البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

العاقل ، أولا حذف ، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه ، فأخبر عنه إخباره ، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو : كما شرقت صدر القناة من الدم أولا حذف ، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع ، جمعت جمعه كما جاء : (أَتَيْنا طائِعِينَ) (١). وقرأ عيسى ، وابن أبي عبلة : خاضعة. وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ، ستكون لنا عليهم الدولة ، فتذل أعناقهم بعد معاوية ، ويلحقهم هوان بعد عز. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) : تقدم تفسيره في الأنبياء. (إِلَّا كانُوا) : جملة حالية ، أي إلا يكونوا عنها. وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد ، وهو الإعراض؟ قلت : كان قبل حين أعرضوا عن الذكر ، فقد كذبوا به ، وحين كذبوا به ، فقد خف عليهم قدره وصار عرضة الاستهزاء بالسخرية ، لأن من كان قابلا للحق مقبلا عليه ، كان مصدقا به لا محالة ، ولم يظن به التكذيب. ومن كان مصدقا به ، كان موقرا له. انتهى.

(فَسَيَأْتِيهِمْ) : وعيد بعذاب الدنيا ، كيوم بدر ، وعذاب الآخرة. ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود ، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر ، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة ، نبه تعالى على قدرته ، وأنه الخالق المنشئ الذي يستحق العبادة بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ)؟ والزوج : النوع. وقيل : الشيء وشكله. وقيل : أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض. وقال الفراء : الزوج : اللون. والكريم : الحسن ، قاله مجاهد وقتادة. وقيل : ما يأكله الناس والبهائم. وقيل : الكثير المنفعة. وقيل : الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد. وجه كريم : مرضي في حسنه وجماله ؛ وكتاب كريم : مرضي في معانيه وفوائده. وقال : حتى يشق الصفوف من كرمه ، أي من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه ، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور ، والأغذية والنباتات ، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين. قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٢). قال الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن صار إلى الجنة فهو كريم ، ومن صار إلى النار فبضد ذلك.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل؟ ولو قيل : (أَنْبَتْنا فِيها مِنْ

__________________

(١) سورة فصلت : آية ٤١ / ١١.

(٢) سورة نوح : آية ٧١ / ٩٧.

١٤١

كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) قلت : دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، فهذا معنى الجمع ، وبه نبه على كمال قدرته. انتهى. وأفرد (لَآيَةً) ، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج ، وهو كم ، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج ، لأن المشار إليه واحد ، وهو الإنبات ، وإن اختلفت متعلقاته ، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : تسجيل على أكثرهم بالكفر. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : أي الغالب القاهر. ولما كان الموضع موضع بيان القدرة ، قدم صفة العزة على صفة الرحمة. فالرحمة إذا كانت عن قدرة ، كانت أعظم وقعا ، والمعنى : أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة. ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ، ذكر قصة موسى عليه‌السلام ، وما قاسى مع فرعون وقومه ، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه لصلاة والسلام من كفار قريش. إذ ، كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله ، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلها ، وكان أتباع ملة موسى عليه‌السلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدأ بقصة موسى ، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص. والعامل في إذ ، قال الزجاج ، اتل مضمرة ، أي اتل هذه القصة فيما يتلو إذ نادى ، ودليل ذلك (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (١) إذ. وقيل : العامل اذكر ، وهو مثل واتل ، ومعنى نادى : دعا. وقيل : أمر. وأن : يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون تفسيرية ، وسجل عليهم بالظلم ، لظلم أنفسهم بالكفر ، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد ، وذبح الأولاد ، و (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، وقيل : بدل من (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد ، إذ كل واحد عطف البيان ، وسوغه مستقل بالإسناد. ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك ، أتى عطف البيان بإزالته ، إذ هو أشهر. وقرأ الجمهور : ألا يتقون ، بالياء على الغيبة. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار ، وشقيق بن سلمة ، وحماد بن سلمة ، وأبو قلابة : بتاء الخطاب ، على طريقة الالتفات إليهم إنكارا وغضبا عليهم ، وإن لم يكونوا حاضرين ، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم. قال ابن عطية : معناه قل لهم ، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى.

وقال الزمخشري : فإن قلت : بم تعلق قوله : (أَلا يَتَّقُونَ)؟ قلت : هو كلام مستأنف

__________________

(١) سورة الشعراء : آية ٢٦ / ٦٩.

١٤٢

اتبعه عزوجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه‌السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف ، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالا من الضمير في الظالمين ، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه ، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى. وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالا من الضمير في الظالمين ، وقد أعرب هو (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) عطف بيان ، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما ، لأن قوم فرعون معمول لقوله : (ائْتِ) والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين ، وذلك لا يجوز أيضا لو لم يفصل بينهما بقوله : قوم فرعون. لم يجز أن تكون الجملة حالا ، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولا لما قبلها. وقولك : جئت أمسرعا؟ على أن يكون أمسرعا حالا من الضمير في جئت لا يجوز ، فلو أضمرت عاملا بعد الهمزة جاز. وقرىء : بفتح النون وكسرها ، التقدير : أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين ، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقال الزمخشري : في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى : ألا يا ناس اتقون ، كقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا) (١). انتهى. يعني : وحذف ألف يا خطا ونطقا لالتقاء الساكنين ، وهذا تخريج بعيد. والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى ، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح ، وكذلك قول الزمخشري : إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار.

ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلهية ، كثير المهابة ، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصا من كان من بني إسرائيل ، قال موسى عليه‌السلام : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ). وقرأ الجمهور : (وَيَضِيقُ وَلا يَنْطَلِقُ) ، بالرفع فيهما عطفا على أخاف. فالمعنى : إنه يفيد ثلاث علل : خوف التكذيب ، وضيق الصدر ، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج ، وطلحة ، وعيسى ، وزيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وزائدة ، عن الأعمش ، ويعقوب : بالنصب فيهما عطفا على يكذبون ، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني ، عن الأعرج : أنه قرأ بنصب : ويضيق ، ورفع : ولا ينطلق ، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر ، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية : وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة ، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر ، لم ينطلق اللسان.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٢٥.

١٤٣

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) : معناه يعينني ويؤازرني ، وكان هارون عليه‌السلام فصيحا واسع الصدر ، فحذف بعض المراد من القول ، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري : ومعنى (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) : أرسل إليه جبريل عليه‌السلام ، واجعله نبيا ، وأزرني به ، واشدد به عضدي ؛ وهذا كلام مختصر ، وقد أحسن في الاختصار حيث قال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء. وقوله : (إِنِّي أَخافُ) إلى آخره ، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين ، ليس توقفا فيما أمره الله تعالى به ، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه ، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى ، وتبليغ رسالته ، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب. وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل ، ومفعول أرسل محذوف. فقيل جبريل ، كما تقدم ذكره ، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون ، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبيا بالشام. قال السدي : سار بأهله إلى مصر ، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال : أنا موسى ، فتعارفا ؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة ، فصاحت أمهما لخوفها عليهما ، فذهبا إليه.

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) : أي قبلي قود ذنب ، أو عقوبة ، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها ، أو سمى تبعة الذنب ذنبا ، كما سمى جزاء السيئة سيئة. وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة ، بل قال ذلك استدفاعا لما يتوقعه منهم من القتل ، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة ، ويدل على ذلك قوله : (كَلَّا) ، وهي كلمة الردع ، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع. وكلا رد لقوله : (إِنِّي أَخافُ) ، أي لا تخف ذلك ، فإني قضيت بنصرك وظهورك. وقوله : (فَاذْهَبا) ، أمر لهما بخطاب لموسى فقط ، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ، ولكنه قال لموسى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) (١). قال الزمخشري : جمع الله له الاستجابتين معا في قوله : (كَلَّا فَاذْهَبا) ، لأنه استدفعه بلاءهم ، فوعده الدفع بردعه عن الخوف ، والتمس الموازرة بأخيه ، فأجابه بقوله : اذهب ، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون. فإن قلت : علام عطف قوله اذهبا؟ قلت : على الفعل الذي يدل عليه كلا ، كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت وهارون بآياتنا ، يعم جميع ما بعثهما الله به ، وأعظم ذلك العصا ، وبها وقع العجز. قال ابن عطية : ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها ، وأن هارون كان نبيا رسولا معينا له ووزيرا. انتهى. ومعكم ، قيل : من وضع الجمع موضع المثنى ، أي معكما. وقيل : هو على ظاهره من الجمع ، والمراد

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٤٢.

١٤٤

موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى ، والخطاب لموسى وهارون فقط ، قال : لأن لفظة مع تباين من يكون كافرا ، فإنه لا يقال الله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية ، حمله سيبويه رحمه‌الله وكأنهما لشرفهما عند الله ، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع ، إذ كان ذلك جائزا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.

قال ابن عطية : (مُسْتَمِعُونَ) اهتبالا ، ليس في صيغة سامعون ، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع ، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى ، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع. وقال الزمخشري : (مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) من مجاز الكلام ، يريد أنا لكما ولعدو كما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه ، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى. ويجوز أن يكون معه متعلقا بمستمعون ، وأن يكون خبرا ، ومستمعون خبر ثان. والمعية هنا مجاز ، وكذلك الاستماع ، لأنه بمعنى الإصغاء ، ولا يلزم من الاستماع السماع ، تقول : أسمع إليه ، فما سمع واستمع إليه ، فسمع كما قال : (اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا) (١) ، وأفرد رسول هنا ولم يثن ، كما في قوله : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) (٢) ، إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة ، فجاز أن يقع مفردا خبر المفرد فما فوقه ، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة ؛ فكأنهما رسول واحد. وأريد بقوله : أنا أو كل واحد منا رسول.

و (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيه رد عليه ، وأنه مربوب لله تعالى ، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية ، ولذلك أنكر فقال : وما رب العالمين والمعنى إليك ، و (أَنْ أَرْسِلْ) : يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول ، وأن تكون مصدرية ، وأرسل بمعنى أطلق وسرح ، كما تقول : أرسلت الحجر من يدي ، وأرسلت الصقر. وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين : إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية ، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين ، وكانت مسكن موسى وهارون.

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ، قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ١.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٤٧.

١٤٥

رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ، قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ، قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ، قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ، قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ، قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ، قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ، قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون ، ولم يؤذن لهما سنة ، حتى قال البواب : إن هنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له : ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة ، فعرف موسى فقال له : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً؟) وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره : فأتيا فرعون ، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين ، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه ، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده ، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية : من عمرك ، بإسكان الميم ، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور : فعلتك ، بفتح الفاء ، إذ كانت وكزة واحدة ، والشعبي : بكسر الفاء ، يريد الهيئة ، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال ، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل ، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي ، وعظم ذلك بقوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) ، لأن هذا الإبهام ، بكونه لم يصرح أنها القتل ، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) : يجوز أن يكون حالا ، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين ، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك ، والأنبياء عليهم‌السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخبارا مستأنفا من فرعون ، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان ، قاله ابن زيد ؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك ، قاله الحسن ؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن ، قاله السدي.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً) : إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل ، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية ، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن عطية : إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة ، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى ، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن

١٤٦

ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري : فإن قلت : إذا جواب وجزاء معا ، والكلام وقع جوابا لفرعون ، فكيف وقع جزاء؟ قلت : قول فرعون : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) فيه معنى : إنك جازيت نعمتي بما فعلت ؛ فقال له موسى : نعم فعلتها ، مجازيا لك تسليما لقوله ، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذا جواب وجزاء معا ، هو قول سيبويه ، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جوابا وجزاء معا ، وقد تكون جوابا فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب ، وقد يكون مع ذلك جزاء. وحملوا قوله : (فَعَلْتُها إِذاً) من المواضع التي جاءت فيها جوابا لآخر ، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجوابا ، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل ، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح ، ولا قول الأكثرين.

(وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، قال ابن زيد : معناه من الجاهلين ، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه. وقال أبو عبيدة : من الناسين ، ونزع لقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) (١). وفي قراءة عبد الله ، وابن عباس : وأنا من الجاهلين ، ويظهر أنه تفسير للضالين ، لا قراءة مروية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الزمخشري : من الفاعلين فعل أولي الجهل ، كما قال يوسف لإخوته : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (٢) أو المخلصين ، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل : من الضالين ، يعني عن النبوة ، ولم يأتني عن الله فيه شيء ، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، أي من المحبين لله ، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل : والضلال يطلق ويراد به المحبة ، كما في قوله : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٣) ، أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في : تمنها وعبدت ، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) ، وهم كانوا قوما يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) (٤). وقرأ الجمهور : لما حرف وجوب لوجوب ، على قول سيبويه ، وظرفا بمعنى حين ، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية : لما بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي يخوفكم. وقرأ عيسى : حكما بضم الكاف ؛ والجمهور : بالإسكان. والحكم : النبوة.

__________________

(١) سورة البقرة ؛ ٢ / ٢٨٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٩.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٩٥.

(٤) سورة يوسف : ١٢ / ٨٩.

١٤٧

(وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) : درجة ثانية للنبوة ، فرب نبي ليس برسول. وقيل : الحكم : العلم والفهم.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) : وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) ؛ وذكر بهذا آخرا على ما بدأ به فرعون في قوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ). والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه‌السلام بالنعمة ، كأنه يقول : وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري. وقال قتادة : هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة ، كأنه يقول : أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك : وتلك نعمة ما لك أن تمنها ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله. والقول الأول فيه إنصاف واعتراف. وقال الأخفش : والفراء : قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار ، وحذفت لدلالة المعنى عليها ، ورده النحاس بأنها لا تحذف ، لأنها حرف يحدث معها معنى ، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئا ، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك ، وحكى : ترى زيدا منطلقا ، بمعنى : ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول : أخذه من ألفاظ العامة. وقال الضحاك : الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل : اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط نعمتك التي تمنّ بها. وقال الزمخشري : وأبي ، يعني موسى عليه‌السلام ، أن يسمي نعمته أن لا نعمة ، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل ، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم : تذليلهم واتخاذهم عبيدا ، يقال : عبدت الرجل وأعبدته ، إذا اتخذته عبدا ، قال الشاعر :

علام يعبدني قومي وقد كثرت

فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان

فإن قلت : وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت : تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة ، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ؛ ومحل أن عبدت الرفع ، عطف بيان لتلك ، ونظيره قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ

١٤٨

مُصْبِحِينَ) (١) ، والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع نصب ، المعنى أنها صارت نعمة عليّ ، لأن عبدت بني إسرائيل ، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء : بدل ، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين ، لم يسأل إذ ذاك فيقول : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل ، وكان في قوله : (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) دعاء إلى الإقرار بربوبية الله ، وإلى طاعة رب العالم ، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة ، وكان عالما بالله. ويدل عليه : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) (٢) ، ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية ، واستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي : كما يستفهم عن الأجناس ، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر ، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)؟ (٣) ولما سأله فرعون ، وكان السؤال بما التي هي سؤال عن الماهية ، ولم يمكن الجواب بالماهية ، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها ، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري : وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها ، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة ، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض ، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشا عن حقيقة الخاصة ما هي ، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل ، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك ؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول ، فتفتيش عما لا سبيل إليه ، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون ، ويدل عليه الكلام ، أن كون سؤاله إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه ، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره ، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦٦.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠١.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٤٩.

١٤٩

السلام؟ وأنه كان مقرا بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله : (وَما بَيْنَهُمَا) على التثنية ، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين : جنس السماء ، وجنس الأرض ؛ كما ثنى المظهر في قوله :

بين رماحي مالك ونهشل

اعتبارا للجنسين : وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال : كان عالما بالله ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله ، وهو قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار ، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال : كان على مذهب الحلولية القائلين : بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده ، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلها. انتهى. ومعنى : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفعكم ؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط ، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه‌السلام دعاه إلى التوحيد.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ) : هم أشراف قومه. قيل : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور ، وكانت للملوك خاصة. (أَلا تَسْتَمِعُونَ) : أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا ، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية : والفراعنة قبله كذلك ، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية. انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية ، وأقاموا ملوكا بمصر ، من زمان المعز إلى زمان العاضد ، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي‌الله‌عنه ، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها : فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام ، كان النصارى مستولين عليها ، فاستنقذها منهم. (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) : نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم ، وجاء في قوله : الأولين ، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية ، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود ، فمحال أن يكون وهو في العدم إلها لهم.

١٥٠

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه‌السلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليه‌السلام : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : فعدل إلى طريق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار.

وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه‌السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره موسى عليه‌السلام هنا بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فأجابه نمروذ بقوله : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (١) وهو الذي ذكره موسى عليه‌السلام هنا بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية : زاده موسى عليه‌السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ). وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي).

فإن قلت : كيف قال : أولا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، وآخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٨.

١٥١

قلت : لأين أوّلا ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤدّيا مؤدّاه؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّيا مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه‌السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١) ، فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.

ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، إن لك ربا بعثك رسولا إلينا. قال الزمخشري : وفي قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره : إن كنت من الصادقين فأت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلا ماضيا ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا تقديره فأت به. وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقا للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٠.

١٥٢

في زمان نبي ، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي ، أو على سبيل الإرهاص لنبي.

(فَأَلْقى عَصاهُ) : أي رماها من يده ، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه‌السلام. والثعبان : أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى (مُبِينٌ) : ظاهر الثعبانية ، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر. (وَنَزَعَ يَدَهُ) من جيبه ، (فَإِذا هِيَ) تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى (لِلنَّاظِرِينَ) : أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة ، وكان بياضا نورانيا. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال : فهل غيرها؟ فأخرج يده ، فقال : ما هذه؟ قال : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ ، قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ، فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ، قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ، فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ، قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ، قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ، إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

قال ابن عطية : وانتصب حوله على الظرف ، وهو في موضع الحال ، أي كائنين حوله ، فالعامل فيه محذوف ، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له ، قال : لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر ، نحو : مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولا ، فكأنه قيل : قال للذي حوله ، فلا موضع للعامل في الظرف ، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في حوله؟ قلت : هو منصوب نصبين : نصب في اللفظ ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف ، وذلك استقروا حوله ، وهذا يقدر في جميع الظروف ، والعامل في النصب المحلي ، وهو النصب على الحال. انتهى. وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.

١٥٣

ولما رأى فرعون أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثمّ من يقاومه ، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ، وبأنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) ، ليقوي تنفيرهم عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا يقبلوا قوله ؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه ، فصار مأمورا بعد أن كان آمرا. وتقدم الكلام في (فَما ذا تَأْمُرُونَ) وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته. ولما قال : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، عارضوا بقوله : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر. واليوم المعلوم : يوم الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) ، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما يقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شرا :

هل أنت باعث دينارا لحاجتنا

أو عند رب أخا عون بن مخراق

يريد : ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به. وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن غلبوا موسى عليه‌السلام ، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية ، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه‌السلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها ، وهي جواب وجزاء. و (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق به الباء محذوف ، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيما ، كما يقال للملوك : أمروا رضي‌الله‌عنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان الجاهلية. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا يرضون بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ، فحينئذ يستوثق منه. وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه ؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء : بسم الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا. وبين قوله : (قالَ لَهُمْ مُوسى) ، وقوله : (لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟

١٥٤

قلت : هو الله عزوجل ، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم ، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة ، ولك أن لا تقدر فاعلا ، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه ، أما أنه لا يقدر فاعل ، فقول ذاهب عن الصواب. وقال ابن عطية : قرأ البزي ، وابن فليح ، عن ابن كثير : بشد التاء وفتح اللام وشد القاف ، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل ، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة ، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل ، وليس ذلك بلازم كثيرا ما يكون الوصل مخالفا للوقف ، والوقف مخالفا للوصل ، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.

(قالُوا : لا ضَيْرَ) : أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب ، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال : ضاره يضيره ضيرا ، وضاره يضوره ضورا. (إِنَّا إِلى رَبِّنا) : أي إلى عظيم ثوابه ، أو : لا ضير علينا ، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي : لما آمنوا بأجمعهم ، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون ، فبالغ في التنفير من جهة قوله : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) موهما أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل. وبقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) ، صرح بما رمزه أولا من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم ، وبقوله : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، حيث أوعدهم وعيدا مطلقا ، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب ، فأجابوا بأن ذلك إن وقع ، لن يضير ، وفي قولهم : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ، نكتة شريفة ، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة ، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته. انتهى ملخصا. ويدفع هذا الأخير قولهم : (إِنَّا نَطْمَعُ) إلى آخره ، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا. والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله : (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (١). وقيل : يحتمل اليقين. قيل : كقول إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ) (٢).

وقرأ الجمهور : (أَنْ كُنَّا) ، بفتح الهمزة ، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب ، وأبو معاذ : إن كنا ، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط : وجاز حذف

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨٤.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٢.

١٥٥

الفاء من الجواب ، لأنه متقدم ، وتقديره : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنا نطمع ، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد ، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه ، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز ، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري : هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته ، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) (١) ، مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى : أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون ، فلا يحتمل النفي ، والتقدير : إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث : «إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل» ، أي ليحب. وقال الشاعر :

ونحن أباة الضيم من آل مالك

وإن مالك كانت كرام المعادن

أي : وإن مالك لكانت كرام المعادن ، وأول يعني أول المؤمنين من القبط ، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع. وقال الزمخشري : وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم ، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ، وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ، فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ، وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). تقدم الخلاف في (أَسْرِ) ، وأنه قرىء بوصل الهمزة وبقطعها في سورة هود. وقرأ اليماني : أن سر ، أمر من سار يسير. أمر الله موسى عليه‌السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر إلى تجاه البحر ، وأخبره أنهم سيتبعون. فخرج سحرا ، جاعلا طريق الشام على يساره ، وتوجه نحو

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١.

١٥٦

البحر ، فيقال له في ترك الطريق ، فيقول : هكذا أمرت. فلما أصبح ، علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل ، فخرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر ليحلقه العساكر. وذكروا أعدادا في أتباع فرعون وفي بني إسرائيل ، الله أعلم بصحة ذلك. (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ) : أي قال إن هؤلاء وصفهم بالقلة ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلا ، جمع السلامة الذي هو للقلة ، وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ، والظاهر تقليل العدد. قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالقلة : الذلة والقماءة ، ولا يريد قلة العدد ، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غفلتهم ، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا وتضيق صدورنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم يساره ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن ، لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه. انتهى. قال أبو حاتم : وقرأ من لا يؤخذ عنه : (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) ، وليست هذه موقوفة. انتهى. يعني أن هذه القراءة ليست موقوفة على أحد رواها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : (لَغائِظُونَ) : أي بخلافهم وأخذهم الأموال حين استعاروها ولم يردوها ، وخرجوا هاربين.

وقرأ الكوفيون ، وابن ذكوان ، وزيد بن علي : (حاذِرُونَ) ، بالألف ، وهو الذي قد أخذ يحذر ويجدد حذره ، وحذر متعد. قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) (١). وقال العباس بن مرداس :

وإني حاذر أنمي سلاحي

إلى أوصال ذيال صنيع

وقرأ باقي السبعة : بغير ألف وهو المتيقظ. وقال الزجاج : مؤدون ، أي ذوو أدوات وسلاح ، أي متسلحين. وقيل : حذرون في الحال ، وحاذرون في المآل. وقال الفراء : الحاذر : الخائف ما يرى ، والحذر : المخلوق حذرا. وقال أبو عبيدة : رجل حذر وحذر وحاذر بمعنى واحد. وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة ، وأنه يعمل كما يعمل حاذر ، فينصب المفعول به ، وأنشد :

حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار

وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن الفراء أيضا ، والكسائي : رجل حذر ، إذا كان الحذر في خلقته ، فهو متيقظ منتبه. وقرأ سميط بن عجلان ، وابن أبي

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٩.

١٥٧

عمار ، وابن السميفع : حادرون ، بالدال المهملة من قولهم : عين حدرة ، أي عظيمة ، والحادر : المتورم. قال ابن عطية : فالمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه : الحادر : السمين القوي الشديد ، يقال غلام حدر بدر. وقال صاحب اللوامح : حدر الرجل : قوي بأسه ، يقال : منه رجل حدر بدر ، إذا كان شديد البأس في الحرب ، ويقال : رجل حدر ، بضم الدال للمبالغة ، مثل يقظ. وقال الشاعر :

أحب الصبي السوء من أجل أمّه

وأبغضه من بغضها وهو حادر

أي سمين قوي. وقيل : مدجّجون في السلام. (فَأَخْرَجْناهُمْ) : الضمير عائد على القبط. (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) : بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله ابن عمر وغيره ، والجمهور : على أنها عيون الماء. وقال ابن جبير : المراد عيون الذهب. (وَكُنُوزٍ) : هي الأموال التي خربوها. قال مجاهد : سماها كنوزا لأنه لم ينفق في طاعة الله قط. وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار. قال صاحب التحبير : وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما. وقيل : هي كنوز المقطم ومطالبه. قال ابن عطية : هي باقية إلى اليوم. انتهى.

وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية ، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب. فكثير منهم يضع في ذلك أوراقا ليأكلوا أموال المصريين بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو لا يزداد إلا طلبا لذلك حتى يموت. وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر ، نحوا من خمسة وأربعين عاما ، فلم أعلم أن أحدا منهم حصل على شيء غير الفقر ؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء. يزعمون أن ثم آبارا ، وأنه يكتب أسماء في شقفة ، فتلقى في البئر ، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهبا وفضة وجوهرا وياقوتا. فهم دائما يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالا جزيلا ، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات ، يركنون إليها ويقولون بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل.

وقوله تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ). قال ابن لهيعة : هو الفيوم. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : هو المنابر للخطباء. وقيل : الأسرة في الكلل. وقيل : مجالس الأمراء

١٥٨

والأشراف والحكام. وقال النقاش : المساكن الحسان. وقيل : مرابط الخيل ، حكاه الماوردي. وقرأ قتادة ، والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك. قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، والجر على أنه وصف لمقام ، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك. انتهى. فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء بنفسه.

والظاهر أن قوله : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ، أنهم ملكوا ديار مصر بعد غرق فرعون وقومه ، لأنه اعتقب قوله : (وَأَوْرَثْناها) : قوله : و (فَأَخْرَجْناهُمْ) ، وقاله الحسن ؛ قال : كما عبروا النهر ، رجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم. وقيل : ذهبوا إلى الشام وملكوا مصر زمن سليمان. وقرأ الجمهور : (فَأَتْبَعُوهُمْ) : أي فلحقوهم. وقرأ الحسن ، والذماري : فاتبعوهم ، بوصل الألف وشد التاء. (مُشْرِقِينَ) : داخلين في وقت الشروق ، من شرقت الشمس شروقا ، إذا طلعت ، كأصبح : دخل في وقت الصباح ، وأمسى : دخل في وقت المساء. وقال أبو عبيدة : فاتبعوهم نحو الشرق ، كأنجد : إذا قصد نحو نجد. والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل. وقيل : مشرقين : أي في ضياء ، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة ، تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ، فعلى هذا يكون مشرقين حالا من المفعول.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) : أي رأى أحدهما الآخر ، (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) : أي ملحقون ، قالوا ذلك حين رأوا العدوّ القوي وراءهم والبحر أمامهم ، وساءت ظنونهم. وقرأ الأعمش : وابن وثاب : تراي الجمعان ، بغير همز ، على مذهب التخفيف بين بين ، ولا يصح القلب لوقوع الهمزة بين ألفين ، إحداهما ألف تفاعل الزائدة بعد الفاء ، والثانية اللام المعتلة من الفعل. فلو خففت بالقلب لاجتمع ثلاث ألفات متسقة ، وذلك مما لا يكون أبدا ، قاله أبو الفضل الرازي. وقال ابن عطية : وقرأ حمزة : تريء ، بكسر الراء ويمد ثم يهمز ؛ وروى مثله عن عاصم ، وروي عنه أيضا مفتوحا ممدود ، أو الجمهور يقرؤونه مثل تراعى ، وهذا هو الصواب ، لأنه تفاعل. وقال أبو حاتم : وقراءة حمزة هذا الحرف محال ، وحمل عليه ، قال : وما روي عن ابن وثاب والأعمش خطأ. انتهى. وقال الأستاذ أبو جعفر أحمد ابن الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ،

١٥٩

هو ابن الباذش ، في كتاب الإقناع من تأليفه : تراءى الجمعان في الشعراء. إذا وقف عليها حمزة والكسائي ، أما لا الألف المنقلبة عن لام الفعل ، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا لإمالة الألف المنقلبة ؛ ففي قراءته إمالة الإمالة. وفي هذا الفعل ، وفي راءى ، إذا استقبله ألف وصل لمن أمال للإمالة ، حذف السبب وإبقاء المسبب ، كما قالوا : صعقى في النسب إلى الصعق. وقرأ الجمهور : لمدركون ، بإسكان الدال ؛ والأعرج ، وعبيد بن عمير : بفتح الدال مشددة وكسر الراء ، على وزن مفتعلون ، وهو لازم ، بمعنى الفناء والاضمحلال. يقال : منه ادّرك الشيء بنفسه ، إذا فنى تتابعا ، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة ، نص على كسرها أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) ، والزمخشري في (كشافه) وغيرهما. وقال أبو الفضل الرازي : وقد يكون ادّرك على افتعل بمعنى أفعل متعديا ، فلو كانت القراءة من ذلك ، لوجب فتح الراء ، ولم يبلغني ذلك عنهما ، يعني عن الأعرج وعبيد بن عمير. قال الزمخشري : المعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد ، ومنه بيت الحماسة :

أبعد بني أمي الذين تتابعوا

أرجى الحياة أم من الموت أجزع

(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) : زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا ، والمعنى : لن يدركوكم لأن الله وعدكم بالنصر والخلاص منهم ، إن معي ربي سيهدين عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه. وقيل : سيكفيني أمرهم. ولما انتهى موسى إلى البحر ، قال له مؤمن آل فرعون ، وكان بين يدي موسى : أين أمرت ، وهذا البحر أمامك وقد غشيتك آل فرعون؟ قال : أمرت بالبحر ، ولا يدري موسى ما يصنع. ورويت هذه المقالة عن يوشع ، قالها لموسى عليه‌السلام ، فأوحى الله إليه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) ، فخاض يوشع الماء. وضرب موسى بعصاه ، فصار فيه اثنا عشر طريقا ، لكل سبط طريق. أراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل فعله ، ولكنه بقدرة الله إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته ، ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا ، وتقدّم الخلاف في مكان هذا البحر.

(فَانْفَلَقَ) : ثم محذوف تقديره : فضرب فانفلق. وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب ، وفاء انفلق. والفاء في انفلق هي فاء ضرب ، فأبقى من كل ما يدل على المحذوف ، أبقيت الفاء من فضرب واتصلت بانفلق ، ليدل على ضرب المحذوفة ، وأبقى انفلق ليدل على الفاء المحذوفة منه. وهذا قول شبيه بقول صاحب

١٦٠