البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن. فأما في الآية ، فقال ابن عطية : تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف. قال ابن عطية : ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة ، إذا قدرنا كان تامة ، أي أن الله تعالى يختار كل كائن ، ولا يكون شيء إلا بإذنه. وقوله : (لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : جملة مستأنفة معناها : تعديد النعمة عليهم في اختيار الله لهم ، لو قبلوا وفهموا. انتهى. يعني : والله أعلم خيرة الله لهم ، أي لمصلحتهم. والخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعملان بمعنى المصدر ؛ والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها. والحمد في الآخرة قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (١) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٢) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) ، والتحميد هنالك على سبيل اللذة ، لا التكليف. وفي الحديث : «يلهمون التسبيح والتقديس». وقرأ ابن محيصن : ما تكن ، بفتح التاء وضم الكاف.

(وَلَهُ الْحُكْمُ) : أي القضاء بين عباده والفصل. و (أَرَأَيْتُمْ) : بمعنى أخبروني ، وقد يسلط على الليل (أَرَأَيْتُمْ) و (جَعَلَ) ، إذ كل منهما يقتضيه ، فأعمل الثاني. وجملة أرأيتم الثانية هي جملة الاستفهام ، والعائد على الليل محذوف تقديره : من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده ، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقا ، بل قد يختلف الطلب ، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية ، وهذا على جهة المفعولية ، وهذا على جهة المفعول ، وهذا على جهة الظرف. وكذلك أرأيتم ثاني مفعولية جملة استفهامية غالبا ، وثاني جعل إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاما ، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها ، كان ذلك المنتصب حالا. و (سَرْمَداً) ، قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ، ووزنه فعمل ، ولا يزاد وسطا ولا آخرا بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف. وأتى (بِضِياءٍ) ، وهو نور الشمس ، ولم يجيء التركيب بنهار يتصرفون فيه ، كما جاء (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) ، لأن منافع الضياء متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء. (أَفَلا تَسْمَعُونَ)؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل. (أَفَلا تُبْصِرُونَ)؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ، قال الزمخشري. و (مِنْ رَحْمَتِهِ) ، من هنا للسبب ، أي وبسبب رحمته إياكم ، (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، ثم علل

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٤.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٤.

(٣) سورة الفاتحة : ١ / ٢.

٣٢١

جعل كل واحد منهما ، فبدأ بعلة الأول ، وهو الليل ، وهو : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ، ثم بعلة الثاني وهو : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير ، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن جيوش :

ومقرطق يغني النديم بوجهه

عن كأسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها

في مقلتيه ووجنتيه وريقه

والضمير في (فِيهِ) عائد على الليل ، وفي (فَضْلِهِ) يجوز أن يكون عائدا على الله ، والتقدير : من فضله ، أي من فضل الله فيه ، أي في النهار ؛ وحذف لدلالة المعنى ، ولدلالة لفظ فيه السابق عليه. ويحتمل أن يعود على النهار ، أي من فضل النهار ، ويكون إضافة إلى ضمير النهار على سبيل المجاز. لما كان الفضل حاصلا فيه ، أضيف إليه ، كقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١).

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ، وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ، إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ، فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ ، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).

تقدم الكلام على قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد. (وَنَزَعْنا) : أي ميزنا وأخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم. (شَهِيداً) : وهو نبي تلك

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٣.

٣٢٢

الأمة ، لأنه هو الشهيد عليها ، كما قال : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا؟ وقيل : عدولا وخيارا. والشهيد على هذا اسم الجنس ، والشهيد يشهد على تلك الأمّة بما صدر منها ، وما أجابت به لما دعيت إلى التوحيد ، وأنه قد بلغهم رسالة ربهم. (فَقُلْنا) : أي للملأ ، (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي حجتكم فيما كنتم عليه في الدنيا من الكفر ومخالفة هذا الشهيد ، (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) ، لا لأصنامهم وما عبدوا من دون الله. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) : أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والباطل.

وقارون أعجمي : منع الصرف للعجمة والعلمية. وقيل : ومعنى كان من قومه : أي ممن آمن به. قال ابن عطية : وهو إسرائيلي بإجماع. انتهى. واختلف في قرابته من موسى عليه‌السلام ، اختلافا مضطربا متكاذبا ، وأولاها : ما قاله ابن عباس أنه ابن عمه ، وهو قارون ابن يصهر بن قاهث ، جد موسى ، لأن النسابين ذكروا نسبه كذلك ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم ، فنافق كما نافق السامري. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) : ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر ، وحسده لموسى على النبوة ، ولهارون على الذبح والقربان ، وظلمه لبني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ، ودسه بغيا تكذب على موسى أنه تعرض لها ، وتفضحه بذلك في ملأ من بني إسرائيل ، ومن تكبره أن زاد في ثيابه شبرا. (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) ، قيل : أظفره الله بكنز من كنوز يوسف عليه‌السلام. وقيل : سميت أمواله كنوزا ، إذ كان ممتنعا من أداء الزكاة ، وبسبب ذلك عادى موسى عليه‌السلام أول عداوته. وما موصوله ، صلتها إن ومعمولاها. وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان ، يعني الأخفش الصغير ، يقول : ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات ، أنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه ، وفي القرآن : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ). انتهى. وتقدم الكلام في مفاتح في سورة الأنعام ، وقالوا هنا : مقاليد خزائنه. وقال السدي : هي الخزائن نفسها. وقال الضحاك : ظروفه وأوعيته. وقرأ الأعمش : مفاتيحه ، بياء ، جمع مفتاح ، وذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب ، أو يقارب الكذب ، فلم أكتبه. قال أبو زيد : نؤت بالعمل إذا نهضت به. قال الشاعر :

إذا وجدنا خلفا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

ويقول : ناء ينوء ، إذا نهض بثقل. قال الشاعر :

تنوء بأحراها فلأيا قيامها

وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر

٣٢٣

وقال أبو عبيدة : هو مقلوب وأصله : لتنوء بها العصبة ، أي تنهض ، والقلب عند أصحابنا بابه الشعر. والصحيح أن الباء للتعدية ، أي لتنيء العصبة ، كما تقول : ذهبت به وأذهبته ، وجئت به وأجأته. ونقل هذا عن الخليل وسيبويه والفراء ، واختاره النحاس ، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي ، وتقول العرب : ناء الحمل بالبعير إذا أثقله. قال ابن عطية : ويمكن أن يسند تنوء إلى المفاتح ، لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها ، وذا مطرد في ناء الحمل بالبعير ونحوه ، فتأمله. وقرأ بديل بن ميسرة : لينوء ، بالياء ، وتذكيره راعى المضاف المحذوف ، التقدير : ما إن حمل مفاتحه ، أو مقدارها ، أو نحو ذلك. وقال الزمخشري : ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيف إليه للملابسة والإيصال ، كقوله : ذهبت أهل اليمامة. انتهى. يعني : أنه اكتسب المفاتح التذكير من الضمير الذي لقارون ، كما اكتسب أهل التأنيث من إضافته إلى اليمامة ، فقيل فيه ، ذهبت. وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ : ما إن مفتاحه ، على الإفراد ، فلا تحتاج قراءته لينوء بالياء إلى تأويل. وتقدم تفسير العصبة في سورة يوسف عليه‌السلام. وتقدم قبل تفسير المفاتح ، أهي المقاليد ، أو الخزائن نفسها ، أو الظروف والأوعية؟ وعن ابن عباس والحسن : أن المفاتح هي الأموال.

قال ابن عباس : كانت خزائنه تحملها أربعون أقوياء ، وكانت أربعمائة ألف ، يحمل كل رجل عشرة آلاف. وقال أبو مسلم : المراد من المفاتح : العلم والإحاطة ، كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (١) ، والمراد : وآتيناه من الكنوز ، ما إن حفظها والإطلاع عليها ليثقل على العصبة ، أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ، يتعب حفظها القائمين على حفظها. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) : نهوه عن الفرح المطغى الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر وإعجاب ، وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة ، ومن جعل أنه مفارق زهرة الدنيا عن قريب ، فلا يفرح بها. وقال أبو الطيب :

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

قال الزمخشري : ومحل إذ منصوب بتنوء. انتهى ، وهذا ضعيف جدا ، لأن إثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه له : (لا تَفْرَحْ). وقال ابن عطية : متعلق بقوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ، وهو ضعيف أيضا ، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك الوقت.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

٣٢٤

وقال الحوفي : الناصب له محذوف تقديره أذكر. وقال أبو البقاء : (إِذْ قالَ لَهُ) ظرف لآتيناه ، وهو ضعيف أيضا ، لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول. وقال أيضا : ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام ، أي بغى عليهم ، (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ). انتهى. ويظهر أن يكون تقديره : فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز ، (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ). وقال تعالى : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (١) ، والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير. وقال الشاعر :

ولست بمفراح إذا الدهر سرني

ولا جازع من صرفه المتحول

وقال الآخر :

إن تلاق منفسا لا تلقنا

فرح الخير ولا نكبوا الضر

وقرىء : الفارحين ، حكاه عيسى بن سليمان الحجازي. و (لا يُحِبُ) : صفة فعل ، لا صفة ذات ، بمعنى الإرادة ، لأن الفرح أمر قد وقع ، فالمعنى : لا يظهر عليهم بركته ، ولا يعمهم رحمته. ولما نهوه عن الفرح المطغى ، أمروه بأن يطلب ، فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ، ثواب الدار الآخرة ، بأن يفعل فيه أفعال البر ، وتجعله زادك إلى الآخرة. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ، قال ابن عباس ، والجمهور : معناه : ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحا في دنياك ، إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا ، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها ، وهذا التأويل فيه عظة. وقال الحسن ، وقتادة : معناه : لا تضيع حظك من الدنيا في تمتعك بالحلال وطلبك إياه ونظرك لعاقبة دنياك ، وفي هذا التأويل بعض رفق. وقال الحسن : معناه : قدم الفضل وأمسك ما تبلغ به. وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف. وقيل : أرادوا بنصيبه الكفن ، وهذا وعظ متصل ، كأنهم قالوا : تترك جميع مالك ، لا يكون نصيبك منه إلا الكفن ؛ كما قال الشاعر :

نصيبك مما تجمع الدهر كله

رداءان تأوي فيهما وحنوط

وقال الزمخشري : أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك ، وهذا قريب من قول الحسن : (وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله ، أو بشكرك وطاعتك لله. (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بتلك النعم التي خولكها ، والكاف للتشبيه ، وهو يكون في بعض الأوصاف ، لأن مماثلة إحسان العبد لإحسان الله من جميع الصفات يمتنع أن تكون ، فالتشبيه وقع في مطلق الإحسان ، أو تكون

__________________

(١) سورة الحديث : ٥٧ / ٢٣.

٣٢٥

الكاف للتعليل ، أي أحسن لأجل إحسان الله إليك. (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ) : أي ما أنت عليه من البغي والظلم. (عَلى عِلْمٍ) ، علم : مصدر ، يحتمل أن يكون مضافا إليه ومضافا إلى الله. فقال الجمهور : ادّعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب تلك الكنوز. فقيل : علم التوراة وحفظها ، وكان أحد السبعين الذين اختارهم موسى للميقات ، وكانت هذه مغالطة. وقال أبو سليمان الداني : أي علم التجارة ووجوه المكاسب ، أي أوتيته بإدراكي وسعيي. وقال ابن المسيب : علم الكيمياء ، قال ابن المسيب : وكان موسى عليه‌السلام يعلم الكيمياء ، وهي جعل الرصاص والنحاس ذهبا. وعن ابن عباس : على علم الصنعة الذهب ، ولعل ذلك لا يصح عنه ولا عن ابن المسيب. وأنكر الزجاج علم الكيمياء وقال : باطل لا حقيقة له. انتهى.

وكثيرا ما تولع أهل مصر بطلب أشياء من المستحيلات والخرافات ؛ من ذلك : تغوير الماء ، وخدمة الصور الممثلة في الجدر خطوطا ، وادعائهم أن تلك الخطوط تتحرك إذا خدمت بأنواع من الخدم لهم ، والكيمياء ؛ حتى أن مشايخ العلم عندهم ، الذين هم عندهم بصورة الولاية ، يتطلب ذلك من أجهل وارد من المغاربة. وقال ابن زيد وغيره : أراد : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) من الله وتخصيص من لدنه قصدني به ، أي فلا يلزمني فيه شيء مما قلتم ، ثم جعل قوله : (عِنْدِي) ، كما يقول : في معتقدي وعلى ما أراه. وقال مقاتل : (عَلى عِلْمٍ) ، أي على خير علمه الله عندي. والظاهر أن قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) ، تقرير لعلمه ذلك ، وتنبيه على خطئه في اغتراره ؛ أي قد علم أن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه في التواريخ ، كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم؟ هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون نعتا لعلمه بذلك ، لأنه لما قال : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) ، فتنفح بالعلم وتعظم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه؟ وأرى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي نفسه مصارع الهالكين. انتهى. (وَأَكْثَرُ جَمْعاً) ، إما للمال ، أو جماعة يحوطونه ويخدمونه. قال ابن عطية : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) ، يرجح أن قارون تشبع بعلم نفسه على زعمه.

وقرأ الجمهور : (وَلا يُسْئَلُ) ، مبنيا للمفعول و (الْمُجْرِمُونَ) : رفع به ، وهو متصل بما قبله ، قاله محمد بن كعب. والضمير في (ذُنُوبِهِمُ) عائد على من أهلك من القرون ، أي لا يسأل غيرهم ممن أجرم ، ولا ممن لم يجرم ، عمن أهلكه الله ، بل : (كُلُّ نَفْسٍ بِما

٣٢٦

كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (١). وقيل : أهلك من أهلك من القرون ، عن علم منه بذنوبهم ، فلم يحتج إلى مسألتهم عنها. وقيل : هو مستأنف عن حال يوم القيامة. قال قتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها ، لأنهم يدخلون النار بغير حساب. وقال قتادة أيضا ، ومجاهد : لا تسألهم الملائكة عن ذنوبهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم من السواد والتشويه ، كقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) (٢). وقيل : لا يسألون سؤال توبيخ وتفريع. وقرأ أبو جعفر في روايته : ولا تسأل ، بالتاء والجزم ، المجرمين : نصب. وقرأ ابن سيرين ، وأبو العالية : كذلك في ولا تسأل على النهي للمخاطب ، وكان ابن أبي إسحاق لا يجوّز ذلك إلّا أن يكون المجرمين بالياء في محل النصب ، بوقوع الفعل عليه. قال صاحب اللوامح : فالظاهر ما قاله ، ولم يبلغني في نصب المجرمين شيء ، فإن تركاه على رفعه ، فله وجهان : أحدهما : أن تكون الهاء والميم في (عَنْ ذُنُوبِهِمُ) راجعة إلى ما تقدم من القرون ، وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ ، وتقديره : هم المجرمون ، أو أولئك المجرمون ، ومثله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) (٣) في التوبة. والثاني : أن يكون بدلا من أصل الهاء والميم في ذنوبهم ، لأنها ، وإن كانت في محل الجر بالإضافة إليها ، فإن أصلها الرفع ، لأن الإضافة إليها بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل ؛ فعلى ذلك المجرمون محمول على الأصل ، على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) (٤) بالجر ، على أنها بدل من أصل المثل ، وما زائدة فيه ، وتقديره : لا يستحي بضرب مثل بعوضة ، أي بضرب بعوضة. في ذلك فسر أن مع الفصل بالمصدر ناصب إلى المفعول به ، ثم أبدل منه البعوضة من غير أن أعرف فيها أثرا لحال. فأما قوله : من ذنوبهم ، فذنوب جمع ، فإن كان جمع مصدر ، ففي إعماله خلاف. وأما قوله على ما تقدم لنا من أن بعضهم قرأ ، فقد ذكر في البقرة أنه سمع ذلك ، ولا نعرف فيها أثرا ، فينبغى أن لا يجعلها قراءة.

ولما ذكر تعالى قارون ونعته ، وما آتاه من الكنوز ، وفرحه بذلك فرح البطرين ، وادعاءه أن ما أوتي من ذلك إنما أوتيه على علم ، ذكر ما هو ناشىء عن التكبر والسرور بما أوتي فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) ، وكان يوم السبت : أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا. قال جابر ، مجاهد : في ثياب حمر. وقال ابن زيد : هو وحشمه في ثياب معصفرة. وقيل : في ثياب الأرجوان. وقيل : على بغلة شهباء عليها

__________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ٣٨.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤١.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١١٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.

٣٢٧

الأرجوان ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعلى يمينه ثلاثمائة غلام ، وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهم الحلي والديباج. وقيل : في تسعين ألفا عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. وقيل غير ذلك من الكيفيات.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) قيل : كانوا مؤمنين. وقال قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله. وقيل : رغبة في اليسارة والثروة. وقيل : كانوا كفارة ، وتمنوا (مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) ، ولم يذكروا زوال نعمته ، وهذا من الغبطة. (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : أي درجة عظيمة ، قاله الضحاك. وقيل : نصيب كثير من الدنيا والحظ البخت والسعد ، يقال : فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، منهم : يوشع ، والعلم : معرفة الثواب والعقاب ، أو التوكل ، أو الإخبار ، أقوال. (وَيْلَكُمْ) : دعاء بالشر. (ثَوابُ اللهِ) : وهو ما أعده في الآخرة للمؤمن (خَيْرٌ) مما أوتي قارون. (وَلا يُلَقَّاها) : أي هذه الحكمة ، وهي معرفة ثواب الله ، وقيل : الجنة ونعيمها. وقيل : هذه المقالة ، وهي قولهم : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، وبخهم بها. (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات وعلى قمع أنفسهم عن الشهوات.

تقدم طرف من خبر قارون وحسده لموسى. ومن حسده أنه جعل لبغي جعلا ، على أن ترمي موسى بطلبها وبزنائها ، وأنها تابت إلى الله ، وأقرت أن قارون هو الذي جعل لها جعلا على رمي موسى بذلك ، فأمر الله الأرض أن تطيعه ، فقال : يا أرض خذيه وأتباعه ، فخسف بهم في حكاية طويلة ، الله أعلم بها. ولما خسف بقارون ومن معه ، فقال بنو إسرائيل : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومن زائدة ، أي من جماعة تفيد استغراق الفئات. وإذا انتفت الجملة ، ولم يقدر على نصره ، فانتفاء الواحد عن نصرته أبلغ. (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) : أي لم يكن في نفسه ممن يمتنع من عذاب الله.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) : بدل ، وأصبح ، إذا حمل على ظاهره ، أن الخسف به وبداره كان ليلا ، وهو أفظع العذاب ، إذ الليل مقر الراحة والسكون ، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي ، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف ، وهو يوم التمني ، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله : (فَخَسَفْنا) ، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته ، وفي ذلك تعجيل العذاب. ومكانه : منزلته في الدنيا من

٣٢٨

الثروة والحشم والأتباع. و: وي ، عند الخليل وسيبويه : اسم فعل مثل : صه ومه ، ومعناها : أعجب. قال الخليل : وذلك أن القوم ندموا فقالوا ، متندمين على ما سلف منهم : وي ، وكل من ندم فأظهر ندامته قال : وي. وكأن : هي كاف التشبيه الداخلة على أن ، وكتبت متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال ، وأنشد سيبويه :

وي كأن من يكن له نشب يح

سب ومن يفتقر يعش عيش ضر

والبيت لزيد بن عمرو بن نفيل. وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، وعلى هذا المذهب يكون الوقف على وي. وقال الأخفش : هي ويك ، وينبغى أن تكون الكاف حرف خطاب ، ولا موضع له من الإعراب ، والوقف عليه ويك ، ومنه قول عنترة :

ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر اقدم

قال الأخفش : وأن عنده مفتوح بتقدير العلم ، أي أعلم أن الله ، وقال الشاعر :

ألا ويك المضرة لا تدوم

ولا يبقى على البؤس النعيم

وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك ، فحذفت اللام والكاف في موضع جر بالإضافة. فعلى المذهب الأول قيل : تكون الكاف خالية من معنى التشبيه ، كما قيل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١). وعلى المذهب الثاني ، فالمعنى : أعجب لأن الله. وعلى المذهب الثالث تكون ويلك كلمة تحزن ، والمعنى أيضا : لأن الله. وقال أبو زيد وفرقة معه : ويكأن ، حرف واحد بجملته ، وهو بمعنى : ألم تر. وبمعنى : ألم تر ، قال ابن عباس والكسائي وأبو عبيد. وقال الفراء : ويك ، في كلام العرب ، كقوله الرجل : أما ترى إلى صنع الله؟ وقال ابن قتيبة ، عن بعض أهل العلم أنه قال : معنى ويك : رحمة لك ، بلغة حمير.

ولما صدر منهم تمني حال قارون ، وشاهدوا الخسف ، كان ذلك زاجرا لهم عن حب الدنيا ، وداعيا إلى الرضا بقدر الله ، فتنبهوا لخطئهم فقالوا : وي ، ثم قالوا : كأن (اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، بحسب مشيئته وحكمته ، لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء ، لا لهوانه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء. وقرأ الأعمش : لو لا منّ الله ، بحذف أن ، وهي مزادة. وروي عنه : منّ الله ، برفع النون والإضافة. وقرأ الجمهور : لخسف مبنيا

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

٣٢٩

للمفعول ؛ وحفص ، وعصمة ، وأبان عن عاصم ، وابن أبي حماد عن أبي بكر : مبنيا للفاعل ؛ وابن مسعود ، وطلحة ، والأعمش : لا نخسف بنا ، كقولك : انقطع بنا ، كأنه فعل مطاوع ، والمقام مقام الفاعل هو (بِنا). ويجوز أن يكون المصدر : أي لا نخسف الانخساف ، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به ، فلذلك بني إما لبنا وإما للمصدر. وعن ابن مسعود أيضا : لتخسف ، بتاء وشد السين ، مبنيا للمفعول.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب الله خير ، ذكر محل الثواب ، وهو الدار الآخرة. والمعنى : تلك التي سمعت بذكرها ، وبلغك وصفها. (الدَّارُ الْآخِرَةُ) : أي نعيم الدار الآخرة ، وهي الجنة ، والبقاء فيها سرمدا ، وعلق حصولها على مجرد الإرادة ، فكيف يمن بأشر العلوّ والفساد؟ ثم جاء التركيب بلا في قوله : (وَلا فَساداً) ، فدل على أن كل واحد من العلوّ والفساد مقصود ، لا مجموعهما. قال الحسن : العلوّ : العز والشرف ، إن جر البغي الضحاك ، الظلم والفساد يعم أنواع الشر. وعن عليّ ، كرم الله وجهه : أن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها. وعن الفضيل ، أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني. وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يرددها حتى قبض. (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : يحتمل أن يكون خير أفعل التفضيل ، وأن يكون واحد الخيور ، أي فله خير بسبب فعلها ، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) ، تهجينا لحالهم وتبغيضا للسيئة إلى قلوب السامعين ، ففيه بتكراره ما ليس فيه لو كان : فلا يجزون بالصهر ، وما كانوا على حذف مثل ، أي إلّا مثل ما كانوا يعملون ، لأن جزاء السيئة سيئة مثلها ، والحسنة بعشر أمثالها.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، قال عطاء : العمل به ؛ ومجاهد : أعطاكه ؛ ومقاتل : أنزله عليك ، وكذا قال الفراء وأبو عبيدة. وقال الزمخشري : أوجب عليك تلاوته

٣٣٠

وتبليغه والعمل بما فيه ؛ يعني أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف ليثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. والمعاد ، قال الجمهور : في الآخرة ، أي باعثك بعد الموت ، ففيه إثبات الجزاء والإعلام بوقوعه. وعن ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري : المعاد : الموت. وقيل : بيت المقدس. وقيل : الجنة ، وكان قد دخلها ليلة المعراج. وقال ابن عباس أيضا ، ومجاهد : المعاد : مكة ، أراد رده إليها يوم الفتح ، ونكره ، والمقصود التعظيم ، أي معاد أي معاد ، أي له شأن لغلبة الرسول عليها وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله ، فكأن الله وعده وهو بمكة أنه يهاجر منها ويعود إليها ظافرا ظاهرا. وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره ، وقد اشتاق إليها ، فقال له جبريل : أتشتاق إليها؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه. ومن منصوب بإضمار فعل ، أي يعلم من جاء بالهدى ، ومن أجاز أن يأتي أفعل بمعنى فاعل ، وأجاز مع ذلك أن ينصب به ، جاز أن ينتصب به ، إذ يؤوله بمعنى عالم ، ويعطيه حكمه من العمل.

ولما وعده تعالى أنه يرده إلى معاد ، وأنه تعالى فرض عليه القرآن ، أمره أن يقول للمشركين ذلك ، أي هو تعالى عالم بمن جاء بالهدى ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما يستحقه من الثواب في معاده ، وهذا إذا عنى بالمعاد ما بعد الموت. ويعني بقوله : (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : المشركين الذين أمره الله بأن يبلغهم ذلك ، هو عالم بهم ، وبما يستحقونه من العقاب في معادهم ، وفي ذلك متاركة للكفار وتوبيخ. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) : هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله ، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه. وقيل : بل هو معلق بقوله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، وأنت بحال من لا يرجو ذلك ، وانتصب رحمة على الاستثناء المنقطع ، أي لكن رحمة من ربك سبقت ، فألقى إليك الكتاب. وقال الزمخشري : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمة من ربك. انتهى. فيكون استثناء متصلا ، إما من الأحوال ، وإما من المفعول له. وقرأ الجمهور : يصدنك ، مضارع صد وشدوا النون ، ويعقوب كذلك ، إلا أنه خففها. وقرىء : يصدنك ، مضارع أصد ، بمعنى صد ، حكاه أبو زيد ، عن رجل من كلب قال : وهي لغة قومه ، وقال الشاعر :

أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم

صدود السواقي عن أنوف الحوائم

(بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) : أي بعد وقت إنزالها ، وإذ تضاف إليها أسماء الزمان كقوله : (بَعْدَ

٣٣١

إِذْ هَدَيْتَنا) (١) ، ويومئذ ، وحينئذ. قال الضحاك : وذلك حين دعوه إلى دين إبائه ، أي لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم ، فيصدونك عن اتباع آيات الله. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي دين ربك ، وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها للرسول ، وهي في الحقيقة لأتباعه ، والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض ، فالمعنى : أن الله يعدم كل شيء سواه. وبإزاء نفي الانتفاع به ، إما للإماتة ، أو بتفريق الأجزاء ، وإن كانت نافية يقال : هلك الثوب ، لا يريدون فناء أجزائه ، ولكن خروجه عن الانتفاع به. ومعنى : (إِلَّا وَجْهَهُ) : إلا إياه ، قاله الزجاج. وقال مجاهد ، والسدي : هالك بالموت إلا العلماء ، فإن علمهم باق. انتهى. ويريدون إلا ما قصد به وجهه من العلم ، فإنه باق. وقال الضحاك : إلا الله عزوجل ، والعرش ، والجنة ، والنار. وقيل : ملكه ، ومنه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (٢). وقال أبو عبيدة : المراد بالوجه : جاهه الذي جعله في الناس. وقال سفيان الثوري : إلا وجهه ، ما عمل لذاته ، ومن طاعته ، وتوجه به نحوه ، ومنه قول الشاعر :

رب العباد إليه الوجه والعمل

وقوله : يريدون وجهه. (لَهُ الْحُكْمُ) : أي فصل القضاء. (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي إلى جزائه. وقرأ عيسى : ترجعون ، مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ١٦.

٣٣٢

سورة العنكبوت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً

٣٣٣

فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي

٣٣٤

نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ

٣٣٥

نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا

٣٣٦

وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)

(الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ، مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).

٣٣٧

هذه السورة مكية ، قاله جابر وعكرمة والحسن. وقال ابن عباس ، وقتادة : مدنية. وقال يحيى بن سلام : مكية إلا من أولها إلى (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ، ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة ، قاله السدي ؛ أو في عمار ونظرائه ممن كان يعذب في الله ، قاله ابن عمر ؛ أو في مسلمين كان كفار قريش يؤذونهم ، قاله مجاهد ، وهو قريب مما قبله ؛ أو في مهجع مولى عمر ، قتل ببدر فجزع أبواه وامرأته عليه ، وقال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة» ؛ أو في عياش أخي أبي جهل ، غدر فارتد.

و (النَّاسُ) : فسر بمن نزلت فيه الآية. وقال الحسن : الناس هنا المنافقون ، أي أن يتركوا لمجرد قولهم آمنا. وحسب يطلب مفعولين. فقال الحوفي ، وابن عطية ، وأبو البقاء : سدت أن وما بعدها من معمولها مسد القولين ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يقولوا بدلا من أن يتركوا. وأن يكونوا في موضع نصب بعد إسقاط الخافض ، وقدروه بأن يقولوا ولأن يقولوا. وقال ابن عطية ، وأبو البقاء : وإذا قدرت الباء كان حالا. قال ابن عطية : والمعنى في الباء واللام مختلف ، وذلك أنه في الباء كما تقول : تركت زيدا بحاله ، وهي في اللام بمعنى من أجل ، أي حسبوا أن إيمانهم علة للترك تفسير معنى ، إذ تفسير الأعراب حسبانهم أن الترك لأجل تلفظهم بالإيمان. وقال الزمخشري : فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان؟ قلت : هو في قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وذلك أن تقديره حسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب ، ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة للترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :

فتركته جزر السباع ينشنه

ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركتهم غير مفتونين ، لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام؟ فإن قلت : (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت : كما تقول : خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قوله : خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا ، تعليلين. وتقول أيضا : حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلها مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا. انتهى ، وهو كلام فيه اضطراب.

ذكر أولا أن تقديره غير مفتونين تتمة ، يعني أنه حال ، لأنه سبك ذلك من قوله :

٣٣٨

(وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وهذه جملة حالية. ثم ذكر (أَنْ يُتْرَكُوا) هنا من الترك الذي هو من التصيير ، وهذا لا يصح ، لأن مفعول صير الثاني لا يستقيم أن يكون لقولهم ، إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، وهذا كلام لا يصح. وأما ما مثل به من البيت فإنه يصح ، وأن يكون جزر السباع مفعولا ثانيا لترك بمعنى صير ، بخلاف ما قدر في الآية.

وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا ، على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام ، فلا يصح ؛ إذ كان تركهم بمعنى تصييرهم ، كان غير مفتونين حالا ، إذ لا ينعقد من تركهم ، بمعنى تصييرهم ، وتقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم ، بمعنى تصييرهم ، إلى مفعول ثان ، لأن غير مفتونين عنده حال ، لا معفول ثان.

وأما قوله : فإن قلت (أَنْ يَقُولُوا) إلى آخره ، فيحتاج إلى فضلة فهم ، وذلك أن قوله : (أَنْ يَقُولُوا) هو علة تركهم فليس كذلك ، لأنه لو كان علة له لكان متعلقا ، كما يتعلق بالفعل ، ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن ، والخبر غير المبتدأ. ولو كان لقولهم علة للترك ، لكان من تمامه ، فكان يحتاج إلى خبر. وأما قوله : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، فلمخافة ليس علة للخروج ، بل للخبر المحذوف الذي هو مستقر ، أو كائن. (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، قال الشعبي : الفتنة هنا ما كلفه المؤمنون من الهجرة التي لم يتركوا دونها. وقال الكلبي : هو مثال ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) (١). وقال مجاهد : يتبتلون في أنفسهم وأموالهم.

و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : المؤمنون أتباع الأنبياء ، أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ، وتمشط بأمشاط الحديد ، ولا يرجع عن دينه. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) ، بالامتحان ، (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ، ويستحيل حدوث العلم لله تعالى. فالمعنى : وليتعلقن علمه به موجودا به كما كان متعلقا به حين كان معدوما. والمعنى : وليميزن الصادق منهم من الكاذب ، أو عبر بالعلم عن الجزاء ، أي وليتبين الصادق وليعذبن الكاذب. ومعنى صدقوا في إيمانهم يطابق قولهم واعتقادهم أفعالهم ، والكاذبين ضد ذلك. وقرأ علي ، وجعفر بن محمد : فليعلمن ، مضارع المنقولة بهمزة التعدي من علم المتعدية إلى واحد ، والثاني محذوف ، أي منازلهم

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦٥.

٣٣٩

في الآخرة من ثواب وعقاب ؛ أو الأول محذوف ، أي فليعلمن الناس الذين صدقوا ، أي يشهرهم هؤلاء في الخير ، وهؤلاء في الشر ، وذلك في الدنيا والآخرة ، أو من العلامة فيتعدى إلى واحد ، أي يسمهم بعلامة تصلح لهم ، كقوله : «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها». وقرأ الزهري : الأولى كقراءة الجماعة ، والثانية كقراءة علي.

(أَمْ حَسِبَ) ، قال ابن عطية : أم معادلة للألف في قوله : (أَحَسِبَ) ، وكأنه عزوجل قرر الفريقين : قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك ، على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه. انتهى. وليست أم هنا معادلة للألف في أحسب ، كما ذكر ، لأنها إذ ذاك تكون متصلة ، ولها شرطان : أحدهما : أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام ، وهذا الشرط هنا موجود. والثاني : أن يكون بعدها مفرد ، أو ما هو في تقدير المفرد. مثال المفرد : أزيد قائم أم عمرو؟ ومثال ما هو في تقدير المفرد : أقام زيد أم قعد؟ وجوابها : تعيين أحد الشيئين ، إن كان التعادل بين شيئين ؛ أو الأشياء ، إن كان بين أكثر من شيئين. وهنا بعد أم جملة ، ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين ، بل أم هنا منقطعة ، بمعنى بل التي للإضراب ، بمعنى الانتقال من قضية إلى قضية ، لا بمعنى الإبطال. وهمزة الاستفهام والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ والإنكار ، فلا يقتضي جوابا ، لأنه في معنى : كيف وقع حسبان ذلك؟

و (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) ، قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة ، وأبا جهل ، والأسود ، والعاصي بن هشام ، وشيبة ، وعتبة ، والوليد بن عتبة ، وعقبة بن أبي معيط ، وحنظلة بن أبي سفيان ، والعاصي بن وائل ، وأنظارهم من صناديد قريش. انتهى. والآية ، وإن نزلت على سبب ، فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم. وقال مجاهد : (أَنْ يَسْبِقُونا) : أي يعجزونا ، فلا نقدر على الانتقام ، وقيل : أن يعجلونا محتوم القضاء ، وقيل : أن يهربوا منا ويفوتونا بأنفسهم. وقال الزمخشري : (أَنْ يَسْبِقُونا) : أن يفوتونا ، يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدثوا به أنفسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة ، وإصرارهم على المعاصي في صورة من يقدم ذلك ويطمع فيه ؛ ونظيره : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) (١) ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٢). فإن قلت : أين مفعولا حسب؟ قلت : اشتمال صلة أن على

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٢ ، وسورة الشورى : ٤٢ / ٣١.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٥٩.

٣٤٠