البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

عقيلة حي من لؤي بن غالب

كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها

وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت عني قلته

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي

بآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها

تقاصر عنها سورة المتطاول

والمشهور أنه حد حسان ومسطح وحمنة. قيل : وعبد الله بن أبيّ وقد ذكره بعض شعراء ذلك العصر في شعر. وقيل : لم يحد مسطح. وقيل : لم يحد عبد الله. وقيل : لم يحد أحد في هذه القصة وهذا مخالف للنص. (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (١) وقابل ذلك بقول : إنما يقال الحد بإقرار أو بينة ، ولم يتقيد بإقامته بالإخبار كما لم يتقيد بقتل المنافقين ، وقد أخبر تعالى بكفرهم.

وقرأ الجمهور (كِبْرَهُ) بكسر الكاف. وقرأ الحسن وعمرة بنت عبد الرحمن والزهري وأبو رجاء ومجاهد وأبو البرهسم والأعمش وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو بضم الكاف ، والكبر والكبر مصدران لكبر الشيء عظم لكن استعمال العرب الضم ليس في السن. هذا كبر القوم أي كبيرهم سنا أو مكانة. وفي الحديث في قصة حويصة ومحيصة : «الكبر الكبر». وقيل (كِبْرَهُ) بالضم معظمه ، وبالكسر البداءة بالإفك. وقيل : بالكسر الإثم.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) هذا تحريض على ظن الخير وزجر وأدب ، والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره. قيل : ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب ، أي كان الإنكار واجبا عليهم ، وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر فلم يجئ التركيب ظننتم بأنفسكم (خَيْراً) وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن ومعنى (بِأَنْفُسِهِمْ) أي كان يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد عليهم

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤.

٢١

قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد. وقيل : معنى (بِأَنْفُسِهِمْ) بأمهاتهم. وقيل : بإخوانهم. وقيل : بأهل دينهم ، وقال (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) فسلموا على أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضا ، وليسلم بعضكم على بعض.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) جعل الله فصلا بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا) فهم في حكم الله وشريعته كاذبون ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك ولم يجدّوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة والتنكيل.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة (وَرَحْمَتُهُ) عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة. (لَمَسَّكُمْ) العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال : أفاض في الحديث واندفع وهضب وخاض. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) لعامل في (إِذْ لَمَسَّكُمْ). وقرأ الجمهور (تَلَقَّوْنَهُ) بفتح الثلاث وشد القاف وشد التاء البزي وأدغم ذال (إِذْ) في التاء النحويان وحمزة أي يأخذه بعضكم من بعض ، يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه والأصل تتلقونه وهي قراءة أبيّ. وقرأ ابن السميفع (تَلَقَّوْنَهُ) بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى وعنه (تَلَقَّوْنَهُ) بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي. وقرأت عائشة وابن عباس وعيسى وابن يعمر وزيد بن عليّ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من قول العرب : ولق الرجل كذب ، حكاه أهل اللغة. وقال ابن سيده ، جاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي ، وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف الحرف ووصل الفعل للضمير. وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد ، وكلام في أثر كلام ، يقال : ولق في سيره إذا أسرع قال :

جاءت به عيسى من الشام يلق

وقرأ ابن أسلم وأبو جعفر تألقونه بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام مكسورة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني تيلقونه بتاء مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا : تيجل مضارع وجلت. وقال سفيان : سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه يعني مضارع ثقف قال : وكان أبوها يقرأ بحرف ابن مسعود. ومعنى (بِأَفْواهِكُمْ) وتديرونه فيها من غير علم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس محله إلّا الأفواه كما قال (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٢).

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٧.

٢٢

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي ذنبا صغيرا (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) من الكبائر وعلق مس العذاب بثلاثة آثام تلقي الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به ، وكان الواجب عليهم إذ سمعوه أن لا يفوهوا به.

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز الفصل بين (لَوْ لا) و (قُلْتُمْ)؟ قلت : للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة نفسها لوقوعها فيها ، وأنها لا تنفك عنها فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها انتهى. وما ذكره من أدوات التحضيض يوهم أن ذلك مختص بالظرف وليس كذلك ، بل يجوز تقديم المفعول به على الفعل فتقول : لو لا زيدا ضربت وهلا عمرا قتلت.

قال الزمخشري : فإن قلت : فأي فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت : الفائدة بيان أنه كان الواجب عليهم أن ينقادوا حال ما سمعوه بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.

فإن قلت : ما معنى (يَكُونُ) والكلام بدونه متلئب لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا قلت : معناه ما ينبغي ويصح أي ما ينبغي (لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) ولا يصح لنا ونحوه ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق و (سُبْحانَكَ) تعجب من عظم الأمر.

فإن قلت : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت : الأصل في ذلك أن تسبيح الله عند رؤية المتعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله عن أن تكون حرمة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قيل فيها انتهى.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا) أي في أن تعودوا ، تقول : وعظت فلانا في كذا فتركه. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حث لهم على الاتعاظ وتهييج لأن من شأن المؤمن الاحتراز مما يشينه من القبائح. وقيل : (أَنْ تَعُودُوا) مفعول من أجله أي كراهة (أَنْ تَعُودُوا). (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع ويعلمكم من الآداب ، ويعظكم من المواعظ الشافية. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ). قال مجاهد وابن زيد الإشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه. (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) لعداوتهم لهم ، والعذاب الأليم في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار. والظاهر في (الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) العموم في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا ، وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور ، ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.

٢٣

وقال الحسن : عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين ، وأنهم قصدوا وأحبوا إذاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك كفر وملعون فاعله. وقال أبو مسلم : هم المنافقون أوعدهم الله بالعذاب في الدنيا على يد الرسول بالمجاهدة كقوله (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (١). وقال الكرماني : والله يعلم كذبهم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لأنه غيب. وجواب (لَوْ لا) محذوف أي لعاقبكم. (أَنَّ اللهَ رَؤُفٌ) بالتبرئة (رَحِيمٌ) بقبول توبة من تاب ممن قذف. قال ابن عباس : الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)

تقدم الكلام على (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) تفسيرا وقراءة في البقرة. والضمير في (فَإِنَّهُ) عائد على (مَنْ) الشرطية ، أي فإن متبع خطوات الشيطان (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) وهو ما أفرط قبحه (وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا يطيعه أصحابه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم. وقرأ الجمهور (ما زَكى) بتخفيف الكاف ، وأمال حمزة والكسائي وأبو حيوة والحسن والأعمش وأبو جعفر في رواية وروح بتشديدها ، وأماله الأعمش وكبت (زَكى) المخفف بالياء وهو

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧٣ ، وسورة التحريم : ٦٦ / ٩.

٢٤

من ذوات الواو على سبيل الشذوذ لأنه قد يمال ، أو على قراءة من شد الكاف. (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) ممن سبقت له السعادة ، وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم.

(وَلا يَأْتَلِ) هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف. وقيل : معناه يقصر من افتعل ألوت قصرت ومنه (لا يَأْلُونَكُمْ) (١). وقول الشاعر :

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

وهذا قول أبي عبيدة ، واختاره أبو مسلم. وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة. وقال ابن عياش والضحاك : قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك ، وقالوا : لا نصل من تكلم فيه فنزلت في جميعهم.

والآية تتناول من هو بهذا الوصف. وقرأ الجمهور (يَأْتَلِ). وقرأ عبد الله بن عياش بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم والحسن يتأل مضارع تألى بمعنى حلف. قال الشاعر :

تألّى ابن أوس حلفة ليردّني

إلى نسوة كأنهن معائد

والفضل والسعة يعني المال ، وكان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا ، وكان ما نسب إليه داعيا أبا بكر أن لا يحسن إليه ، فأمر هو ومن جرى مجراه بالعفو والصفح ، وحين سمع أبو بكر (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)؟ قال : بلى ، أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته وقال : والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم أن تؤتوا بالتاء على الالتفات ، ويناسبه (أَلا تُحِبُّونَ) و (أَنْ يُؤْتُوا) نصب الفعل المنهي فإن كان بمعنى الحلف فيكون التقدير كراهة (أَنْ يُؤْتُوا) وأن لا يؤتوا فحذف لا ، وإن كان بمعنى يقصر فيكون التقدير في أن يؤتوا أو عن أن يؤتوا. وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء أمر خطاب للحاضرين.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ) عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليبا للمذكر على المؤنث. و (الْمُحْصَناتِ) ظاهره أنه عام في النساء العفائف. وقال النحاس : من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى ، وأن التقدير يرمون الأنفس (الْمُحْصَناتِ) فيدخل فيه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١١٨.

٢٥

المذكر والمؤنث. وقيل : هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك. وقيل : خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال :

قدني من نصر الخبيبين قدي

يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه. و (الْغافِلاتِ) السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات ، كما قال الشاعر :

ولقد لهوت بطفلة ميالة

بلهاء تطلعني على أسرارها

وكذلك البله من الرجال في قوله «أكثر أهل الجنة البله». (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في قذف المحصنات. قيل : هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجىء استثناء. وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته ، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة ، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له. ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة ، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا : خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ، ويؤيده قوله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه. والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم. وقال الحوفي : العامل فيه عذاب ، ولا يجوز لأنه موصوف إلّا على رأي الكوفيين. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي ، ووقع الفصل ، وباقي السبعة بالتاء ، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك ، وليست الحياة شرطا لوجود الكلام. وقالت المعتزلة : يخلق في هذه الجوارح الكلام ، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلّا أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعا. وقالوا أيضا : إنه تعالى ينشئ هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله. قال القاضي : وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.

وانتصب (يَوْمَئِذٍ) بيوفيهم ، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة ، والتقدير يوم إذ تشهد. وقرأ زيد بن عليّ (يُوَفِّيهِمُ) مخففا والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم. وقال :

٢٦

ولم يبق سوى العد

وإن دناهم كما دانوا

ومنه : كما تدين تدان. وقرأ الجمهور (الْحَقَ) بالنصب صفة لدينهم. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله ، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و (يَعْلَمُونَ) إلى آخره يقوي قول من قال : إن الآية في عبد الله بن أبيّ لأن كل مؤمن يعلم (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عزوجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعذاب البليغ ، والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه ، ولو لم ينزل إلّا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به ، وأنه (يُوَفِّيهِمُ) جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلّا ما هو دونه في الفظاعة انتهى. وهو كلام حسن. ثم قال بعد كلام فإن قلت : ما معنى قوله (هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)؟ قلت : معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه ، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل ، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن ، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى. وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال.

والظاهر أن (الْخَبِيثاتُ) وصف للنساء ، وكذلك (الطَّيِّباتُ) أي النساء الخبيثات للرجال (لِلْخَبِيثِينَ) ويرجحه مقابلته بالذكور فالمعنى أن (الْخَبِيثاتُ) من النساء ينزعن للخباث من الرجال ، فيكون قريبا من قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) (١) وكذلك (الطَّيِّباتُ) من النساء (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال ويدل على هذا التأويل قول عائشة حين ذكرت التسع التي ما أعطيتهن امرأة غيرها. وفي آخرها : ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. وهذا التأويل نحا إليه ابن زيد فهو تفريق بين عبد الله وأشباهه والرسول وأصحابه ، فلم يجعل الله له إلّا كل طيبة وأولئك خبيثون فهم أهل النساء

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣.

٢٧

الخبائث. وقال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة : هي الأقوال والأفعال ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : الكلمات والفعلات الخبيثة لا يقولها ولا يرضاها إلّا الخبيثون من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه. وقال بعضهم الكلمات : والفعلات لا تليق وتلصق عند رمي الرامي وقذف القاذف إلّا بالخبيثين من الناس فهي لهم وهم لها بهذا الوجه.

(أُولئِكَ) إشارة للطيبين أو إشارة لهم وللطيبات إذا عنى بهن النساء. (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي يقول الخبيثون من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات ووعد الطيبين المغفرة عند الحساب والرزق الكريم في الجنة.

غض البصر : أطبق الجفن على الجفن بحيث تمتنع الرؤية. قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

الخمر : جمع خمار وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها ، وهو جمع كثرة مقيس فيه ، ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيها أيضا. قال الشاعر :

وترى الشجراء في ريقه

كرؤوس قطعت فيها الخمر

الجيب : فتح يكون في طوق القميص يبدو منه بعض الجسد. والعورة : ما احترز من الإطلاع عليه ويغلب في سوأة الرجل. والمرأة الأيم : قال النضر بن شميل : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها ووزنه فعيل كلين ويقال : آمت تئيم. وقال الشاعر :

كل امرئ ستئيم من

ه العرس أو منها يئم

أي : سينفرد فيصير أيما ، وقياس جمعه أيائم كسيائد في جمع سيد وجمعه على فعالى محفوظ لا مقيس. البغاء : الزنا ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء فهي بغي وهو مختص بزنا النساء. المشكاة : الكوة غير النافذة. قال الكلبي حبشي معرب. الزجاجة : جوهر مصنوع معروف ، وضم الزاي لغة الحجاز ، وكسرها وفتحها لغة قيس. الزيت : الدهن المعتصر من حب شجرة الزيتون. قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيدا. وقال الفراء : السراب : ما لصق بالأرض. وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري. وقال الشاعر :

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم

كلمع سراب في الفلا متألق

٢٨

وقال :

أمر الطول لماع السراب

وقيل : السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة. اللجي : الكثير الماء ، ولجة البحر معظمة ، وكان لجيا مسنوب إلى اللجة. الودق : المطر شديده وضعيفه. قال الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وقال أبو الأشهب العقيلي : هو البرق. ومنه قول الشاعر :

أثرن عجاجة وخرجن منها

خروج الودق من خلل السحاب

والودق : مصدر ودق السحاب يدق ودقا ، ومنه استودقت الفرس. البرد : معروف وهو قطع متجمدة يذوب منه ماء بالحرارة. السنا : مقصور من ذوات الواو وهو الضوء. قال الشاعر :

يضيء سناه أو مصابيح راهب

يقال : سنا يسنو سنا ، والسنا أيضا نبت يتداوى به ، والسناء بالمد الرفعة والعلو قال :

وسن كسنق سناء وسنما

أذعن للشيء : انقاد له. وقال الزجاج : الإذعان : الإسراع مع الطاعة. الحيف : الميل في الحكم ، يقال : حاف في قضيته أي جار. اللواذ : الروغان من شيء إلى شيء في خفية.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ

٢٩

أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)

جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا) الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلّا بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) ويروى أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أأستأذن على أمي؟ قال : «نعم» قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال : «أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل : لا ، قال : وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (١) وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال (تَسْتَأْنِسُوا) معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله (تَسْتَأْنِسُوا) خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٣.

٣٠

الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول. و (تَسْتَأْنِسُوا) متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، واستفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحدا واستأنست فلم أر أحدا ، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة :

كان رحلي وقد زال النهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد

ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس؟ قال : «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم». وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته : حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل. وذهب الطبري في (تَسْتَأْنِسُوا) إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم. قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى. وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث : «الاستئذان ثلاث» يعني كماله. «فإن أذن له وإلّا فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلّا أن يحقق أن من في البيت لم يسمع». والظاهر تقديم الاستئذان على السلام. وفي حديث أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في (وَتُسَلِّمُوا) لا تقتضي ترتيبا فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى المصدر المفهوم من (تَسْتَأْنِسُوا) و (تُسَلِّمُوا) أي (ذلِكُمْ) الاستئناس والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من تحية الجاهلية. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي شرّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) اعتناء بمصالحكم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه

٣١

من يأذن أم لم يكن ، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين. (هُوَ أَزْكى) أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيرا لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة. ثم أخبر أنه تعالى (بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه ، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) قال الزمخشري : استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو لفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين ، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة ، ولذلك قال (بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة ، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي في الفنادق التي في طرق المسافرين. قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل. و (فِيها مَتاعٌ) لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيسارية والسوق. قال ابن الحنفية أيضا : هي دور مكة ، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة ، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.

و (مِنْ) في (مِنْ أَبْصارِهِمْ) عند الأخفش زائدة أي (يَغُضُّوا أَبْصارِهِمْ) عما يحرم ، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك ، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه : لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية. وقال ابن عطية : يصح أن تكون (مِنْ) لبيان الجنس ، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون (مِنْ) لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت (مِنْ) في قوله (مِنْ أَبْصارِهِمْ) دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدر والعضد والساق والقدم ، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق.

٣٢

وعن أبي العالية وابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا هذا فهو من الاستتار ، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. (ذلِكَ) أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) من إحالة النظر وانكشاف العورات ، فيجازي على ذلك. وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتزاز منه ، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء :

وما الحب إلا نظرة إثر نظرة

تزيد نموا إن تزده لجاجا

ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) واستثنى ما ظهر من الزينة ، والزينة ما تتزين به المرأة من حلّي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان ، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها ، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) يعني إلّا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة. أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقال ابن مسعود (ما ظَهَرَ مِنْها) هو الثياب ، ونص على ذلك أحمد قال : الزينة الظاهرة الثياب ، وقال تعالى (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (١) وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة : الوجه والكفان. وقال ابن جريج : الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣١.

٣٣

وقال الحسن أيضا : الخاتم والسوار. وقال ابن عباس : الكحل والخاتم فقط. وقال المسور بن مخرمة : هما والسوار. وقال الحسن أيضا : الخاتم والسوار. وقال ابن بحر : الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس ، فنهاهنّ الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ. وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن.

وفي قوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها ، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار. وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعا إليهما ، وفي السنن لأبي داود أنه عليه‌السلام قال : «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلّا هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه». وقال ابن خويز منداد : إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك ، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمّن (وَلْيَضْرِبْنَ) معنى وليلقين وليضعن ، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه. وقرأ عياش عن أبي عمرو (وَلْيَضْرِبْنَ) بكسر اللام وطلحة (بِخُمُرِهِنَ) بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام (جُيُوبِهِنَ) بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم.

وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يبدى للأب ما لا يبدى لابن الزوج. ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال. وقال الحسن : هما كسائر المحارم في جواز النظر قال : لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب ، وقال في سورة الأحزاب (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) (١) ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا ، والإضافة في (نِسائِهِنَ) إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن ، وأكثر السلف على أن قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) مخصوص بمن كان على دينهن.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٥.

٣٤

قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلّا ما تبدي للأجانب إلّا أن تكون أمة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات. والظاهر العموم في قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) فيشمل الذكور والإناث ، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة. وعن مجاهد : كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم ، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه. وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين : لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلّا مع ذي محرم» والعبد ليس بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب : لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء. قال الزمخشري : وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو فحلا. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية : إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه ، فقال : هو خصي فقالت : يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله. وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى. والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمر النساء ، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام. قال ابن عطية : ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف (أَوِ الطِّفْلِ) على (مِنَ الرِّجالِ) قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال ، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم ، ولذلك وصف بالجمع في قوله (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) ومن ذلك قول العرب : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال : أو الأطفال. و (الطِّفْلِ) ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعا. وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (١) انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله (الطِّفْلِ) من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٧.

(٢) سورة العصر : ١٠٣ / ٢.

٣٥

يخرجكم بثم لا بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلا نكره ، ولا يتعين حمل طفلا هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (١) أي لكل واحدة منهن. وكما تقول : بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف. وقوله (لَمْ يَظْهَرُوا) إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها ، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه. ومنه (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (٢) أي غالبين قادرين عليه ، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.

وقرأ الجمهور (عَوْراتِ) بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو (عَوْراتِ) بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ (عَوْراتِ) بالفتح. قال : وسمعنا ابن مجاهد يقول : هو لحن وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلّا فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون : روضات وجورات وعورات ، وسائر العرب بالإسكان. وقال الفراء : العرب على تخفيف ذلك إلّا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم :

أبو بيضات رائح متأوب

رفيق بمسح المنكبين سبوح

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقال ابن عباس : هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال. وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فجعلته في ساقها ، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية. وقال الزجاج : وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها انتهى. وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها : وهي تكره أن لا ينظر إليها ، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن ، وهذا من خفايا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ١٤.

٣٦

الإعلام بحالهن. وقال مكي : ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.

وقال الزمخشري : وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ.

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه ، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائما وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا. وعن ابن عباس (تُوبُوا) مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن عامر (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) ويا أيه الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء ، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة ، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.

وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)

لما تقدمت أوامر ونواه في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالبا لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره. والظاهر أن الأمر في قوله (وَأَنْكِحُوا) للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء

٣٧

على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود (الْأَيامى) ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.

وقال الزمخشري : (الْأَيامى) واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى. وفي التحرير قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيما ويتيما جمعا على أيامي ويتامى شذوذا يحفظ ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات. وقالوا : وج ووجيا كما قالوا : زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى. وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى. وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها انتهى.

(مِنْكُمْ) خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله (وَالصَّالِحِينَ) وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن (الصَّالِحِينَ) من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وقيل : معنى (وَالصَّالِحِينَ) أي للنكاح والقيام بحقوقه. وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.

و (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) (١). (وَاللهُ واسِعٌ) أي ذو غنى وسعة ، يبسط الله لمن يشاء (عَلِيمٌ) بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق. (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً). قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية. والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٨.

٣٨

ومعنى (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ) ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا في استعفافهم وربطا على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى. وهو من كلام الزمخشري وهو حسن ، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارا فيتصرفون في أنفسهم.

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة. (مِمَّا مَلَكَتْ) يعم المماليك الذكور والإناث. و (الَّذِينَ) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوبا كما تقول : زيدا فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيدا فاضرب ، وزيدا اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيدا فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. قال الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال ، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله (فَكاتِبُوهُمْ) وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود ، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه ، أو لأضربنك بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة.

وقال الشافعي : لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم. وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد. وقال ابن خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقا على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة. والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضا أو الدين قاله الحسن ، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني ، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن

٣٩

وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير. وقال الشافعي : الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلّا الصلاح ، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيرا لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله (فَكاتِبُوهُمْ) والظاهر في (وَآتُوهُمْ) أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء ، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وعلى ربعها ، وقتادة عشرها. وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير. وقال مالك : من آخر نجم. وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان : أمر الناس جميعا بمواساة المكاتب وإعانته. وقال زيد بن أسلم : الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله (وَفِي الرِّقابِ).

وقال صاحب النظم : لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ، فلما قال (وَآتُوهُمْ) دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة. وقوله (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضا ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه.

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أبيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وقيل : كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما ارجعا فازنيا ، فقالتا : والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن يكون (وَآتُوهُمْ) خطابا للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلّا مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه. وكلمه (إِنْ) وإيثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر. وقد

٤٠