البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

وقيل : عائد على الكتاب ، فإما مضاف إليه على طريق الفاعل والمفعول محذوف ، أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه ، وإما بالعكس ، أي من لقاء موسى الكتاب وتلقيه. وقيل : يعود على الكتاب على تقدير مضمر ، أي من لقاء مثله ، أي : إنا آتيناك مثل ما آتينا موسى ، ولقناك بمثل ما لقن من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقنت مثله ولقيت نظيره ، ونحوه من لقائه قوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) (١). وقال الحسن : يعود على ما تضمنه القول من الشدة والمحنة التي لقي موسى ، وذلك إن إخباره بأنه أتى موسى الكتاب كأنه قال : ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله ، فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من المحنة بالناس. انتهى ، وهذا قول بعيد. وأبعد من هذا ، من جعله عائدا على ملك الموت الذي تقدم ذكره ، والجملة اعتراضية. وقيل : عائد على الرجوع إلى الآخرة ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ثم إلى ربكم ترجعون.

(فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) : أي من لقاء البعث ، وهذه أنقال كان ينبغي أن ينزه كتابنا عن نقلها ، ولكن نقلها المفسرون ، فاتبعناهم. والضمير في (وَجَعَلْناهُ) لموسى ، وهو قول قتادة. وقيل : للكتاب ، جعله هاديا من الضلالة ؛ وخص بني إسرائيل بالذكر ، لأنه لم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ) : أي من بني إسرائيل ، (أَئِمَّةً) : قادة يقتدى بهم. وقرأ الجمهور : (لَمَّا صَبَرُوا) ، بفتح اللام وشد الميم. وعبد الله وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، ورويس : بكسر اللام وتخفيف الميم. (وَكانُوا) : يحتمل أن يكون معطوفا على (صَبَرُوا) ، فيكون داخلا في التعليق. ويحتمل أن يكون عطفا على (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ). وقرأ عبد الله أيضا : بما صبروا ، بباء الجر ، والضمير في منهم ظاهره يعود على بني إسرائيل. والفصل : يوم القيامة يعم الخلق كلهم. (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : تقدم الكلام على نحو هذه الآية إعرابا وقراءة وتفسيرا في طه ، إلا أن هنا : (مِنْ قَبْلِهِمْ) و (يَسْمَعُونَ) ، وهناك : (قَبْلِهِمْ) ، و (لِأُولِي النُّهى) (٢). ويسمعون ، والنهى من الفواصل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) : أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا ، ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث ، وتقدّم تفسير (الْجُرُزِ) في الكهف ، وكل أرض جزر داخلة في هذا ، فلا تخصيص لها بمكان معين. وقال ابن عباس : هي أرض أبين من اليمن ، وهي أرض تشرب بسيول لا تمطر. وقرىء :

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٨.

٤٤١

الجرز ، بسكون الراء. (فَنُخْرِجُ بِهِ) : أي بالماء ، وخص الزرع بالذكر ، وإن كان يخرج الله به أنواعا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره ، تشريفا للزرع ، ولأنه أعظم ما يقصد من النبات ، وأوقع الزرع موقع النبات. وقدمت الأنعام ، لأن ما ينبت يأكله الأنعام أول فأول ، من قبل أن يأكل بنو آدم الحب. ألا ترى أن القصيل ، وهو شعير يزرع ، تأكله الأنعام قبل أن يسبل ؛ والبرسيم والفصفصة وأمثال ذلك تبادره الأنعام بالأكل قبل أن يأكل بنو آدم حب الزرع ، أو لأنه غذاء الدواب ، والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره ، أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف ، وهم بنو آدم؟ وقرأ أبو حيوة ، وأبو بكر في رواية : يأكل ، بالياء من أسفل. وقرأ الجمهور : (يُبْصِرُونَ) ، بياء الغيبة ؛ وابن مسعود : بتاء الخطاب. وجاءت الفاصلة : (أَفَلا يُبْصِرُونَ) ، لأن ما سبق مرئي ، وفي الآية قبله مسموع ، فناسب : (أَفَلا يَسْمَعُونَ). ثم أخبر تعالى عن الكفرة ، باستعجال فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب. و (الْفَتْحُ) : الحكم ، قاله الجمهور ، وهو الذي يترتب عليه قوله : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) إلخ ، ويضعف قول الحسن ومجاهد : فتح مكة ، لعدم مطابقته لما بعده ، لأن من آمن يوم فتح مكة ، إيمانه ينفعه ، وكذا قول من قال : يوم بدر. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي لا يؤخرون عن العذاب. ولما عرف غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزء ، وقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأن قد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم ، فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في حلول العذاب ، فلم تنظروا ، فيوم منصوب بلا ينفع. ثم أمر بالإعراض عنهم وانتظار النصر عليهم والظفر بهم. (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) للغلبة عليكم لقوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١) ، وقيل : إنهم منتظرون العذاب ، أي هذا حكمهم ، وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ اليماني : منتظرون ، بفتح الظاء ، اسم مفعول ؛ والجمهور : بكسرها ، اسم فاعل ، أي منتظر هلاكهم ، فإنهم أحقاء أن ينتظر هلاكهم ، يعني : إنهم هالكون لا محالة ، أو : وانتظر ذلك ، فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥٢.

٤٤٢

سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ

٤٤٣

الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ

٤٤٤

كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي

٤٤٥

أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي

٤٤٦

مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠)

٤٤٧

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)

الجوف : معروف ، وجمعه أجواف. يثرب : مدينة الرسول ، عليه‌السلام ، وقيل : أرض المدينة في ناحية منها. الحنجرة : رأس الغلصمة ، وهي منتهى الحلقوم ؛ والحلقوم : مدخل الطعام والشراب. الأقطار : النواحي ، واحدها قطر ، ويقال : قتر بالتاء ، لغة فيه. عوّق عن كذا : تثبط عنه. سلقه : اجترأ عليه وضربه ، ويقال : صلقه بالصاد. قال الشاعر :

فصلقنا في مراد صلقة وصداء لحقتهم بالثلل

وقيل : سلقه : خاطبه مخاطبة بليغة ، ومنه خطيب سلاق ومسلاق ، ولسان سلاق ومسلاق. السحب : النذر ، والشيء الذي لا يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به. قال الشاعر :

عشية فر الحارثون بعيد ما

قضى نحبه في ملتقى القوم هزبر

٤٤٨

وقال جرير :

بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا

عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمر عظيم التزم القيام به ، وقد يسمى الموت نحبا. الصياصي : الحصون ، واحدها صيصية ، وهي كل ما يمتنع به. ويقال لقرن الصور والظبي ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه الذي في ساقه لأنه يتحصن به. والصياصي أيضا : شوك الحاكة ، ويتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة : كوقع الصياصي في النسيج الممدد الأسوة : القدوة ، وتضم همزته وتكسر ، ويتأسى بفلان : يقتدي به ؛ والأسوة من الائتساء ، كالقدوة من الاقتداء : اسم وضع موضع المصدر. التبرج ، قال الليث : تبرجت : أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ، ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر. وقال أبو عبيدة : تخرج محاسنها مما تستدعي به شهوة الرجال ، وأصله من البرج في عينه وفي أسنانه ، برج : أي سعة. الوطر ، قال أبو عبيدة : كالأرب ، وأنشد للربيع بن أصبغ :

ودعنا قبل أن نودعه

لما قضى من شبابنا وطرا

وقال المبرد : الوطر : الشهوة والمحبة ، يقال : ما قضيت من لقائك وطرا ، أي ما استمتعت بك حتى تشتهي نفسي وأنشد :

وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما

قضى وطرا منها جميل بن معمر

الجلباب : ثوب أكبر من الخمار.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ، وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ، ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ، ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ، النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ،

٤٤٩

وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً).

هذه السورة مدنية. وتقدم أن نداءه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (١) ، هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته ، وجاء نداء غيره باسمه ، كقوله : (يا آدَمُ) (٢) ، (يا نُوحُ) (٣) ، (يا إِبْراهِيمُ) (٤) ، (يا مُوسى) (٥) ، (يا داوُدُ) (٦) ، (يا عِيسى) (٧). وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله ، صرح باسمه فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (٨) ، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) (٩) ، أعلم أنه رسوله ، ولقنهم أن يسموه بذلك. وحيث لم يقصد الإعلام بذلك ، جاء اسمه كما جاء في النداء : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١٠) ، (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) (١١) ، (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) (١٢) ، وغير ذلك من الآي. وأمره بالتقوى للمتلبس بها ، أمر بالديمومة عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمر للنبي ، وإذا كان هو مأمورا بذلك ، فغيره أولى بالأمر. وقيل : هو خطاب له لفظا ، وهو لأمّته.

وروي أنه لما قدم المدينة ، وكان يحب إسلام اليهود ، فبايعه ناس منهم على النفاق ، وكان يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة ، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم ، فنزلت تحذيرا له منهم وتنبيها على عداوتهم. وروي أيضا أن أبا سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينهم وبينه ، وقام عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، والجد بن قيس فقالوا له : ارفض ذكر آلهتنا وقل : إنها تشفع وتنفع ، وندعك وربك ؛ فشق ذلك عليه وعلى المؤمنين ، وهموا بقتلهم ، فنزلت. وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار ، وهم المتظاهرون به ، وعن طاعة المنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. فالسببان حاويان الطائفتين ، أي : ولا تطع الكافرين من أهل مكة ، والمنافقين من أهل المدينة ، فيما طلبوا إليك. وروي أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١ ـ ٦٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٣.

(٣) سورة هود : ١١ / ٣٢.

(٤) سورة هود : ١١ / ٧٦.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ٥٥.

(٦) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٧) سورة آل عمران : ٣ / ٥٥.

(٨) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

(٩) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

(١٠) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

(١١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٠.

(١٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.

٤٥٠

أهل مكة دعوه إلى أن يرجع إلى دينهم ، ويعطوه شطر أموالهم ، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته ؛ وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع ، فنزلت.

ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح ، وهو الفصل بينهم ، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم ، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله ، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) : عليما بالصواب من الخطأ ، والمصلحة من المفسدة ؛ حكيما لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة ؛ أو عليما حيث أمر بتقواه ، وأنها تكون عن صميم القلب ، حكيما حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين. وقيل : هي تسلية للرسول ، أي عليما بمن يتقي ، حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء. ثم أمره باتباع ما أوحى إليه ، وهو القرآن ، والاقتصار عليه ، وترك مراسيم الجاهلية. وقرأ أبو عمرو : بما يعملون ، الأولى والثانية بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ، فجاز في الأولى أن يكون من باب الالتفات ، وجاز أن يكون مناسبا لقوله : (وَاتَّبِعْ) ، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله. وتقدم الكلام في (كَفى بِاللهِ) في أول ما وقع في القرآن. روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له : أبو معمر جميل بن أسد ، وقيل : حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح ، وفيه يقول الشاعر :

وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما

قضى وطرا منها جميل بن معمر

يدعي أن له قلبين ، ويقال له : ذو القلبين ، وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت. وقال الحسن : هم جماعة ، يقول الواحد منهم : نفس تأمرني ونفس تنهاني. وقيل : إن بعض المنافقين قال إن محمدا له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء ، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه ، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد. قيل : وجه نظم هذه الآية بما قبلها ، أنه تعالى لما أمر بالتقوى ، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله ، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره ، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره ، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته. انتهى ، ملخصا. ولم يجعل الله للإنسان قلبين ، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب ، فلا حاجة إلى أحدهما ، أو غيره ، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريدا كارها عالما ظانا شاكا موقنا في حال واحدة. وذكر الجوف ، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلا بالجوف ، زيادة

٤٥١

للتصوير والتجلي للمدلول عليه ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١). فإذا سمع بذلك ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك.

(وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ) : لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أما ، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك ، وهما حالتان متنافيتان. وقرأ قالون وقنبل : (اللَّائِي) هنا ، وفي المجادلة والطلاق : بالهمز من غير ياء ؛ وورش : بياء مختلسة الكسرة ؛ والبزي وأبو عمرو : بياء ساكنة بدلا من الهمزة ، وهو بدل مسموع لا مقيس ، وهي لغة قريش ؛ وباقي السبعة : بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم : (تُظاهِرُونَ) بالتاء للخطاب ، وفي المجادلة : بالياء للغيبة ، مضارع ظاهر ؛ وبشد الظاء والهاء : الحرميان وأبو عمرو ؛ وبشد الظاء وألف بعدها : ابن عامر ؛ وبتخفيفها والألف : حمزة والكسائي ؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة ؛ وباقي السبعة فيها بشدها. وقرأ ابن وثاب ، فيما نقل ابن عطية : بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء ، مضارع أظهر ؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه : بتخفيف الظاء ، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء. وقرأ الحسن : تظهرون ، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء ، مضارع ظهر ، مشدد الهاء. وقرأ هارون ، عن ابي عمرو : تظهرون ، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء ، مضارع ظهر ، مخفف الهاء ، وفي مصحف أبي : تتظهرون ، بتاءين. فتلك تسع قراءات ، والمعنى : قال لها : أنت علي كظهر أمي. فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله : لبى المحرم إذا قال لبيك ، وأفف إذا قال أف. وعدى الفعل بمن ، لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فيتجنبون المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة ، والمعنى : أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره ، أي من امرأته. لما ضمن معنى التباعد ، عدى بمن ، وكنوا عن البطن بالظهر إبعادا لما يقارب الفرج ، ولكونهم كانوا يقولون : يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء ، وأهل المدينة يقولون : يجيء الولد إذ ذاك أحول ، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة ، فشبهها بالظهر ، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه. وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيرا ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فوهبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء أبوه وعمه بفدائه ، وذلك قبل بعثة رسول الله ، فأعتقه ، وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فنزلت.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الآية : وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٤٦.

٤٥٢

الرجل ولد غيره صار يرثه. وأدعياء : جمع دعي ، فعيل بمعنى مفعول ، جاء شاذا ، وقياسه فعلى ، كجريح وجرحى ، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل ، نحو : تقي وأتقياء. شبهوا أدعياء بتقي ، فجمعوه جمعه شذوذا ، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا : أسراء وقتلاء ، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا : أسرى وقتلى. والبنوة تقتضي التأصل في النسب ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية ، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. (ذلِكُمْ) : أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله ، إذ لا يواطئ اللفظ الاعتقاد ، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه. (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) : أي ما يوافق ظاهرا وباطنا. (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) : أي سبيل الحق ، وهو قوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ، أو سبيل الشرع والإيمان. وقرأ الجمهور : يهدي مضارع هدى ؛ وقتادة : بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. و (أَقْسَطُ) : أفعل التفضيل ، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة ، ومعناه : أعدل. ولما أمر بأن يدعى المتبنى لأبيه إن علم قالوا : زيد بن حارثة (وَمَوالِيكُمْ) ؛ ولذلك قالوا : سالم مولى أبي حذيفة. وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الرازي : ولو علم والله أباه حمارا لانتمى إليه ، ورجال الحديث يقولون فيه : نفيع بن الحارث. وفي الحديث : «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرم الله عليه الجنة». (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ، قيل : رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي ، وهذا ضعيف لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي. وقيل : فيما سبق إليه اللسان. أما على سبيل الغلط ، إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي ، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطا ، أو على سبيل التحنن والشفقة ، إذ كثيرا ما يقول الإنسان للصغير : يا بني ، كما يقول للكبير : يا أبي ، على سبيل التوقير والتعظيم. وما عطف على ما أخطأتم ، أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم. وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء ، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للعامد إذا تاب ، (رَحِيماً) حيث رفع الجناح عن المخطئ.

وكونه ، عليه‌السلام ، (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي أرأف بهم وأعطف عليهم ، إذ هو يدعوهم إلى النجاة ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. ومنه قوله ، عليه‌السلام : «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش». ومن حيث ينزل لهم منزلة الأب. وكذلك في مصحف أبي ، وقراءة عبد الله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : وهو أب لهم ، يعني في الدين. وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته. وقد قيل في قول لوط عليه

٤٥٣

السلام : هؤلاء بناتي ، إنه أراد المؤمنات ، أي بناته في الدين ؛ ولذلك جاء : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١) ، أي في الدين. وعنه عليه‌السلام : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. واقرأوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، فأيما مؤمن هلك وترك مالا ، فليرثه عصبته من كانوا ؛ وإن ترك دينا أو ضياعا فإلي». قيل : وأطلق في قوله تعالى : (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) : أي في كل شيء ، ولم يقيد. فيجب أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقوقه آثر ، إلى غير ذلك مما يجب عليهم في حقه. انتهى. ولو أريد هذا المعنى ، لكان التركيب : المؤمنون أولى بالنبي منهم بأنفسهم. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : أي مثل أمهاتهم في التوقير والاحترام. وفي بعض الأحكام : من تحريم نكاحهن ، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب. وظاهر قوله : (وَأَزْواجُهُ) : كل من أطلق عليها أنها زوجة له ، عليه‌السلام ، من طلقها ومن لم يطلقها. وقيل : لا يثبت هذا الحكم لمطلقة. وقيل : من دخل بها ثبتت حرمتها قطعا. وهمّ عمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونكحت بعده ، فقالت له : ولم هذا ، وما ضرب علي حجابا ، ولا سميت للمسلمين أما؟ فكف عنها. كان أولا بالمدينة ، توارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام ، أو بالهجرة في كتاب الله ، أي في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين ، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان ، ومن المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة. وهذا هو الظاهر ، فيكون من هنا كهي في : زيد أفضل من عمرو. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام ، أي الأقرباء من هؤلاء ، بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. انتهى. والظاهر عموم قوله : (إِلى أَوْلِيائِكُمْ) ، فيشمل جميع أقسامه ، من قريب وأجنبي ، مؤمن وكافر ، يحسن إليه ويصله في حياته ، ويوصي له عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية. وقال مجاهد ، وابن زيد ، والرماني وغيره : (إِلى أَوْلِيائِكُمْ) ، مخصوص بالمؤمنين.

وسياق ما تقدم في المؤمنين يعضد هذا ، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، إنما تدفع في أن تلقي إليه بالمودة ، كولي الإسلام. وهذا الاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) هو مما يفهم من الكلام ، أي : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في النفع بميراث وغيره. وعدى بإلى ، لأن المعنى : إلا أن توصلوا إلى أوليائكم ، كان ذلك إشارة إلى ما في

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٠.

٤٥٤

الآيتين. (فِي الْكِتابِ) : إما اللوح ، وإما القرآن ، على ما تقدم. (مَسْطُوراً) : أي مثبتا بالأسطار ، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة ، لما ذكر من الأحكام ، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى ، وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية ، وأشياء في الإسلام نسخت. أتبعه بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) : أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله ، فلست بدعا في تبليغك عن الله. والعامل في إذ ، قاله الحوفي وابن عطية ، يجوز أن يكون مسطورا ، أي مسطورا في أم الكتاب ، وحين أخذنا. وقيل : العامل : واذكر حين أخذنا ، وهذا الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان ، ولا يمنعهم من ذلك مانع ، لا من خوف ولا طمع. قال الكلبي : أخذ ميثاقهم بالتبليغ. وقال قتادة : بتصديق بعضهم بعضا ، والإعلان بأن محمدا رسول الله ، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده. وقال الزجاج وغيره : الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر ، قالوا : فأخذ الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضا ، وبجميع ما تضمنته النبوة. وروي نحوه عن أبيّ بن كعب ، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين. وقيل : هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم. وقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكونه أفضل منهم ، وأكثرهم اتباعا. وقدم نوح في آية الشورى في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (١) الآية ، لأن إيراده على خلاف. الإيراد ، فهناك أورده على طريق وصف دين الإسلام بالأصالة ، فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.

والميثاق الثاني هو الأول ، وكرر لأجل صفته. والغلظ : من صفة الأجسام ، واستعير للمعنى مبالغا في حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله. وقيل : الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حمله. واللام في (لِيَسْئَلَ) ، قيل : يحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا. والظاهر أنها لام كي ، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين : فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة ، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها ، فيثيبها على ذلك ؛ وفرقة كفرت ، فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسئولون هم : المؤمنون. والهاء في (صِدْقِهِمْ) عائدة عليهم ، ومفعول (صِدْقِهِمْ) محذوف

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

٤٥٥

تقديره : عن صدقهم عهده. أو يكون (صِدْقِهِمْ) في معنى : تصديقهم ، ومفعوله محذوف ، أي عن تصديقهم الأنبياء ، لأن من قال للصادق صدقت ، كان صادقا في قوله. أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم ، حكاه علي بن عيسى ؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة ؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، قاله مجاهد ، وفي هذا تنبيه ، أي إذا كان الأنبياء يسألون ، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد أيضا : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) ، أراد المؤدين عن الرسل. انتهى. وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم ، كما قال تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ، وقال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٢). (وَأَعَدَّ) : معطوف على (أَخَذْنا) ، لأن المعنى : أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) ، أو على ما دل عليه : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) ، كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين ، قالهما الزمخشري. ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون ، وهم المؤمنون ، وذكرت العلة ؛ وحذف من الثاني العلة ، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير : ليسأل الصادقين عن صدقهم ، فأثابهم ؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم ، كقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) (٣) ، و (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٤) ، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول ، وهذه طريقة بليغة ، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٥) ، وأمعنا الكلام هناك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً ، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ، وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ، وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٦.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٤) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣١.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

٤٥٦

لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً ، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً ، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ، يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً).

ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم في غزوة الخندق ، وما اتصل بها من أمر بني قريظة ، وقد استوفى ذلك أهل السير ، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها.

وإذ معمولة لنعمة ، أي إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود ، والجنود كانوا عشرة آلاف ، قريش ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وسليم يقودهم أبو الأعور ، واليهود النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينه وبين الرسول عهد ، فنبذه بسعي حيي بن أخطب. وقيل : فاجتمعوا خمسة عشر ألفا ، وهم الأحزاب ، ونزلوا المدينة ، فحفروا الخندق بإشارة سليمان ، وظهرت للرسول به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق ، ظهرت مع كل فرقة برقة ، أراه الله منها مدائن كسرى وما حولها ، ومدائن قيصر وما حولها ، ومدائن الحبشة وما حولها ؛ وبشر بفتح ذلك ، وأقام الذراري والنساء بالآطام ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف ، فنزلوا بظهر سلع ، والخندق بينهم وبين المشركين ، وكان ذلك في شوال ، سنة خمس ، قاله ابن إسحاق. وقال مالك : سنة أربع.

وقرأ الحسن : وجنودا ، بفتح الجيم ؛ والجمهور : بالضم. بعث الله الصبا لنصرة نبيه ، فأضرت بهم ؛ هدمت بيوتهم ، وأطفأت نيرانهم ، وقطعت حبالهم ، وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها قرار. وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها. وقرأ أبو عمرو في رواية ، وأبو بكرة في رواية : لم يروها ، بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة ، والجمهور : بتاء الخطاب. (مِنْ فَوْقِكُمْ) : من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : من أسفل الوادي منه قبل المغرب ، وقريش تحزبوا وقالوا : نكون جملة حتى

٤٥٧

نستأصل محمدا. وقال مجاهد : (مِنْ فَوْقِكُمْ) ، يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، و (مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، يريد مكة وسائر تهامة ، وهو قول قريب من الأول. وقيل : إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة ، وطائفة في أسفلها ، وهذا قريب من القول الأول ، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة ، أي جاءوكم من جميع الجهات ، كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم ، كقوله : (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) ، المعنى : يغشاهم محيطا بجميع أبدانهم. وزيغ الأبصار : ميلها عن مستوى نظرها ، فعل الواله الجزع. وقال الفراء : زاغت عن كل شيء ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها. وبلوغ القلوب الحناجر : مبالغة في اضطرابها ووجيبها ، دون أن تنتقل من مقرها إلى الحنجرة. وقيل : بحت القلوب من شدة الفزع ، فيتصل وجيبها بالحنجرة ، فكأنها بلغتها. وقيل : يجد خشونة وقلبه يصعد علوا لينفصل ، فالبلوغ ليس حقيقة. وقيل : القلب عند الغضب يندفع ، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة. وقيل : يفضي إلى أن يسد مخرج النفس ، فلا يقدر المرء أن يتنفس ، ويموت خوفا ، ومثله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) (٢). وقيل : إذا انتفخت الرئة من شدّة الفزع والغضب ، أو الغم الشديد ، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان ، انتفخ سحره. والظنون : جمع لما اختلفت متعلقاته ، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته ، وينقاس عند غيره ، وقد جاء الظنون جمعا في أشعارهم ، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :

إذا الجوزاء أردفت الثريا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله من النصر حق ، وأنهم يستظهرون ؛ وظن الضعيف الإيمان مضطربه ، والمنافقون أن الرسول والمؤمنين سيغلبون ، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في (وَتَظُنُّونَ). وقال الحسن : ظنوا ظنونا مختلفة ، ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم يبتلون. وقال ابن عطية : أي يكادون يضطربون ، ويقولون : ما هذا الخلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين ، لا يمكن البشر دفعها. وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا. وقال الزمخشري : ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتليهم ويفتنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ؛ والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم ، وكتب : الظنونا والرسولا والسبيلا في المصحف بالألف ، فحذفها حمزة وأبو عمرو وقفا ووصلا ؛ وابن كثير ،

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٥.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ١٨.

٤٥٨

والكسائي ، وحفص : بحذفها وصلا خاصة ؛ وباقي السبعة : بإثباتها في الحالين. واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف ، ولا يوصل ، فيحذف أو يثبت ، لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ، ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب ، نظمهم ونثرهم ، لا في اضطرار ولا غيره. أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب ، لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها ، والفواصل في الكلام كالمصارع. وقال أبو علي : هي رؤوس الآي ، تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، كما كانت القوافي مقاطع.

و (هُنالِكَ) : ظرف مكان للبعيد هذا أصله ، فيحمل عليه ، أي في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) ، والعامل فيه ابتلي. وقال ابن عطية : (هُنالِكَ) ظرف زمان ؛ قال : ومن قال إن العامل فيه (وَتَظُنُّونَ) ، فليس قوله بالقوي ، لأن البداءة ليست متمكنة. وابتلاؤهم ، قال الضحاك : بالجوع. وقال مجاهد : بالحصار. وقيل : بالصبر على الإيمان. (وَزُلْزِلُوا) ، قال ابن سلام : حركوا بالخوف. وقيل ؛ (زُلْزِلُوا) ، فثبتوا وصبروا حتى نصروا. وقيل : حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ الجمهور : وزلزلوا ، بضم الزاي. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي ، عن أبي عمرو : بكسر الزاي ، قال ابن خالويه. وقال الزمخشري ، وعن أبي عمرو : إشمام زاي زلزلوا. انتهى ، كأنه يعني : إشمامها الكسر ، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية ، ولم يعتد بالساكن ، كما يعتدّ به من قال : منتن ، بكسر الميم اتباعا لحركة التاء ، وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجمهور : (زِلْزالاً) ، بكسر الزاي ؛ والجحدري ، وعيسى : بفتحها ، وكذا : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) ، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو : قلقل قلقالا. وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل ، فصلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان غير مضاعف ، فما سمع منه على فعلان ، مكسور الفاء نحو : سرهفه سرهافا.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) : وهم المظهرون للإيمان المبطنون الكفر. (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، فهم على حرف ، والعطف دال على التغاير ، نبه عليهم على جهة الذم. لما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصخرة ، وبرقت تلك البوارق ، وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة ، قال معتب بن قشير : يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ، ونحن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى

٤٥٩

الغائط ، ما يعدنا إلا غرورا ، أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به. وقال غيره من المنافقين نحو ذلك. وقولهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، هو على سبيل الهزء ، إذ لو اعتقدوا أنه رسول حقيقة ما قالوا هذه المقالة ، فالمعنى : ورسوله على زعمكم وزعمه ، وفي معتب ونظرائه نزلت هذه الآية.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) : أي من المنافقين ، (لا مُقامَ لَكُمْ) في حومة القتال والممانعة ، (فَارْجِعُوا) إلى بيوتكم ومنازلكم ، أمروهم بالهرب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : فارجعوا كفارا إلى دينكم الأول وأسلموه إلى أعدائه. قال السدي : والقائل لذلك عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. وقال مقاتل : بنو مسلمة. وقال أوس بن رومان : أوس بن قبطي وأصحابه. وقال الكلبي : بنو حارثة. ويمكن صحة هذه الأقوال ، فإن فيهم من كان منافقا. (لا مُقامَ لَكُمْ) ، وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص : بضم الميم ، فاحتمل أن يكون مكانا ، أي لا مكان إقامة ؛ واحتمل أن يكون مصدرا ، أي لا إقامة. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، وعبد الله بن مسلم ، وطلحة ، وباقي السبعة : بفتحها ، واحتمل أيضا المكان ، أي لامكان قيام ، واحتمل المصدر ، أي لا قيام لكم. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) : هو أوس بن قبطي ، استأذن في الدخول إلى المدينة عن اتفاق من عشيرته. (يَقُولُونَ) : حال ، أي قائلين : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : أي منكشفة للعدو ، وقيل : خالية للسراق ، يقال : أعور المنزل : انكشف. وقال الشاعر :

له الشدة الأولى إذا القرن أعورا

وقال ابن عباس : الفريق بنو حارثة ، وهم كانوا عاهدوا الله لا يولون الأدبار ، اعتذروا بأن بيوتهم معرضة للعدو ، ممكنة للسراق ، لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار. وقرأ ابن عباس ، وابن يعمر ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، وأبو طالوت ، وابن مقسم ، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير : عورة وبعوزة ، بكسر الواو فيهما ؛ والجمهور : بإسكانها. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تخفيف عورة وبالكسر هو اسم فاعل. وقال ابن جني : صحة الواو في هذا إشارة لأنها متحركة قبلها فتحة. انتهى. فيعني أنها تنقلب ألفا ، فيقال : عارة ، كما يقول : رجل مال ، أي ممول. وإذا كان عورة اسم فاعل ، فهو من عور الذي صحت عينه ، فاسم الفاعل كذلك تصح عينه ، فلا تكون صحة العين على هذا شذوذا. وقيل : السكون على أنه مصدر وصف به ، والبيت العور : هو المنفرد المعرض

٤٦٠