير ذالك من مصالح البلد.

وبخارج هذه المدينة قريبا منها قلعات محتفة بها في غاية من التحصين ، يسكنها العسكر وفيها أبراج المدافع (٢) ، وبها يسكن الطبجية (٣) ، لهم بها بيوت عديدة فيها فرشهم وأسلحتهم وبها بيوت وخزنات لأنواع السلاح الذي يحمل من سيوف ومكاحل وتوافل وبيضات ودروع ، وغير ذالك من أنواع السلاح في أحسن صورة في نظافته ووضعيته وكيفية إنزاله ، يصورون منه في وضعه خصصا وثريات وسواري وأشكالا بديعة. وفي هذه القلعات اصطبلات للخيل التي تجر المدافع وءالاتها ، وفي كل إصطبل خدمة كثيرون لا يفترون عن العمل في صيانة الخيل. وربطها عندهم

__________________

(١) مفردها اسبيطار ، وهي مأخوذة من الإسبانية أوسبيتال hospital). أما التسمية الكلاسيكية فهي البيمارستان ، وهي كلمة فارسية (مركبة من بيمار وتعني مرض ، وإستان وتعني المكان) ، غالبا ما كانت تحذف الباء فيقال مارستان. غير أن لهذه التسمية معنى خاصا في المغرب ، إذ كانت تطلق على المكان الذي يحتفظ فيه بالمجانين وبالمصابين بالأمراض العقلية. انظر :

W. MarC؟ais, Textes arabes de Tanger) Paris, ١١٩١ (, p. ٥٦٤.

بالإضافة إلى مادة «بيمارستان» في : EI ٢ ,s.v."Bimaristan " ..

(٢) قام الصفار رفقة أعضاء البعثة السفارية بزيارة لحصن سان كلود (St.Cloud) الواقع في جنوب غرب باريز ، يوم ٥ فبراير ١٨٤٦. انظر : AAE / ADM Voyage ، بوميي (Beaumier) إلى دوشاستوde) (Chasteau ، ٨ فبراير ١٨٤٦.

(٣) الطبجية ، هم رجال المدفعية ، وأصلها من التركية ، انظر : ٢٠ : ٢Dozy

١٦٦

من رأسها لا من رجليها ، فيجعلون في رأسها صراعا من الجلد له سلسلتان تذهب واحدة يمينا والأخرى شمالا ، في رأس كل سلسلة كرة من عود يدخلون طرف السلسلة في خرصة مسمرة في الحائط قبالة الفرس ، وتلك الكرة تحصرها. ويفرشون لها التبن تقف عليه ، فإذا بالت عليه وراثت مرتين أو ثلاثا أبدلوه بغيره نظيفا. وبمدخل الإصطبل لوح مكتوب فيه قانون سياسة الخيل ومقدار علفها وغير ذالك مما يتعلق بمباشرتها. وكل فرس مسمى باسم يخصه واسمه مكتوب في لوح صغير قبالة وجهه. ويفصلون بين كل فرس وءاخر بلوحة غليظة معلقة من فوق ، إذا ضربها الفرس برجله تباعدت ولو كانت ثابتة في الأرض لا نكسرت بضربه.

وبهذه القلعة أيضا كراريط وسراير لجر المدافع وإقاماتها من بارود وكور وغير ذالك ، وبها كثير من المدافع كبارا وصغارا كل نوع على حدته. وكذالك كورها يحسن النظر إليها لحسن وضعها وترتيبها وتصفيفها وصقالتها ، كأنها اليوم خرجت من دار الصنعة. وبها خزنة للسلاح كما تقدم ذكره لا يغفل خدمتها عن تعاهدها وتزييتها ، وخزنة أخرى مثلها أو أكبر منها والكل مد البصر ، لإقامات الخيل التي تجر المدافع وغيرها للحرب من برادعها ولجمها وأحبالها وسلاسلها وغير ذالك. ولكل قلعة من هذه القلع سور عظيم مثل سور البلد والحفير خلفه والقنطرة أمام الباب ترفع وتوضع ، وكل قلعة مقدار بلد من البلدان.

وهذه المدينة يشقها نهر كبير يسمى لاسين ، وهو جار بها من الشرق إلى الغرب ، عليه فيها سبع عشرة قنطرة ، وتلك القناطر على أشكال. فمنها ما هو مبني على أقواس الحجارة كغالب القناطر ، ومنها ما هو على أقواس الحديد ، وبين الأقواس وسطح القنطرة دوائر عظيمة من الحديد كبارا وصغارا عليها سطح القنطرة. ومنها نوع آخر وهو أعجبها معلقة من فوق وليست منزلة على الأقواس كغيرها. وذالك أنهم عمدوا إلى طرفي النهر فبنوا فيهما بناء وثيقا على شكل سارية مفتوح وسطها بقوس ليمكن المرور فيها ، وربما زادوا بناء ثالثا في وسط النهر إن كان عريضا جدا ، وجعلوا أرض القنطرة الذي يمر عليه من الخشب الوثيق تحمل على سبائك من الحديد ، وتلك السبائك ممسكة بقضبان من حديد قائمة على جوانب القنطرة ، يدخل طرفها الأسفل في تلك الخشب حتى يتصل بالسبائك التى تحمل عليها الخشب وتسمر فيها. وهذه القضبان القائمة يمسكها من أعلاها قضبان أخر عظيمة ممتدة على حاشيتي القنطرة تسلك في البناء المذكور ، ومنه ابتداؤها وفيه انتهاؤها فهي التي

١٦٧

تمسك القنطرة. فإذا كنت ماشيا على ظهرها تحس بها تهتز ، لأنها ليست منزلة على الأساس من تحت بل هي معلقة من فوق بما ذكر.

ومنها شكل آخر من الخشب كلها ، وعلى حاشيتها من فوق ضربوز من الحديد يمنع المار من الوقوع في النهر ، وهو فيها وفي غيرها ، إلا أنه في غيرها الغالب أن يكون بناء. وكل هذه القناطر تمر عليها الكراريص والأكداش. وهذه القناطر الغريبة الشكل كلها يعطي المار عليها لأنها مستحدثة ، حتى يستوفوا ما دفع فيها ثم تصير مجانا كغيرها. وكانوا قبل استحداث هذه القناطر الجديدة يعبرون من أحد الجانبين للآخر في الفلائك إن استبعدوا البلوغ لقنطرة أخرى من القناطر القديمة ، والذي يعطى عليها شيء قليل نحو فلسين من فلوسهم للماشي الراجل وضعف ذالك أو ثلاثة أضعاف للكروصة. وهذه أشكال القناطر في هذه المدينة وفي غيرها مما رأينا ، ولم نر أحدا يخوض نهرا بدابته ولا برجليه أبدا.

وفي وسط هذا النهر جزيرة هي أصل باريز القديم ، ويسمونها بما معناه باريز القديمة (١). ولهم بهذه الجزيرة كنيسة قديمة أكبر وأقدم ما عندهم من الكنائس بباريز (٢). وهذا النهر تسافر فيه المراكب والفلايك والبابورات كبارا وصغارا ، فهو مشحون بها في داخل المدينة. وفيه بيوت عظام من الخشب على شكل السفن الكبار ، إلا أنها مسقفة من فوق بسقف منها ، مفتوح وجهها الذي لجهة النهر ، مرساة في طرفه ثابتة ، معدة لغسل الثياب ، تعلوا عند زيادة النهر وتنزل عند نقصانه كما هو شأن المراكب.

وفيها أيضا كذلك بيوت أخر من الخشب هي حماماتهم هنالك معدة للاستحمام بداخلها بيوت صغار بإغلاقها ، وفي كل بيت حوض يملأ بالماء سخنا أو باردا أو بهما ليعتدل ، فمن أراد الاستحمام دخله ، وهذا حمامهم ، وليس عندهم حمام على شكل حماماتنا. وعندهم حمامات كثيرة في غير النهر المذكور ، بل بين

__________________

(١) المعروفة قديما بلوتيس (Lute؟ce) (باللاتينية :(Lutecia Parisiorum) (ويطلق عليها اليوم) La) (Cite ?.

(٢) ويتعلق الأمر بكاتدرائية نوتر دام دو باري (Notre Dame de Paris) المشهورة والواقعة فيما يسمى لاسيتي (La Cite ?)

١٦٨

الديار وفي الأسواق.

والحوض المذكور الذي يكون في داخل البيت يكون من النحاس في الغالب ، وقد يكون من الرخام على قدر ما يمتد فيه الإنسان مع جمع رجليه شيئا ما ، ويصيب فيه ميزابان (١) أحدهما من الماء البارد والآخر من السخن ، لكل منهما بزبور يغلق ويفتح وبأسفله مفجر يخرج منه الماء متى احتيج إليه. وهو أيضا يغلق ويفتح ، فإذا أراد المغتسل أن يدخله ، فتحوا له الميزابين حتى يمتلئ الحوض ويكون الماء كما يريد ثم يغلقان ، فيدخله المغتسل فيتجرد من ثيابه ويعلقها في أعلاق لها هنالك ويغلق الباب ويدخل في الحوض المذكور ويضطجع فيه ، فإن كان الماء معتدلا فذاك ، وإن كان حارا سخنا فتح بزبوز البارد ، أو باردا فتح بزبوز السخن. فإذا تغير ذالك الماء بالوسخ وأراد إبداله ، فتح المفجار الذي بأسفل الحوض فيخرج منه الماء ويغسله ، ثم يغلق المفجار ويرسل الميزابين حتى يستوفي غرضه ويخرج.

وذالك البيت مضى بطاقة كبيرة لها غلف من الزجاج ، عليه من داخل ساتر رقيق يمنع التكشف ولا يحجب الضوء. ومن أراد أن ياتوه بالحمام المذكور لبيته ، أتوه بذالك الحوض وبالماء سخنا في الأواني وبالفوط التي يستحقها للتنشف وغيره فيغتسل في بيته. إلا أن هذا لا يمكنه تبديل الماء إذا تغير ، لأنه ليس في الحوض الذي يأتون بمفجار في أسفله. وليس في بيوتهم مهاريق للماء ، فلا تجد من أين ترسل شيئا من الماء ولا نقطة. وكان يشق علينا الوضوء لأجل ذالك ، فكنا نحتاج أن نأتي بإناءين ، أحدهما فيه الماء والآخر نتوضأ فيه مع مشقة واحتيال لصغر الإناء ، ولأن أرضهم مفروشة بالزرابي إذا قطر عليها الماء أفسدها ، وهم في غنية عن إهراق الماء فلم يستعدوا له.

وما يجتمع في البيت من الماء الوسخ أو البول أو غيره يخرجونه في الأواني ، وقضاء الحاجة يكون عندهم في الأواني أيضا. أما البول ففي حلاليب (٢) معدة له ،

__________________

(١) مفردها ميزاب أو مئزب وهي الأنابيب أو الجعاب التي توصل الماء إلى الصنابير ، أحدهما للماء البارد وثانيهما للماء الحار ، وتسمى أيضا بالقواديس (المعرب).

(٢) مفردها حلاب وهو وعاء قد يكون من الطين أو المعدن ، وله استعمالات متعددة. والحلاب المقصود هنا هو الذي يسميه الفرنسيون :

) Pot de nuit (، انظر : ٣١٤ : ١Dozy (المعرب).

١٦٩

وأما غيره ففي إناء داخل صندوق عليه غطاء ، وفوق ذالك الإناء إناء آخر نظيف ، في أسفله ثقب فيه غطاء يفتح ويغلق وحده بلقشة (١) ، فإذا وقعت الحاجة في الإناء الأعلا هبطت من ذالك الثقب إلى الإناء الأسفل بسرعة ثم انغلق الثقب ، ويضعون له شيئا قليلا من الماء في ذالك الصندوق يخرج لذالك الإناء الأعلا بحركة بزبوز لينظفه. فإذا قضى أغلق غلقا آخر على الجميع ، فلا تخرج رائحة ولا فرز حتى يمتلىء فيخرجه الخدمة وينظفونه ويردونه لمحله.

رجوع ، وشاطىء هذا النهر المذكور مبني بأحجار منحوتة وصخر عظيمة ، وارتفع البناء حتى علا الطريق بنحو نصف قامة من مبدأ النهر إلى منتهاه بداخل المدينة. وعلى شاطئه شوارع واسعة ، وإلى جوانبها الحوانيت والديار طيقانها تطل على هذا الوادي. وطرق هذه المدينة كلها مفروشة بالحجارة المنجورة في الوسط وحواشيها مسطحة ، فالوسط للكراريص والأكداش والحواشي للمشاة. وطرقها واسعة جدا وكلها نافذة للهواء ، ليس فوقها روشن ولا ساباط (٢) ، لأن ضوء البيوت إنما هو من الطيقان التي تطل على الزقاق والفضاء ، فإذا غطوها بساباط أو نحوه أظلمت البيوت.

وفي هذه المدينة من الأكداش والكراريص عدد كثير جدا ، يقال إن فيها من ذالك ثلاثة عشر ألفا ، منها ثمانية آلاف للكراء وباقيها ملك لأربابها (٣). وأن فيها من الخيل التي تجرها نحو ثمانية وأربعين ألفا. وهذه الأكداش كلها في غاية من النظافة والصقالة والوثاقة ، يظن بها أنها كلها جدد. وكذالك خيل هذه المدينة كلها في غاية من الشبع وصفاء اللون وكبر الجثة وحسن الصورة ، ولم نر مثل أكداشها ولا مثل خيلها في سائر بلادهم. وبالجملة فهذه المدينة بالنسبة لسائر بلاد الفرنسيس التي رأيناها مدنا وغيرها

__________________

(١) لقشة وتنطق بالمغرب في العربية الدارجة بالنون هكذا : نقشة. وهو النابض ويقابله في الفرنسية روسور (ressort). انظر : ٥٥٢ : ٢Dozy (المعرب).

(٢) استعمل الصفار هنا مصطلح «الساباط» المعروف والشائع استعماله في المدن المغربية العتيقة ، وهو طريق يربط بين أزقة المدينة ، لكن فوقه مباشرة دور أو مساكن معلقة ، فيسمى الممر المغطى بالسقف ساباط ، ووردت عند دوزي بالصاد أيضا هكذا : صباط ، (voچ te) ، بمعنى القوس. ٨١٥ : ١Dozy (المعرب).

(٣) يبدو أن هذا الرقم الذي أتى به الصفار ضئيل جدا ، إذ جاء في جريدة الإلوستراسيون L\'Illustration بتاريخ ١٥ نونبر ١٨٤٥ أن باريز كانت تحتوي على ٥٢٠ ، ٢ عربة كان استعمالها مقصورا على حمل الركاب دون البضائع وغيرها من المحمولات.

١٧٠

كالحاضرة مع البادية ، فكأن غيرها من المدن بالنسبة لها كله بادية.

ولا يتماشى أهل الثروة من أهل هذه البلد وذووا الهمة منهم بل ومطلق الناس غالبا إلا في الأكداش لأمرين : أحدهما حب الرياء والفخر الذي طبعوا عليه ، فلا تسمح نفس أحدهم بالمشي على رجليه في الطرقات ، إلا إن كان مقصوده الاستراحة والفرجة (١). والأمر الثاني ، كبر المدينة جدا ، فكل من يريد الذهاب من محل منها إلى آخر ، يشق عليه المشي على رجليه لأنه سفر. ولذالك تجد عندهم كراريص طوالا تحمل كثيرا من الناس مكتوب عليها : «هذه تذهب إلى الحومة الفلانية» ، فيركبها كل من يريد الذهاب لتلك الحومة ولو كان من الخدمة ونحوهم ، وينزل بعضها ويحمل آخرين في أثناء الطريق (٢). فهدير الأكداش والكراريص بها لا يفتر ليلا ولا نهارا ، حتى أن الزجاج التي بطاقاتها دائما يرتعد ويهتز من شدة فرقعتها. وبقينا بها أياما لا يأخذنا النوم من أجل هولها ، لأنها لا يفتر مشيها باليل ، ونرى كأننا على شاطئ البحر أو أمام رحى تدور.

وتجد سائر أسواقها وفجاجها كلها مملوة بالكراريص بقصد الكراء ، وبها أسواق كثير ، وإن شئت قلت كلها أسواق لأن أسواقهم كلها حوانيت (٣). ومن عادتهم في

__________________

(١) قارن مع ما أتى به الطهطاوي في هذا الصدد ، تلخيص ، ص. ٧٦ ؛ ١٢١ ـ ١٢٠.L\'or ,pp.

(٢) أنشئت أول شركة للنقل الحضري في باريز بهذا النعت» Entreprise des omnibus «سنة ١٨٢٨. وتأسست فيما بعد شركات أخرى خصوصية لنقل الركاب بين مختلف الأحياء والمقاطعات الباريزية مقابل أجر معلوم. وعند وجود الصفار بالعاصمة الفرنسية ، كانت هنالك عدة حافلات تخترق مختلف أرجاء المدينة وتحمل أسماء معينة من قبيل :(Josephine ,Gazelle ,Hirondelle) وغيرها. انظر : Guide Michelin : Paris ,ed.,٨٨٩١ ,p.٤.

(٣) كان الصفار يضع نصب عينيه صورة القيسارية أو القيصرية في فاس. ومعلوم أن القيسارية كانت تفتح أبوابها للزبناء نهارا وتقفل أبوابها عند المساء فتصبح أزقتها خالية. وكان في إمكان المشترين اقتناء حاجياتهم التي عادة ما يجدونها معروضة للبيع في الحوانيت الملتصقة بعضها ببعض. ويمكن إيجاد بعض المواد الضرورية معروضة للبيع في حوانيت منبثة ضمن الأحياء السكنية ، غير أنه لا مجال للمقارنة بين حجم تجارة أصحاب تلك الحوانيت وأقرانهم في القيساريات. انظر :

R. Le Tourneau, La vie quotidienne Fe؟s en ٠٠٩١) Paris, ٥٦٩١ (, pp. ١٢١ ـ ٤٢١; al ـ Qadiri) trans. Cigar (, Nashr, p. ١٢٢ and note ٦; EI ٢, s. v." Kaysariyya".

١٧١

بنائهم أن يجعلوا الطبقة السفلى الموالية للأرض حوانيت والبيوت فوقها. إلا أن في غالب مواضعها تجد الحوانيت متصلا بعضها ببعض وفي بعضها منفصلة ، وقل أن تدخل زقاقا من أزقتها ولا تجد فيه عدة حوانيت. وحوانيتهم كلها على شكل واحد في زخرفتها وأبوابها وزجاجاتها ، فما يباع فيها الحرير والجوهر بمنزلة التي تبيع البقول والخضر ، وكلها متصلة بالأرض وليست مرتفعة عن الأرض كحوانيتنا. ومن زخرفتهم في الحوانيت ، أنهم يجعلون جوانبها كلها بالمراءات الصافية ينطبع فيها كل ما في الحانوت ، فلا تدري هل هي محصورة أو نافذة أو صغيرة أو كبيرة. ولا اختصاص لسوق منها بشيء معين ، فتجد حانوت اللحم والسمك مجاورة لحانوت البز (١) والجواهر ونفيس السلع ، وهما في النظافة سواء. فلا يوجد في حانوت اللحم دم ولا عظم ولا رائحة كريهة ، ويبقى اللحم فيها أياما عديدة فلا يتغير ولا ينتن.

ومن أشهر أسواقهم وأنفسها سلعا سوق يسمى باليرويال (٢) وهو تربيعتان (٣) فيهما ما يزيد على أربعماية حانوت ، وفي وسطه أشجار وفوارة ماء كبيرة. وفوق الحوانيت قصر سلطاني يسمى بهذا الاسم ، ويقولون إنه ملك لسلطانهم المتولى الآن. ويباع في هذه السوق الأمور النفيسة كالجواهر والأحجار والذهب المصوغ والفضة وحوايج الحرير وغير ذالك ، وفيه قهاوي وغير ذالك.

__________________

(١) حوانيت البز هي التي يباع فيها الثوب المصنوع من الكتان أو القطن ، وقد يسمى تجمعها بالبزازين (المعرب).

(٢) والإشارة بذلك إلى بالي رويال (Palais Royal) الذي بني في القرن السادس عشر. لكن مع حلول القرن الثامن عشر أصبحت توجد في أروقته دكاكين تجارية ومحلات للتسلية ولعب القمار. وذكر هالت أفندي ، أحد الرحالة الأتراك عند مطلع القرن التاسع عشر ، أن الغرف الموجودة في أعالي البناية كانت تستعمل أو كارا للدعارة ، وأن «زيارة ذلك المكان أثناء الليل أمر مخجل ، غير [...] أنه لا حرج في زيارته خلال النهار». انظر : Lewis ,Muslim Discovery ,p.١٩٢.

غير أن كل محلات الدعارة والتسلية المشبوهة والمنافية للأخلاق كان قد صدر الأمر بإغلاقها بصفة نهائية زمن زيارة البعثة المغربية إلى باريز ، انظر :

Guide Michelin : Paris, ed., ٨٨٩١, pp. ٣١١ ـ ٥١١.

(٣) مفردها تربيعة والمقصود بها هنا هو ساحتان فسيحتان تتخللهما حوانيت (المعرب).

١٧٢

وسوق آخر يسمى بولفار (١) يباع فيه كل شيء ، وهو طويل جدا بقينا ماشين فيه بالكروصة نحو ساعة. وسوق آخر قريب منهما يسمى روي ممرط (٢) به مجمع للتجار يسمى عندهم البرصة (٣) وبه حانوت من أعظم حوانيت باريز هي وحدها سوق (٤) يباع فيه سائر أنواع الملبوسات من الحرير والملف والكتان وغير ذالك مخيطا وغير مخيط ، وفيها ماية وأربعون خادما. ورب الحانوت واقف ببابها ، فيتلقى المشترين ويسلهم عن مطلوبهم حتى يوصلهم لموضع غرضهم ، وهناك الخدمة يناولون كل واحد ما يحب.

وكل حاجة مكتوب عليها ثمنها الذي تباع به ، فلا يحتاج المشتري مع ذالك الخادم إلى مشاحنة ولا مكايسة. فإذا أراد أخذ شيء منها أتى معه الخادم إلى باب الحانوت ، وهناك أربعة من الكتاب يعملون الحساب ويقبضون الأثمان ، فيتركه معهم بحاجته ينظروا له الثمن ويقبضونه منهم فينصرف. وقد دخلناها غير مرة فلم نجد أولئك الكتاب إلا بالازدحام عليهم في أعمال الحساب وقبض الأثمان من المشترين. يقال أنه يباع فيها كل يوم بتقريب اثنا عشر ألف ريال (٥). وبها تربيعات ، كل تربيعة لنوع من السلع ، ويوقد بها في اليل ماية وسبعون مصباحا.

__________________

(١) ويقصد الصفار بذلك (Les Grands Boulevards) ، المشيدة على أنقاض التحصينات الباريزية التي كان يعود تاريخها إلى القرون الوسطى. وخلال أربعينيات القرن التاسع عشر كانت على جوانب أرصفتها ، مراقص ومحلات للفرجة ومطاعم أنيقة.

(٢) ويقابلها بالفرنسية (Rue Montmartre).

(٣) ويقابلها بالفرنسية (La Bourse).

(٤) ويتعلق الأمر بفيل دو فرانس (Ville de France) ، أول أكبر المتاجر الطلائعية على مستوى السبق في الانفراد بعرض أحدث السلع ومستجداتها في باريز ، والتي فتحت أبوابها سنة ١٨٤٣. وكان ذلك المتجر جديدا على الباريزيين أنفسهم ، نظرا لاختلافه الكبير عن بقية المتاجر. إذ تباع فيه سلع ومنتوجات متنوعة جدا ، وأثمان البيع فيه محددة ، وأرباحه المحققة سريعة بفعل ارتفاع حجم المبيعات. انظر :

Michael Miller, The Bon Marche؟: Bourgeois Culture and the Department Store, ٩٦٨١ ـ ٠٢٩١,) Princeton, ١٨٩١ (, pp. ١٢ ـ ٥٢.

(٥) حوالي ٠٠٠. ٦٠ فرنك فرنسي في اليوم ، إذ كان الفرنك يساوي حوالي عشرين سنتا.

١٧٣

وسلع هذه المدينة في غاية الغلاء ، لكثرة غنى أهلها وجودة سلعها. فإن الفرنك عندهم وهو خمس الريال بمنزلة الفلوس عندنا ، والريال عندهم بمنزلة الدرهم عندنا (١) وهما غالب سكتهم. ومدار الحساب عندهم على الفرنك ، كما أن الحساب عندنا على المثقال ، فإذا أرادوا غيره كالريال بينوه. ولهم من الذهب دنانير صغار (٢) ، صرف

__________________

(١) لم يقصد الصفار بقوله ذلك الإشارة إلى القيمة الحقيقية للدرهم الذي كان يساوي حوالي عشر قيمة القطعة النقدية الفرنسية الواحدة من خمس فرنكات ، بل كان يريد القول إن قطعة الخمس فرنكات كانت تشكل وحدة القياس الأساسية للنقود الفرنسية ، تماما كما كان حال الدرهم في المغرب.

وكانت تبدو أسعار السلع الفرنسية مرتفعة جدا نتيجة لانخفاض الطلب على العملة المغربية في علاقتها مع العملات الأجنبية. إن قطعة الخمس فرنكات الفرنسية كانت تزن ٢٥ كراما ، وكان استعمالها بالمغرب أمرا معهودا تحت اسم الريال. وخلال القرن الثامن عشر كانت النقود المغربية الأساسية محلية وتسمى المثقال ، وهو عبارة عن عملة نقدية فضية وزنها ٢٩ كراما ؛ والدرهم الذي هو عملة نقدية فضية وزنها ٩ ، ٢ كرام ، أو ما يعادل عشر المثقال ؛ ثم الأوقية وهي عملة نقدية برونزية تعادل درهما واحدا. أما في القرن التاسع عشر ، فقد عوض المثقال الفضي الثقيل الوزن في الأسواق المحلية بعملات نقدية أوربية ذات قيمة منخفضة كما هو حال قطعة الخمس فرنكات الفرنسية التي أصبحت تحمل اسم الريال. وقد سمح المخزن بحدوث ذلك أملا في الحفاظ على النسبة الاسمية المرغوب فيها بين النقود البرونزية والفضية ؛ وخلال أربعينيات القرن التاسع عشر حصل تغيير على مستوى قيمة الأوقية : سابقا كانت العشر أوقيات تساوي مثقالا واحدا ، وبعدئذ أصبحت ست عشرة أوقيات تساوي ريالا واحدا. وهنا لا بد من الاعتراف بالجميل للباحث (Thomas Park) الذي أفادني كثيرا في هذا الإطار. انظر مقالته :

" Inflation and Economic Policy in ٩١ th Century Morocco : The Compromise solution", Maghreb Review ٠١, ٢ ـ ٣) ٥٨٩١ (: ١٥ ـ ٦٥; G. Ayache," Aspects de la crise financie؟re au Maroc apre؟s l\'e؟xpe؟dition espagnole de ٠٦٨١", in Etudes d\'histoire marocaine) Rabat, ٣٨٩١ (, pp. ٧٩ ـ ٨٣١;

وأيضا عمر أفا ، مسألة النقود في المغرب في القرن التاسع عشر : سوس ١٨٢٢ ـ ١٩٠٦ (الدار البيضاء ، ١٩٨٨) ، ص. ٢٠٣ ـ ٢١٤.

(٢) ويقصد بها الصفار العملة النقدية الفرنسية المسماة بالفرنسية (Louis d\'or) التيي كانت تساوي ٢٠ فرنكا ، وهي معروفة عند المغاربة باللويز. أما الدينار (من اللاتينية (denarius فهو عملة نقدية ذهبية إسلامية تزن حوالي ٢٥ ، ٤. كرامات ، IB ٢ : ٤٤٤ note ١١١ ;EI ٢ ,s.v."Dinar "

١٧٤

كل واحدة أربعة ريال بريالهم وفلوسهم التي هي من النحاس عشرون منها في الفرنك ، ويسمى الواحد صلد (١).

وبها ديار لبيع نفيس السلع خصوصا الجواهر والأحجار ، فالغالب فيها بديار معدة لها. ومن حرصهم على نفاد سلعهم أن أصحاب السلع يكتبون كواغيط يذكر كل واحد سلعته ويمدحها ويرغب الناس فيها ، ويذكر محله وثمنها ويلصقون تلك الكواغيط في الحيطان في محال اجتماع الناس ومرورهم وفي القبب المعدة عندهم للبول وفي ابتداء المدينة ليراها الداخل ، وفي كل محل يقصده الناس كثيرا. وليس عندهم في أسواقهم جوطيات (٢) يباع فيها بالسماسرة كما عندنا.

وأما أشكال دورهم فإنها مخالفة لشكلنا ، فإن دورهم ليست بالساحة والفوقي والسفلي والبيوت والغرف كما عندنا ، فإنهم يتركون ساحة الدار خارجة عنها مرفقا لها لوقوف نحو الكراريض والدواب. وأول ما تدخل الباب تصعد في الدرج ، وأنت تجد البيوت طبقة فوق طبقة حتى تنتهي إلى أعلاه. وتلك البيوت هي المسماة بالصيلان (٣) وكلها لها طاقات كبار جدا منها تضيء ، تشرف على الأسواق والشوارع أو على محل فضاء. وتجد هذه الطيقان صفا واحدا متماثلة فيها تزويق ونقش حسن ، وقد يكون أمامها شبابيك من الحديد في صنعة عجيبة. والغالب أن يكون بإزاء الدار عرصة ولو صغيرة فيها ماء وخضرة ولو شيئا ما. ولا تجد عندهم في أعراصهم هذه شيئا من أشجار الفواكه ، أو دوالي العنب أو نور له رائحة طيبة أو نبات مما نألفه في أعراصنا كالنعناع والحبق والمرزنجوش وغيرها من النباتات الزكية ، فلم نر عندهم شيئا.

وبهذه المدينة في أسواقها قبب كهيئة السواري المجوفة معدة للبول ، وببابها

__________________

(١) الصول أو (Sol) بالفرنسية ، عملة نقدية قديمة من النحاس تساوي خمس سنتيمات. وينطقها عامة المغاربة صلد تماما كما أورده الصفار أعلاه.

(٢) مفردها جوطية ، وهي سوق ينعقد يوميا في المدن المغربية ، وتباع فيه الحوائج القديمة أو المستعملة بواسطة الدلال أو السمسار. انظر :

R. Le Tourneau, Fe؟s avant le Protectorat) Casablanca, ٩٤٩١ (, p. ٢٤٢ et ٨٧٣.

(٣) مفردها صالة ، من الإيطالية (sala) ، بالفرنسية (salle) ، وهي البيوت المجهزة بما يصلح من الأثاث والفرش الفاخرة لاستقبال الزوار أو الضيوف (المعرب).

١٧٥

قضيب من الحديد قائما من الأرض له رأسان يمنع مريد البول من تلوث ثيابه بالبول الذي في داخلها. ويبولون أيضا في أصول الحيطان في الزقاق ، وليس ذالك عندهم عيبا ، ولكن لا يغفلون عن نظافة طرقهم بالكنس والرش بالماء.

وبهذه المدينة محال يتماشى الناس فيها هي متنزهاتهم. ونزهتهم إنما هي أن يأخذ الرجل بيد صاحبه أو صاحبته ، ويقصدون موضعا من المواضع المشهورة عندهم يتماشون فيها وهم يتحدثون وينظرون ، وليست نزهتهم بالأكل والشرب بل ولا بالجلوس. فمن منتزهاتهم موضع يسمى الشمزليزي (١) ، وهو موضع قرب النهر المذكور لجهة سراية السلطان وبه كان منزلنا ، فيه أشجار مصطفة متوازية بين صفي الشجر كشكل الزقاق المستقيم. فإذا أورقت تلك الشجر وتعانقت أغصانها وغرد الأطيار فوقها ، كان فيها منظر عجيب. وفيه كثير من القهاوي وديار الفرجات كالتياترو (٢) أو نحوه. وبه فوّارات ماء كبيرة جدا فيها تماثيل من أشخاص آدميين وغيرهم ، كلها ترسل من أفواهها الماء بقوة واندفاع (٣) يزعمون أنهم إلاهات الماء ، وبأيديهم سمك يبزق الماء أيضا. وكل ذالك بالحركات ، وماؤها يصعد عمودا واحدا إلى أعلاه ، ولا يرسلونه في زمن البرد لأنه يجمد.

وبقرب هذا المحل رياض السلطان المتصل بسراية سكانه ، وهو أيضا من المنتزهات عندهم (٤) ، وإن كانت له أبواب وأسوار وعلى الأبواب حراس لاكن لا يمنعون أحدا من دخوله ، وإنما حجّر السلطان فيه موضعا صغيرا متصلا بجدار داره. وبهذا الرياض أشجار كثيرة عظام على شكل غرسهم ، والمقصود منها الظل. وفي خلالها جلسات

__________________

(١) ويقابلها بالفرنسية (Champs ـ Elyse؟es) الشانزيليزي ، أحد الشوارع الباريزية الراقية والمشهورة.

(٢) ويقابلها بالفرنسية (The؟tre).

(٣) ويتعلق الأمر بنافورتين يمكن مشاهدتهما اليوم في ساحة لاكونكورد (Place de la Concorde) ، وكان بناؤهما بأمر من الملك لويس فيليب لمحو الدلالات الشعبية التي أصبحت لتلك الساحة بعد ما نصبت فيها مقصلة الثورةGuide Michelin : Paris ,ed.,٨٨٩١ ,p.٧٤.

(٤) كانت حدائق التويلوري des Tuileries Jardin مجاورة للضفة اليمنى لنهر السين. وكان القصر الملكي المعروف بقصر التويلوري (Palais des Tuileries) يقع عند نقطة معينة من تلك الضفة ، بينما كانت ساحة لاكونكورد عند الجهة الأخرى للضفة نفسها. غير أن القصر قد دمر خلال أحداث كومونة باريز في ماي ١٨٧١.

١٧٦

مخضرّة بالنباتات عليها كراسي لمن أراد أن يجلس إن تعب من المشي ، وغالب من يجلس النساء أو الشيوخ الكبار. وبه أحواض كبيرة جدا من الماء ، وبه أيضا قهاوي.

ومن منتزهاتهم أيضا ، جنان السلطان الذي فيه النباتات والوحوش بحرية وبرية حية وميتة (١). واستعملوا للميتة حيلا حتى صارت ترى كأنها حية ، فترى الحوت لا تشك أنه الساعة أخرج من البحر. وذالك أنهم سلخوه من جلدته وأخرجوها صحيحة وملئوها بتبن أو نحوه حتى صارت كأنها سمكة بلحمها طريا ، ويزيدونها أنواع الأطلية التي تصبر معها الجثة. ألفينا فيه من الحيوانات المحفوظة جثتها وهي ميتة ، أنواعا لا تحصى من الحيتان كبيرها وصغيرها من عظيم التمساح إلى صغير السلفاح ، منها ما هو من بحر الروم ، ومنها ما هو من بحر الهند ، ومنها ما هو من البحر الكبير ، ومنها ما هو من النيل ، إلى غير ذالك.

وهناك التمساح على أنواع ، منه ما هو من النيل ومنها ما هو من بحر الهند ، وهو أعظم وأهيل منظرا من تمساح النيل. ومنه سمك عظيم يخرج من فمه منقار طويل مسنن من جهتين كأنه منشار ، ومنه سمك عظيم جدا يزعمون أنه من نوع السمك الذي التقم يونس عليه‌السلام. وهناك هوائش (٢) عظيمة لم نعرف لها اسما ، وكلها

__________________

(١) ويتعلق الأمر بحديقة التجارب الباريزية المسماة جردان دي بلانت (Jardin des Plantes) ، أسست في سنة ١٦٢٦ لتمكين العلماء والباحثين في مختلف التخصصات من إنجاز اختباراتهم التطبيقية على نماذج حقيقية من مختلف أصناف النباتات والحيوانات. وقد فتحت أبوابها للعموم سنة ١٦٤٠ ، وكانت لعلماء الطبيعة الفرنسيين مساهمة فعالة في إثراء محتوياتها بنماذج نباتية غربية ومتنوعة جلبوها من مختلف أرجاء العالم. أما الجناح المخصص للحيوانات ، فلم تتكون نواته الأولى إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية ونقل كل الحيوانات الموجودة وقتئذ داخل الحدائق الملكية في قصر فرساي إليها. انظر :

Guide Michelin : Paris, ed., ٨٨٩١, p. ٥٠٢.

أما عن انطباعات رفاعة الطهطاوي ، فانظر كتابه تخليص ، ص. ١٦٤ ، بالإضافة إلى : L\'or ,pp.٠٩١ ـ ٢٩١.

(٢) مفردها هيشة ، وهي من الكلمات المستعملة في العامية المغربية عند الحديث عن حيوانات غريبة عظيمة الجثة ومخيفة في آن واحد. وعند دوزي تعني الكلمة نفسها الغابة ، ومعناها لا علاقة له بسياق الكلام كما هو وارد عند الصفار الذي يقصد به الوحوش ٧٨٢ : ٢Dozy (المعرب).

١٧٧

ممتدة مع السقف مربوطة فيه بصفائح من الحديد. وأما الحيتان الصغار ، فلا يدرك لها هناك عدّ ولا يحصر لها حد. وفيه أيضا من أنواع الطير ما لا يمكن إحصاؤه كبيرا وصغيرا ، مألوفا وغيره وذوا المنظر الحسن والشكل الغريب مجلوبة من كل الأقاليم. ومنها طير له في جناحيه مناقير كما هي في رأسه. وكل نوع في بيت على حدته ، حتى الطير المعروف بالبشيرة هنالك منه الأعداد العديدة. وفيه صور حيات وأفاعي عظام هائلة المنظر ملتوية على عود تفزع بالنظر إليها ، غلظها كفخذ الإنسان أو أغلظ. وفيه أيضا من الحيوانات الميتة حيوانات البلاد الغريبة ، كحيوانات بلاد مريكة وبلاد الهند مما لا يعرف له اسم.

ومما هناك من الحيوانات الميتة المحشوة بالتبن الفيل وهناك أيضا حيا ، والكركدان (١) وهو حيوان عظيم أصغر من الفيل له قرن واحد عظيم في أنفه ، ورأسه منحن لا يقدر أن يرفعه من ثقل ذالك القرن ، ويقال بأنه يقاتل الفيل بذالك القرن فيغلبه. ويقال إن من خواصه أن الأنثى منه إذا قاربت الوضع ، أخرج الولد رأسه من فرجها وصار يرعى أطراف الشجر ، فإذا شبع أدخل رأسه في بطن أمه. ويقال أنه إذا كان بأرض ، لم يرع فيها شيئا من الحيوان حتى يكون بينه وبينها ماية فرسخ من جميع جهات الأرض هيبة له وهربا منه. وهناك أيضا ميتا بقر الوحش ، وهو يشبه خلقة الفرس ، إلا أن رجليه فيها شعر كثير. وهناك أيضا الدب ، وهو حيوان قدر العجل ومنه هناك نوعان أبيض وأسود ، وزعموا أن الأبيض منه يوجد فوق الماء الجامد ببحر الظلام (٢). وهناك أيضا الكثير من الأسد والنمور والضبع والسنانير (٣) والثعاليب والغزلان والأروي (٤) وغير ذالك كلها ميتة ، وترى كأنها حية لم يتغير منها شيء.

وأما ما فيه من الحيوانات الحية ، فمنها الفيل وهو خلق عظيم الجثة ، له خرطوم طويل وفمه في أصل ذالك الخرطوم من أسفل ، فيتناول الشيء بذالك الخرطوم ويرمي به إلى داخل فمه. ومع كبر جثته فله فهم واستيناس بسائسه ، فقد كان

__________________

(١) وهو الكركدن بالعربية الفصحى أو وحيد القرن (Rhinoce؟ros) (المعرب).

(٢) والمقصود به هو المحيط المتجمد الشمالي.

(٣) مفردها سنور ، وهو القط الوحشي (المعرب).

(٤) الأروي ، من الحيوانات العاشبة ، ومن سماته المميزة وجود قرنين كبيرين في رأسه شبيهين بأغصان الشجر ، ويسمى بالعربية الفصحى الأيل ، بينما يطلق عليه عامة المغاربة اسم لاروي (المعرب).

١٧٨

داخل ضربوز عظيم من الحديد وخلفه ضربوز آخر من عظيم الخشب وله باب ، فيكلمه سائسه ويقول له افتح الباب ، فيجعل يفتل خلابتها بخرطومه حتى يفتحها ، ويقول له اغلقها فيعود فيغلقها. وأخبرني من رءا هنالك فيلين في تياتروا للعب (١) يلعبان ويجيبان من دعاهما ويقبلان من أعطاهما شيئا ، ويردان له الآنية يمسكانها بذالك الخرطوم.

ومنها الزرافة (٢) وهي حيوان عجيب الخلقة ، ويداها أطول من رجليها. فإذا وضع لها بالأرض ما تأكله تفاجّت بيديها لتصل إليه ، وهي ظريفة حسنة المنظر. ولها عنق

__________________

(١) ويقصد بذلك محل الفرجة المعروف بالسرك (Cirque) ، وبخصوص الفيل في المغرب ، فقد استجابت العاهلة البريطانية فكتوريا لطلب تقدم به السلطان مولاي الحسن فأهدته فيلا أنثى. وقد أثار وصولها إلى منطقة زمور ثم إلى فاس اهتمام السكان ونال إعجاب السلطان وعياله ، انظر : خالد بن الصغير ، مخطوط جديد حول هدية الفيل من الملكة فكتوريا إلى السلطان مولاي الحسن ، في مجلة دار النيابة ، العدد ١٢ ، ١٩٨٦ ؛ وأيضا :

Khalid Ben Srhir," Le rapport du Capitaine Ingelfield sur le Makhzen et la tribu des Zemmours) ١٩٨١ (", in Hespe؟ris ـ Tamuda, fascicule ٢, ١٩٩١, pp. ٩٤٢ ـ ١٨٢.

(المعرب).

(٢) كانت الزرافة المشار إليها أعلاه حديثة العهد بالحديقة الباريزية ، التي نزلت بها قبل زيارة الصفار بسنوات قليلة ، فكانت بذلك حدثا جديدا على الباريزيين أنفسهم. انظر :

Louca, Voyageurs et e؟crivains, pp. ٠٤, ٤٥٢ ـ ٥٥٢.

وهناك تشابه كبير بين مضمون المقطع الذي خصصه الصفار للحديث عن الزرافة وبين ما هو وارد في كتاب محمد بن محمد أبو يحيى المعروف بالقزويني (المتوفى في ٦٨٢ / ١٢٨٣) : عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات ، الذي ظل إلى حدود أيام محمد الصفار أساسيا اعتمده المسلمون في مواضيع العلوم الطبيعية. ويحتوي القسم الثاني من هذا الكتاب على وصف لمملكة الحيوانات ، جاء فيه عن الزرافة ما يلي : «رأسها كرأس الإبل وقرنها كقرن البقر وجلدها كالنمر وقوائمها كالبعير وأظلافها كالبقر طويلة العنق جدا طويلة اليدين قصيرة الرجلين وصورتها بالبعير أقرب وجلدها بالبقر أقرب وأشبه وذنبها كذنب الظباء. قالوا الزرافة متولدة من ناقة الحبش والبقرة الوحشية» انظر : كمال الدين الدميري ، حياة الحيوان الكبرى ، في جزئين (القاهرة ، ١٣٠٦ / ١٨٨٨ ـ ١٨٨٩) ، ج ٢ ؛ ويوجد نص القزويني في الهامش ، بالصفحة ١٧٧ ؛ انظر أيضا :

EI ٢, s. v." al ـ Kazwini, Zakariyya b. Muhammad b. Mahmud Abu Yahya".

١٧٩

طويل كالبعير وهي أعلا منه ، ورأسها مستطيل كرأس الفرس إلا أنه أدق منه. وفي جبهتها مثل قرنين مقطوعين ، إلا أنهما من لحم وشعر كأذنين مقطوعين. وذنبها يشبه من أعلاه ذنب البقر ، وفي أسفله شعرات ولونها حسن ، وليست لونا واحدا بل فيها الأبيض والأحمر فهي بلقاء ، وهي نظيفة لا يرى في مؤخرها ولا في ذنبها أثر روث ولا قذر. ومن طبعها الحنانة والألفة ، يناولها الإنسان بيده ما تأكل فتأخذه منه برفق ويدور خلفها فلا تضربه ولا تؤذيه. ويقال أنها متولدة من ثلاث حيوانات ، الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبع ، فينزوا الضبع على الناقة فتأتي بذكر ، فينزوا ذالك الذكر على البقرة فيتولد منه الزرافة. والصحيح أنه خلق مستقل بذاته ذكر وأنثى كسائر الحيوانات.

ومنها الجواميس والبخت والليين ، وهو حيوان قدر الجدي وله قرنان كل قرن يخرج منه قرينات صغار ، فقرناه كفروع الشجرة ، ولذلك يقال : «الليين يزيد كل عام قريين». ومنها حمر من أرض الهند ولها لون أحمر حسن ، وهي شرارة تعدوا على من يقرب منها. وكان عندهم هناك حمار من حمرنا زعموا أنه خنثى (١) ، فسألناهم الاطلاع عليه فاعتلوا بحضور النساء. وهنالك كثير من الغزلان والأسود والنمور على أشكال وأنواع ، منها النوع المعروف ، ومنها نوع آخر جلده مخطط زعموا أنه نمر بلاد ميريكة. وهناك أيضا كثير من الذياب وهي أكبر من ذياب بلدنا ، وفيها شرارة وعداء على من قرب منها. وكثير من القرود على أشكال وأنواع ، ثم هناك أيضا عدد كثير من الحيوانات التي تشبه في القدر القنية والأرنب والنمس والفأر. وهناك أيضا قبة كبيرة مخصوصة بأنواع الطير ، وتلك القبة من سلك رقيق بحيث تمنعهم الخروج ولا تمنعهم الضوء والنظر.

وفي هذا البستان أيضا سراية بيرة مشتملة على بيوت عديدة فيها أنواع الأحجار والمعادن النفيسة وغيرها ، لا يدرك لها عدد ولا يمكن إحصاؤها لكثرتها. فأول ما دخلنا ، لقينا قبالة بابه صلدة (٢) من تراب وعظام ملتصق بعضها ببعض ، زعموا أنها من بقية الطوفان. وفيه أيضا صلدة كبيرة من الذهب الخالص الصافي ، زعموا أنها

__________________

(١) أو خنثوي ، أو هيمافروديت (Hermaphrodite) ، ومعناه أن يحمل صنف معين من النبات أو الحيوان أو الإنسان أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية في آن واحد.

(٢) ومعناها هنا الكتلة المتماسكة من الصخر أو التراب (المعرب).

١٨٠