البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

البرسام ، ويحتاج إلى وحي بسفر عن هذا القول ، وإذا نظرت القرآن وجدت جملا كثيرة محذوفة ، وفيها الفاء نحو قوله : (فَأَرْسِلُونِ ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) (١) ، أي فأرسلوه ، فقال يوسف أيها الصديق ، والفرق الجزء المنفصل. والطود : الجبل العظيم المنطاد في السماء. وحكى يعقوب عن بعض القراء ، أنه قرأ كل فلق باللام عوض الراء.

(وَأَزْلَفْنا) : أي قربنا ، (ثَمَ) : أي هناك ، وثم ظرف مكان للبعد. (الْآخَرِينَ) : أي قوم فرعون ، أي قربناهم ، ولم يذكر من قربوا منه ، فاحتمل أن يكون المعنى : قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل ، أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد ، أو قربناهم من البحر. وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : وزلفنا بغير ألف. وقرأ أبي ، وابن عباس ، وعبد الله بن الحرث : وأزلقنا بالقاف عوض الفاء ، أي أزللنا ، قاله صاحب اللوامح. قيل : من قرأ بالقاف صار الآخرين فرعون وقومه ، ومن قرأ بالعامة يعني بالقراءة العامة ، فالآخرون هم موسى وأصحابه ، أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. انتهى ، وفي الكلام حذف تقديره : ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر وأنجينا. قيل : دخلوا البحر بالطول ، وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة ، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها. قال الزمخشري : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي ما تنبه أكثرهم عليها ولا آمنوا. وبنو إسرائيل ، الذين كانوا أصحاب موسى المخصوصين بالإنجاء ، قد سألوه بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وطلبوا رؤية الله جهرة. انتهى. والذي يظهر أن قوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي أكثر قوم فرعون ، وهم القبط ، إذ قد آمن السحرة ، وآمنت آسية امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وعجوز اسمها مريم ، دلت موسى على قبر يوسف عليه‌السلام ، واستخرجوه وحملوه معهم حين خرجوا من مصر.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ، قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ، قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤٥ ـ ٤٦.

١٦١

يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ، فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ، قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ، تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه‌السلام ، أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلو عليهم قصصه ، وما جرى له مع قومه. ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه‌السلام بتلاوة قصة إلا في هذه ، وإذ : العامل فيه. قال الحوفي : أتل ، ولا يتصور ما قال إلا بإخراجه عن الظرفية وجعله بدلا من نبأ ، واعتقاد أن العامل في البدل والمبدل منه واحد. وقال أبو البقاء : العامل في إذ نبأ. والظاهر أن الضمير في (وَقَوْمِهِ) عائد على إبراهيم. وقيل : على أبيه ، أي وقوم أبيه ، كما قال : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١). وما : استفهام بمعنى التحقير والتقرير. وقد كان إبراهيم عليه‌السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ، ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقا للعبادة ، لما ترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة. ولما سألهم عن الذي يعبدونه ، ولم يقتصروا على ذكره فقط ، بل أجابوا بالفعل ومتعلقه وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم ، فقالوا : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) : على سبيل الابتهاج والافتخار ، فأتوا بقصتهم معهم كاملة ، ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم : أصناما ، كما جاء : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) (٢) ، (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٣) ، ولذلك عطفوا على ذلك الفعل قولهم : (فَنَظَلُ). قال : كما تقول لرئيس : ما تلبس؟ فقال : ألبس مطرف الخز فأجر ذيوله ، يريد الجواب : وحاله مع ملبوسه. وقالوا : فنظل ، لأنهم كانو يعبدونهم بالنهار دون الليل. ولما أجابوا إبراهيم ، أخذ يوقفهم على قلة عقولهم ، باستفهامه عن أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢١٩.

١٦٢

وقرأ الجمهور : (يَسْمَعُونَكُمْ) ، من سمع ؛ وسمع إن دخلت على مسموع تعدّت إلى واحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، وإن دخلت على غير مسموع ، فمذهب الفارسي أنها تتعدى إلى اثنين ، وشرط الثاني منهما أن يكون مما يسمع ، نحو : سمعت زيدا يقرأ. والصحيح أنها تتعدى إلى واحد ، وذلك الفعل في موضع الحال ، والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. وهنا لم تدخل إلا على واحد ، ولكنه ليس بمسموع ، فتأولوه على حذف مضاف تقديره : هل يسمعونكم ، تدعون؟ وقيل : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) بمعنى : يجيبونكم. وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بضم الياء وكسر الميم من أسمع ، والمفعول الثاني محذوف تقديره : الجواب ، أو الكلام. وإذ : ظرف لما مضى ، فإما أن يتجاوز فيه فيكون بمعنى إذا ، وإما أن يتجاوز في المضارع فيكون قد وقع موقع الماضي ، فيكون التقدير : هل سمعوكم إذ دعوتم؟ وقد ذكر أصحابنا أن من قرائن صرف المضارع إلى الماضي إضافة إذ إلى جملة مصدرة بالمضارع ، ومثلوا بقوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) (١) ، أي وإذ قلت. وقال الزمخشري : وجاء مضارعا مع إيقاعه في إذ على حكاية الحال الماضية التي كنتم تدعونها فيها ، وقولوا : هل سمعوا ، أو اسمعوا قط؟ وهذا أبلغ في التبكيت. انتهى. وقرىء : بإظهار ذال إذ وبإدغامها في تاء تدعون. قال ابن عطية : ويجوز فيه قياس مذكر ، ولم يقرأ به أحد ؛ والقياس أن يكون اللفظ به ، إذ ددعون. فالذي منع من هذا اللفظ اتصال الدال الأصلية في الفعل ، فكثرة المتماثلات. انتهى. وهذا الذي ذكر أنه يجوز فيه قياس مذكر لا يجوز ، لأن ذلك الإبدال ، وهو إبدال التاء دالا ، لا يكون إلا في افتعل ، مما فاؤه ذال أو زاي أو دال ، نحو : اذدكر ، وازدجر ، وادهن ، أصله : اذتكر ، وازتجر ، وادتهن ؛ أو جيم شذوذ ، قالوا : أجد مع في اجتمع ، ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ، ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت : فزد ، وفي جلدت : جلدّ ، ومن تاء تولج شذوذا قالوا : دولج ، وتاء المضارعة ليست شيئا مما ذكرنا ، فلا تبدل تاؤه. وقول ابن عطية : والذي منع من هذا اللفظ إلى آخره ، يدل على أنه لو لا ذلك لجاز إبدال تاء ، المضارعة دالا وإدغام الذال فيها ، فكنت تقول : إذ تخرج : ادّخرج ، وذلك لا يقوله أحد ، بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء ، فتقول : أتخرج.

(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بتقربكم إليهم ودعائكم إياهم. (أَوْ يَضُرُّونَ) بترك عبادتكم إياهم ، فإذا لم ينفعوا ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها؟ (قالُوا بَلْ وَجَدْنا) هذه حيدة عن جواب

__________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

١٦٣

الاستفهام ، لأنهم لو قالوا : يسمعوننا وينفعوننا ويضروننا ، فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمتري فيه ، ولو قالوا : يسمعوننا ولا يضروننا ، أسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض ، فعدلوا إلى التقليد البحث لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة. والكاف في موضع نصب بيفعلون ، أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي يفعله ، وهو عبادتهم ؛ والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة. وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعا وإقرارا بالعجز.

(وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) : وصفهم بالأقدمين دلالة على ما تقادم عبادة الأصنام فيهم ، وإذ كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه‌السلام ، فزمان من بعده؟ وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ، قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع. قال الزمخشري : وإنما قال : (عَدُوٌّ لِي) ، تصورا للمسألة في نفسه على معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح. ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي‌الله‌عنه ، أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ؛ وسمع رجل ناسا يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم. انتهى. وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جمادا ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. ألا ترى إلى قوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ، وهو الشيطان. وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم. وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدو لي. والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير. وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون وسوى. انتهى. فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي). وجعله جماعة منهم الفراء ،

١٦٤

واتبعه الزمخشري استثناء منقطعا ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام. وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلا على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله ، وأجازوا في (الَّذِي خَلَقَنِي) النصب على الصفة لرب العالمين ، أو بإضمار ، أعني : والرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الذي. وقال الحوفي : ويجوز أن يكون (الَّذِي خَلَقَنِي) رفعا بالابتداء ، (فَهُوَ يَهْدِينِ) : ابتداء وخبر في موضع الخبر عن الذي ، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. انتهى. وليس الذي هنا فيه معنى اسم الشرط لأنه خاص ، ولا يتخيل فيه العموم ، فليس نظير : الذي يأتيني فله درهم ، وأيضا ليس الفعل الذي هو خلق لا يمكن فيه تحدد بالنسبة إلى إبراهيم.

وتابع أبو البقاء الحوفي في إعرابه هذا ، لكنه لم يقل : ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط. فإن كان أراد ذلك ، فليس بجيد لما ذكرناه ، وإن لم يرده ، فلا يجوز ذلك إلا على زيادة الفاء ، على مذهب الأخفش في نحو : زيد فاضربه ؛ الذي خلقني بقدرته فهو يهدين إلى طاعته. وقيل : إلى جنته. وقال الزمخشري : فهو يهدين ، يريد أنه حين أتم خلقه ، ونفخ فيه الروح عقب هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى ما يصلحه ويعينه ، وإلا فمن هداه إلى أن يغتذي بالدم في البطن امتصاصا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة؟ وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع؟ إلى غير ذلك من هدايات المعاش والمعاد. انتهى. والظاهر أن قوله : (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) : الطعام المعروف المعهود ، والسقي المعهود ، وفيه تعديد نعمة الرزق. وقال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب ، كما جاء أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ، ولما كانت الهداية قد يمكن ادعاؤها. والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي) ، وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر به نظام الخلق ، وهو الغذاء والشرب. ولما كان ذلك سببا لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بذلك مرض ذكر نعمته ، بإزالة ما حدث من السقم ، وأضاف المرض إلى نفسه ، ولم يأت التركيب : وإذا أمرضني ، وإن كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه‌السلام عدد نعم الله تعالى عليه والشفاء محبوب والمرض مكروه ، ولما لم يكن المرض منها ، لم يضفه إلى الله. وعن جعفر الصادق ، ولعله لا يصح : وإذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.

١٦٥

وقال الزمخشري : وإنما قال : مرضت دون أمرضني ، لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. ومن ثم قال الحكماء : لو قيل لأكثر الموتى : ما سبب آجالكم؟ لقالوا : التخم ، ولما كان الشفاء قد يعزى إلى الطيب ، وإلى الدواء على سبيل المجاز ؛ كما قال : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (١) ، أكد بقوله : (فَهُوَ يَشْفِينِ) : أي الذي هو يهدين ويطعمني ويسقين هو الله لا غيره.

ولما كانت الإماتة بعد البعث ، لا يمكن إسنادها إلا إلى الله ، لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرفة والقحة ، وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في : (وَالَّذِي أَطْمَعُ). وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يهديني وما بعده ، وهي رواية عن نافع. والطمع عبارة عن الرجاء ، وإبراهيم عليه‌السلام كان جازما بالمغفرة. فقال الزمخشري : لم يجزم القول بالمغفرة ، وفيه تعليم لأممهم ، وليكون لطفا بهم في اجتناب المعاصي والحذر منها ، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. انتهى. ورده الرازي قال : لأن حاصله يرجع إلى أنه ، ونطق بكلمة لا أذكرها ، وبعدها على نفسه لأجل تعليم الأمة ، وهو باطل قطعا. وقال الجبائي : أراد به سائر المؤمنين ، لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون. ورده الرازي بأن جعل كلام الواحد من كلام غيره ، مما يبطل نظم الكلام. وقال الحسن : المراد بالطمع اليقين. وقال الرازي : لا يستقيم هذا إلا على مذهبنا ، حيث قلنا : إنه لا يجب على الله شيء ، وإنه يحسن منه كل شيء ، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله. وقال ابن عطية : أوقف عليه الصلاة والسلام نفسه على الطمع في المغفرة ، وهذا دليل على شدة خوفه مع منزلته وخلته.

وقرأ الجمهور : (خَطِيئَتِي) على الإفراد ، والحسن : خطاياي على الجمع ، وذهب الأكثرون إلى أنها قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) (٢) ، و (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٣) ، وهي أختي في سارة. وقالت فرقة : أراد بالخطيئة اسم الجنس ، قدرها في كل أمره من غير تعيين. قال ابن عطية : وهذا أظهر عندي ، لأن تلك الثلاث قد خرجها كثير من العلماء على المعاريض. وقال الزمخشري : المراد ما يندر منه في بعض الصغائر ، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون مختارون على العالمين ، وهي قوله وذكر الثلاثة ثم قال وما هي إلا معاريض ، كلام وتخيلات للكفرة ، وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار. فإن قلت : إذا لم يندر منهم

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦٩.

(٢) سورة الصافات : ٣٩ / ٨٧.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٣.

١٦٦

إلا الصغائر ، وهي تقع مكفرة ، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا ، وطمع أن يغفر له؟ قلت : الجواب ما سبق ، أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم ، ويدل عليه قوله : أطمع ، ولم يجزم القول. انتهى. و (يَوْمَ الدِّينِ) : ظرف ، والعامل فيه يغفر ، والغفران ، وإن كان في الدنيا ، فأثره لا يتبين إلا يوم الجزاء ، وهو في الدنيا لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى. وضعف أبو عبد الله الرازي حمل الخطيئة على تلك الثلاث ، لأن نسبة ما لا يطابق إلى إبراهيم غير جائز ، وحمله على سبيل التواضع قال : لأنه إن طابق في هذا الموضع زال الإشكال ، وإن لم يطابق رجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به ، لأجل تنزيهه عن المعصية. قال : والجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى ، وقد يسمى خطأ. فإن من باع جوهرة تساوي ألفا بدينار ، قيل : أخطأ ، وترك الأولى على الأنبياء جائز. انتهى ، وفيه بعض تلخيص وتبديل ألفاظ للأدب بما يناسب مقام النبوة.

وقدم إبراهيم عليه‌السلام الثناء على الله تعالى ، وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته ، ثم سأله تعالى فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) ، فدل على أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات. والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق. وقيل : الحكم : الحكمة والنبوة ، لأنها حاصلة تلو طلب النبوة ، لأن النبي ذو حكمة وذو حكم بين الناس. وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأنها حاصلة ، فلو طلب النبوة لكانت مطلوبة ، إما عين الحاصلة أو غيرها. والأول محال ، لأن تحصيل الحاصل محال ، والثاني محال ، لأنه يمنع أن يكون الشخص الواحد نبيا مرتين ، بل المراد من الحكم ما هو كمال النبوة العملية ، وذلك بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. انتهى. وقال ابن عطية : وقد فسر الحكم بالحكمة والنبوة ، قال : ودعاؤه عليه‌السلام في مثل هذا هو في التثبت والدوام. وإلحاقه بالصالحين : توفيقه لعمل ينتظمه في جملتهم ، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. وقد أجابه تعالى حيث قال : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١).

قال أبو عبد الله الرازي : وإنما قدّم قوله : (هَبْ لِي حُكْماً) على قوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ، لأن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية ، لأنه يمكنه أن يعلم الحق ، وإن لم يعمل به ، وعكسه غير ممكن ، لأن العلم صفة الروح ، والعمل صفة البدن ، وكما أن الروح أشرف من البدن ، كذلك العلم أفضل من الإصلاح. انتهى. ولسان الصدق ، قال ابن عطية : هو الثناء وتخليد المكانة بإجماع من المفسرين. وكذلك أجاب الله دعوته ، فكل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٠.

١٦٧

ملة تتمسك به وتعظمه ، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال مكي : وقيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق ، فأجيبت الدعوة في محمد عليه‌السلام ، وهذا معنى حسن ، إلا أن لفظ الآية لا يعطيه إلا بتحكم على اللفظ. انتهى. ولما طلب سعادة الدنيا ، طلب سعادة الآخرة ، وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث ، لأنه الذي يقسم في الدنيا شبه غنيمة الدنيا بغنيمة الآخرة ، وقال تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (١).

ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه ، طلب لأشد الناس التصاقا به ، وهو أصله الذي كان ناشئا عنه ، وهو أبوه ، فقال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) ، وطلبه المغفرة مشروط بالإسلام ، وطلب المشروط يتضمن طلب الشرط ، فحاصله أنه دعا بالإسلام. وكان وعده ذلك يوضحه قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) (٢) ، أي الموافاة على الكفر تبرأ منه. وقيل : كان قال له إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا ، تقية وخوفا ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك ، فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، ولذلك قال في دعائه : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). فلو لا اعتقاده أنه في الحال ليس بضال ما قال ذلك. (وَلا تُخْزِنِي) : إما من الخزي ، وهو الهوان ، وإما من الخزاية ، وهي الحياء. والضمير في (يُبْعَثُونَ) ضمير العباد ، لأنه معلوم ، أو ضمير (الضَّالِّينَ) ، ويكون من جملة الاستغفار ، لأنه يكون المعنى : يوم يبعث الضالون. وأتى فيهم : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من : (يَوْمَ يُبْعَثُونَ). (مالٌ وَلا بَنُونَ) : أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه. وقيل : المراد بالبنين جميع الأعوان. وقيل : المعنى يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها ، فقصد من ذلك الذكر العظيم والأكثر ، لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا. والظاهر أن الاستثناء منقطع ، أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه. قال الزمخشري : ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا ، ولا بد لك مع ذلك من تقدير المضاف ، وهو الحال المراد بها السلامة ، وليست من جنس المال والبنين حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان ، وإنما ينفع سلامة القلب ، ولو لم يقدر المضاف لم يتحصل للاستثناء معنى. انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى حذف مضاف ، كما ذكر ، إذ قدرناه ، لكن (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ينفعه ذلك ، وقد جعله الزمخشري في أول توجيهه متصلا بتأويل قال : إلا من أتى الله : إلا حال من أتى الله بقلب سليم ، وهو من قوله :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦٣.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١١٤.

١٦٨

تحية بينهم ضرب وجيع

وما ثوابه إلى السيف ، ومثاله أن يقال : هل لزيد مال وبنون؟ فيقول : ماله وبنوه سلامة قلبه ، تريد نفي المال والبنين عنه ، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى ، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى ، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه ، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. انتهى. وجعله بعضهم استثناء مفرغا ، فمن مفعول ، والتقدير : لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه ماله المصروف في وجوه البر ، وبنوه الصلحاء ، إذ كان أنفقه في طاعة الله ، وأرشد بنيه إلى الدين ، وعلمهم الشرائع وسلامة القلب ، خلوصه من الشرك والمعاصي ، وعلق الدنيا المتروكة وإن كانت مباحة كالمال والبنين. وقال سفيان : هو الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره ، وهذا يقتضي عمومه اللفظ ، ولكن السليم من الشرك هو الأعم. وقال الجنيد : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم : اللديغ. وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير وصدق.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) : قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) : أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) ، وذلك على سبيل التوبيخ. هل ينفعونكم بنصرهم إياكم ، أو ينتصرون هم فينفعون أنفسهم بحمايتها ، إذ هم وأنتم وقود النار؟ وقرأ الأعمش : فبرزت بالفاء ، جعل تبريز الجحيم بعد تقريب الجنة يعقبه ، وذلك لأن الواو للجمع ، فيمكن أن يكون كل واحد منهما ظهوره قبل الآخر ، وهو من تقديم الرحمة على العذاب ، وهو حسن ، لو لا أن رسم المصحف بالواو. وقرأ مالك بن دينار : (وَبُرِّزَتِ) بالفتح والتخفيف ؛ (الْجَحِيمُ) بالرفع ، بإسناد الفعل إليها اتساعا. ولما وبخهم وقرعهم ، أخبر عن حال يوم القيامة ، وجيء في ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت. وقيل : (فَكُبْكِبُوا) ، لتحقق وقوع ذلك ، وإن كان لم يقع. والضمير في : فكبكبوا عائد على الأصنام ، أجريت مجرى من يعقل. قال الكرماني : فكبكبوا : قذفوا فيها. وقيل : جمعوا. وقيل : هدروا. وقيل : نكسوا على رؤوسهم يموج بعضهم في بعض. وقيل : ألقوا في جهنم ينكبون مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها. (وَالْغاوُونَ) : هم الكفرة الذين

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٢٧.

١٦٩

شملتهم الغواية. وقيل : الضمير يعود على الكفار ، والغاوون : الشياطين. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) : قبيلة ، وكل من تبعه فهو جند له وعون. وقال السدّي : هم مشركو العرب ، والغاوون : سائر المشركين. وقيل : هم القادة والسفلة ، قالوا : أي عباد الأصنام ، والجملة بعده حال ، والمقول جملة القسم ومتعلقه ، والخطاب في (نُسَوِّيكُمْ) للأصنام على جهة الإقرار والاعتراف بالحق. قال ابن عطية : أقسموا بالله إن كنا إلا ضالين في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله تعالى ، الذي هو رب العالمين وخالقهم ومالكهم. انتهى. وقوله : إن كنا إلا ضالين ، إن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد أن إن هنا نافية ، واللام في لفي بمعنى إلا ، فليس مذهب البصريين ، وإنما هو مذهب الكوفيين. ومذهب البصريين في مثل هذا أن إن هي المخففة من الثقيلة ، وأن اللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن التي هي لتأكيد مضمون الجملة.

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) : أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : (أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (١). وقال السدي : هم الأولون الذين اقتدوا بهم. وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وقال ابن جريج : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي. وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ، (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). وقال ابن جريج : شافعين من الملائكة وصديق من الناس. ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ونفي الشفعاء. والصديق يحتمل أن يكون نفيا لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون ، كما قال : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة. ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته ، وأريد به الجمع؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٧.

١٧٠

يقال : هم عدو ، أي أعداء. والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، وفنكون الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا كرة فنكون. وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : (فَنَكُونَ) معطوفا على كرة ، أي فكونا من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب. والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه.

وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه‌السلام ، وهي إخبار من الله عزوجل ، تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه‌السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه. انتهى. وكان ابن عطية قد أعرب (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدلا من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ، لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول ، أو الأول. وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ، إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون. والإشارة بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى قصة إبراهيم عليه‌السلام ومحاورته لقومه. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) : أي أكثر قوم إبراهيم. بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه‌السلام ، وفي ذلك مسلاة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب قومه إياه عليه‌السلام.

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ

١٧١

أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ

١٧٢

(١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)

كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ

١٧٣

الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)

المشحون : المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل ، يقال : شحنها عليهم خيلا ورجالا ، الريع : بكسر الراء وفتحها : جمع ريعة ، وهو المكان المرتفع. قال ذو الرمة :

طراق الخوافي مشرق فوق ريعه

بذي ليلة في ريشه يترقرق

وقال أبو عبيدة : الريع : الطريق. قال ابن المسيب بن علس يصف ظعنا :

في الآل يخفضها ويرفعها

ريع يلوح كأنه سحل

الطلع : الكفري ، وهو عنقود التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته. وقال الزمخشري : الطلعة : هي التي تطلع من النخلة ، كنصل السيف في جوفه. شماريخ القنو ، والقنو : اسم للخارج من الجذع ، كما هو بعرجونه. الفراهة : جودة منظر الشيء وقوته وكماله في نوعه. وقيل : الكيس والنشاط. القالي : المبغض ، قلى يقلي ويقلى ، ومجيئه على يفعل بفتح العين شاذ. الجبلة : الخلق المتجسد الغليظ ، مأخوذ من الجبل. قال الشاعر :

والموت أعظم حادث

مما يمر على الجبلة

ويقال : بسكون الباء مثلث الجيم. وقال الهروي : الجبل والجبل والجبل ، لغات ، وهو الجمع الكثير العدد من الناس. انتهى. هام : ذهب على وجهه ، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة : حاد عن القصد.

١٧٤

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ، قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ، قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

القوم : مؤنث مجازي التأنيث ، ويصغر قويمة ، فلذلك جاء : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ). ولما كان مدلوله أفرادا ذكورا عقلاء ، عاد الضمير عليه ، كما يعود على جمع المذكر العاقل. وقيل : قوم مذكر ، وأنث لأنه في معنى الأمة والجماعة ، وتقدم معنى تكذيب قوم نوح المرسلين ، وإن كان المرسل إليهم واحدا في الفرقان في قوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) (١) ، وإخوة نوح قيل : في النسب. وقيل : في المجانسة ، كقوله :

يا أخا تميم تريد يا واحد أمته

وقال الشاعر :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

ومتعلق التقوى محذوف ، فقيل : ألا تتقون عذاب الله وعقابه على شرككم؟ وقيل : ألا تتقون مخالفة أمر الله فتتركوا عبادتكم للأصنام وأمانته ، كونه مشهورا في قومه بذلك ، أو مؤتمنا على أداء رسالة الله؟ ولما عرض عليهم برفق تقوى الله فقال : (أَلا تَتَّقُونَ) ، انتقل من العرض إلى الأمر فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) في نصحي لكم ، وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) : أي على دعائي إلى الله والأمر بتقواه. وقيل : الضمير في عليه يعود على النصح ، أو على التبليغ ، والمعنى : لا أسئلكم عليه شيئا من أموالكم. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه‌السلام. ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة ، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم ، وإن اختلف التعليل ، جعل الأول معلولا لأمانته ، والثاني لانتفاء أخذ الأجر. ثم لم ينظروا في أمر رسالته ، ولا تفكروا فيما أمرهم به ، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة ، وهي التي

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٧.

١٧٥

تطبع على قلوبهم. فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه ، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له ، كونه اتبعه الأرذلون.

وقوله : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) ، جملة حالية ، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا ، فنتساوى معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب. والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء ، لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا ، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء. وقرأ الجمهور : واتبعك فعلا ماضيا. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، والأعمش ، وأبو حيوة ، والضحاك ، وابن السميفع ، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري ، وطلحة ، ويعقوب : واتباعك جمع تابع ، كصاحب وأصحاب. وقيل : جمع تبيع ، كشريف وأشراف. وقيل : جمع تبع ، كبرم وإبرام ، والواو في هذه القراءة للحال. وقيل : للعطف على الضمير الذي في قوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ) ، وحسن ذلك للفصل بلك ، قاله أبو الفضل الرازي وابن عطية وأبو البقاء. وعن اليماني : واتباعك بالجر عطفا على الضمير في لك ، وهو قليل ، وقاسه الكوفيون. والأرذلون : رفع بإضمارهم. قيل : والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه ، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب ؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) (١) ، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه‌السلام ، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل ، كما ورد في حديث هرقل. وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة ، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى ، ولا شرف المكاسب ودناءتها.

وقال ابن عطية : ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين ، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم ، يدل على ذلك قول نوح : (وَما عِلْمِي) الآية ، لأن معنى كلامه ليس في نظري ، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة ، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزئ به ، ثم حسابهم على الله تعالى ، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ، الحديث بجملته انتهى. وقال الكرماني : لا أطلب العلم بما عملوه ، إنما على أن أدعوهم. وقال الزمخشري : وما علمي ، وأي شيء علمي ، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم ؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم ، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا هوى وبديهة ، كما حكى الله عنهم في قوله : (الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) بادىء الرأي. ويجوز أن يتعالى لهم نوح

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٧.

١٧٦

عليه‌السلام ، فيفسر قولهم : الأرذلون ، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد ، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم. ثم بنى جوابه على ذلك فيقول : ما عليّ إلا اعتبار الظواهر ، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم ، وإن كان لهم شيء ، فالله محاسبهم ومجازيهم ، وما أنا إلا منذر لا محاسب ، ولا مجاز ، لو تشعرون ذلك ، ولكنكم تجهلون ، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم. وقصد بذلك رد اعتقادكم ، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا ، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا. فإن الغنى غنى الدين ، والنسب نسب التقوى. انتهى. وهو تكثير. وقال الحوفي : وما علمي ، ما نافية ، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث ، أردفه بقوله : (لَوْ تَشْعُرُونَ) ، أي بأن المعاد حق ، والحساب حق. وقرأ الجمهور : تشعرون بتاء الخطاب. وقرأ الأعرج ، وأبو زرعة ، وعيسى بن عمر الهمداني : بياء الغيبة.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) : هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك ، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء ، فنزلت : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (١) الآية ، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل. ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم ، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان ، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه ، أخذوا في التهديد والوعيد.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عن تقبيح ما نحن عليه ، وادعائك الرسالة من الله ، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ، أي بالحجارة. وقيل : بالشتم. وأيس إذ ذاك من فلاحهم ، فنادى ربه ، وهو أعلم بحاله : (إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) ، فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ، ولكن لأجل دينك. (فَافْتَحْ) ، أي فاحكم. ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة ، وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه ، أي : (وَنَجِّنِي) مما يحل بهم. وقيل : ونجني من عملهم لأنه سبب العقوبة. والفلك واحد وجمع ، وغالب استعماله جمعا لقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) (٢) ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) (٣) ، فحيث أتى في غير فاصلة ، استعمل جمعا ، وحيث كان فاصلة ، استعمل مفردا لمراعاة الفواصل ، كهذا الموضع. والذي في سورة يس ، وتقدّم الخلاف إذا كان مدلوله جمعا ، أهو جمع تكسير ، أم اسم جمع؟ والمشحون ، قال ابن عباس : الموقر ، وقال عطاء : المثقل. (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) : أي بعد نجاة نوح والمؤمنين.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٢.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٦٤.

١٧٧

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ، وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ، إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

كان أخاهم من النسب ، وكان تاجرا جميلا ، أشبه الخلق بآدم عليه‌السلام ، عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة ، وبينه وبين ثمود مائة سنة. وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت. أمرع البلاد ، فجعلها الله مفاوز ورمالا. أمرهم أولا أمر به نوح قومه ، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ)؟ قال ابن عباس : هو رأس الزقاق. وقال مجاهد : فج بين جبلين. وقال عطاء : عيون فيها الماء. وقال ابن بحر : جبل. وقيل : الثنية الصغيرة. وقرأ الجمهور : ريع بكسر الراء ، وابن أبي عبلة : بفتحها. قال ابن عباس : (آيَةً) : علما. وقال مجاهد : أبراج الحمام. وقال النقاش وغيره : القصور الطوال. وقيل : بيت عشار. وقيل : ناديا للتصلف. وقيل : أعلاما طوالا ليهتدوا بها في أسفارهم ، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم. وقيل : علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق. وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث ، كما يفعل المترفون في الدنيا. والمصانع : جمع مصنعة. قيل : وهي البناء على الماء. وقيل : القصور المشيدة المحكمة. وقيل : الحصون. وقال قتادة : برك الماء. وقيل : بروج الحمام. وقيل : المنازل. واتخذ هنا بمعنى عمل ، أي ويعملون مصانع ، أي تبنون. وقال لبيد :

وتبقى جبال بعدنا ومصانع

(لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) : الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء ، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ولا خلود. وفي قراءة عبد الله : كي تخلدون ، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد ، فلذلك بنيتم واتخذتم. وقال ابن زيد : معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم ، أي هل أنتم تخلدون : وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي. وقال ابن عباس : المعنى كأنكم خالدون ، وفي حرف أبي : كأنكم تخلدون. وقرىء : كأنكم خالدون. وقرأ الجمهور : تخلدون ، مبنيا للفاعل ؛

١٧٨

وقتادة : مبنيا للمفعول. ويقال : خلد الشيء وأخلده : غيره. وقرأ أبيّ ، وعلقمة ، وأبو العالية ، مبنيا للمفعول مشددا ، كما قال الشاعر :

وهل ينعمن إلا سعيد مخلد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) : أي أردتم البطش ، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه ، كقوله :

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

أي متى أردتم بعثها. قال الحسن : بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب. وقيل : المعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة والبوادر. فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء ، والجبارية تدل على التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإلهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد. ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة. ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة ، أمرهم ثانيا بتقوى الله وطاعة نبيه. ثم أمرهم ثالثا بالتقوى تنبيها لهم على إحسانه تعالى إليهم ، وسبوغ نعمته عليهم. وأبرز صلة (الَّذِي) متعلقة بعلمهم ، تنبيها لهم وتحريضا على الطاعة والتقوى ، إذ شكر المحسن واجب ، وطاعته متعينة ، ومشيرا إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه ، وعلى تعذيب من لم يتقه ، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم ، وإنما هو من تفضله تعالى عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئا بعد شيء. ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملا محالا على علمهم ، أتى به مفصلا. فبدأ بالأنعام ، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا ، والقوة على من عاداهم ، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالبا لوجده. وبحصول القوة أيضا بالبنين ، فلذلك قرنهم بالأنعام ، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها. واتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة ، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة.

و (بِأَنْعامٍ) : ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله : (بِما تَعْلَمُونَ) ، وأعيد العامل كقوله : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ) (١). والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل ، وإن كان المعنى واحدا ، ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به ، نحو : مررت بزيد بأخيك ،

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٢٠ ـ ٢١.

١٧٩

ثم حذرهم عذاب الله ، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم ، إذ كان راجيا لإيمانهم ، فكان من جوابهم أن قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا) وعظك وعدمه ، وجعلوا قوله وعظا ، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به ، وأنه كاذب فيما ادعاه ، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به. وقرأ الجمهور : وعظت ، بإظهار الظاء. وروي عن أبي عمرو ، والكسائي ، وعاصم : إدغام الظاء في التاء. وبالإدغام ، قرأ ابن محيصن ، والأعمش ؛ إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ : أوعظتنا. وينبغي أن يكون إخفاء ، لأن الظاء مجهورة مطبقة ، والتاء مهموسة منفتحة ، فالظاء أقوى من التاء ، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين ، أو في المتقاربين ، إذا كان الأول أنقص من الثاني. وأما إدغام الأقوى في الأضعف ، فلا يحسن. على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات ، فوجب قبولها ، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس.

وعادل (أَوَعَظْتَ) بقوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) ، وإن كان قد يعادله : أم لم تعظ. كما قال : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (١) لأجل الفاصلة ، كما عادلت في قوله : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (٢) ، ولم يأت التركيب أم صمتم ، وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه. وقال الزمخشري : بينهما فرق ، يعني بين ما جاء في الآية وهي : أم لم تعظ ، قال : لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك : أم لم تعظ. ولما لم يبالوا بما أمرهم به ، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم ، أجابوه بأن قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ). وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والحسن ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي : خلق ، بفتح الخاء وسكون اللام ، فهو يحتمل أن يكون المعنى : إن هذا الذي تقوله وتدعيه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك ، فأنت على مناهجهم. وروى علقمة عن عبد الله : أن هذا إلا اختلاق الأولين. ويحتمل أن يكون المعنى : ما هي البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون ، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب. وقرأ باقي السبعة : خلق ، بضمتين ؛ وأبو قلابة ، والأصمعي عن نافع : بضم الخاء وسكون اللام ؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في خلق.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ،

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٢١.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٣.

١٨٠