البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

الذي في البحر وما يمده ، كما قال : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) (١) الآية. وقال الزمخشري : فإن قلت : زعمت أن قوله : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) ، حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال ، قلت : هو كقوله :

وقد اغتدي والطير في وكناتها

وجئت والجيش مصطف ، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف. يجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض. انتهى. وهذا الذي جعله سؤالا وجوابا من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدءون فيه ، وهو أن الجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، لا يحتاج إلى ضمير يربط ، واكتفى بالواو فيها. وأما قوله : وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف ، فليس بجيد ، لأن الظرف إذا وقع حالا ، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف. والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، فليس فيها ضمير منتقل. وأما قوله : ويجوز ، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين ، حيث يجعلون أل عوضا من الضمير. وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل : (مِنْ شَجَرَةٍ) ، على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاما. انتهى. وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (٢) ، (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) (٣) ، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) (٤) ؛ وكقول العرب : هو أول فارس ، وهذا أفضل عالم ، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب ، وأول الفرسان. أخبروا بالمفرد والنكرة ، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل ، وهو مهيع في كلام العرب معروف. وكذلك يتقدر هذا من الشجرات ، أو من الأشجار. وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة ، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم ، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به ، ولا يحيط إلا الله تعالى.

وقرأ الجمهور : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ، بالألف والتاء. وقرأ زيد بن علي : كلمة الله ، على التوحيد. وقرأ الحسن : ما نفد ، بغير تاء ، كلام الله. قال أبو علي : المراد بالكلمات ، والله أعلم : ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود. وقالت فرقة :

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٦.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٤٩.

٤٢١

المراد بكلمات الله : معلوماته. وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار ، فكيف بكلمة؟ انتهى. وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة ، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية ، أو أضيفت ، عمت وصارت لا تخص القليل ، والعام مستغرق لجميع الأفراد. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : كامل القدرة ، فمقدوراته لا نهاية لها. (حَكِيمٌ) : كامل العلم ، فمعلوماته لا نهاية لها. ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر. (إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) : إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى : كونوا فيكونون ، فالقليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت في قدرته. وقال النقاش : هذه الآية في أبيّ بن خلف ، وأبي الأسد ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، قالوا : يا محمد : إنا نرى الطفل يخلق بتدريج ، وأنت تقول : الله يعيدنا دفعة واحدة ، فنزلت. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) : سميع كل صوت ، بصير كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ، وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ، إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

(يُولِجُ اللَّيْلَ) : الجملتين شرحت في آل عمران وهنا. (إِلى أَجَلٍ) ، ويدل على الانتهاء ، أي : يبلغه وينتهي إليه. وفي الزمر : (لِأَجَلٍ) (١) ، ويدل على الاختصاص بجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمى ، وجري الشمس مختص بآخر السنة ، وجري القمر بآخر الشهر ؛ فكلا المعنيين متناسب لجريهما ، فلذلك عدى بهما. وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : بما يعملون ، بياء الغيبة. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) الآية ، تقدم شرحها في الحج وهنا.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٥.

٤٢٢

(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ، وفي الحج (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) (١) ، بزيادة هو. ولما ذكر تعالى تسخير النيرين وامتنانه بذلك علينا ، ذكر أيضا من سخر الفلك من العالم الأرضي بجامع ما اشتركا فيه من الجريان. وقرأ الجمهور : (بِنِعْمَتِ اللهِ) على الإفراد اللفظي. وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر : بنعمات الله ، بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء. وقرأ ابن أبي عبلة : بفتح النون وكسر العين بالألف والتاء والباء ، وتحتمل السببية ، أي تجري بسبب الريح وتسخير الله ، وتحتمل الحالية ، أي مصحوبة بنعمة الله ، وهي ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات. وقال ابن عطية : الباء للالصاق. انتهى. وقرأ موسى بن الزبير : (الْفُلْكَ) ، بضم اللام. و (صَبَّارٍ شَكُورٍ) : بنيتا مبالغة ، وفعال أبلغ لزيادة حروفه.

ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر ، وكأن في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف ، وتقدم ذكر النعمة ، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر ، وبالشكر على ما أنعم به تعالى ، وشبه الموج في ارتفاعه واسوداده واضطرابه بالظلل ، وهو السحاب. وقيل : كالظلل : كالجبال ، أطلق على الجبل ظلة. وقرأ محمد بن الحنفية : كالظلال ، وهما جمع ظلة ، نحو : قلة وقلل وقلال. وقوله : (وَإِذا غَشِيَهُمْ) ، فيه التفات خرج من ضمير الخطاب في (لِيُرِيَكُمْ) إلى ضمير الغيبة في (غَشِيَهُمْ). و (مَوْجٌ) : اسم جنس يفرق بينه وبين مفرده بتاء التأنيث ، فهو يدل على الجمع ، ولذلك شبهه بالجمع.

(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ، قال الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم. وقال مجاهد : مقتصد على كفره : أي يسلم لله ويفهم أن نحو هذا من القدرة ، وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها. قيل : أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر. قال الزمخشري : يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا ينبغي لأحد قط. انتهى. وكثر استعمال الزمخشري قط ظرفا ، والعامل فيه غير ماض ، وهو مخالف لكلام العرب في ذلك. فقبل حذف مقابل فمنهم مؤمن مقتصد تقديره : ومنهم جاحد ودل عليه ، قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا). وعلى هذا القول يكون مقتصد معناه : مؤمن مقتصد في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء ، موف بما عاهد الله عليه في البحر ، وختم هنا ببنيتي مبالغة ، وهما : (خَتَّارٍ) ، و (كَفُورٍ). فالصبار الشكور معترف بآيات الله ، والختار الكفور يجحد بها. وتوازنت هذه الكلمات لفظا ومعنى. أما لفظا فظاهر ، وأما معنى فالختار هو الغدار ، والغدر

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٦٢.

٤٢٣

لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبار يفوّض أمره إلى الله ، وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر على العهد ؛ وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة. ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة ، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.

(لا يَجْزِي) : لا يقضي ، ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي ، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه ، بدأ به أولا ، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد ، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال ، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل ، لأنه يدل على الثبوت ، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة. والجملة من لا يجزي صفة ليوم ، والضمير محذوف ، أي منه ، فإما أن يحذف برمته ، وإما على التدريج حذف الخبر ، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف. وقرأ الجمهور : لا يجزي مضارع جزى ؛ وعكرمة : بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول ؛ وأبو السماك ، وعامر بن عبد الله ، وأبو السوار : لا يجزىء ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ، ومعناه : لا يغني ؛ يقال : أجزأت عنك جزاء فلان : أي أغنيت. ويجوز في (وَلا مَوْلُودٌ) وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على والد ، والجملة من قوله : (هُوَ جازٍ) ، صفة لمولود. والثاني : أن يكون مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، وجاز خبره ، والجملة خبر للأول ، وجاز الابتداء به ، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك ، وهو النفي. وذهل المهدوي فقال : لا يكون (مَوْلُودٌ) مبتدأ ، لأنه نكرة وما بعده صفة ، فيبقى بلا خبر و (شَيْئاً) منصوب بجاز ، وهو من باب الأعمال ، لأنه يطلبه (لا يَجْزِي) ويطلبه (جازٍ) ، فجعلناه من أعمال الثاني ، لأنه المختار. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : نغرنكم ، بالنون الخفيفة. وقرأ سماك بن حرب ، وأبو حيوة : الغرور بالضم ، وهو مصدر ؛ والجمهور : بالفتح ، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان ، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.

وقال الزمخشري : فإن قلت قوله : (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) هو وارد على طريق من التوكيد ، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه. قلت : الأمر كذلك ، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : (هُوَ) ، وقوله : (مَوْلُودٌ) ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين ، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا

٤٢٤

لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئا ، فلذلك جيء به على الطريق الأوكد. ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للوالد الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده ، لأن الولد يقع على الولد ، وولد الولد بخلاف المولود ، فإنه لمن ولد منك.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : يروى أن الحارث بن عمارة المحاربي قال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإني لقد ألقيت حباتي في الأرض ، وقد أبطأت عني السماء ، متى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي ، فقد اشتملت على ما في بطنها ، أذكر أم أنثى؟ وعلمت ما علمت أمس ، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته ، فأين أموت؟ فنزلت. وفي الحديث : «خمس لا يعلمهنّ إلا الله ، وتلا هذه الآية. وعلم : مصدر أضيف إلى الساعة ، والمعنى : علم يقين ، وفيها : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في آياته من غير تقديم ولا تأخير. (ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أم أنثى ، تام أو ناقص ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) ، برة أو فاجرة. (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، وربما عزمت على أحدهما فعلمت ضده. (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) : وربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ، ثم تدفن في مكان لم يخطر لها ببال قط. وأسند العلم إلى الله ، والدراية للنفس ، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة ؛ ولذا وصف الله بالعالم ، ولا يوصف بالداري. وأما قوله :

لا هم لا أدري وأنت الداري

فقول عربي جلف جاهلي ، جاهل بما يطلق على الله من الصفات ، وما يجوز منها وما يمتنع. وقرأ الجمهور : (بِأَيِّ أَرْضٍ). وقرأ موسى الأسواري ، وابن أبي عبلة : بأية أرض ، بتاء التأنيث لإضافتها إلى الموت ، وهي لغة قليلة فيهما. كما أن كلّا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث ، تقول : كلهنّ فعلن ذلك ، وتدري معلقة في الموضعين. فالجملة من قوله : (ما ذا تَكْسِبُ) في موضع مفعول (تَدْرِي) ، ويجوز أن يكون ماذا كلها موصولا منصوبا بتدري ، كأنه قال : وما تدري نفس الشيء التي تكسب غدا. وبأي متعلق بتموت ، والباء ظرفية ، أي : في أي أرض؟ فالجملة في موضع نصب بتدري. ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس ، لأنها جواب لسائل سأل ، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو ، وهذه الخمس.

٤٢٥

سورة السّجدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا

٤٢٦

الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)

(الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ، اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ

٤٢٧

مِمَّا تَعُدُّونَ ، ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ).

هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات : (تَتَجافى) إلى (تُكَذِّبُونَ). وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً). قال كفار قريش : لم يبعث الله محمدا إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت. ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة.

و (الْكِتابِ) : القرآن. قال الحوفي : (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) خبره. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و (الم) بدل على الحروف. وقال أبو البقاء : (الم) مبتدأ ، و (تَنْزِيلُ) خبره بمعنى المنزل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل أيضا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) الخبر ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، و (لا رَيْبَ) حال من الكتاب ، وأن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) اعتراض ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الخبر. وقال ابن عطية : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق بقوله : (لا رَيْبَ) ، أي لا شك ، من جهة الله تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى. والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله : (رَيْبَ الْمَنُونِ) (١). انتهى.

وإذا كان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى

__________________

(١) سورة الطور : ٥٢ / ٣٠.

٤٢٨

غيره وبينه ، لم نقل فيه : إن فيه تقديما وتأخيرا ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضا. وأما كونه متعلقا بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقا هو المقصود ، لأن المعنى : لا مدخل للريب فيه ، إنه تنزيل الله ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب. وقولهم : (افْتَراهُ) ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله ، فقال ذلك حسدا ، أو حكما من الله عليه بالضلال. وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلا من رب العالمين. ويشهد لوجاهته قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين. وكذلك قوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولا أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه. ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكارا لقولهم وتعجبا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك. انتهى ، وهو كلام فيه تكثير. وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائنا من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر. والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم.

أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولا بخصوصيتهم قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) ، أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصا بمن باشر ، بل يكون نذيرا لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيسى ومحمد ، عليهما‌السلام.

وقال الزمخشري : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، كقوله : (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) (٢) ، وذلك أن قريشا لم يبعث الله إليهم رسولا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة. قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ،

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٦.

٤٢٩

وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان. انتهى. والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله : (ما أَتاهُمْ) ، و (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ، أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم. (مِنْ نَذِيرٍ) : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك. وكذلك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) (١) : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين. قال تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) (٢) ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن. قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣) ، و (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) (٤) ، (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٥) ، (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٦).

ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعا لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سببا لهدايته. و (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) : ترجية من رسول الله ، كما كان في قوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٧) ، من موسى وهارون. قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة. انتهى. يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى الله عن ذلك. ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم. وتقدم الكلام على (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في الأعراف. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصرا وشفيعا. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه؟

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، الأمر : واحد الأمور. قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك : ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه. (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) : أي يصعد ، خبر ذلك (فِي

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٦.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١٣.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١٩.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ١٥.

(٦) سورة القصص : ٢٨ / ٥٩.

(٧) سورة طه : ٢٠ / ٤٤.

٤٣٠

يَوْمٍ) من أيام الدنيا ، (مِقْدارُهُ) : أن لو سير فيه السير المعروف من البشر (أَلْفَ سَنَةٍ) ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وقال مجاهد أيضا : الضمير في مقداره عائد على التدبير ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر. وقال مجاهد أيضا : يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها. فالمعنى : أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخرا ، لأن عاقبة الأمور إليه. وقيل : المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فينزل القضاء والقدر ، ثم تعرج إليه يوم القيامة ، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم ، حيث ينقطع أمر الأمراء ، أو أحكام الحكام ، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة ، وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل ، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى. وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. قال الزمخشري : وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ، ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ، ثم لا يعمل به ، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه ، إلا في مدة متطاولة ، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده ، وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ، ودل عليه قوله على أثره : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). انتهى.

وقيل : يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض ، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب ، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة. والضمير في (إِلَيْهِ) عائد إلى السماء ، لأنها تذكر ؛ وقيل : إلى الله. وقال عبد الله بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل للرياح والجنود ، وميكائيل للقطر والماء ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم. وقيل : العرش موضع التدبير ، وما دونه موضع التفصيل ، وما دون السموات موضع التعريف. وقال السدي : الأمر : الوحي. وقال مقاتل : القضاء. وقال غيرهما : أمر الدنيا. قال الزجاج : تقول عرجت في السلم أعرج ، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج. وقرأ ابن أبي عبلة : (يَعْرُجُ) مبنيا للمفعول ؛ والجمهور : مبنيا للفاعل. قال أبو عبد الله الرازي : وفي هذا لطيفة ، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق ، وأشار

٤٣١

إلى عظمة الملك ؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، والروح من عالم الأمر ، كما قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) ، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان. والمراد دوام النفاد ، كما يقال في العرف : طال زمان فلان ، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة. فأشار إلى عظمة الملك بالمكان ، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه ، والزمان بحكمه وأمره. انتهى. وهو كلام ليس جاريا على فهم العرب. وقرأ الجمهور : (مِمَّا تَعُدُّونَ) ، بتاء الخطاب. وقرأ السملي ، وابن وثاب ، والأعمش ، والحسن : بياء الغيبة ، بخلاف عن الحسن. وقرأ جناح بن حبيش : ثم تعرج الملائكة ، بزيادة الملائكة ، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.

(ذلِكَ) : أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير ، (عالِمُ الْغَيْبِ) : والغيب الآخرة ، (وَالشَّهادَةِ) : الدنيا ، أو الغيب : ما غاب عن المخلوقين ، والشهادة : ما شوهد من الأشياء ، قولان. وقرأ زيد بن علي : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : بخفض الأوصاف الثلاثة ؛ وأبو زيد النحوي : بخفض (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). وقرأ الجمهور : برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك ، أو الأول خبر والاثنان وصفان ، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر ، وهو فاعل بيعرج ، أي ثم يعرج إليه ذلك ، أي الأمر المدبر ، ويكون عالم وما بعده بدلا من الضمير في إليه. وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر ، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه. وقرأ الجمهور : خلقه ، بفتح اللام ، فعلا ماضيا صفة لكل أو لشيء. وقرأ العربيان ، وابن كثير : بسكون اللام ، والظاهر أنه بدل اشتمال ، والمبدل منه كل ، أي أحسن خلق كل شيء ، فالضمير في خلقه عائد على كل. وقيل : الضمير في خلقه عائد على الله ، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، كقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) (٢) ، وهو قول سيبويه ، أي خلقه خلقا. ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول ، وبأنه أبلغ في الامتنان ، لأنه إذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، كأن أبلغ من : أحسن خلق كل شيء ، لأنه قد يحسن الخلق ، وهو المجاز له ، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا. فإذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ، بمعنى : أنه وضع كل شيء في موضعه. انتهى.

وقيل : في هذا الوجه ، وهو عود الضمير في خلقه على الله ، يكون بدلا من كل

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٨.

٤٣٢

شيء ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة. ومعنى (أَحْسَنَ) : حسن ، لأنه ما من شيء خلقه إلّا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة. فالمخلوقات كلها حسنة ، وإن تفاوتت في الحسن ، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها. ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنة محكمة. وعلى قراءة من سكن لام خلقه ، قال مجاهد : أعطى كل جنس شكله ، والمعنى : خلق كل شيء على شكله الذي خصه به. وقال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه ، كأنه أعلمهم ذلك ، فيكون كقوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) (١). وقرأ الجمهور : بدأ بالهمز ؛ والزهري : بالألف بدلا من الهمزة ، وليس بقياس أن يقول في هدأ : هدا ، بإبدال الهمزة ألفا ، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين ؛ على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت ونظائره. وقيل : وهي لغية ؛ والأنصار تقول في بدأ : بدى ، بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وهي لغة لطي. يقولون في فعل هذا نحو بقي : بقأ ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى ، ثم صار بدأ ، أو على لغة الأنصار. وقال ابن رواحة :

باسم الإله وبه بدينا

ولو عبدنا غيره شقينا

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) : هو آدم ، عليه الصلاة والسلام. (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) : أي ذريته. نسل من الشيء : انفصل منه. (ثُمَّ سَوَّاهُ) : قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب ، لا يعلم حقيقته إلا هو ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى. (وَجَعَلَ لَكُمُ) : التفات ، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب ، وتعديد للنعم ، وهي شاملة لآدم ؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته. والظاهر أن (وَقالُوا) الضمير لجمع ، وقيل : القائل أبيّ بن خلف ، وأسند إلى الجمع لرضاهم به ، والناصب للظرف محذوف يدل عليه (أَإِنَّا) وما بعدها تقديره انبعث. (أَإِذا ضَلَلْنا) ، ومن قرأ إذا بغير استفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي : إذا ضللنا في الأرض نبعث ، ويكون إخبارا منهم على طريق الاستهزاء. وكذلك من قرأ : إنا على الخبر ، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر. وقرأ الجمهور : بفتح اللام ، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة ، وهي اللغة الشهيرة الفصيحة ، وهي لغة نجد. قال مجاهد : هلكنا ، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك ، وأصله من : ضل الماء في اللبن ، إذا ذهب. وقال قطرب : ضللنا : غبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة الذبياني :

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥٠.

٤٣٣

فآب مضلوه بعين جلية

وغودر بالجولان حزم ونائل

وقرأ يحيى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب : بكسر اللام ، والمضارع بفتحها ، وهي لغة أبي العالية. وقرأ أبو حيوة : ضللنا ، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة ، ورويت عن علي. وقرأ علي ، وابن عباس ، والحسن ، والأعمش ، وأبان بن سعيد بن العاص : صللنا ، بالصاد المهملة وفتح اللام ، ومعناه : أنتنا. وعن الحسن : صللنا ، بكسر اللام ، يقال : صل يصل ، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ؛ وصل يصل : بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ؛ وأصل يصل ، بالهمزة على وزن أفعل. قال الشاعر :

تلجلج مضغة فيها أبيض

أصلت فهي تحت الكشح داء

وقال الفراء : معناه صرنا بين الصلة ، وهي الأرض اليابسة الصلبة. وقال النحاس : لا نعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال : أصل اللحم وصل ، وأخم وخم إذا أنتن ، وحكاه غيره. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) : جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه. ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، من قبض أرواحهم ، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث. و (مَلَكُ الْمَوْتِ) : اسمه عزرائيل ، ومعناه عبد الله. وقرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) ، مبنيا للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنيا للفاعل.

(وَلَوْ تَرى) : الظاهر أنه خطاب للرسول ، وقيل : له ولأمته ، أي : ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب. وقال أبو العباس : المعنى يا محمد قل للمجرم. (وَلَوْ تَرى) : رأى أن الجملة معطوفة على (يَتَوَفَّاكُمْ) ، داخلة تحت (قُلْ) ، فلذلك لم يجعله خطابا للرسول. والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني ، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، والجواب محذوف ، أي لرأيت أسوأ حال يرى. ولو تعليق في الماضي ، وإذ ظرف للماضي ، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعا أتى بهما تنزيلا منزلة الماضي. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون خطابا لرسول الله ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به التمني ، كأنه قيل : وليتك ترى ، والتمني له ، كما كان الترجي له في : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له ، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو امتناعية ، وقد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمرا فظيعا. ويجوز أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم إن

٤٣٤

أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا يريد به مخاطبا بعينه ، وكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه. انتهى. والتمني بلو في هذا الموضع بعيد ، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد ، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهي عبارة سيبويه ، وقوله قد حذف جوابها وتقديره : وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها ، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني ، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه. قال الشاعر :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب أي زير

بيوم الشعشمين لقر عينا

وكيف لقاء من تحت القبور

وقال الزمخشري : وقد تجيء لو في معنى التمني ، كقولك : لو تأتيني فتحدثني ، كما تقول : ليتك تأتيني فتحدثني. فقال ابن مالك : إن أراد به الحذف ، أي وددت لو تأتيني فصحيح ، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح ، لأنها لو كانت موضوعة له ، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني. لا يقال : تمنيت ليتك تفعل ، ويجوز : تمنيت لو تقوم. وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي ، وبين إلا واستثنى. انتهى. (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) : مطرقوها ، من الذل والحزن والهم والغم والذم. وقرأ زيد بن علي : نكسوا رؤوسهم ، فعلا ماضيا ومفعولا ؛ والجمهور : اسم فاعل مضاف. (عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي عند مجازاته ، وهو مكان شدة الخجل ، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل. (رَبَّنا) : على إضمار يقولون ، وقدره الزمخشري : يستغيثون بقولهم : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما كنا نكذب ؛ (وَسَمِعْنا) : ما كنا ننكر ؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك ، وسمعنا تصديق رسلك ، وكنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا ، فارجعنا إلى الدنيا. (إِنَّا مُوقِنُونَ) : أي بالبعث ، قاله النقاش ؛ وقيل : مصدقون بالذي قال الرسول ، قاله يحيى بن سلام. وموقنون : مشعر بالالتباس في الحال ، أي حين أبصروا وسمعوا. وقيل : موقنون : زالت الآن عنا الشكوك ، ولم نكن في الدنيا نتدبر ، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع. وقيل : لك الحجة ، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا ، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا ، وهذا اعتراف منهم.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ

٤٣٥

لا يَسْتَكْبِرُونَ ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ، أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).

(لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) : أي اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (١) ، و (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (٢) ، و (لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (٣). وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر. ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ)؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها. ثم قال : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) على المقابلة : أي جازيناكم جزاء نسيانكم. وقيل : هو بمعنى الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة. انتهى. وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة. وقالت الإمامية : يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحدا ، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم ، فلا يجب على الله هداية الكل إليها. قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ؛ فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى. و (هذا) : صفة ليومكم ، ومفعول (فَذُوقُوا) محذوف ، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم ؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم. وفي استئناف قوله : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) : أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٥.

(٣) سورة هود : ١١ / ١١٨.

٤٣٦

سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم ؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير ، وقول الهجر ، وإظهار التكبر ؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن. وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع. وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ للسجدة يركع ، واستدل بقوله : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (١). (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) : أي ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه. قال عبد الله بن رواحة :

نبي تجافى جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وقال الزجاج والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق. والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ، الواحد مضجع ، أي هم منتبهون لا يعرفون نوما. وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم. وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول. وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقال الحسن : هو التهجد ؛ وقال أيضا : هو وعطاء : هو العتمة. وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والعشاء ، (يَدْعُونَ) : حال ، أو مستأنف خوفا وطمعا ، مفعول من أجله ، أو مصدران في موضع الحال. والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى الله ، وقيل : الصلاة.

وقرأ الجمهور : (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) ، فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ؛ وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب : بسكون لياء ، فعلا مضارعا للمتكلم ؛ وابن مسعود : وما نخفي ، بنون العظمة ؛ والأعمش أيضا : أخفيت. وقرأ محمد بن كعب : ما أخفي ، فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : (مِنْ قُرَّةِ) ، على الإفراد. وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعوف العقيلي : من قرات ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش ؛ و (ما أُخْفِيَ) يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون (تَعْلَمُ) متعلقة. والجملة في موضع المفعول ، إن كان (تَعْلَمُ) مما عدى لواحد ؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين ، وتقدم تفسيره في (قُرَّتُ عَيْنٍ) (٢) في الفرقان. وفي الحديث ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٤.

٤٣٧

بشر ، اقرأوا إن شئتم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)». وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره. و (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) : نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها. وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالا في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح. وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين. انتهى ، وهذه نزغة اعتزالية.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) ، قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة. تلاحيا ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لسانا ، وأحدّ سنانا ، وأرد للكتيبة. فقال له علي : اسكت ، فإنك فاسق. قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما. وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط. فعلى هذا تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدينة ، وإنما قتل بطريق مكة ، منصرف بدر. والجمع في (لا يَسْتَوُونَ) ، والتقسيم بعده ، حمل على معنى من. وقيل : (لا يَسْتَوُونَ) لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع. وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد. والجمهور : (جَنَّاتُ) بالجمع. وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل : هي عن يمين العرش. وقرأ الجمهور : (نُزُلاً) بضم الزاي ؛ وأبو حيوة : بإسكانها. والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاما فيما يعد للضيف. (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) : أي بالكفر ، (فَمَأْواهُمُ النَّارُ). قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١). انتهى وهذا فيه بعد. وإنما يذهب إلى مثل (فَبَشِّرْهُمْ) إذا كان مصرحا به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع. أما أن تضمر شيئا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد.

و (الْعَذابِ الْأَدْنى) ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال. وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٤.

٤٣٨

بدر. وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر. وقال النخعي ، ومقاتل : هو السّنون التي أجاعهم الله فيها. وقال ابن عباس أيضا : هو الحدود. وقال أبيّ أيضا : هو البطشة واللزام والدخان. و (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة. وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل : هو القتل والسبي والأسر. وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب. وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون. وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان. وقيل : لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله : (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً). وسميت إرادة الرجوع رجوعا ، كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (١). انتهى. ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر. لكن الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل. والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.

وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئا كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ؛ وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالا على عجزك. انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام. (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ، بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجدا. (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ، قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ؛

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦.

٤٣٩

والعادة ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز ، ومنه ثم في بيت الشاعر :

ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى. (مِنَ الْمُجْرِمِينَ) : عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم ؛ والإجرام هنا هو : الكفر. وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) إلى قوله : (بِقَدَرٍ) (١). وفي الحديث : «ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالما».

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ).

لما قرر الأصول الثلاثة : الرسالة ، وبدء الخلق ، والمعاد ، عاد إلى الأصل الذي بدأ به ، وهو الرسالة التي ليست بدعا في الرسالة ، إذ قد سبق قبلك رسل. وذكر موسى عليه‌السلام ، لقرب زمانه ، وإلزاما لمن كان على دينه ؛ ولم يذكر عيسى ، لأن معظم شريعته مستفاد من التوراة ، ولأن أتباع موسى لا يوافقون على نبوته ، وأتباع عيسى متفقون على نبوة موسى.

و (الْكِتابَ) : التوراة. وقرأ الحسن : في مرية ، بضم الميم ، والظاهر أن الضمير عائد على موسى ، مضافا إليه على طريق المفعول ، والفاعل محذوف ضمير الرسول ، أي من لقائك موسى ، أي في ليلة الإسراء ، أي شاهدته حقيقة ، وهو النبي الذي أوتي التوراة ، وقد وصفه الرسول فقال : «آدم طوال جعد ، كأنه من رجال شنوءة حين رآه ليلة الإسراء» ، قاله أبو العالية وقتادة وجماعة من السلف. وقال المبرد : حين امتحن الزجاج بهذه المسألة.

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٧ ـ ٤٩.

٤٤٠