البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

بعد الفاء. واللام في (وَلَئِنْ) مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعا تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) (١) : أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ، وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في (مِنْ بَعْدِهِ) عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته. وتقدم الكلام على قوله : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إلى قوله : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله : (فَإِنَّكَ).

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

لما ذكر دلائل الآفاق ، ذكر شيئا من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته ، كقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (٢). والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال. والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم. وقيل : (مِنْ ضَعْفٍ) : من النطفة ، كقوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣). والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه. وقرأ الجمهور : بضم الضاد في ضعف معا ؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء. وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في الثاني. وقرأ عيسى : بضمتين فيهما. والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف. وقال كثير من اللغويين : الضم في البدن ، والفتح في العقل. (ما لَبِثُوا) : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٧.

(٣) سورة السجدة : ٣٢ / ٨ ، وسورة المرسلات : ٧٧ / ٢٠.

٤٠١

التركيب : ما لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب. (يُؤْفَكُونَ) : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.

(الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. (فِي كِتابِ اللهِ) : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفا وتنبيها على محله من العلم. وقيل : (فِي كِتابِ اللهِ) : اللوح المحفوظ ، وقيل : في علمه ، وقيل : في حكمه. وقرأ الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرئ : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر. وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان. (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب الله ، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكا للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفا بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول. والفاء في : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) ، اعتقبها في الذكر. قال الزمخشري : فإن قلت : ما هذه الفاء ، وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :

فقد جئنا خراسانا

وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول : قد جئنا خراسانا ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ، وجعل الفاء جوابا لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير. (فَيَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم. وقرأ الكوفيون : (لا يَنْفَعُ) ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول ؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ، قال الزمخشري : من قولك : استعتبني فلان فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانيا عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله :

غضبت تميم أن يقتل عامر

يوم النثار فأعتبوا بالصيلم

٤٠٢

كيف جعلهم غضابا. ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (١). فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢)؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه ؛ وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه ؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضين منه. فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ، وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك.

والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل : لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون. وقيل : لا يطلب لهم العتبى. وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة ، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار. وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. و (أَنْتُمْ) : خطاب للرسول والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد الله الرازي : وفي توحيد الخطاب بقوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) ، والجمع في قوله : (إِنْ أَنْتُمْ) لطيفة ، وهي : أن الله عزوجل قال : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) : أي مثل هذا الطبع يطبع الله ، أي يختم على قلوب الجهلة الذين قد ختم الله عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو فاعل ذلك ومقدره. وقال الزمخشري : ومعنى طبع الله : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين

__________________

(١) سورة الجاثية : ٤٥ / ٣٥.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٢٤.

٤٠٣

مبطلين ، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة. وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب : ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق ؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من الاستخفاف ؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.

٤٠٤

سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ

٤٠٥

إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ

٤٠٦

شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)

لقمان : اسم علم ، فإن كان أعجميا فمنعه من الصرف للعجمة والعلمية ، وإن كان عربيا فمنعه للعلمية وزيادة الألف والنون ، ويكون مشتقا من اللقم مرتجلا ، إذ لا يعلم له وضع في النكرات. صعر : مشدد العين ، لغة بني تميم. قال شاعرهم :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فيقوم

فيقوم : أمر بالاستقامة للقوافي في المخفوضة ، أي فيقوم إن قاله أبو عبيدة وإنشاد الطبري فيقوما فعلا ماضيا خطأ ، وتصاعر لغة الحجاز ، ويقال : يصعر. قال الشاعر :

أقمنا له من خده المتصعر

ويقال : أصعر خده. قال الفضل : هو الميل ، وقال اليزيدي : هو التشدق في الكلام. وقال أبو عبيدة : أصل هذا من الصعر ، داء يأخذ الإبل في رؤوسها وأعناقها ، فتلتوي منه أعناقها. القلم : معروف. الختار : شديد الغدر ، ومنه قولهم :

إنك لا تمد إلينا شبرا من غدر

إلا مددنا لك باعا من ختر

وقال عمرو بن معدي كرب :

وإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى :

فالأيلق الفرد من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختار

(الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ

٤٠٧

الْمُفْلِحُونَ ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ، هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

هذه السورة مكية ، قال ابن عباس : إلا ثلاث آيات ، أولهنّ : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ). وقال قتادة : إلا آيتين ، أوّلهما : (وَلَوْ أَنَ) إلى آخر الآيتين ، وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه ، وعن بر والديه ، فنزلت. وقيل : نزلت بالمدينة إلا الآيات الثلاثة : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) إلى آخرهنّ ، لما نزل (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١). وقول اليهود : إن الله أنزل التوراة على موسى وخلفها فينا ومعنا ، فقال الرسول : «التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله» ، فنزل : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ). ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) (٢) ، فأشار إلى ذلك بقوله : (الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ؛ وكان في آخر تلك : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) (٣) ، وهنا : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) ، وتلك إشارة إلى البعيد ، فاحتمل أن يكون ذلك لبعد غايته وعلو شأنه.

و (آياتُ الْكِتابِ) : القرآن واللوح المحفوظ. ووصف الكتاب بالحكيم ، إما لتضمنه للحكمة ، قيل : أو فعيل بمعنى المحكم ، وهذا يقل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، ومنه عقدت العسل فهو عقيد ، أي معقد ، ويجوز أن يكون حكيم بمعنى حاكم. وقال الزمخشري : الحكيم : ذو الحكمة ؛ أو وصف لصفة الله عزوجل على الإسناد المجازي ، ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قابله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة. وقرأ الجمهور : (هُدىً وَرَحْمَةً) ، بالنصب على الحال من الآيات ، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، قاله الزمخشري وغيره ، ويحتاج إلى نظر. وقرأ حمزة ، والأعمش ، والزعفراني ، وطلحة ، وقنبل ، من طريق أبي الفضل الواسطي : بالرفع ، خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر ،

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٥.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٥٨.

(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٥٨.

٤٠٨

على مذهب من يجيز ذلك. (لِلْمُحْسِنِينَ) : الذين يعملون الحسنات ، وهي التي ذكرها. كإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ، ونظيره قول أوس :

الألمعي الذي يظن بك ال

ظن كأن قد رأى وقد سمعا

حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد ، وخص المحسنون ، لأنهم هم الذين انتفعوا به ونظروه بعين الحقيقة. وقيل : الذين يعملون بالحسن من الأعمال ، وخص منهم القائمون بهذه الثلاثة ، لفضل الاعتداد بها. ومن صفة الإحسان ما جاء في الحديث من أن الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه». وقيل : المحسنون : المؤمنون. وقال ابن سلام : هم السعداء. وقال ابن شجرة : هم المنجحون. وقيل : الناجون ، وكرر الإشارة إليهم تنبيها على عظم قدرهم. ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة ، وأنه هدى ورحمة ، وأن متبعه فائز ، ذكر حال من يطلب من بدل الحكمة باللهو ، وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشتريا له وباذلا فيه رأس عقله ، وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله.

ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، كان يتجر إلى فارس ، ويشتري كتب الأعاجم ، فيحدث قريشان بحديث رستم واسفندار ويقول : أنا أحسن حديثا. وقيل : في ابن خطل ، اشترى جارية تغني بالسب ، وبهذا فسر (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : المعازف والغناء. وفي الحديث من رواية أبي أمامة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شراء المغنيات وبيعهم حرام» ، وقرأ هذه الآية. وقال الضحاك : (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : الشرك. وقال مجاهد ، وابن جريج : الطبل ، وهذا ضرب من آلة الغناء. وقال عطاء : الترهات. وقيل : السحر. وقيل : ما كان يشتغل به أهل الجاهلية من السباب. وقال أيضا : ما شغلك عن عبادة الله ، وذكره من السحر. والأضاحيك والخرافات والغناء. وقال سهل : الجدال في الدين والخوض في الباطل ، والظاهر أن الشراء هنا مجاز عن اختيار الشيء ، وصرف عقله بكليته إليه. فإن أريد به ما يقع عليه الشراء ، كالجواري المغنيات عند من لا يرى ذلك ، وككتب الأعاجم التي اشتراها النضر ؛ فالشراء حقيقة ويكون على حذف ، أي من يشتري ذات لهو الحديث. وإضافة لهو إلى الحديث هي لمعنى من ، لأن اللهو قد يكون من حديث ، فهو كباب ساج ، والمراد بالحديث : الحديث المنكر. وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى من التبعيضية ، كأنه قال : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. انتهى.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ليضل بفتح الياء ، وباقي السبعة : بضمها. قال

٤٠٩

الزمخشري : فإن قلت : القراءة بالرفع بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده بأن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف. فإن قلت : قوله بغير علم ما معناه؟ قلت : لما جعله مشتريا لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق ، ونحوه قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١) ، أي وما كانوا مهتدين للتجارة وبصراء بها. انتهى. و (سَبِيلِ اللهِ) : الإسلام أو القرآن ، قولان. قال ابن عطية : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر ، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : (لِيُضِلَ) إلى آخره. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : (وَيَتَّخِذَها) ، بالنصب عطفا على (لِيُضِلَ) ، تشريكا في الصلة ؛ وباقي السبعة : بالرفع ، عطفا على (يَشْتَرِي) ، تشريكا في الصلة. والظاهر عود ضمير (وَيَتَّخِذَها) على السبيل ، كقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (٢). قيل : ويحتمل أن يعود على (آياتُ الْكِتابِ). وقال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) (٣). قيل : ويحتمل أن يعود على الأحاديث ، لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث. وقال صاحب التحرير : ويظهر لي أنه أراد بلهو الحديث : ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم ، والأمر بالدوام عليه ، وتفسير صفة الرسول ، وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق ، يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان ، وأطلق اسم الشراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم ، ويؤيده (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي دينه. انتهى ، وفيه بعض حذف وتلخيص.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ) : بدأ أولا بالحمل على اللفظ ، فأفرد في قوله : (مَنْ يَشْتَرِي) ، و (لِيُضِلَ) ، و (يَتَّخِذَها) ، ثم جمع على الضمير في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) ، ثم حمل على اللفظ فأفرد في قوله : (وَإِذا تُتْلى) إلى آخره. ومن في : (مَنْ يَشْتَرِي) موصولة ، ونظيره في من الشرطية قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) (٤) ، فما بعده أفرد ثم قال : (خالِدِينَ) ، فجمع ثم قال : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (٥) ، فأفرد ، ولا نعلم جاء في القرآن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٤٥ ، وسورة هود : ١١ / ١٩.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٣١.

(٤) سورة التغابن : ٦٤ / ٩ ـ ١١.

(٥) سورة الطلاق : ٦٥ / ١١.

٤١٠

ما حمل على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، غير هاتين الآيتين. والنحويون يذكرون (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) الآية فقط ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، ويستدلون بها على أن هذا الحكم جار في من الموصولة ونظيرها مما لم يثن ولم يجمع من الموصولات. وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولية عن الحكمة ، ثم الاستكبار ، ثم عدم الالتفات إلى سماعها ، كأنه غافل عنها ، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صمما يصده عن السماع. و (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) : حال من الضمير في (مُسْتَكْبِراً) ، أي مشبها حال من لم يسمعها ، لكونه لا يجعل لها بالا ولا يلتفت إليها ؛ وكأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن واجب الحذف. و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) : حال من لم يسمعها. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكونا استئنافين. انتهى ، يعني الجملتين التشبيهيتين.

ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم ، ذكر ما وعد به المؤمنين. وقرأ زيد بن علي : خالدون ، بالواو ؛ والجمهور : بالياء. وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لنفسه ، و (حَقًّا) على المصدر المؤكد لغيره ، لأن قوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) ، والعامل فيها متغاير ، فوعد الله منصوب ، أي يوعد الله وعده ، وحقا منصوب بأحق ذلك حقا. (خَلَقَ السَّماواتِ) إلى (فَأَنْبَتْنا فِيها) ، تقدم الكلام على ذلك. ومعنى (كَرِيمٍ) : مدحته بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره ، وما تقضي له النفوس بأنه أفضل من غيره حتى استحق الكرم ، فيخص لفظ الأزواج ما كان نفيسا مستحسنا من جهة ، أو مدحته بإتقان صفته وظهور حسن الرتبة والتحكم للصنع فيه ، فيعم جميع الأزواج ، وهو الأنواع. (هذا خَلْقُ اللهِ) : إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته ، وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته. والخلق بمعنى المخلوق ، كقولهم : درهم ضرب الأمير ، أي مضروبه. ثم سألهم على جهة التهكم بهم أن يورده. وأما خلقته آلهتهم لما ذكر مخلوقاته ، فكيف عبدوها من دونه؟ ويجوز في ماذا أن تكون كلها موصولة بمعنى الذي ، وتكون مفعولا ثانيا لأروني. واستعمال ماذا كلها موصولا قليل ، وقد ذكره سيبويه. ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهو خبر عن ما ، والجملة في موضع نصب بأروني ، وأروني معلقة عن العمل لفظا لأجل الاستفهام. ثم أضرب عن توبيخهم وتبكيتهم إلى التسجيل عليهم بأنهم في حيرة واضحة لمن يتدبر ، لأن من عبد صنما وترك خالقه جدير بأن يكون في حيرة وتيه لا يقلع عنه.

٤١١

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ، يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

اختلف في لقمان ، أكان حرا أم عبدا؟ فإذا قلنا : كان حرا ، فقيل : هو ابن باعورا. قال وهب : ابن أخت أيوب عليه‌السلام. وقال مقاتل : ابن خالته. وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه‌السلام ، وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود ، فلما بعث داود ، قطع الفتوى ، فقيل له : لم؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وكان قاضيا في بني إسرائيل. وقال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل ، وزمانه ما بين عيسى ومحمد ، عليهما‌السلام ، والأكثرون على أنه لم يكن نبيا. وقال عكرمة ، والشعبي : كان نبيا. وإذا قلنا : كان عبدا ، اختلف في جنسه ، فقال ابن عباس ، وابن المسيب ، ومجاهد : كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر. وقال الفراء وغيره : كان حبشيا مجدوع الأنف ذا مشفر. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال ، فقال خالد بن الربيع : كان نجارا ، وفي معاني الزجاج : كان نجادا ، بالدال. وقال ابن المسيب : كان خياطا. وقال ابن عباس : كان راعيا. وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة. وهذا الاضطراب في كونه حرا أو عبدا ، وفي جنسه ، وفيما كان يعانيه ، يوجب أن لا يكتب شيء من ذلك ، ولا ينقل. لكن المفسرون مولعون بنقل المضطربات حشوا وتكثيرا ، والصواب تركه.

وحكمة لقمان مأثورة كثيرة ، منها : قيل له : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقال له داود ، عليه‌السلام ، يوما : كيف أصبحت؟ قال : أصبحت في يد غيري ، فتفكر داود فيه ، فصعق صعقة. وقال وهب بن منبه : قرأت في حكم لقمان أكثر من عشرة آلاف. و (الْحِكْمَةَ) : المنطق الذي يتعظ به ويتنبه به ، ويتناقله الناس لذلك. (أَنِ اشْكُرْ) ، قال الزمخشري : أن هي المفسرة ، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه

٤١٢

سبحانه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما ، أو عبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشك. وقال الزجاج : المعنى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) لأن يشكر الله ، فجعلها مصدرية ، لا تفسيرية. وحكى سيبويه : كتبت إليه بأن قم. (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) : أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكرين ، إذ هو تعالى غني عن الشكر ، فشكر الشاكر لا ينفعه ، وكفر من كفر لا يضره. و (حَمِيدٌ) : مستحق الحمد لذاته وصفاته.

(وَإِذْ قالَ) : أي واذكر إذ ، وقيل : يحتمل أن يكون التقدير : وآتيناه الحكمة ، إذ قال ، واختصر لدلالة المتقدم عليه. وابنه بارّ ، أي : أو أنعم ، أو اشكر ، أو شاكر ، أقوال. (وَهُوَ يَعِظُهُ) : جملة حالية. قيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما. والظاهر أن قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) من كلام لقمان. وقيل : هو خبر من الله ، منقطع عن كلام لقمان ، متصل به في تأكيد المعنى ؛ وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان. وقرأ البزي : (يا بُنَيَ) ، بالسكون ، و (يا بُنَيَّ إِنَّها) : بكسر الياء ، و (يا بُنَيَّ أَقِمِ) : بفتحها. وقيل : بالسكون في الأولى والثانية ، والكسر في الوسطى ؛ وحفص والمفضل عن عاصم : بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا ، والاجتزاء بالفتحة عن الألف. وقرأ باقي السبعة : بالكسر في الثلاثة.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) : لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه ، كان ذلك حثا على طاعة الله ، ثم بين أن الطاعة تكون للأبوين ، وبين السبب في ذلك ، فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه ، أخبر الله عنه بذلك. وقيل : هو من كلام الله ، قاله للقمان ، أي قلنا له اشكر. وقلنا له : (وَوَصَّيْنَا). وقيل : هذه الآية اعتراض بيّن أثناء وصيته للقمان ، وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده ، وامتثال أمره في طاعة الله تعالى. وقال القرطبي : والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص ، وعليه جماعة من المفسرين. ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية ، نبه على السبب الموجب للإيصاء ، ولذلك جاء في الحديث الأمر ببرّ الأم ثلاث مرات ، ثم ذكر الأب ، فجعل له مرة الربع من المبرة.

(وَهْناً عَلى وَهْنٍ) ، قال ابن عباس : شدة بعد شدة ، وخلقا بعد خلق. وقال الضحاك : ضعفا بعد ضعف. وقال قتادة : جهدا على جهد ، يعني : ضعف الحمل ، وضعف الطلق ، وضعف النفاس ، وانتصب على هذه الأقوال على الحال. وقيل : (وَهْناً

٤١٣

عَلى وَهْنٍ) : نطفة ثم علقة ، إلى آخر النشأة ، فعلى هذا يكون حالا من الضمير المنصوب في حملته ، وهو الولد. وقرأ عيسى الثقفي ، وأبو عمرو في رواية : وهنا على وهن ، بفتح الهاء فيهما ، فاحتمل أن يكون كالشعر والشعر ، واحتمل أن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن وهنا ، بفتحها في المصدر قياسا. وقرأ الجمهور : بسكون الهاء فيهما. وقرأوا : (وَفِصالُهُ). وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والجحدري ، ويعقوب : وفصله ، ومعناه الفطام ، أي في تمام عامين ، عبر عنه بنهايته ، وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه. و (أَنِ اشْكُرْ) في موضع نصب ، على قول الزجاج. وقال النحاس : الأجود أن تكون مفسرة. (لِي) : أي على نعمة الإيمان. (وَلِوالِدَيْكَ) : على نعمة التربية (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) : توعد أثناء الوصية. (وَإِنْ جاهَداكَ) إلى : (فَلا تُطِعْهُما) : تقدم الكلام عليه في العنكبوت ، إلا أن هنا عليّ ، وهناك لتشرك بلام العلة. وانتصب (مَعْرُوفاً) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي صحابا ، أو مصاحبا معروفا وعشرة جميلة ، وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما ، وعيادتهما إذا مرضا ، ومواراتهما إذا ماتا. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) : أي رجع إلى الله ، وهو سبيل الرسول لا سبيلهما. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) : أي مرجعك ومرجعهما ، فأجازي كلا منكم بعمله.

ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك ، نبهه على قدرة الله ، وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شيء فقال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) ، والظاهر أن الضمير في إنها ضمير القصة. وقرأ نافع : مثقال ، بالرفع على (إِنْ تَكُ) تامة ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر ، وأخبر عن مثقال ، وهو مذكر ، إخبار المؤنث ، لأضافته إلى مؤنث ، وكأنه قال : إن تك زنة حبة ؛ وباقي السبعة : بالنصب على (إِنْ تَكُ) ناقصة ، واسمها ضمير يفهم من سياق الكلام تقديره : هي ، أي التي سألت عنها. وكان فيما روي قد سأل لقمان ابنه : أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر؟ أيعلمها الله؟ فيكون الضمير ضمير جوهر لا ضمير عرض ، ويؤيده قوله : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ). وقرأ عبد الكريم الجزري : فتكن ، بكسر الكاف وشد النون وفتحها ؛ وقراءة محمد بن أبي فجة البعلبكي : فتكن ، بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة. وقرأ قتادة : فتكن ، بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ، من وكن يكن ، ورويت هذه القراءة عن عبد الكريم الجزري أيضا : أي تستقر ، ويجوز أن يكون الضمير ضمير عرض ، أي تلك الفعلة من الطاعة أو المعصية. وعلى من قرأ بنصب مثقال ، يجوز أن

٤١٤

يكون الضمير في أنها ضمير الفعلة ، لا ضمير القصة. قال الزمخشري : فمن نصب يعني مثقال ، كان الضمير للهيئة من الإساءة والإحسان ، أي كانت مثلا في الصغر والقماءة ، كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه ، كجوف الصخرة ، أو حيث كانت من العالم العلوي أو السفلي.

(يَأْتِ بِهَا اللهُ) ، يوم القيامة ، فيحاسب عليها. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) ، يتوصل علمه إلى كل خفي. (خَبِيرٌ) : عالم بكنهه. وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها. وبدأ له بما يتعلق به أولا ، وهو كينونة الشيء. (فِي صَخْرَةٍ) : وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ، ثم أتبعه بالعالم العلوي ، وهو أغرب للسامع ، ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد ، وهو الأرض. وعن ابن عباس والسدي ، أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض. قال ابن عباس : هي تحت الأرضين السبع ، يكتب فيها أعمال الفجار. قال ابن عطية : قيل : أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء ، وهي على ظهر ملك. وقيل : هي صخرة في الريح ، وهذا كله ضعيف لا يثبت سنده ، وإنما معنى الكلام : المبالغة والانتهاء في التفهيم ، أي إن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة ، وما يكون في السماء والأرض. انتهى. قيل : وخفاء الشيء يعرف بصغره عادة ، ويبعده عن الرائي. وبكونه في ظلمة وباحتجابه ، ففي صخرة إشارة إلى الحجاب ، وفي السموات إشارة إلى البعد ، وفي الأرض إشارة إلى الظلمة ، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن. وفي قوله : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) دلالة على العلم والقدرة ، كأنه قال : يحيط بها علمه وقدرته.

ولما نهاه أولا عن الشرك ، وأخبره ثانيا بعلمه تعالى وباهر قدرته ، أمره بما يتوسل به إلى الله من الطاعات ، فبدأ بأشرفها ، وهو الصلاة ، حيث يتوجه إليه بها ، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها ، أو على ما يصيبه بسبب الأمر بالمعروف ممن يبعثه عليه ، والنهي عن المنكر ممن ينكره عليه ، فكثيرا ما يؤذى فاعل ذلك ، وهذا إنما يريد به بعد أن يمثل هو في نفسه فيأتي بالمعروف. إن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به. والعزم مصدر ، فاحتمل أن يراد به المفعول ، أي من معزوم الأمور ، واحتمل أن يراد به الفاعل ، أي عازم الأمور ، كقوله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (١). وقال ابن جريج : مما عزمه الله وأمر به ؛ وقيل : من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة. والظاهر أنه يريد من لازمات الأمور الواجبة ، لأن الإشارة

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٢١.

٤١٥

بذلك إلى جميع ما أمر به ونهى عنه. وهذه الطاعات يدل إيصاء لقمان على أنها كانت مأمورا بها في سائر الملل. والعزم : ضبط الأمر ومراعاة إصلاحه. وقال مؤرج : العزم : الحزم ، بلغة هذيل. والحزم والعزم أصلان ، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء ، لا طراد تصاريف كل واحد من اللفظين ، فليس أحدهما أصلا للآخر.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) : أي لا تولهم شق وجهك ، كفعل المتكبر ، وأقبل على الناس بوجهك من غير كبر ولا إعجاب ، قاله ابن عباس والجماعة. قال ابن خويز منداد : نهى أن يذل نفسه من غير حاجة ، وأورد قريبا من هذا ابن عطية احتمالا فقال : ويحتمل أن يريد : ولا سؤالا ولا ضراعة بالفقر. قال : والأول ، يعني تأويل ابن عباس والجماعة ، أظهر لدلالة ذكر الاختيال والعجز بعده. وقال مجاهد : (وَلا تُصَعِّرْ) ، أراد به الإعراض ، كهجره بسب أخيه. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وزيد بن علي : تصعر ، بفتح الصاد وشد العين ؛ وباقي السبعة : بألف ؛ والجحدري : يصعر مضارع أصعر. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) : تقدم الكلام على هذه الجملة في سورة سبحان. (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) : تقدم الكلام في النساء على نظير هذه الجملة في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (١). ولما وصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ صار هو في نفسه ممتثلا للمعروف مزدجرا عن المنكر ، أمر به غيره وناهيا عنه غيره ، نهاه عن التكبر على الناس والإعجاب والمشي مرحا ، وأخبره أنه تعالى لا يحب المختال ، وهو المتكبر ، ولا الفخور. قال مجاهد : وهو الذي يعدد ما أعطى ، ولا يشكر الله. ويدخل في الفخور : الفخر بالأنساب.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : ولما نهاه عن الخلق الذميم ، أمره بالخلق الكريم ، وهو القصد في المشي ، بحيث لا يبطىء ، كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون ، يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامسين للرياء والمتعاجب للترفع ، ولا يسرع ، كما يفعل الخرق المتهور. ونظر أبو جعفر المنصور إلى أبي عمرو بن عبيد فقال : كلكم يمشي رويدا ، كلكم يطلب صيدا ، غير عمرو بن عبيد. وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، ولكن مشيا بين ذلك. وقيل معناه : اجعل بصرك موضع قدمك. وقرىء : وأقصد ، بهمزة القطع : أي سدد في مشيك ؛ من أقصده الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ، ونسبها ابن خالويه للحجاز. والغض من الصوت : التنقيص من

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٦.

٤١٦

رفعه وجهارته ، والغض : رد طموح الشيء ، كالصوت والنظر والزمام. وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت ، وتمدح به في الجاهلية ، ومنه قول الشاعر :

جهير الكلام جهير العطاس

جهير الرواء جهير النعيم

ويخطو على الأين خطو الظليم

ويعلو الرجال بخلق عميم

وغض الصوت أوفر للمتكلم ، وأبسط لنفس السامع وفهمه. وأنكر : أفعل ، إن بنى من فعل المفعول ، كقولهم : أشغل من ذات النحيين ؛ وبناؤه من ذلك شاذ. والأصوات : أصوات الحيوان كلها. وأنكر جماعة للمذام اللاحقة للأصوات ، والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة. شبه الرافعون أصواتهم بالحمير ، وأصواتهم بالنهاق ، ولم يؤت بأداة التشبيه ، بل أخرج مخرج الاستعارة ، وهذه أقصى مبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت. ولما كان صوت الحمير متماثلا في نفسه ، لا يكاد يختلف في الفظاعة ، أفرد لأنه في الأصل مصدر. وأما أصوات الحمير فغير مختلفة جدا ، جمعت في قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) ، فالمعنى : أنكر أصوات الحمير ، بالجمع بغير لام. وقال الحسن : كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات ، فرد عليهم بأنه لو كان خيرا ، فضل به الحمير. والظاهر أن قوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) من كلام لقمان لابنه ، تنفير له عن رفع الصوت ، ومماثلة الحمير في ذلك. قيل : هو من كلام الله تعالى ، وفرغت وصية لقمان في قوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) ردا لله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ، ورفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرج الغشاء الذي هو داخل الأذن. وقيل : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : إشارة إلى الأفعال ، (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : إشارة إلى الأقوال ، فنبه على التوسط في الأفعال ، وعلى الإقلال من فضول الكلام.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

٤١٧

ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

(سَخَّرَ لَكُمْ) : تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير (ما فِي السَّماواتِ) : من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ؛ (وَما فِي الْأَرْضِ) : من الحيوان ، والنبات ، والمعادن ، والبحار ، وغير ذلك ؛ وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء. وقرأ ابن عباس ، ويحيى بن عمارة : وأصبغ بالصاد ، وهي لغة لبني كلب ، يبدلونها من السين ، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صادا ؛ وباقي القراء : بالسين على الأصل. وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : (نِعَمَهُ) جمعا مضافا للضمير ؛ وباقي السبعة ، وزيد بن علي : نعمة ، على الإفراد. والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر. وعن الضحاك ، الظاهرة : حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة. وقيل : الظاهرة : البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح ، والباطنة : القلب والعقل والفهم. والذي ينبغي أن يقال : إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلا. فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها ، ولا يهتدي إلى العلم بها؟ وانتصب (ظاهِرَةً) على الحال من (نِعَمَهُ) ، الجمع على الصفة ، ومن نعمة على الإفراد. وتقدم الكلام على : (وَمِنَ النَّاسِ) إلى : (مُنِيرٍ) ، في الحج ، وعلى ما بعده إلى : (آباءَنا) ، في نظيره في البقرة. (أَوَلَوْ) : كان تقديره : أيتبعونهم في أحوالهم؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء؟ لأنها حال تلف وعذاب. وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه ولو ، إنما يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون ، نحو : اعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ، (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١). وكذلك هذا ، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع. وقرأ الجمهور : (وَمَنْ يُسْلِمْ) ، مضارع أسلم ؛ وعلي ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن يسار : بتشديد اللام ، مضارع سلم ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة ، والمراد :

التفويض إلى الله. (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : تقدم الكلام عليه في البقرة. وقال الزمخشري ، من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه. انتهى. ولما ذكر حال الكافر

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١٧.

٤١٨

المجادل ، ذكر حال المسلم ، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه. وقال ابن عطية : والعروة : موضع التعليق ، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله ، فشبه ذلك بالعروة. وسلى رسوله بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) ، إلى آخره ، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه ، ولا الانفكاك منه. والغلظ يكون في الإجرام ، فاستعير للمعنى ، والمراد : الشدة. (لَيَقُولُنَّ اللهُ) : أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره ، ويدعون مع ذلك إلها غيره. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ظهور الحجة عليهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : إضراب عن مقدر ، تقديره : ليس دعواهم ، نحو : لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح ، ولا يذهب إليه ذو علم. ثم أخبر أنه مالك للعالم كله ، وأنه هو الغني ، فلا افتقار له لشيء من الموجودات. (الْحَمِيدُ) : المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) : تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية. ولما ذكر تعالى أن ما في السموات والأرض ملك له ، وكان ذلك متناهيا ، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) ، وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، أي لو وقع أو ثبت على رأي المبرد ، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره ، وتقرر ذلك في علم النحو. و (مِنْ شَجَرَةٍ) : تبيين لما ، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه ، وتقديره : ولو أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة وأقلام خبر لأن ، وفيه دليل على بطلان دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا ، بل يجب أن يكون فعلا ، وهو قول باطل ، ولسان العرب طافع بالزيادة عليه. قال الشاعر :

ولو أنها عصفورة لحسبتها

مسومة تدعو عبيدا وأيما

وقال الآخر :

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر

تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

وقال آخر :

ولو أن حيا فائت الموت فاته

أخو الحرب فوق القارح القدوان

وهو كثير في لسانهم. والظاهر أن الواو في قوله : (وَالْبَحْرُ) ، في قراءة من رفع ، وهم

٤١٩

الجمهور ، واو الحال ؛ والبحر مبتدأ ، و (يَمُدُّهُ) الخبر ، أي حال كون البحر ممدودا. وقال الزمخشري : عطفا على محل إن ومعمولها على ولو ، ثبت كون الأشجار أقلاما ، وثبت أن البحر ممدودا بسبعة أبحر. انتهى. وهذا لا يتم إلا على رأي المبرد ، حيث زعم أن (أَنَ) في موضع رفع على الفاعلية. وقال بعض النحويين : هو عطف على أن ، لأنها في موضع رفع بالإبتداء ، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول : إن أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء ، ولو لا يليها المبتدأ اسما صريحا إلا في ضرورة شعر ، نحو قوله :

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصاري

فإذا عطفت والبحر على أن ومعموليها ، وهما رفع بالابتداء ، لزم من ذلك أن لو يليها الاسم مبتدأ ، إذ يصير التقدير : ولو البحر ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ، إلا أنه قد يقال : إنه يجوز في المعطوف عليه نحو : رب رجل وأخيه يقولان ذلك. وقرأ عبد الله : وبحر يمده ، بالتنكير بالرفع ، والواو للحال ، أو للعطف على ما تقدم ؛ وإن كانت الواو واو الحال ، كان بحر ، وهو نكرة ، مبتدأ ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته ، نحو قوله :

سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

وقرأ الجمهور : (يَمُدُّهُ) بالياء ، من مد ؛ وابن مسعود ، وابن عباس : بتاء التأنيث ، من مد أيضا ؛ وعبد الله أيضا ، والحسن ، وابن مطرف ، وابن هرمز : بالياء من تحت ، من أمد ؛ وجعفر بن محمد : والبحر مداده ، أي يكتب به من السواد. وقال ابن عطية : هو مصدر. انتهى. (مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد نفاد ما فيه ، (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) : لا يراد به الاقتصار على هذا العدد ، بل جيء به للكثرة ، كقوله : المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر في سبعة أمعاء ، لا يراد به العدد ، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة. ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعا في الأصل للتكثير ، وإن كان مرادا به التكثير ، جاء مميزه بلفظ القلة ، وهو أبحر ، ولم يقل بحور ، وإن كان لا يراد به أيضا إلا التكثير ، ليناسب بين اللفظين. فكما يجوز في سبعة ، واستعمل للتكثير ، كذلك يجوز في أبحر ، واستعمل للتكثير. وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى ، وكتب بها الكتاب كلمات الله.

(ما نَفِدَتْ) ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر ، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، (ما نَفِدَتْ) ، ونفدت الأقلام والمداد

٤٢٠