رحلة الصَّفار إلى فرنسا

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني

رحلة الصَّفار إلى فرنسا

المؤلف:

محمّد بن عبدالله الصفار الأندلسي التطواني


المحقق: د. سوزان ميللر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-36-976-3
الصفحات: ٣٢٤

ليعتبر من أصعب تجارب الرحلة عليه. فلا بد من أن يتوصل الرحالة إلى الاستئناس بها عن طريق التعلم أو من خلال الأمثلة ، وكل فشل في تعلمها يمكن أن تترتب عنه معاناة وحيرة شديدة. وجل الذين سافروا إلى الخارج لا بد من أن تكون لديهم حكاية واحدة على الأقل ، تتعلق بسوء فهم ثقافي ناتج عن خطأ في تأويل تلك الرموز التي تشكل الحدود الفاصلة بين الثقافات.

وصادف الصفار ، أثناء وجوده في فرنسا ، صعوبات في فهم طبيعة العلاقات القائمة على مستوى المجال المجتمعي. وعلى سبيل المثال ، قدم لنا وصفا لأحد المنازل الفرنسية النموذجية فقال : «وأما أشكال دورهم فإنها مخالفة لشكلنا ، فإن دورهم ليست بالساحة والفوقي والسفلي والبيوت والغرف كما عندنا ، فإنهم يتركون ساحة الدار خارجة عنها مرفقا لها لوقوف نحو الكراريص والدواب ... وتلك البيوت ... وكلها لها طاقات كبارا جدا منها تضيء ، تشرف على الأسواق والشوارع» (١). إن التناقض الموجود بين محتوى هذا الوصف والدار المغربية التقليدية مثير جدا للاهتمام : إذ لا نجد في المغرب نوافذ لتوفير إمكانية الإطلال على الشارع ، كما أنه ليست هنالك نقطة معينة يمكن من خلالها ، وانطلاقا من الخارج ، مشاهدة ما هو بداخل الدار. ذلك بأن الجزء الداخلي للدار يعتبر مكانا خصوصيا صرفا ، وتشكل فيه الساحة التي تتوسط الدار مجالا تجري بين أحضانه مختلف مظاهر الحياة العائلية ، ولا سبيل لوجود مكان لوقوف الدواب. وبعبارة أخرى ، فإن المجال بداخل المنزل المغربي يشكل رابطة قوية بين تداخلات اجتماعية كثيفة تفتقدها فرنسا (٢).

ويشكل فناء الدار في المغرب مجالا يمكن للأجنبي عن البيت الوقوف فيه دون انتهاك حرمته الداخلية ، ودون إحراج النساء اللواتي لا يرغبن في الظهور أمامه. وكان ولوج الصفار إلى إحدى الدور الفرنسية مباشرة دون حاجة إلى المرور عبر ساحتها تجربة فريدة لم يعرفها من قبل. علاوة على ذلك ، فقد وجد بعد ولوجه إلى الدار أن داخلها مفتوح تماما على الخارج بفعل وجود نوافذ كبيرة ، والضوء يغمر أرجاء البيت الداخلية ،

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) انظر التصميم الخاص بإحدى الدور التطوانية النمودجية في المرجع الآتي :

Ernst Rackow, Beitr ge zur Kenntnis der Materiellen Kultur Nordwest ـ Marokkos : Wohnraun, Hausrat, Kostچ m) Wiesbaden, ٨٥٦١ (, p. ٥ and Tafel ٤.

١٠١

مما جعل كل محتوياته تكون مفضوحة وبالتالي عرضة للمشاهدة. إن هذا الانفتاح التام ، وما يترتب عنه من كشف عن أفراد العائلة وممتلكاتهم الموجودة داخل البيت حتى تكون عرضة للمشاهدين ، ليعتبر ظاهرة جديدة تختلف تماما عن الحماية التي توفرها الجدران المحيطة بالحياة العائلية في المغرب. وبعبارة أوضح ، فإن المفاهيم المتعلقة بجوانب الحياة العائلية الخاصة لا بد من مراجعتها في الإطار الخاص بفرنسا.

إن قدرة الصفار على إدراك الحدود المجالية قد ارتبكت بشكل أكبر حينما بدأ استكشافه لمختلف جوانب الممارسات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال ، أعجب محمد الصفار بالحمام فقدم عنه وصفا مطولا حين قال : «وفيه أيضا كذالك بيوت أخر من الخشب هي حماماتهم هنالك معدة للاستحمام بداخلها بيوت صغار بأغلاقها. وفي كل بيت حوض يملأ بالماء سخنا أو باردا أو بهما ليعتدل ... وهذا حمامهم ، وليس عندهم حمام على شكل حماماتنا» (١). وهناك جوانب أخرى أكد الصفار من خلالها على مدى خاصية الانعزال المحيطة بعملية الاستحمام فقال : «وذلك البيت مضى بطاقة كبيرة لها غلف من الزجاج ، عليه من داخل ساتر رقيق يمنع التكشف ولا يحجب الضوء» (٢). ويمكن المرء أيضا الاستحمام في غرفته ، فيطلب من الخدم إتيانه بالماء. وبعبارة أخرى ، فإن الحمام عند الفرنسيين مسألة خاصة صرفة ، تدخل ضمن تلك اللائحة المقتضبة من الأنشطة الجسدية الواجب على الفرد القيام بها بمعزل تام عن الآخرين إما من باب الحياء وإما من باب التواضع.

أما في المغرب ، فإن الحمام يمثل فضاء مختلفا تماما عن كل هذا : إذ يتم الاستحمام في غرفة واسعة ومفتوحة لا توجد بها أية جدران تفرق بين مهاجع صغيرة وفردية. كما يمكن أن يستغرق الساعات الطوال ، ويشكل حدثا اجتماعيا مهما للفرد خلال يومه ذلك (٣). وقد يتبادل الناس الأخبار والوقائع المثيرة داخل الحمام ، كما قد يتحدثون فيه عن قضايا التجار والمال ، أو يضربون فيه المواعيد لتنفيذ بعض المشاريع البسيطة أو الهامة. أي أن طقوس الحمام تمثل تجربة اجتماعية جذابة للرجال والنساء على السواء ، رغما عن كونها تتم في جو من التفرقة الجنسية بين

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) نفسها.

(٣) Rackow ,Beitr ge ,p.٧.

١٠٢

الذكور والإناث كما هو حال أغلب الوقائع الاجتماعية. وكان يعتبر غياب الحواجز بداخل المجال المكون للحمام ، وإتاحته حرية المرور والالتقاء بين الأفراد وأجسادهم عارية ، شيئا لائقا ولا عيب فيه. وبعبارة أخرى ، كان الحمام مسألة تدخل في إطار اهتمامات الناس بصفتهم يمثلون جماعة وليس بقضية شخصية تخص الفرد وحده. ومع إعجاب الصفار الكبير بالطابع التكنولوجي المميز للحمام ، فإنه ظل غير مقتنع بضرورة الانفراد والانعزال أثناء الاستحمام. وأشار الصفار ملمحا إلى أن تلك المميزات التكنولوجية ربما لم توظف في محلها المناسب ، إذ كان بالإمكان استغلال تجهيزات من ذلك القبيل بطريقة أكثر نفعا ، كتمكين المرء من القيام بالشعائر التي كانت بالفعل غير متوافرة.

وأصبحت درجة الارتباك إزاء الحدود المجالية الفاصلة أكثر ارتفاعا ، حينما تعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين الرجال والنساء ، والتي اختلفت المقاييس المتحكمة فيها بشكل جذري عما هو سائد في المغرب. ويبدو أن استيعاب الصفار لدروسه كان سريعا في هذا الإطار ، بل نجده تواقا إلى مشاطرتنا إياه تلك المعرفة المكتسبة. لقد تقمص الصفار دور المرشد المعين ، وشرع في توجيه النصائح لنا حول كيفية معاملتنا للنساء بالطريقة المناسبة لو كتب لنا نحن أيضا أن نكون يوما ما في فرنسا ، فقال ما يلي : «وأما العفيفات منهن ، فإن من دخل بيت زوجها وهي هنالك ، فإنه لا يعد من الظرفاء والأدباء إلا إذا أبدأها بالتحية وخاطبها خطاب مباششة وملاطفة في عفة. وبذلك ينشط زوجها ويزداد عنده فاعل ذالك رفعة ومحبة» (١).

إن الأمور قد انقلبت تماما هنا رأسا على عقب ، لأن الصفار الذي ينتمي إلى ثقافة تقليدية يعتبر فيها اللقاء بين الرجل والمرأة من قبيل الأشياء النادرة ، يجد أمامه إمكانات عديدة للتفاعل مع النساء الفرنسيات اللواتي كن عنده موضع إعجاب وتقدير كبيرين. هذا في الوقت الذي كانت فيه النساء في المغرب يضعن الخمار على وجوههن أثناء وجودهن خارج البيت حتى يكن محجوبات كليا عن العيون ، بل وكن يظللن حبيسات الجدران والأبواب لكي لا يصبحن عرضة للمشاهدة المفضوحة بأعين الغرباء. أما في فرنسا ، فإن هناك غياب يكاد يكون مطلقا لمثل تلك الحدود الفاصلة بين الطرفين. إذ تختلط النساء مع الرجال في الصالونات ، ويتزين بملابس تكاد لا

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

١٠٣

تستر إلا أجزاء من جسدهن ، بل وتعرض شعورهن وصدورهن وأذرعهن شبه العارية دون إحساس بالخجل. أما في الشارع ، فإنهن تكشفن عن وجوههن ، وتحدقن بأعينهن في كل الاتجاهات بكامل الحرية والانطلاق.

لقد أحس الصفار بنشوة عارمة نتيجة لاقترابه الشديد من النساء. وحينما شرع في وصف سلوكهن وملابسهن ، تحول فجأة إلى شاعر ، وعمد إلى أسلوب السجع للرفع من المستوى الجمالي لأسلوب كتابته والتعبير بصدق عن مشاعره الفياضة. ومن خلال أسلوبه البلاغي المتأنق ، نحس بشوقه العميق إلى القيام بتجربة حسية ، لأن بعضا من العديد من تلك الصور التي قدمها الصفار ، وإن كانت جلها غير أصلية ، توحي بوجود محاولة لديه للتكتم على شهوانيته الجنسية التي هي من الطبائع الفطرية لبني الإنسان قاطبة. وكذلك كان الصفار ، كما هو الحال مع جميع الأشياء ، يظهر مكبوتاته ويبديها. وبخلاف الطهطاوي الذي كانت وجهات نظره في النساء الفرنسيات أقل إيجابية ، رأى الرحالة المغربي أنهن قد كن في الجملة عفيفات فاضلات. وبطبيعة الحال ، فإن الصفار لم يكن يفهم الفرنسية ، لكن يبدو أنه أدرك أن الحواجز البدنية والمجالية القائمة بين الرجل والنساء في المجتمع المغربي يوجد في فرنسا ما يقوم مقامها على هيأة مجموعة من الأعراف والطقوس الأخلاقية المصطلح عليها باللياقة واللطافة أو الكياسة (Politesse) التي تكون حاضرة بكل ثقلها كلما كان اللقاء بين الرجال والنساء. وبناء عليه ، فقد ركز الصفار اهتمامه على أن يلقن الآخرين مبادئ أولية في موضوع السلوك القويم الواجب نهجه سواء أثناء الإقبال على النساء والترحيب بهن أم عند توديعهن ، حتى لا يرتكب المرء أي خطأ في إطار هذا المجال الحيوي من العلاقات الاجتماعية.

وكانت الرحلة مليئة باللقاء مع الجديد ومع الأشياء المتميزة بغرابتها أو بطابعها المثير ، فكانت تلاحق الرحالة مرحبة به في كل وقت وحين. غير أن تلك الأشياء الغريبة كان لها أيضا منطقها الداخلي الخاص بها. وبالنسبة للصفار ، فإن فرنسا كانت تعني ذلك البلد الذي يسود فيه النظام ، فما من موقع يقع عليه بصره إلا ويشاهد فيه الدلائل الناطقة بمدى النجاح في وضع الأشياء في أماكنها الصحيحة : فالأشجار تنمو في صفوف منتظمة مستقيمة ، والحقول محروثة بطرق هندسية بديعة ، والشوارع أنيقة ومحتويات الخزانات مرتبة بدقة ، والعساكر يمشون في صفوف متراصة ، والخيول مطيعة لراكبيها ، وحتى النساء يصففن شعورهن بكامل الدقة

١٠٤

والعناية. إن فرنسا هي بلاد النهج القويم والتخطيط البديع ، والبلد الذي أخضعت فيه الطبيعة للإنسان ، والوطن الذي روض سكانه حتى يكونوا طائعين لحكامهم. وأمام كل هذا الواقع ، ما كان منه إلا أن أبدى حسرته على ما كانت تعرفه بلاده من نقيض لكل ذلك : «مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله ، فما أحزمهم وما أشد استعدادهم ، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب ، وما أقواهم على عدوهم ، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين ، إنما ذلك بنظامهم العجيب وظبطهم الغريب ، وإتباع قوانينهم التي لا تنخرم» (١).

وفي الوقت الذي سلم فيه الصفار بتحكم الفرنسيين في مقاليد الأمور ، وحقيقة الواقع تؤيد ذلك ، فإنه قد كان أيضا على إدراك تام بأن ذلك النظام الظاهر للعيان بمعالمه الواضحة ينم عن وجود تخطيط عميق تندرج فيه كل مكونات المجتمع بشكل يجعلها جميعها مسخرة لخدمة الإنتاج. ويكمن هنالك السر العجيب لتلك القوة الخفية التي يلمسها ويحس بها غير الأوربيين عند مشاهدتهم ذلك النظام الذي يعم كل مظاهر الأشياء وجل جوانب الحياة الأوربية. إن الأطفال المهذبين ، وصفوف الأشجار المنتظمة مؤشرات خارجية نابعة في أصلها من وجود نظام اجتماعي يشك فيه الصفار ويخشى أن يكون غير متلائم مع ما هو سائد في بلده المغرب. إذ يبدو للصفار بأنه نظام معقلن ، شديد الفعالية ، وأحكمت كل عناصره لتحقيق غايات اقتصادية بدلا من مقاصد دينية. ولا حاجة لنا إلى القول إن ذلك النظام الاجتماعي قد بدا أيضا لمحمد الصفار متميزا جدا بشموليته وقوته ، إلى درجة أن مجرد التفكير في مجاراته أو الدخول في مافسة معه قد يكون كافيا ليخلق في نفسه مشاعر اليأس (٢).

لقد أتيحت للصفار وهو في أوربا فرصة الإطلالة على عالم آخر ، فشاهد ما يمكن للعقل البشري تحقيقه حينما يفسح أمامه المجال لممارسة قدراته الإبداعية ، غير أن ذلك العالم كان بعيد المنال. صحيح أن هنالك بعض المخترعات في فرنسا التي

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

(٢) حول تأثير الأفكار الأوربية المتعلقة بالتنظيمات في مصر القرن التاسع عشر انظر :

Timothy Mitchell, Colonizing Egypt) Cambridge, ٨٨٩١ (, ch. ١.

١٠٥

اعتبرها الصفار نافعة ومفيدة ، وأنه سلم بمدى تفوق الفرنسيين في الميادين ذات الصلة بقضايا التكنولوجيا ومختلف مظاهر الحياة اليومية. ولكنه يلاحظ ، على المستوى الديني ، أنهم لا زالوا يعيشون في الكفر ، فقال في هذا الصدد تاليا قوله تعالى في سورة الروم :؟ (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)؟ (١). إذ من الممكن أن تكون علومهم مثيرة للإعجاب ، وطرق معاملاتهم عالية المستوى ، وبيوتهم نظيفة. لكن يوجد لديهم على المستوى الأخلاقي صدع كبير يعسر ترميمه : ألا وهو فساد إيمانهم بملكوت الله. ولا يتعلق الأمر هنا فقط بمجرد تصريح حذر بالولاء بقدر ما هو تعبير صريح عن إيمان عميق. ولم ينفرد الصفار عن غيره بتصريحه العلني بولائه للإسلام في الفقرات الأخيرة من رحلته ، لأن غيره من الرحالة إلى المشرق سلكوا نهجا مماثلا : «إن كل شيء في طريقة تفكيرهم يدفع بهم إلى التنكر للواقع ، أو على الأقل إلى عدم الاعتراف به. ويبدو أنهم يريدون القول بأن هذا عالمكم ، أما عالمنا فهو مختلف عن ذلك» (٢).

ويقودنا هذا إلى نقطتنا الأخيرة. إذ يمكن قراءة رحلة الصفار ـ وغيرها من كتب الرحلات العربية التي يعود تاريخها إلى الحقبة نفسها ـ بطرق عديدة. أولا ، فهي مصادر إخبارية ذات فائدة لإعادة بناء تصورات خاصة للواقع ، إذ تكون بمثابة خزان تودع فيه الوقائع لوضع المشاهد المتباعدة في الزمان والمكان في إطارها الحقيقي. ثانيا ، وكما سبقت لنا ملاحظة ذلك ، يقدم لنا هذا الصنف من الكتابة نظرات خاطفة عن التجربة الإنسانية خلال الرحلة ، وتتيح فرصة المشاركة في تلك اللحظات التي يقع فيها الاتصال بين الرحالة والعالم الخارجي والتي تضيء المشاعر الداخلية المواكبة للرحلة. لكن هناك أيضا بعدا ثالثا تحققه كتابات الرحلة ، وتصبح له معان خاصة

__________________

(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب

(٢) ٢٢٨.Laroui ,Origines ,p ، وكانت ظاهرة «الإنكار» أيضا من المميزات الخاصة التي كانت ترد في روايات الحج لدى مسيحيي العصر الوسيط ، حيث كانت الرغبة في التعرف على الأشياء الغريبة من الأشياء «المسيئة إلى سمعة الحج» ؛ لأن الحاج المسيحي «المثالي» هو الذي يقوم برحلته «وعيونه متجهة صوب الأرض» ، حسب ما جاء عند هو وارد في كتابه :

D. R. Howard, Writers and Pilgrims : Medieval Pilgrimage Narratives and Their Posterity) Berkeley, ٠٨٩١ (, pp. ٣٢ ـ ٤٢.

١٠٦

حينما نحاول جاهدين التوصل إلى الأشكال الثقافية المختلفة عما هو سائد عندنا. وبما أننا نتحول إلى طرف مرافق للرحالة طوال رحلته ، فإننا لا نكون منشغلين فقط بما شاهده الرحالة في أوربا ، بل نكون أيضا مهتمين بالكيفية التي شاهد بها تلك الأشياء ، وبالطريقة التي انعكست بها على مشاعره وذكرته بما هو سائد في بلده. إن فرنسا وباريز هما المرآتان اللتان نقرأ فيهما تصورات الصفار لمواقع أكثر بعدا ، بما في ذلك الحقول الخضراء والأزقة المزدحمة والسهرات والحفلات الراقصة ، التي شكلت جميعها لوحة رسمت عليها صورة أخرى عن مكان لا نعرف عنه نحن القراء الأجانب إلا القليل ، فكان ذلك المكان هو المغرب كما هو وارد في تصورات محمد الصفار.

وأخيرا ، وعلى مستوى آخر ، فإن هذه الأشياء المحكية تتجاوز مجرد القيام بالرحلة لتدخل في مجال آخر يجعلها ذات ترنيمات أخلاقية ، تزداد قوتها بفضل تلك الميزة الكونية التي يتضمنها إحلال الشيء محل الشيء الآخر. وهنا تصبح الرحلة مجازا ، ويتحول الرحالة إلى صانع أسطورة ، وتصبح القصة خرافة. إن نموذج بنيتها ـ المتمثل في مرحلة الانطلاق وفصول المغامرة ثم العودة ـ ليس هو الأمر الوحيد الذي يجعل الروايات المتعلقة بالرحلة تكتسي صبغة كونية ، بل هناك أيضا الدلالات والمعاني التي يستخلصها الرحالة نفسه من الرحلة. وفي حالة محمد الصفار ، فإن المغزى من روايته واضح جدا : فهو يقول لنا إنه بإمكان المرء الذهاب إلى أرض الافتتان ، وإلى المكان الذي يجمع في نفسه بين الخبيث والطيب ، ثم ينغمس فيه ويعود إلى بلده حكيما سالما من الأذى.

هذا هو الدرس الذي تقدمه الرحلة. لكن لا يمكننا الجزم فيما إذا كانت مضامينها قد أقنعت أولئك الذين قرأوها خلال عصره أم لم تقنعهم. ومما لا شك فيه أن الرحلة قد تدوولت ونوقشت في الأوساط الخاصة لحاشية السلطان ، ثم أودعت بالخزانة السلطانية حيث أهملت مدة تجاوزت قرنا من الزمن. ولم يكن الصفار يعتقد أبدا ولا تصور أحد أن مخطوطته ستظل راقدة زمنا طويلا لتشع بنورها على قراء ينتمون إلى عصر آخر فتمتعهم.

١٠٧
١٠٨

القسم الثاني

التحقيق

١٠٩
١١٠

الفصل الأول

توطئة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

الحمد لله مسير الخلائق في البر والبحر ، وميسر الطرائق والأسباب لمن شاء أن يسوقه إلى ما أراد من عمران أو قفز. وفق بفضله من سبقت له العناية من خلقه ، فكانت تجارتهم رابحة ولسعيهم أعظم فائدة. وأضل بعدله من كتبت عليه الشقاوة ، فكانت صفقتهم خاسرة ، ووجهتهم عن صوب الصواب حائرة.؟ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً)؟ (١). أقام سبحانه على انفراده بالوحدانية ، واختصاصه بنعوت الألوهية وتنزه عن الأين والأمد والوالد والولد ، قواطع البراهين التي ليس فيها لذوي البصائر من الارتياب شائبة. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)(٢).

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، المنفرد باختراع هذا العالم وإبداعه من غير سبق ولا مشاكلة. جعل فيه مدنا وأمصارا وبراري وقفارا وقرى كبارا وصغارا ، وبث فيها أمما مختلفي الألسنة والألوان والاعتقادات والأديان ، ليزداد أولوا البصائر

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٩٣. وتعني «الأمة» هنا مجموعات بشرية تجمع بينها روابط قد تكون عرقية أو لغوية أو دينية ؛ وحين تستعمل لفظة «أمة» ، فإنها غالبا ما تعني بوجه خاص العناصر البشرية التي تتكون منها شعوب المجموعة الإسلامية. انظر مادة «أمة» في : SEI ,S.V."Umma ".

(٢) سورة الأنعام ، الآية ١٠١.

١١١

اعتبارا وذووا العقول إبصارا. وأبدى فيها من عظيم آثاره ما يدل على كمال اقتداره. فيا عجبا كيف يعصى الإله ، أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الله الواحد؟

فسبحانه من إله قسم الخلق إلى موحد ومشرك ، ومطبوع على قلبه ومن هو لحقائق التوحيد والإيمان مدرك. وعجل لقوم طيبتهم في الحيوة الدنيا ، وادخر لآخرين مقيم النعيم ورفع الدرجات العليا جزاء بما كانوا يعملون. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(١).

ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله ، سيد العرب والعجم والمبعوث لسائر الأمم ، المؤيد بخوارق المعجزات الباذل جهده في إبلاغ الدعوات ، حتى عمت من أرض المغارب والمشارق ، فمن أجاب نجا ومن عاند علت سيوف الله منه المفارق. حتى أذل بعزة الله أنوف الطغيان وغطى دينه الحق على سائر الأديان. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحزابه ، صلاة تامة زكية أبدية مباركة سنية دائمة سرمدية ، نفوز بها بفضل الله بالمقامات العلية والإكرامات الهنية. ونسلك بها على منهاجه القويم ، بجاه قدره العظيم عند الرب الكريم الرحمن الرحيم ، لا رب غيره ولا مأمول إلا خيره.

أما بعد ، فإنه لما شرح الله صدره مولانا (٢) عمدة ديننا ودنيانا ، السلطان الكبير الجليل الشهير المعظم الممجد الأسمى الموقر المؤيد الأحمى فخر الجلة وسيف الملة ، جمال الإسلام وعلم الأعلام.

ملك الزمان وقرة الأعيان

قمر التمام ودرة الأكنان

ملك تجمل بالجلالة وازدهى

بالعلم والحلم العظيم الشان

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٢٣.

(٢) «مولى» أو «مولاي» ، في اللهجة الدراجة المغربية. وهو من الألقاب التي ينعت بها سلاطين المغرب الشرفاء وينادون بها : ٦٣٢ : ٢Dozy. والمعني بها هنا هو السلطان عبد الرحمن بن هشام (١٨٥٩ ـ ١٨٢٢).

١١٢

نجل السلاطين من سلالة أحمد

أعظم بفخره عابد الرحمان

وكيف لا وهو شريف المنتمى والحسب وعلوي المقدار والنسب ، وحسني الأخلاق والتفرع عن سيد العجم والعرب. أدام الله له نصرا وتأييدا ومهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيده عبيدا. ووفر من سوابغ النعم حظوظه وأقسامه وأظفر بأعناق الأشقياء حسامه. ومد على الدنيا بساط سعده ووهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وجعل الخلافة كلمة باقية في عقبه (١) وبارك في عمره ومتع الأنام به.

وألهمه لأن يوجه نائبا عنه لعظيم جنس الفرنسيس (٢) ، لمصلحة تعود على المسلمين والإسلام ، حسبما اقتضاه حسن نظره السديد ورأيه الموفق الرشيد ، وجريا على عادته في الحرص على انتظام أمر الخاص والعام. ولم يزل هذا من دأب أيمة الأمة وحماة الملة ، فقد كان النبي صلى عليه وسلم يبعث لذلك كبراء أصحابه وفيه أسوة ، وتابعه على ذلك الخلفاء الراشدون والأيمة المهتدون (٣) حسبما يعلم من محله.

__________________

(١) كان سلاطين المغرب قبل عهد الحماية الفرنسية ، يصرون على الجمع بين لقب «الخليفة» بكل ما ينطوي عليه من معان روحية ، ولقب «السلطان» الذي يرمز إلى أن الأساس الذي تقوم عليه مشروعيتهم في الحكم لا ينحصر في نفوذهم العائلي والسياسي فحسب بل يشمل أيضا سلطتهم الدينية. وعن موضوع الخلافة ، انظر :

H. A. R. Gibb," The Sunni Theory of the Caliphate", in Studies on the Civilization of Islam, eds. Stanford J. Shaw and William R. Polk) Boston, ٢٦٩١ (, pp. ١٤١ ـ ٠٥.

وانظر كذلك مادة «خليفة» في : SEI ,S.V."Khalifa "

(٢) كان اللقب الرسمي الذي يحمله لوي فليب (Louis ـ Philippe) (١٨٣٠ ـ ١٨٤٨) هو ملك فرنساRoi) (de France ، غير أن الصفار كلما أشار إليه في بعض صفحات الرحلة كان يذكره بلفظة «سلطان» عوضا عن «ملك» ، وذلك اقتداء بما كان معمولا به في تحرير المراسلات المخزنية.

(٣) وفي ذلك إشارة إلى الخلفاء الأربعة الذين تحملوا أعباء الخلافة بعد وفاة الرسول بالعدل والاستقامة وحسن التدبير ، مما جعلهم يصبحون قدوة ونموذجا مثاليا للأجيال اللاحقة من المسلمين.

١١٣

وكان له نصره الله من حسن النظر في خديمه (١) الأنصح وثمرة غرسه الأنجح ، الساعي بحسن سياسته في تنفيذ أوامره السعيدة ، وتدبير مصالح رعاياه القريبة والبعيدة ، القائد (٢) الأمجد الرئيس الأسعد ، الحاج عبد القادر ابن القائد المرحوم ، السيد محمد أشعاش كان الله له في المعاذ والمعاش ، ما اقتضى تعيينه لذلك وتخصيصه بما هنالك. وأمره أن يصحب معه أمينين (٣) عاقلين ذكيين من أهل الوجاهة والذكى بتطوان مع من لا بد لمثله منه من طالب (٤) وأتباع وخدمة وأعوان ، وسائر ما فيه للإسلام والمسلمين زيادة رفعة وظهور على عبدة الأوثان ، القائلين بالأبوة والبنوة. وفي الحديث : «رحم الله امرءا أظهر من نفسه في هذا اليوم قوة».

فانتخب أرشده الله من أرباب الصدور ممن حكم لهم الوقت بالاجتلاء على منصة التصدير والظهور ، صهره الأرضى و [كفء](٥) كريمته الأحظى ، المعروف عند الحاضر والبادئ أبا عبد الله محمد بن الحاج محمد اللبادي. والحادق اللبيب الوجيه الأريب ، الماهر بسياسة المخالطات وجوب الأقطار ، الحاج العربي بن الحاج عبد الكريم العطار. واقتضى حسن نظره بالكاتب (٦) لما لم يطلع على ما فيه من المعائب ، أن اختاره لصحبته لما هو من شأنه من المئارب. وكان من الحزم لمن تغرب عن وطنه ونئا

__________________

(١) «الخديم» هى التسمية التى كان يخاطب بها جميع الموظفين المخزنيين مهما اختلفت درجاتهم ومستوياتهم والمهام المنوطة بهم. انظر : ١١٧.Dozy ١ : ٤٥٣ ;Laroui ,Origines ,p

(٢) «القائد» ، موظف مخزني يعينه السلطان ، ويمكن أن تسند إليه مهام متعددة ومختلفة. وتعني هنا ـ في حالة عبد القادر أشعاش ـ عاملا على مدينة كبيرة. ابن زيدان ، العز ، ١ ، ص. ٤١٢.

(٣) «الأمين» ، موظف مخزني تسند إليه مهام لها علاقة بالمستفادات والجبايات والشؤون المالية بوجه عام. وكان الأمناء في تطوان يقومون بمهام المراقبة والتفتيش في المرسى إلى جانب تحصيلهم للرسوم على الصادرات والواردات ، والقيام بالأداءات التى يأمرهم السلطانب تقديمها إلى المعنيين بها. ابن زيدان ، العز ، ١ ، ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٤) «الطالب» وتعني لغويا الشخص الذي يكون بصدد الدراسة وتعلم أصول الدين الإسلامي. غير أن هذه التسمية كانت تطلق أيضا في المغرب على بعض الأشخاص المتعلمين الذين يكسبون قوتهم اليومي عن طريق التجارة ، انظر : Laroui ,Origines ,pp.٠٩ ,١٤٤.

(٥) هذه الكلمة غير واضحة في النسخة الأصلية للرحلة ، وربما هي [كفء] ، أي زوج ، (المعرب).

(٦) وكان المعني هنا هو محمد الصفار.

١١٤

أن يقيد كل ما سمع ورأى. لما قد يوجد في ذالك من العلوم والعبر ، وما حصلت جم الفوائد إلا من مخالطات البشر. ومن حكم الأولين : «ما شبعت عين من نظر ، ولا أذن من خبر».

عزمت إذ ذاك بحول الله أن أسود هذه الأوراق ، بما نراه ونسمعه في هذه السفرة وما يتعلق بها مما رق أو راق. على أني حاطب ليل وساحب ذيل ، لست من خيل هذا الميدان ، ولا لي بما يستحسن من يدان. إلا أني جعلتها تذكرة لنفسي ، لأخبر بذلك من سألني عنه من أبناء جنسي. فليعذرني أولوا الإنشاء والبلاغة ، وليسقط عني التكليف أهل الاستعارة والكناية. والله أسأل أن يستر معايبنا ويوفقنا لصالح عمل يرضاه منا.

فأقول ومن الله أستمد المامول : كان خروجنا من معاهد أنسنا ومطاب عيشنا ومسقط رؤوسنا وعش أفراخنا ومثار نشاطنا وأفراحنا ، بلدتنا تطوان أبقاها الله محفوظة على توالي الأزمان ، ضحوة يوم السبت في شهر ذي الحجة الحرام ، مضت منه ثلاث عشرة ليلة متم عام أحد وستين ومايتين وألف (١). وعندما زمزم الحادي بالارتحال أنشأ لسان الحال وساعده المقال فقال :

أتطواننا الغراء هل يسعد الدهر

بأوبتنا كيما يعود لنا الوصل؟

وهل يبدوا أو يدنوا محياك بعد ما

تلاطمت الأمواج ويجمع الشمل؟

سقت ديمة هطلا ربوعك وارتوى

حمى طالما كان السباق به يحلوا

فأوصيك بالأحباب خيرا وإنني

على عهدهم باق ولو نأت السبل

فركبنا من البلد حتى بلغنا مرساها. وقد كان بعث لنا من نحن متوجهون إليه مركبا عظيما من مراكب النار المعروف بالبابور (٢) ، قد انتخبه لنا من أحسن ما عنده استجلابا للألفة وحفاظا للمودة. فركبنا في فلائك صغار وسرنا حتى بلغنا ذالك

__________________

(١) ويوافقه بالميلادي يوم ١٣ دجنبر ١٨٤٥.

(٢) ومعناها المركب البحري ، وهي مأخوذة عن الإسبانية (vapor). ابن زيدان ، العز ، ١ ، ص. ٤١٤.

١١٥

السفين ، وصرنا في جوفه كما يصار في لحده الدفين. فأنزلنا رءيسه فيه أحسن منزل ، وجعلنا من محال إقراره ودويه بمعزل. وتلقانا أهله بالبشر والسرور وحسن البشاشة وجميل البرور ، فأدخلونا قمرة (١) فيها زرابي جيدة نقية وفرش رفيعة وطية. وقال لنا لسان حالهم ومقالهم ، كونوا في عيشة هنية وإكرامات سنية ، فنحن معكم على سيرة مرضية. وعندما تتام طلوعنا ورجع من كان يشيعنا ، قلع المركب مخاطفه وهز للمسير أعطافه. فقلنا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢). ثم أطلق مدافع الفرح والبحر لنا بسكونه قد سمح ، فسرنا متوكلين على الحي القيوم ، موقنين بأن لا دافع ولا منجي إلا الله سبحانه : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(٣). وقال ابن العربي (٤) : «من أراد أن يوقن أن الله هو الفاعل وحده وأن الأسباب ضعيفة ، فليركب البحر». وهو كما قال ويقال : «من ركب البحر فقد خاطر بنفسه ، وأشد منه خطرا من صحب السلطان بغير علم». هو لا شك أن راكب البحر دود على عود ، خلق ضعيف في خلق قوي ، تتلاعب فيه الأمواج فلا أحد من دون الله ينفعه بعلاج (٥). وكانت وجهتنا لمدينة مرسيليا التي هي على ساحل هذا البحر من جهته الشمالية.

__________________

(١) «القمرة» ، أصلها من الإسبانية (c mara) ، والمقصود بها هنا الغرفة المخصصة لإقامة المسافرين على متن المراكب ،. ٤١١ : ٢Dozy

(٢) سورة هود ، الآية ٤١.

(٣) سورة الإسراء ، الآية ٦٧.

(٤) هو محمد ابن العربي من مشاهير رجال التصوف ، أندلسي الأصل ، كانت وفاته في دمشق عام ٦٣٨ ه‍ / ١٢٤٠ م. انظر مادة «ابن العربي» في SEI s.v."Ibn (al) Arabi ".

(٥) غالبا ما تحدث اليونان والرومان عن البحر بنوع من الإعجاب والتمجيد المثاليين ، غير أن العرب ـ على العكس من ذلك ـ غالبا ما تحدثوا عن البحر في كتاباتهم بطريقة لا تخلو من النفور. وقد جاء ضمن إحدى مراسلات عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب في موضوع البحر ما يلي : «إن البحر لخلق عظيم يشبه المطية التى يركب عليها الضعفاء كما تزحف الديدان على فروع الشجر» ، انظر :

At ـ Tabari, Annales, ed. M. J. de Goeje et al.) Leiden, ٩٧٨١ ـ ١٠٩١ (, I : ١٢٨٢, anno ٨٢.) ٨٤٦ ـ ٩٤ (.

١١٦

١١٧

واعلم أن هذا البحر يسمى البحر الرومي لكثرة ما على سواحله من بلاد الروم (١)

__________________

وردت الإشارة إليها فى المقدمة ٣٩ : ٢Muqaddimah. وقد استعمل أبو الحسن علي التامكروتي فى كتابه النفحة المسكية في السفارة التركية تعبيرا مشابها ، انظر الصفحة ٣٩ من ترجمة هنري دو كاستري تحت عنوان :

Relation d\'une ambassade marocaine en Turquie ٩٨٥١ ـ ١٩٥١, traduction, H. de Castries,) Paris, ٩٢٩١ (.

(المعرب) : وانظر النص العربي للرحلة نفسها ، وقد صدرت مؤخرا بتقديم وتحقيق عبد اللطيف الشادلي ، المطبعة الملكية ، الرباط ، ٢٠٠٢ ، ص. ٨١ : «فأخذنا نسير في تلك المواسط ونمور ، وننجد بين الأمواج ونغور ، ونصبح ونمسي لا نرى إلا السحاب والبحور ، أزرق على أزرق ، نحن دود على عود ، في خطر الأسر والغرق». وعن نظرة المغاربة إلى البحر وعلاقتهم به ، انظر أيضا أعمال ندوة : «البحر في تاريخ المغرب» ، تنسيق رقية بلمقدم ، منشورات كلية الآداب بالمحمدية ، ١٩٩٩.

وعلى الرغم من وجود المغاربة ، بحكم وقوع بلادهم جغرافيا على مقربة من البحر ، فإنهم نادر اما كانوا يختارون مهنة الملاحة مصدرا أساسيا للعيش ، وتعكس الأدبيات الشعبية بعض مظاهر الخوف الذي كان ينتاب المغاربة من البحر. انظر :

L. Brunot, La mer dans les traditions et les industries indige؟nes Rabat et sale ?) Paris, ١٢٩١ (, pp. ١ ـ ٢١.

(١) «الروم» هو المصطلح الذى كان يشير به العرب خلال العصر الوسيط إلى اليونان والبيزنطيين. غير أن مصطلح «الرومي» امتد وأصبح يشمل فى معناه العام «المسيحي». بينما تعني «بلاد الروم» أوربا المسيحية. وحسب ما جاء عند كويتاين (S.D.Goitein) فإن مصطلح «الرومي» كان يستعمله يهود مصر الناطقون بالعربية في نصوص الكنيزة ، لكن ابتداء من القرن الثاني عشر برزت كلمة «إفرنجي» (المشتقة من (» FranK «، مع التمييز بين الأوربيين الموجودين في الشرق (الروميين) وأمثالهم فى الغرب «الإفرنجيين». وبعد القرن الثالث عشر ، استعملت كلمة «فرنسا» في رسائل الكينزة إشارة بذلك إلى فرنسا. انظر :

S. D. Goitein, A Mediterranean Society, ٥ vols.) Berkeley, ٧٦٩١ ـ ٨٨٩١ (, ١ : ٣٤.

وفي المغرب ، يعرف الأوربيون عند عامة الناس بمصطلح «نصارى» أو «نصرانيين». وعند استعمال الصفار لبعض المصطلحات المماثلة ، فإنه يعني بكل منها أمرا بعينه : ١. «بلاد الروم» التي يقصد بها جميع البلدان التي تتكون منها أوربا المسيحية. ٢. «بلاد الفرنسيس» ويعني بها أرض

١١٨

خصوصا جهته الشمالية ويسمى البحر الشامي لأنه ينتهي إلى بلاد الشام (١) ، ويسمى البحر المتوسط. ويعرف الآن عند عامة أهل المغرب بالبحر الصغير ، لأنه في مقابلة المحيط الذي يسمونه الكبير (٢). ومبدؤه من الخلج المتضايق بين طنجة وطريفة ، في عرض نحو اثني عشر ميلا ، وهو المسمى بالزقاق ويعرف عند العامة بالبوغاز (٣). وهو ما بين سبتة وقصر الجواز المعروف بالقصر الصغير (٤) في جهة الجنوب ، وبين الجزيرة الخضراء وطريفة في جهة الشمال ، وليس له منفذ للمحيط إلا من هذا الزقاق ، ومبدؤه هذا هو في الإقليم (٥) الرابع.

وبيان ذالك أن شكل الأرض عند الحكماء كرة ، وأنها محفوفة بعنصر الماء ، كأنها عنبة طافية انحسر الماء عن بعض جوانبها ، وهذا الذي انحسر عنه الماء من الأرض هو النصف من سطح كرتها فهي شكل دائرة أحاط الماء بها من جميع جهاتها ، والماء المحيط بها هو الذي يسمى البحر المحيط (٦). وهذه الدائرة يقسمها

__________________

الفرنسيين. ٣. فرانسا : لم يرد سابقا اسم هذا البلد إلا تحت عبارة «بلاد الفرنسيس» ، كما تشهد بذلك نصوص الوثائق المخزنية. وحين حل الصفار بفرنسا وسمع بتسميتها الأصلية : فرانس (France) ، شرع هو الآخر في استعمالها. ولمزيد من المعلومات انظر :

Lewis, Muslim Discovery, pp. ٠٢, ٠٤١; IB ٢ : ٥١٤ note ٤١.

(١) «الشام» هو التسمية العربية التي كانت معروفة عن بلاد سوريا خلال العصر الوسيط.

(٢) وهو المحيط الأطلسي.

(٣) وهي التسمية التي يطلقها المغاربة على مضيق جبل طارق. انظر : Harrell ,p.١٤ في حين يقول التامكروتي إن الكلمة تركية. النفحة ، ص. ٤٣.

(٤) «القصر الصغير» هو النقطة التي كان ينطلق منها المغاربة لشن حملاتهم على الإسبان. ومن ثم جاءت تسميته بقصر الجواز. انظر :

E. Michaux ـ Bellaire," El ـ Qc؟ar Ec؟ـ C؟eghir", RMM ٦١, ٢١) ١١٩١ (: ٠٥٣.

(٥) أصل كلمة «إقليم» من اليونانية (Klima) ، وتعني نطاقات معينة من المساحات المكونة للأرض عند خطوط العرض. انظر : ١١١ : ١Muqaddimah

(٦) جاء عند ابن خلدون : «[...] أن شكل الأرض كروي وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه ما انحسر الماء عن بعض جوانبها [...] وأما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحرا يسمى البحر المحيط [...]» ، المقدمة ، طبعة بيروت الصادرة سنة ١٩٧٨ ، ص. ٤٤.

١١٩

بنصفين خط من المشرق إلى المغرب وهو المسمى خط الاستواء. فإذا وقفت في هذا الخط واستقبلت المشرق ، فما يبقى عن يمينك فهو الجنوب ، وما عن يسارك فهو الشمال ، وما بعد خط الاستواء لجهة الجنوب كله أو جله خلاء لإفراط الحر وقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرؤوس ، وإنما العمارة فيها بعد خط الاستواء لجهة الشمال ، والمعمور في هذه الجهة ، أربع وستون درجة من خط الاستواء ، والباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود.

فالمعمور إذن من هذا المنكشف من الأرض مقدار ربعه. وهذا المعمور هو الذي قسمه الحكماء أقساما سبعة وسموا كل منها إقليما (١) ، فهي المراد بالأقاليم السبعة. وهذه الأقسام متساوية في العرض ، مختلفة في الطول لأن طولها من المغرب إلى المشرق ، وعرضها من الجنوب إلى الشمال. فالإقليم الأول أطول مما بعده ، وكذا الثاني إلى السابع ، فهو أقصرها على ما اقتضاه انقسام نصف الدائرة. فمبدأ الإقليم الأول عرضا خط الاستواء ، ذاهبا في العرض إلى جهة الشمال. وطوله من المغرب إلى المشرق ، فهو مار مع خط الاستواء من المغرب إلى المشرق ، يحده من جهة الجنوب خط الاستواء ، ومن جهة الشمال الإقليم الثاني. ومبدأ الثاني عرضا من حيث انتهى الأول ، وطوله أيضا من المغرب إلى المشرق. فيحد من جهة الإقليم الأول ، ومن جهة الشمال الإقليم الثالث ؛ وهكذا فالأول أطولها والأخير أقصرها ، لأن أطول خط في الدائرة هو نصفها ، وقد أسلفنا أن خط الاستواء يقسمها بنصفين. ثم قسموا كل إقليم من هذه الأقاليم في طوله من المغرب إلى المشرق بعشرة أجزاء متساوية ، فلذالك تسمعهم يقولون أن الموضع الفلاني في الجزء الرابع أو الخامس مثلا من الإقليم الأول أو الثاني الخ ...

فابتداء هذا البحر الصغير من الخليج المذكور وهو الجزء [ ](٢) من الإقليم الرابع ، وانتهاؤه في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع أيضا على ألف فرسخ (٣) ومائة وستين

__________________

(١) انظر الهامش أعلاه في الصفحة السابقة.

(٢) ترك الصفار فراغا أبيض في مخطوطته ، ربما لعدم معرفته بالمرتبة التي كان يحتلها ذلك الجزء من الإقليم الرابع ، خاصة وأن ابن خلدون لم يذكر شيئا عن تلك النقطة في المقدمة.

(٣) «الفرسخ» أصل الكلمة من الفارسية «فرسنك» (farsang). وتعنى المسافة التى يمكن أن يقطعها الإنسان مشيا مدة ساعة. ويذكر ابن خلدون أن «الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع» ، أي حوالي

١٢٠