البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٨

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٢

مطروفك ، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك ، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم ، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي : قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت ، فخبره أنه سيأتيه قبل موته ، وهذا تأويل بعيد ، بل المعنى آتيك به سريعا. وقيل : ارتداد الطرف مجاز هنا ، وهو من باب مجاز التمثيل ، والمراد استقصار مدة الإتيان به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردة طرف ، وفي طرفة عين ، تريد به السرعة ، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا) عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه به ، فلما رآه : أي عرش بلقيس. قيل : نزل على سليمان من الهواء. وقيل : نبع من الأرض. وقيل : من تحت عرش سليمان ، وانتصب مستقرا على الحال ، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال ، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية : وظهر العامل في الظرف من قوله : (مُسْتَقِرًّا) ، وهذا هو المقدر أبدا في كل ظرف وقع في موضع الحال.

وقال أبو البقاء : ومستقرا ، أي ثابتا غير متقلقل ، وليس بمعنى الحضور المطلق ، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقرا أمرا زائدا على الاستقرار المطلق ، وهو كونه غير متقلقل ، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية ، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالا ؛ وقد قدر ذكر العامل في ما وقع خبرا من الجار والمجرور التام في قول الشاعر :

لك العزان مولاك عزوان يهن

فأنت لدى بحبوحة الهون كائن

(قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) : أي هذا الإتيان بعرشها ، وتحصيل ما أردت من ذلك ، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه ، ثم علل ذلك بقوله : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). قال ابن عباس : المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر ، إذ ذاك نعمة متجددة ، والشكر قيد للنعم. وأ أشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني ، وهو معلق ، لأنه في معنى التمييز ، والتمييز في معنى العلم ، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم ، وإن لم يكن مرادفا له ، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) : أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه ، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة ، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه. (وَمَنْ كَفَرَ) : أي فضل الله ونعمته عليه ، فإن ربي غني عن شكره ، لا يعود منفعتها إلى الله ، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر أن قوله : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) هو جواب الشرط ، ولذلك أضمر فاء في قوله :

٢٤١

(غَنِيٌ) ، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه ، أي ومن كفر فلنفسه ، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها). روي أن الجن أحست من سليمان ، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة ، وأن رجلها كحافر دابة ، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش ، ورجلها بالصرح ، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير عرشها ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل : بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر. وقيل : بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير : جعله متنكرا متغيرا عن شكله وهيئته ، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ الجمهور : ننظر : بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة : بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير ، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر ، ومتعلق أتهتدي محذوف. والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحا في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه ، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه‌السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراسا.

(فَلَمَّا جاءَتْ) ، في الكلام حذف ، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) : أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك؟ جاء بأداة التشبيه ، لئلا يكون ذلك تلقينا لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه ، وتميزت فيه أشياء من عرشها ، لم تجزم بأنه هو ، ولا نفته النفي البالغ ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت : (كَأَنَّهُ هُوَ) ، وذلك من جودة ذهنها ، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه ، وقابلت تشبيههم بتشبيهها. والظاهر أن قوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) إلى قوله : (مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلا بكلامها. فقيل : من كلام سليمان. وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل : العلم هنا مخصوص ، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. (مِنْ قَبْلِها) أي من قبل مجيئها. (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) : موحدين خاضعين. وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) الآية ، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى ، وإنما

٢٤٢

قال ذلك بما علمت هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصا. وقال الزمخشري : وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه ، فإن قلت : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل؟ قلت : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها ، وأجابت بما أجابت به مقاما ، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) ، نحو أن يقولوا عند قولها : (كَأَنَّهُ هُوَ) ، قد أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر.

وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين الإسلام ، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) ، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى : (وَصَدَّها) قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله : ويجوز أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجواز. قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك. والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله : (ما كانَتْ تَعْبُدُ) ، وكونه الله أو سليمان ، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر ، قاله الطبري ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، نحو قوله :

تمرون الديار ولم تعوجوا

أي عن الديار ، وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه ، الظاهر أنه الإسلام. وقال الرماني : التقدير التفطن للعرش ، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث. والظاهر أن قوله : (وَصَدَّها) معطوف على قوله : (وَأُوتِينَا) ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته. وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ). والواو في صدها للحال ، وقد مضمرة

٢٤٣

مرغوب عنه لطول الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور : إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلا من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد.

قال محمد بن كعب القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا ، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنيا كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس ، (قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي) إلى النبي عليه‌السلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحققا لنبوته وثباتا على الدين. انتهى. والصرح : كل بناء عال ، ومنه : (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (١) ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد : الصرح هنا : البركة. وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها. وقيل : الصرح هنا : القصر من الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالا للأمر. واللجة : الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصودا. وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة قنبل : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة ، وأنشد :

أحب المؤقدين إلى موسى

والظاهر أن الفاعل يقال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها ، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٦.

٢٤٤

ابن عطية : ومع ، ظرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى ، والصحيح أنها ظرف ، فتحت العين أو سكنت ، وليس التسكين مخصوصا بالشعر ، كما زعم بعضهم ، بل ذلك لغة لبعض العرب ، والظرفية فيها مجاز ، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ

٢٤٥

(٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ

٢٤٦

تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)

الحديقة : البستان ، كان عليه جدار أو لم يكن. الحاجز : الفاصل بين الشيئين. الفوج : الجماعة. الجمود : سكون الشيء وعدم حركته. الإتقان : الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق ، وهو مشتق من قول العرب : تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود ، والتقن : ما رمي به الماء في الغدير ، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة. كببت الرجل : ألقيته لوجهه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ، قالَ : يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ، وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ، قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ، وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَانْظُرْ

٢٤٧

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

ثمود هي عاد الأولى ، وصالح أخوهم في النسب. للما ذكر قصة موسى وداود وسليمان ، وهم من بني إسرائيل ، ذكر قصة من هو من العرب ، يذكر بها قريشا والعرب ، وينبههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة ، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله ، وإن في : (أَنِ اعْبُدُوا) يجوز أن تكون مفسرة ، لأن (أَرْسَلْنا) تتضمن معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي بأن اعبدوا ، فحذف حرف الجر ، فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني ففي موضعها خلاف ، أهو في موضع نصب أم في موضع جر؟ والظاهر أن الضمير في (فَإِذا هُمْ) عائد على (ثَمُودَ) ، وأن قومه انقسموا فريقين : مؤمنا وكافرا ، وقد جاء ذلك مفسرا في سورة الأعراف في قوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (١). وقال الزمخشري : أريد بالفريقين : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. انتهى. فجعل الفريق الواحد هو صالح ، والفريق الآخر قومه ، وإذا هنا هي الفجائية ، وعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب لا المهلة ، فكان المعنى : أنهم بادروا بالاختصام ، متعقبا دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله. وجاء (يَخْتَصِمُونَ) على المعنى ، لأن الفريقين جمع ، فإن كان الفريقان من آمن ومن كفر ، فالجمعية حاصلة في كل فريق ، ويدل على أن فريق المؤمن جمع قوله : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٢) فقال : آمنتم ، وهو ضمير الجمع. وإن كان الفريق المؤمن هو صالح وحده ، فإنه قد انضم إلى قومه ، والمجموع جمع ، وأوثر يختصمون على يختصمان ، وإن كان من حيث التثنية جائزا فصيحا ، لأنه مقطع فصل ، واختصامهم دعوى كل فريق أن الحق معه ، وقد ذكر الله تخاصمهم في سورة الأعراف.

ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال مناديا لهم على جهة التحنن عليهم : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) ، أي بوقوع ما يسوؤكم قبل الحالة الحسنة ، وهي رحمة الله. وكان قد قال لهم في حديث الناقة : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣) فقالوا له : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) (٤). وقيل : لم تستعجلون بوقوع المعاصي منكم قبل الطاعة؟

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٧٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٧٣.

(٤) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٩.

٢٤٨

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت : كانوا يقولون بجهلهم : إن العقوبة التي يعدنا صالح ، إن وقعت على زعمه ، تبنا حينئذ واستغفرنا ، مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت ، وإن لم تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليه‌السلام على حسب قولهم واعتقادهم. انتهى. ثم حضهم على ما فيه درء السيئة عنهم ، وهو الإيمان واستغفار الله مما سبق من الكفر ، وناط ذلك بترجي الرحمة ، ولم يجزم بأنه يترتب على استغفارهم. وكان في التحضيض تنبيه على الخطأ منهم في استعجال العقوبة ، وتجهيل لهم في اعتقادهم.

ولما لاطفهم في الخطاب أغلظوا له وقالوا : (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) : أي تشاءمنا بك وبالذين آمنوا معك. ودل هذا العطف على أن الفريقين كانوا مؤمنين وكافرين لقوله : (وَبِمَنْ مَعَكَ) ، وكانوا قد قحطوا. وتقدم الكلام في معنى التطير في سورة الأعراف ، جعلوا سبب قحطهم هو ذات صالح ومن آمن معه ، فرد عليهم بقوله : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو عند الله وبقضائه ، إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم. وقال الزمخشري : ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ، ومنه طائركم معكم ، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. وقرىء : تطيرنا بك على الأصل ، ومعنى تطير به : تشاءم به ، وتطير منه : نفر عنه. انتهى. ثم انتقل إلى الإخبار عنهم بحالهم فقال : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ، أي تختبرون ، أو تعذبون ، أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة ، أو تفتنون بشهواته : أي تشفعون بها ، كما يقال : فتن فلان بفلان. وقال الشاعر :

داء قديم في بني آدم

فتنة إنسان بإنسان

وهذه أقوال يحتملها لفظ تفتنون ، وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم ، وهو الكثير في لسان العرب. ويجوز يفتنون بياء الغيبة على مراعاة لفظ قوم ، وهو قليل. تقول العرب : أنت رجل تأمر بالمعروف ، بتاء الخطاب وبياء الغيبة. والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم ، وهي الحجر. وذكر المفسرون أسماء التسعة ، وفي بعضها اختلاف ، ورأسهم : قدار بن سالف ، وأسماؤهم لا تنضبط بشكل ولا تتعين ، فلذلك ضربنا صفحا عن ذكرها ، وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها. والرهط : من الثلاثة إلى العشرة ، والنفر : من الثلاثة إلى التسعة ، واتفق المفسرون على أن المعنى : تسعة رجال. وقال الزمخشري : إنما جاز

٢٤٩

تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل : تسعة أنفس. انتهى. وتقدير غيره : تسعة رجال هو الأولى ، لأنه من حيث أضاف إلى أنفس كان ينبغي أن يقول : تسع أنفس ، على تأنيث النفس ، إذ الفصيح فيها التأنيث. ألا تراهم عدوا من الشذوذ قول الشاعر :

ثلاثة أنفس وثلاث ذود

فأدخل التاء في ثلاثة ؛ وكان الفصيح أن يقول : ثلاث أنفس. وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع ، إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد ، لاختلاف صفاتهم وأحوالهم ، لا لاختلاف أجناسهم. انتهى. قيل : والرهط اسم الجماعة ، وكأنهم كانوا رؤساء ، مع كل واحد منهم رهط. وقال الكرماني : وأصله من الترهيط ، وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل. انتهى. ورهط : اسم جمع ، واتفقوا على أن فصله بمن هو الفصيح كقوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (١). واختلفوا في جواز إضافة العدد إليه ، فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس ، وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور. وقد صرح سيبويه أنه لا يقال : ثلاث غنم ، وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس ، وهو مع ذلك قليل ، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجمع للقليل ، كرهط ونفر وذود ، فيجوز أن يضاف إليه ، أو للتكثير ، أو يستعمل لهما ، فلا تجوز إضافته إليه ، وهو قول المازني ، وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة في (شرح التسهيل).

و (يُفْسِدُونَ) : صفة لتسعة رهط ، والمعنى : أنهم يفسدون الفساد العظيم الذي لا يخالطه شيء من الإصلاح ، فلذلك قال : (وَلا يُصْلِحُونَ) ، لأن بعض من يقع منه إفساد قد يقع منه إصلاح في بعض الأحيان. وقرأ الجمهور : تقاسموا ، وابن أبي ليلى : تقسموا ، بغير ألف وتشديد السين ، وكلاهما من القسم والتقاسم والتقسيم ، كالتظاهر والتظهير. والظاهر أن قوله (تَقاسَمُوا) فعل أمر محكي بالقول ، وهو قول الجمهور ، أشار بعضهم على بعض بالحلف على تبييت صالح. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون تقاسموا فعلا ماضيا في موضع الحال ، أي قالوا متقاسمين. قال الزمخشري : تقاسموا يحتمل أن يكون أمرا وخبرا على محل الحال بإضمار قد ، أي قالوا : متقاسمين. انتهى. أما قوله : وخبرا ، فلا يصح لأن الخبر هو أحد قسمي الكلام ، إذ هو منقسم إلى الخبر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٠.

٢٥٠

والإنشاء ، وجميع معانيه إذا حققت راجعة إلى هذين القسمين. وقال بعد ذلك وقرىء لنبيتنه بالياء والتاء والنون ، فتقاسموا مع النون والتاء يصح فيه الوجهان ، يعني فيه : أي في تقاسموا بالله ، والوجهان هما الأمر والخبر عنده. قال : ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبرا. انتهى. والتقييد بالحال ليس إلا من باب نسبة التقييد ، لا من نسبة الكلام التي هي الإسناد ، فإذا أطلق عليها الخبر ، كان ذلك على تقدير أنها لو لم تكن حالا لجاز أن تستعمل خبرا ، وكذلك قولهم في الجملة الواقعة قبله صلة أنها خبرية هو مجاز ، والمعنى : أنها لو لم تكن صلة ، لجاز أن تستعمل خبرا ، وهذا شيء فيه غموض ، ولا يحتاج إلى الإضمار ، فقد كثر وقوع الماضي حالا بغير قد كثرة ينبغي القياس عليها. وعلى هذا الإعراب ، احتمل أن يكون (بِاللهِ) متعلقا بتقاسموا الذي هو حال ، فهو من صلته ليس داخلا تحت القول. والمقول : (لَنُبَيِّتَنَّهُ) وما بعده احتمل أن يكون هو وما بعده هو المقول.

وقرأ الجمهور : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَ) بالنون فيهما ، والحسن ، وحمزة ، والكسائي : بتاء خطاب الجمع ؛ ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : بياء الغيبة ، والفعلان مسندان للجمع ؛ وحميد بن قيس : بياء الغيبة في الأول مسندا للجمع ، أي ليبيتنه ، أي قوم منا ، وبالنون في الثاني ، أي جميعنا يقول لوليه ، والبيات : مباغتة العدو. وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من عادة الملوك استراق الظفر ، ووليه طالب ثأره إذا قتل. وقرأ الجمهور : مهلك ، بضم الميم وفتح اللام من أهلك. وقرأ حفص : مهلك ، بفتح الميم وكسر اللام ، وأبو بكر : بفتحهما. فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان ، أي ما شهدنا إهلاك أهله ، أو زمان إهلاكهم ، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان ، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانه. والثالثة : تقتضي القياس أن يكون مصدرا ، أي ما شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري : وقد ذكروا القراءات. الثلاث ، قال : ويحتمل المصدر والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف يدل عليه ما قبله ، والتقدير : ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ، ودل عليه قولهم : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) ، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله ، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر ، أي والبرد ، وقال الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

٢٥١

أي بين الخير وبيني ، ويكون قولهم : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) كذبا في الإخبار ، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سرا ، ولم يشعر بهم أحد ، وقالوا تلك المقالة ، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت : كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله ، فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ، فذكروا أحدهما كانوا صادقين ، فإنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب؟ انتهى.

والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) إخبارا بالصدق؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحا ، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات ، وأقدموا على قتل نبي وأهله؟ ولا يجوز عليهم الكذب ، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك ، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية ، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١) ، وهو قولهم ، (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢) ، وقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٣) ، وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى ، حتى ينصر مذهبه في قوله : إن الكذب قبيح عند الكفرة ، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم. وهذا الرجل ، وإن كان أوتي من علم القرآن ، أوفر حظ ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة ، وكنت قريبا من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيدا في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله ، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري ، فذكرت شيئا من محاسنه ، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه ، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح ، فقلت بعد ذكر ما مدحته به :

ولكنه فيه مجال لناقد

وزلات سوء قد أخذن المخانقا

فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا

ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا

ويشتم أعلام الأئمة ضلة

ولا سيما إن أولجوا المضايقا

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ / ٩.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٣.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢٤.

٢٥٢

ويسهب في المعنى الوجيز دلالة

بتكثير ألفاظ تسمى الشق

اشقا يقول فيها الله ما ليس قائلا

وكان محبا في الخطابة و

امقا ويخطىء في تركيبه لكلامه

فليس لما قد ركبوه مو

افقا وينسب إبداء المعاني لنفسه

ليوهم أغمارا وإن كان س

ارقا ويخطىء في فهم القرآن لأنه

يجوز إعرابا أبى أن يط

ابقا وكم بين من يؤتى البيان سليقة

وآخر عاناه فما هو

لاحقا ويحتال للألفاظ حتى يديرها

لمذهب سوء فيه أصبح م

ارقا فيا خسره شيخا تخرق صيته

مغارب تخريق الصبا ومش

ارقا لئن لم تداركه من الله رحمة

لسوف يرى للكافرين مرافقا

ومكرهم : ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله. ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة ، ومكرهم : أنهاهم أنهم مسافرون واختفاؤهم في غار. قيل : أو شعب ، أو عزمهم على قتله وقتل أهله ، وحلفهم أنهم ما حضروا ذلك. ومكر الله بهم : إطباق صخرة على فم الغار والشعب وإهلاكهم فيه ، أو رمي الملائكة إياهم بالحجارة ، يرونها ولا يرون الرامي حين شهروا أسيافهم بالليل ليقتلوه ، قولان. وقيل : إن الله أخبر صالحا بمكرهم فيخرج عنه ، فذلك مكر الله في حقهم. وروي أن صالحا ، بعد عقر الناقة ، أخبرهم بمجيء العذاب بعد ثلاثة أيام ، فاتفق هؤلاء التسعة على قتل صالح وأهله ليلا وقالوا : إن كان كاذبا في وعيده ، كنا قد أوقعنا به ما يستحق ؛ وإن كان صادقا ، كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا. واختفوا في غار ، وأهلكهم الله ، كما تقدم ذكره ، وأهلك قومهم ، ولم يشعر كل فريق بهلاك الآخر. والظاهر أن كيف خبر كان ، وعاقبة الاسم ، والجملة في موضع نصب بأنظر ، وهي معلقة ، وقرأ الجمهور : إنا ، بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، والكوفيون : بفتحها ، فأنا بدل من عاقبة ، أو خبر لكان ، ويكون في موضع الحال ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي ، أي العاقبة تدميرهم. أو يكون التقدير : لأنا وحذف حرف الجر. وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون (كانَ) تامة و (عاقِبَةُ) فاعل بها ، وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره (كَيْفَ). وقرأ أبي : أن دمّرناهم ، وهي أن التي من شأنها أن تنصب المضارع ، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا ، بفتح الهمزة. وحكى أبو البقاء : أن بعضهم أجاز في (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) في قراءة من

٢٥٣

فتح الهمزة أن تكون بدلا من كيف ، قال : وقال آخرون : لا يجوز ، لأن البدل من الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه ، كقوله : كيف زيد ، أصحيح أم مريض؟

ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم ، بين ذلك بالإشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم ، وخراب البيوت وخلوها من أهلها ، حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة ، إذ يدل ذلك على استئصالهم. وفي التوراة : ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك ، وهو إشارة إلى هلاك الظالم ، إذ خراب بيته متعقب هلاكه ، وهذه البيوت هي التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ، عام تبوك : «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» ، الحديث. وقرأ الجمهور : خاوية ، بالنصب على الحال. قال الزمخشري : عمل فيها ما دل عليه تلك. وقرأ عيسى بن عمر : خاوية ، بالرفع. قال الزمخشري : على خبر المبتدأ المحذوف ، وقاله ابن عطية ، أي هي خاوية ، قال : أو على الخبر عن تلك ، وبيوتهم بدل ، أو على خبر ثان ، وخاوية خبرية بسبب ظلمهم ، وهو الكفر ، وهو من خلو البطن. وقال ابن عباس : خاوية ، أي ساقط أعلاها على أسفلها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في فعلنا بثمود ، وهو استئصالنا لهم بالتدمير ، وخلاء مساكنهم منهم ، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي بصالح من العذاب الذي حل بالكفار ، وكان الذين آمنوا به أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، وسميت حضرموت لأن صالحا عليه‌السلام لما دخلها مات بها ، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها : حاضورا. وأما الهالكون فخرج بأبدانهم خراج مثل الحمص ، احمر في اليوم الأول ، ثم اصفر في الثاني ، ثم اسود في الثالث ، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، وهلكوا يوم الأحد. قال مقاتل : تفتقت تلك الخراجات ، وصاح جبريل عليه‌السلام بهم صيحة فخمدوا.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ، فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ).

(وَلُوطاً) : عطف على (صالِحاً) ، أي وأرسلنا لوطا ، أو (الَّذِينَ) على (آمَنُوا) ، أي وأنجينا لوطا ، أو باذكر مضمرة ، وإذ بدل منه ، أقوال. و (أَتَأْتُونَ) : استفهام إنكار وتوبيخ ،

٢٥٤

وأبهم أولا في قوله : (الْفاحِشَةَ) ، ثم عينها في قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) ، وقوله : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : أي تعلمون قبح هذا الفعل المنكر الذي أحدثتموه ، وأنه من أعظم الخطايا ، والعلم بقبح الشيء مع إتيانه أعظم في الذنب ، أو آثار العصاة قبلكم ، أو ينظر بعضكم إلى بعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك مجانة وعدم اكتراث بالمعصية الشنعاء ، أقوال ثلاثة. وانتصب (شَهْوَةً) على أنه مفعول من أجله ، و (تَجْهَلُونَ) غلب فيه الخطاب ، كما غلب في (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ). ومعنى : (تَجْهَلُونَ) ، أي عاقبة ما أنتم عليه ، أو تفعلون فعل السفهاء المجان ، أو فعل من جهل أنها معصية عظيمة مع العلم أقوال. ولما أنكر عليهم ونسب إلى الجهل ، ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من الفاحشة ، عدلوا إلى المغالبة والإيذاء ، وتقدم معنى يتطهرون في الأعراف. وقرأ الجمهور : (جَوابَ) بالنصب ؛ والحسن ، وابن أبي إسحاق : بالرفع ، والجمهور : (قَدَّرْناها) ، بتشديد الدال ؛ وأبو بكر بتخفيفها ، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف. وساء : بمعنى بئس ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).

لما فرغ من قصص هذه السورة ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمده تعالى والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب الوجود ، الله تعالى ، ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها. وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة ، وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة. وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم وخطبهم ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على

٢٥٥

محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبعهم المترسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن. وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر الرسول عليه‌السلام بتحميد الله على هلاك الهالكين من كفار الأمم ، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين.

وقيل : (قُلِ) ، خطاب للوط عليه‌السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ويسلم (عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). وعزا هذا القول ابن عطية للفراء ، وقال : هذه عجمة من الفراء. وقرأ أبو السماك : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وكذا : قل الحمد لله سيريكم ، بفتح اللام ، وعباده المصطفون ، يعم الأنبياء وأتباعهم. وقال ابن عباس : العباد المسلم عليهم هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اصطفاهم لنبيه ، وفي اختصاصهم بذلك توبيخ للمعاصرين من الكفار. وقال أبو عبد الله الرازي : لما ذكر تعالى أحوال الأنبياء ، وأن من كذبهم استؤصل بالعذاب ، وأن ذلك مرتفع عن أمة الرسول ، أمره تعالى بحمده على ما خصه من هذه النعمة ، وتسليمه على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. انتهى ، وفيه تلخيص.

وقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) : استفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم ، وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان ، إذ معلوم عند من له عقل أنه لا شركة في الخيرية بين الله تعالى وبينهم ، وكثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركه فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه. والظاهر أن هذا الاستفهام هو عن خيرية الذوات ، فقيل : جاء على اعتقاد المشركين حيث اعتقدوا في آلهتهم خيرا بوجه ما ، وقيل : في الكلام حذف في موضعين ، التقدير : أتوحيد الله خير أم عبادة ما يشركون؟ فما في أم ما بمعنى الذي. وقيل : ما مصدرية ، والحذف من الأول ، أي أتوحيد الله خير أم شرككم؟ وقيل : خير ليست للتفضيل ، فهي كما تقول : الصلاة خير ، يعني خيرا من الخيور. وقيل : التقدير ذو خير. والظاهر أن خيرا أفعل التفضيل ، وأن الاستفهام في نحو هذا يجيء لبيان فساد ما عليه الخصم ، وتنبيهه على خطئه ، وإلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد ، وانتفائه عن الآخر ، وقرأ الجمهور : تشركون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، وقتادة ، وعاصم ، وأبو عمرو : بياء الغيبة. وأم في أم ما متصلة ، لأن المعنى : أيهما خير؟ وفي (أَمَّنْ خَلَقَ) وما بعده منفصلة. ولما ذكر الله خيرا ، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في غير موضع من كتابه ، توقيفا لهم على ما أبدع من المخلوقات ، وأنهم لا يجدون بدا من الإقرار بذلك لله تعالى.

٢٥٦

وقرأ الجمهور : (أَمَّنْ خَلَقَ) ، وفي الأربعة بعدها بشد الميم ، وهي ميم أم أدغمت في ميم من. وقرأ الأعمش : بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام ، أدخلت على من ، ومن في القراءتين مبتدأ وخبره. قال ابن عطية : تقديره : يكفر بنعمته ويشك به ، ونحو هذا من المعنى. وقدره الزمخشري : خير أما يشركون ، فقدّر ما أثبت في الاستفهام الأول ؛ بدأ أولا في الاستفهام باسم الذات ، ثم انتقل فيه إلى الصفات. وقال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له : ولا بد من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق به لدلالة الفحوى عليه. وتقدير تلك الجملة : أمن خلق السموات كمن لم يخلق ، وكذلك أخواتها ، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر فيها لقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (١). انتهى. وتسمية هذا المقدّر جملة ، إن أراد بها جملة من الألفاظ فهو صحيح ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو فليس كذلك ، بل هو مضمر من قبيل المفرد. وبدأ تعالى بذكر إنشاء مقر العالم العلوي والسفلي ، وإنزال ما به قوام العالم السفلي وقال : (لَكُمْ) ، أي لأجلكم ، على سبيل الامتنان ، وأن ذلك من أجلكم. ثم قال : (فَأَنْبَتْنا) ، وهذا التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة دالا على اختصاصه بذلك ، وأنه لم ينبت تلك الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح بماء واحد إلا هو تعالى. وقد رشح هذا الاختصاص بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها).

ولما كان خلق السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله ، وكان الإنبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ، ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه ، بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الالتفات وتأكيد ذلك بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها). ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده؟ ولو أتى فهو جاهل بطبعه ومقداره وكيفيته ، فكيف يكون فاعلا لها؟ والبهجة : الجمال والنضرة والحسن ، لأن الناظر فيها يبتهج ، أي يسر ويفرح. وقرأ الجمهور : (ذاتَ) ، بالإفراد ، (بَهْجَةٍ) ، بسكون الهاء ، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة ، كقوله : (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (٢) ، وهو على معنى جماعة. وقرأ ابن أبي عبلة ، ذوات ، بالجمع ، بهجة بتحريك الهاء بالفتح.

(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) : قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا ، أو لامتناع وقوعه شرعا ، أو لنفي الأولوية. والمعنى هنا : أن إنبات

__________________

(١) سورة النمل : ١٦ / ١٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥ ، وسورة النساء : ٤ / ٥٧.

٢٥٧

ذلك منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى. ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، إما التفاتا ، وإما إخبارا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلا ومثيلا. وقرىء : إلها ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف. ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض ، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئا مختصا بالأرض ، وهو جعلها قرارا ، أي مستقرا لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ، قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى.

(وَجَعَلَ خِلالَها) : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، (أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت حتى لا تتكففا بكم وتميد. والبحران : العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك. وقال مجاهد : بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء. وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض. قال ابن عطية : مختارا لهذا القول في الحاجز : هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض المواضع ، ولطافتها التي لو لا قدرته لبلع الملح العذب. وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله : (وَجَعَلَ) ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب ، يوقف عليه في كتابه. والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه. وقال ابن عباس : هو المجهود. وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا قوة له. وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به. وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطا فيه المصلحة. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.

٢٥٨

(وَيَكْشِفُ السُّوءَ) : هو كل ما يسوء ، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر ، وهو خاص إليّ أعم ، وهو ما يسوء ، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها. وخلفاء : أي الأمم السالفة ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعده ، أو خلفاء الكفار في أرضهم ، أو الملك والتسلط ، أقوال. وقرأ الحسن في رواية : ونجعلكم بنون المتكلم ، كأنه استئناف إخبار ووعد ، كما قال تعالى : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ).

وقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) : انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار ، وهي حالة الخلافة ، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكا متسلطا. وقرأ الجمهور : تذكرون ، بتاء الخطاب ؛ والحسن ، والأعمش ، وأبو عمرو : بياء الغيبة ، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها. وقرأ أبو حيوة : تتذكرون ، بتاءين. وظلمة البر هي ظلمة الليل ، وهي الحقيقة ، وتنطلق مجازا على الجهل وعلى انبهام الأمر فيقال : أظلم عليّ الأمر. وقال الشاعر :

تجلت عمايات الرجال عن الصبا

أي جهالات الصبا وهداية البر تكون بالعلامات ، وهداية البحر بالنجوم.

(وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : تقدم تفسير نظير هذه الجملة. وقرىء : عما تشركون ، بتاء الخطاب. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : الظاهر أن الخلق هو المخلوق ، وبدؤه : اختراعه وإنشاؤه. ويظهر أن المقصود هو من يعيده الله في الآخرة من الإنس والجن والملك ، لا عموم المخلوق. وقال ابن عطية : والمقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة ، والإعادة البعث من القبور ، ويحتمل أن يريد بالخلق مصدر خلق ، ويكون يبدأ ويعيد استعارة للإتقان والإحسان ، كما تقول : فلان يبدىء ويعيد في أمر كذا إذا كان يتقنه. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال لهم أمن يبدأ الخلق ثم يعيده وهم منكرون الإعادة؟ قلت : قد أنعم عليهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار. انتهى.

ولما كان إيجاد بني آدم إنعاما إليهم وإحسانا ، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال : (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر ، (وَالْأَرْضِ) بالنبات؟ (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شيء مما تقدم تقريره (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن

٢٥٩

مع الله إلها آخر. فأين دليلكم عليه؟ وهذا راجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جيء به على سبيل التقرير ، وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه.

لما ذكر إيجاد العالم العلوي والسفلي ، وما امتن به من إنزال المطر وإنبات الحدائق ، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم والممتن بما به قوام الحياة ، فختم بقوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، أي عن عبادته ، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. ولما ذكر جعل الأرض مستقرا ، وتفجير الأنهار ، وإرساء الجبال ، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه ، ختم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك. ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ، وكشف السوء ، واستخلافهم في الأرض ، ناسب أن يستحضر الإنسان دائما هذه المنة ، فختم بقوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، إشارة إلى توالي النسيان إذا صار في خير وزال اضطراره وكشف السوء عنه ، كما قال : (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) (١). ولما ذكر الهداية في الظلمات ، وإرسال الرياح نشرا ، ومعبوداتهم لا تهدي ولا ترسل ، وهم يشركون بها الله ، قال تعالى : (عَمَّا يُشْرِكُونَ). واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ، على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى.

قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألحوا عليه ، فنزل : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الآية. والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم ، والغيب مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعا على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب. وعن عائشة ، رضي‌الله‌عنها : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفا حقيقيا للمخلوقين فيهما ، ومجازيا بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعا بين الحقيقة والمجاز. وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح. ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلا ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب. وقيل : المراد غيب الساعة.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٨.

٢٦٠